|
قراءة-متعجلة-في قصيدة مذهلة للشاعر التونسي الكبير جلال باباي (من يكتبني ..الآن..؟)
محمد المحسن
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 7594 - 2023 / 4 / 27 - 12:50
المحور:
الادب والفن
على التخوم الفاصلة بين البسمة والدمعة،ألقى الشاعر التونسي القدير جلال باباي بذور تفاعله الوجداني مع-جزء-من تجاربه الحياتية المفعمة بالوَد،العشق،الوَجَع،الغربة والإغتراب..،وسقاها بعاطفة الأديب الملهَم،وعزف بقيثارة الشعر الشجية على تلك الضفاف،فكان موعد الحصاد سخيا لنقطف ثمرات ذلك الحصاد من خلال قصيدته الشعرية الموسومة بالمطبوع (من يكتبني اليوم ؟) فالقارئ في هذه القصيدة المعطاء،وإن يبدأ رحلته بأبيات فياضة بالألم والحزن والتوجع وكذا الحنين التي برع فيها شاعرنا الفذ في فرض الخطاب التواصلي بين الشاعر والقارئ،من خلال التعبير عن العاطفة والدّقة في اختيار الألفاظ والصور الشعرية والبلاغية والدلالات اللفظية، فالشاعر الحق يدرك أبعاد الكلمة وسحرها،وهو إذ يتخيّرها يسكب عليها من وجدانه وعاطفته وذاته،ما يولّد فيها طاقة جديدة،فيها شيء من إحساسه ونبضه،فتصل إلى القارئ تضج بالحياة، وكأنها تتحدّث بلسانه وفكره.. وهذا ما كان حاضرا في هذه القصيدة الباضخة.فما أن يبدأ القارئ بها حتى لا يملك في نفسه إلا متابعة الرحلة في حنايا -سطورها-وسبر غورها واكتشاف دررها. فالقصيدة يعتصرها الألم والحرقة والتوجّع،ذلك الألم الممزوج بأصدق عاطفة قد يختبرها الإنسان في حياته.وجع مستوطن-قسر الإرادة-في تضاعيف الرّوح،فنجد القاريء يستشعر تلك العاطفة النقية الصادقة الفيّاضة بالشوق والحنين والتأوّه والحزن،فالشاعر شيـّد مدينة للحزن يرقد ويصحو في أرجائها مذ -نالت منه المواجع في نخاع العظم-(اللهم رب الناس أذهب عن-شاعرنا الفذ-الباس اشفه وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما) ونقش في رقّ الزمان وجعه بيراع الحزن : .. يا لجمال الصورة والتعبير : من يكتبني اليوم ؟ إليٌَ قبل أن يغمرني الفرح سوف يحين الوقت لأحيي سعادة الوصول إلى باب الغريب سوف أعشق للمرة الالف لأني فاشل في الحب دائما سأعيد قلبي لذاك الغريب الذي اتعبه الترحال سوف انزل رسائل الحب من فوق رفٌ الكتب ، سأقشٌر جميع الصور من المرآة ، واخفي نهائيا تلك الملاحظات البائسة ، فمن يكتبني اليوم؟ من يرغب في تحرير موتي؟ من يرسل بريد النوم هذا الصباح؟ هذا فمي أثقله اليباس وتلك الشجرة لم تكترث بشحٌ السماء فمن يغازل قحط الأرض ؟ من يعزل إلى الأبد هذه الشمس الحارقة ؟ بكلٌ ضراوته سيحين الوقت، حتى تهبٌ رائحةُ الغيمة الماطرة واروي عطش شِمالي المتكلٌسة سيحلٌ منتصفَ النهار الغامض وتتهالك الاحزان على جدران القصيدة العجيبة. جلال باباي ويستمرّ القارئ بالانتقال من ضفة لأخرى،يتنشق عبق القصيدة وأريجها،دون كلل أو ملل، وذلك لتنوّع معانيها وأغراضها،وتنوّع موسيقاها وقوافيها،وصدق عواطفها دون صنعة أو تكلف،من خلال نسيج محكم يحوّل الفكرة من خطرات في الذهن الى عالم يدرك حدوده ومعالمه عبر دلالات لفظية واضحة المعنى،جزلة التركيب،يتوافر فيها الإيقاع الداخليّ متمثّلا بالحركة الداخلية في بناء القصيدة،والإيقاع الخارجي متمثّلا بالوزن والقافية،فتتلقفه الأذن وتترنّم النفس مع نغماته . وبين هذا وذاك،نجد بعض الومضات الشعرية الجميلة المفعمة بالموسيقى والتراكيب اللغوية العذبة،ورغم قصرها إلا أنها تتمتع بكثافة المعنى ورصانة الأداء،وهذا إن دلّ فإنما يدل على براعة الشاعر في إجادة هذا الفن الادبيّ،والقدرة على إعطاء المعنى المراد بأبيات قليلة موزونة،فكانت بمثابة السكريات اللذيذة بين تلك الوجبات الدسمة من القصائد . إن الشعرية، هنا-في هذه القصيدة بالأساس، ليست فقط شعرية التركيب والإسناد في رسم الدلالات والرؤى، إنما نحن أمام شعرية يانعة، تشبه الرفيف، أو النسيم الرقيق عندما يلامس أرواحنا، فهذا التساؤل الشاعري يفتح الباب على أشده لنعيش اللحظة الشعرية مجسدة في كلمات مبهرة في ملمسها وصداها الجمالي: فمن يكتبني اليوم/من يرغب في تحرير موتي؟/من يرسل بريد النوم هذا الصباح؟.. وهذه الشعرية لا يستطيعها بهذه الهدهدة والتناغم، إلا شاعر جمالي يمتلك الرؤية العميقة بكل تحولاتها .وهذا ما عبّر عنه بهذه الصورة المترفة التي تفيض بشعريتها: "سوف انزل رسائل الحب من فوق رفٌ الكتب/سأقشٌر جميع الصور من المرآة /واخفي نهائيا تلك الملاحظات البائسة .." ثم إحداث هزة جمالية في المشهد الكله بتساؤله المثير : "من يعزل إلى الأبد هذه الشمس الحارقة ؟" وهكذا يدهشنا-جلال باباي-في تنقلاته الشعرية الخلابة، من قيمة فنية إلى أخرى، مؤكداً أنه شاعر جمالي بفكر جمالي وحساسية عالية في توليف الكلمات والجمل والصور، التي تلتقط اللحظات الرومانسية وتعيد تشكيلها بكل حيوية واتقاد . يلحظ القارئ هنا اغتراب الشاعر في لغته الشعرية وإحساسه المتوتر بالعالم المحيط ليخلق معادلته الانزياحية الصادمة (فلماذا تتهالك الأحزان على جدران قصيدته؟ وهكذا-أيضا- يثيرنا جلال-بلغته التي تفيض على القارئ بحساسيتها العالية وطاقتها الخلاقة، وكأنه يعبر عن أساه عبر لغة انزياحية جمالية حافلة بالذكرى والحنين تارة واسترجاع اللحظات الماضية تارة أخرى. على سبيل الخاتمة: قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن الشاعر الكبير جلال باباي يسوق لنا قصائده -التي اطلعت على الكثير منها-،في بوح فطري،نابع من تجارب حياتية وخواطر وأفكار ذاتية،ويرصّع-ببراعة واقتدار-قصائده بعناصر مستوحاة في كثير منها من الواقع المعيش كالغربة والوجع والشوق والعشق والحنين..وغير ذلك مما يضفي على النص الحركة والحياة وإحساسا شاعريّا ساحرا،ويوظف مخزونه الثقافي والديني ويتصرف بأدوات اللغة تصرف المتمكن المُلمّ ليبرز ذلك كله في قالب شعري يخلو من الصنعة والتكلف،بأسلوب مرن،سلس وممتع يداعب الذائقة الفنية للمتلقي.. وختاما نجد أن الشّاعرالمتميز جلال باباي صاحب الكلمات الجميلة قد دخل من خلال هذه القصيدة-العذبة-الشعرية الجديدة (من يكتبني اليوم ) مرحلة أخرى من مسيرته الشعرية،مرحلة تتّسمُ بكثير من الحيرة والشكّ والتساؤل .. مرحلة تأخذ مسارا دائريا بحيث لا يمكننا أن نعرف من أين بدأت،ولا يمكننا أن نتنبأ إلى أين ستنتهي هذه المرحلة بالشّاعر العازف على قيثارة الحيرة،بأنامل الشوق،الوجَع،الحيرة والحنين..؟!
#محمد_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة سيميائية أنتروبولوجية* لقصيدة الشاعر التونسي الكبير د-
...
-
على هامش يوم الأسير الفلسطيني : قصيدة الشاعر التونسي القدير
...
-
قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية المتميزة فائزة بنمسعود
...
-
حين يرسم الشاعر التونسي القدير جلال باباي بالكلمات لوحاته ال
...
-
قصائد الشاعر التونسي المدهش-د-طاهر مشي-تلج عتباتها المزدحمة
...
-
الشاعر التونسي القدير جلال باباي : شاعرٌ يشبه شعاع الشمس الذ
...
-
قراءة في قصيدة (” هذا الهوى..يطربني”) للشاعر التونسي القدير:
...
-
حين ترتقي الكاتبة/الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود بخط
...
-
المبدعة التونسية السامقة فائزة بنمسعود تتنفّس شعرا..وتؤسس-لن
...
-
عندما تنثر أزهار الشاعر التونسي القدير جلال باباي عبقها (-قص
...
-
جلال باباي : شاعرٍ تونسي أنهكته المواجع ونالت منه الأزمنة ال
...
-
في حوار لا يخلو من الصراحة والشفافية مع الشاعرة/الكاتبة التو
...
-
جلال باباي..شاعر تونسي كبير..عرفته في زمن مفروش بالمواجع..وع
...
-
اشراقات الصّور الشّعريّة..وتجليات التكنيك الفني في قصيدة -أخ
...
-
الشاعر التونسي القدير د. طاهر مشي..والناقد محمد المحسن وجهًا
...
-
تمظهرات العمق الإبداعي..وتجليات البعد الفني في قصيدة - ناديت
...
-
التطريز الإبداعي ..بأنامل الشاعر والكاتب التونسي القديرد-طاه
...
-
شاعرة تونسية فذة منبجسة من ضلوع ولاية الكاف الشامخة.. تنتصر
...
-
الشعر في الطقوس الإبداعية لدى الشاعرة التونسية الكبيرة فائزة
...
-
الصدقة : فضلها عند الله كبير..وأجرها عظيم
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|