أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7587 - 2023 / 4 / 20 - 04:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول نيتشه: "علينا ألا نكون جاحدين [لهذه المذاهب]، حتى لو كان علينا بالتأكيد أن نعترف بأن أسوأ الأخطاء وأكثرها عنادا وخطورة كانت حتى الآن خطأ في الدوغمائية: الاختراع الأفلاطوني للروح الخالصة والخير في ذاته. ولكن الآن بعد أن وصلنا إلى نهايته، تتنفس أوروبا وتخرج من هذا الكابوس ويسمح لها على الأقل بالاستمتاع بنوم أكثر راحة، وقد ورثنا نحن، الذين تكمن مهمتنا الأساسية في السهر، كل الطاقة التي أدت إلى ضبط كبير في مكافحة هذا الخطإ. بالطبع، كان ذلك قلب الحقيقة رأسا على عقب وإنكار المنظورية، الشرط الأساسي لكل الحياة، بدل الحديث عن الروح وعن الخير كما فعل أفلاطون؛ كطبيب، يمكن للمرء أن يسأل نفسه: "كيف وصل هذا المرض إلى أجمل سليل في العصور القديمة، أفلاطون؟ هل الشرير سقراط هو من أفسده؟ هل استحق سقراط فعلا تجرع سم الشوكران؟ " لكن النضال ضد أفلاطون، أو للتحدث بعبارات أكثر سهولة يفهمها "الشعب"، النضال ضد اضطهاد الكنيسة المسيحية منذ ألف عام - لأن المسيحية هي أفلاطونية من أجل "الشعب" - أنتج في أوروبا توترا رائعا للروح، لم يكن موجودا من قبل على الأرض؛ بقوس مجبد إلى هذه الدرجة يمكن من الآن التصويب على الأهداف الأبعد" .
في هذا المقطع، يرى نيتشه أفلاطون على أنه "أجمل سليل في العصور القديمة"، وهو تعبير عن تقدير غير عادي. لكن في الوقت نفسه، يعتبره نيتشه مفسدا (بفتح السين) من قبل سقراط. يشير النص إلى الدعوى التي رفعها ميليتوس وأنيتوس ضد سقراط بتهمة إفساد الشباب الأثيني. من خلال سلسلة من الأسئلة الخطابية، من الواضح أن نيتشه يقف إلى جانب متهمي سقراط. يحتوي النص صراحة على برنامج رفض "خطإ أفلاطون"، الموصوف بأنه "الأسوأ والأكثر عنادا وخطورة" الذي كان على أوروبا مواجهته. وبالتالي، فإن الكفاح من أجل التغلب على هذا الخطإ يمنح أوروبا إمكانية استعادة القوى التي كانت متوقفة لفترة طويلة والتي يمكن استخدامها، في المستقبل، من اجل "التصويب على الأهداف الأبعد".
من الناحية الفلسفية، فإن النقطة الأكثر إثارة للاهتمام في النص هي رفض الفكرانية الأخلاقية. ما يؤكده نيتشه هو أنه لا يمكن الدفاع عن هذا الموقف، بسبب الشرط المنظوري لكل حياة: لا يوجد منظور مستقل عن الأفراد يمكننا من خلاله استنتاج توجه عملي موضوعي. تمت نوقشت أيضا الفكرانية الأخلاقية، أي الأطروحة القائلة بأن السلوك الصحيح أخلاقيا يمكن تحديده من خلال التجسيد الذاتي العقلاني للفاعل، في إحدى المقاطع المنشورة بعد وفاته والعائدة إلى صيف 1875، حيث تم الإشادة بأمبادوقليس وديموقريطس، بينما انتقد سثراط وأفلاطون وأرسطو بسبب فلسفتهم الأخلاقية. يقول بعذا الصدد:
"مع أمبادوقليس وديموقريطس، كان اليونانيون على الطريق الأفضل لتقدير الوجود البشري بشكل صحيح، جنونه، معاناته؛ لم ينجحوا أبدا في ذلك بفضل سقراط. يفتقر كل السقراطيين إلى نظرة بدون تدابير وقائية إلى الناس، الذين امتلأت رؤوسهم بالتجريدات البغيضة حول الخير، الحق . لنقرأ شوبنهاور ونتساءل لماذا، عند القدماء، كانت هذه النظرة العميقة والحرة مفقودة - ملزمة بأن تكون مفقودة؟ هذا ما لا أراه. على العكس تماما. سقراط جعلهم يفقدون غيابهم عن اتخاذ التدابير الوقائية. تمتلك أساطيرهم ومآسيهم حكمة أكثر بكثير من أخلاقيات أفلاطون وأرسطو. وشخصياتهم " الرواقية" أو "الأبيقورية"" فقراء مقارنة بشعرائهم الأوائل أو رجال الدولة الأوائل" .
إن ما يشيد به نيتشه لدى أمبادوقليس وديموقريطس هو على ما يبدو وجهة نظرهما الثاقبة حول لللاعقلانية العميقة، واللامعنى والمعاناة باعتبارها حقائق أولية عن الوجود الإنساني. لو كانت لديهما إمكانية تحديد الفكر اليوناني، لكانت الأمور ستسير بشكل مختلف: كان للفلسفة اليونانية إحساس بالطابع التراجيدي للحياة البشرية. بدلاً من ذلك، كما يقول نيتشه، سيطر السقراطون على الثقافة اليونانية بتفكيرهم المناهض للنزعة التراجيدية . إن المثل الأعلى السقراطي للحكيم بالنسبة لنيتشه فقير للغاية، مقارنة بالشخصيات القديمة للشعراء ورجال الدولة.
يمكن العثور على استمرار مباشر إلى حد ما لهذه الأفكار في نص مأخوذ من الشذرات المنشورة بعد وفاته (ربيع 1884)، حيث يرفض نيتشه "نفاق الفضيلة العظيم" ( das große Schauspielerthum der Tugend ). هنا يهاجم الفكرانية الأخلاقية باعتبارها استراتيجية كانت مضللة منذ بداياتها الأولى:
"يجب ألا تبدأ الأخلاق من السؤال "لماذا؟". من هنا تنشأ الفكرة الخاطئة عن السعادة كنهاية لأي فعل، وكذلك بعض الوقاحة في عرض الفضائل. وهكذا يرفض نيتشه المفهوم الأفلاطوني لـ homoiôsis theôi، والذي، وفقا له، يتلخص في المثل الأعلى للإنسان باعتباره "تمثالًا جميلًا" ( schöne Bildsäule ):
"وجهات نظر علماء الأخلاق اليونانيين: النتائج الأخلاقية للأحكام (الأحكام الكاذبة) -"لماذا؟" سؤال كاذب وتخريجة خاطئة، السعادة المناسبة كهدف لكل فعل ( السعادة القصوى كنتيجة ضرورية للفكرة القصوى - مليئة بالنفاق بالتالي) - الوقاحة في عرض الفضيلة (الإلهية عند أفلاطون)، تشويه كل الدوافع اللاواعية، ازدراء المؤثرات - كلهم يجاهدون بلا وعي للانضمام إلى نموذج التمثال الجميل - يريدون قبل كل شيء تمثيل الفضيلة، هذا هو نفاق الفضيلة العظيم" .
في إحدى الشذرات المنشورة بعد وفاته والعائدة إلى صيف 1880، ناقش نيتشه المفهوم الأفلاطوني للعدالة. يبدأ النص بملاحظة أن امتلاك القوة الاستبدادية كان يعتبر من قبل جميع اليونانيين على أنه أكثر أشكال الحياة التي يحسد عليها، مثل السعادة الخالصة. في هذه الشذرة، يعتبر نيتشه أن جورجياس هو الشهادة الأكثر صلة لإثبات أقواله. وفي الواقع، توصف شخصيتان مركزيتان في محاورة بنفس الاسم، بولوس وكاليكلس، بأنهما من أنصار هذه الفكرة القائلة بأن القوة الاستبدادية هي أكثر الأشياء المرغوبة التي يمكن تحقيقها، أي القوة اللانهائية لتحقيق كل ما يريده المرء.. يصف نيتشه هذا الموقف المشترك ثقافيا تجاه سعادة الفرد القوي بأنه غامض: من ناحية، الناس يحسدون الطاغية، وبعبارة أخرى يريدون أن يكونوا مثله؛ لكن من ناحية أخرى ، فإنهم يخشون سلطته لأن وضعه الاجتماعي يؤدي إلى حالة نموذجية لكوكبة غير تعاونية وغير أخلاقية. يستخدم الفرد القوي سلطته بشكل تعسفي، بحيث يعيش الجميع في خوف دائم. الجزء الأول من شذرتنا هو كما يلي:
"اعتقد كل اليونانيين (انظر محاورة "جورجياس") أن امتلاك قوة طاغية يشكل أكثر السعادة التي يحسد عليها المرء: دون تجريدها من الخبث. لقد عمل الجميع على منع ظهور أسعد الرجال هذا، أو، عندما كان موجودًا بالفعل، على عرقلة ظهوره والقضاء عليه. كانت السعادة الفائقة التي يؤمن بها الجميع مرتبطة تماما بالشعور بالقوة: لكن هذه الحالة عوملت على أنها فاحشة مطلقة (عدوة الأخلاق، أي فردانية، أنانية). مقتوا وخافوا من الرجل السعيد: من غطرسته لم يفلت أحد. إن القدرة المطلقة ستكون في نظرهم الغياب التام للقلق والشيطانية، وليس الفرح بالإذاية، بل التضحية بالجميع لمتعة الطاغية. هذه هي بالضبط الطريقة التي يتصرف بها العقل الطاغية حتى اليوم، فهو أسعد وأفقر ضمير".
من خلال الملاحظة حول "الغقل الطاغية" ( Tyrann des Geistes ) في نهاية هذا الاقتباس، يبدو أن نيتشه يميز استراتيجية أفلاطون الشخصية عن طريق أمثلة الطاغية التي يدعي أنها مشترك بشكل عام. يبدو أنه ينسب إلى أفلاطون تعويضا فلسفيًا حقيقيا عن امتناعه عن الاستبداد السياسي
في النصف الثاني من الشذرة، يواصل نيتشه مناقشته للمفهوم الأفلاطوني للعدالة: بما أن ممارسة العدالة (بالمعنى الأفلاطوني لتنحية البلونكسيا - المقابل اليوناني للدايكايوسين - وإسناد إلى كل شخص ما له) تنطوي على تضحية دائمة بسلطة الفرد ، الطريقة الوحيدة لدعم هذا السلوك هي التأكيد على المكانة الاجتماعية التي يمنحها علنا. لكن من الواضح، كما يؤكد نيتشه صراحة، أنه يمكن للمرء أن يحقق المزيد من السعادة من خلال محاكاة العدالة في الفضاء العام، بينما يعيش في ظل احترام القانون. وفقا لذلك، يعتقد أن التجربة الفكرية التي اقترحها أفلاطون في الحلقة الأسطورية ل" Gyges" تمثل الهوية اليونانية. يصف نيتشه الإغراء الكبير الذي يشعر به كل يوناني للهروب من السيطرة الاجتماعية التي يمارسها الأفراد بشكل متبادل. فقط هذا الإغراء المشترك بالإجماع، كما يعتقد نيتشه، يسلط الضوء على مدى التناقض الذي اعتبره الإغريق وجهة النظر الأخلاقية والسقراطية التي تنسب السعادة إلى الشخص الذي يحقق ذروة العدالة والفضيلة. حتى المذاهب الفلسفية للرواقيين والأبيقوريين لا تزال تعكس، وفقا لنيتشه، الموقف الأصلي لليونانيين تجاه امتلاك السلطة: بينما يفخر الرواقي بعدم خضوعه لأي سلطة (وبالتالي يمسك هو نفسه بزمام السلطة) يتمتع الأبيقوري بقوته على الانتصار على الخوف من الموت.
(يتبع)
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟