|
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1713 - 2006 / 10 / 24 - 11:31
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مشاهدٌ فاغِرة
من يهب طيركَ الزريابَ ، ريش الذاكرة من يشكّ في دربِ تبانتك فِرقدَ الشكّ ، تخرقلُ بهديه غسَق الحاضرة من لك بمغرفة السلوان الفضّة ، لتغترف من قصعة الحنين ما شاء لكَ الحنينُ ومن لك بعسيل " برو العطّار " ، لتجتني غيضة ً غيضة ، غريفَ الغوطة الأغرّ صخرة ً صخرة ، العبيرَ الحالق للجبل نبعة ً نبعة ، مسيَلَ نهر الفردوس الأول كيف الطريق إلى أوابد مسقط رأسك ، ولم تتوفر حتى على مخطط لمعالمها الغابرة : قلتَ ، أنها مجرد مغامرة ( وكلّ كشف مغامرة ) .
كم دزينة من الفصول الضائعة ، سجّتْ ذلك الخريف الذي شهدَ جولتك / حومتك المنطلقة من سفح الحيّ المتفيّء اسطورة " قاسيون " ؛ أنتَ المغرم برفقة المخطوطات الهرمة ، المتلاصقة بحنو ، والمتمايلة على أرفف مكتبتيْ دمشق ، الأكثر قِدماً ؛ " الظاهرية " و " العادلية ". هوذا إنحدارك بإتجاه الجادة الرئيسة ، المشعشعة بوهج الشمس المشرقة للتو ، المتململة في عرش سماويّ تغير عليه سحبٌ تشرينية ، فيروزية أو فضية ؛ " جادة أسد الدين " ، أو الطريق السلطانيّ بلغة العامّة ، التي تضرب خطاك على أرضيتها البازلتية ، متحاذية والبيوت المتناعسة المغمور جدرانها بدفء مقتر ؛ جادّة ، تنبئك أحجارها أنّ لإسمها مجدٌ غابرٌ ، تقمّصَ إسم فارس مغبّر ، عمره ألف عام من الحضارة : " أسد الدين شيركو " ؛ الذي يطوّف طيفهُ في هذي الدروب الأثرية ، متطايراً منه لهب التصميم والعناد لرجل مغامر ، أورثَ طموحه لإبن أخيه الفتيّ " يوسف " ؛ المعروف في العالم بإسم صلاح الدين . أين الطريق إلى أوابد مدينتكَ ، والجادة هذه تمتدّ شرقاً إلى " رأس الحارة " ، وغرباً حتى " صالحية الأكراد " : حتى القدم الملفوفة بالقطن ؛ المعجزة الخرقاء لأحد أشهر أولياء الحيّ " بمبو بابا " .. حتى أشباح الأسلاف ، التي ما تلبث أنتَ أن تجتاس أثرها ، وفي أسماعك يصدى صوتها .
" جسر النحّاس " ، إسم حارة ؛ وهو قبل أيّ شيء ، قنطرة حجرية ، محايدة ، تفصل بين عصريْن . ظهرها يتقوّس على النهير ، كسميّها ؛ العجوز المتهالك ، الشيخ عماد الدين إبن النحّاس ؛ الأمير الأيوبيّ المعترف به في زمن مماليكه ، السلاطين ؛ أميرٌ إبتنى في الحيّ ، أيضاً ، جامعاً وحمّاماً ، و في ذات البقعة الطفلة ، المتسلقة على كتفيْ نهر " يزيد " ، والمتعابثة بصخب مع شجيرات الصبّار والسماق والصنوبر . أن نتورّط في توغلنا عبر الجادة المزدحم جانبيها بالمحلات والدكاكين والمتاجر ، معناهُ المرور بجانب شبح ٍ لا يقلّ هرماً عن سابقه ؛ عجوزٌ من عهد عثمانيّ متأخر، هو شمدين بك ، زعيم أكراد الشام في منتصف القرن التاسع عشر ، والذي حارب تارةً بصفّ الخليفة العثمانيّ واخرى بجانب خصمه إبراهيم باشا المصريّ ؛ من أعطى إسمه للعَرصَة المسماة " ساحة شمدين ". من طرف هذه الساحة يتناهضُ مقامٌ مسنّ ، مشرئباً برأس قبته ، الأقرع ، فوق موقف الحافلات القريب ، مسلّياً شيخوخته الحجرية بتأمل العابرين ؛ اولئك اللامبالين به ، وغير العارفين ، أصلاً ، بأنّ صاحب المقام ، ركن الدين منكورس ، هو من تقمّص إسمَه حيّهم الكرديّ ، الشعبيّ ؛ حيّ كان ، للمفارقة ، قد أسسه رجال صلاح الدين ، ممن أضحوا فيما بعد ، الطبقة الارستقراطية الحاكمة ، الأيوبية . هذا المقام ، المتأنّق بحجارته المنحوتة ، والمتألق على بقية مدارس العصر الأيوبيّ _ المملوكيّ ، ومنذ شهادة المؤرخ الدمشقيّ ، إبن طولون الصالحيّ ؛ والتي تفيدنا بأنه كان معهداً دينياً بارزاً ، عُرف ب " المدرسة الركنيّة " (1) . كان ركن الدين ، هذا ، أميراً أيوبيّاً بارزاً ، وفضلاً عن مواهبه الحربيّة والإداريّة ، إهتمّ الرجل بالأمور الفلكية وبنى مرصداً في بستان " الميطور " ، أسفل الحيّ ، والذي كان من أملاكه وفيه قصره . على أنّ كل ذلك إندثر ، ولم يتبق سوى المقام المحتبي رمسه والمدرسة التي تحمل إسمه . وهذا الرحّالة الأندلسيّ ، إبن جبير ، يزور دمشق ويتحمّس للمدارس والمعاهد المكتظة بها ، منوّهاً بفضل صلاح الدين ، الذي أمر بإنشائها لأهل العلوم والفنون والطبّ والفقه ، قائلاً أنّ الواحد منهم يفدُ من الأقطار النائية : " فيلقى مسكناً يأوي إليه ومدرّساً يعلمه الفنّ الذي يريد تعلمه " (2) . كأنما الساحة ، تلك ، " شمدين " ، عينُ الحيّ العثمانيّ ؛ أين شقيقتها المتجاورة معها ، " ساحة الميسات " ؛ هي عين الحيّ الأيوبيّ ، بمقاماته ومدارسه وقبابه وحماماته وقيسارياته وخاناته ومكتباته .. ؛ وكأنما مقام " بمبو بابا " ، هو تعويذة لهما من شفعَة الزمن . ساحة ٌ ، إذاً ، تسلمنا لأختها ؛ حارة ٌ تفضي بنا إلى شقيقتها : ها نحن في المستوطنة الاولى ، الدمشقية ، لبني أيوب ؛ حارة ذات إسم مثلث " الأيوبيّة ، صالحيّة الأكراد ، الحارة الجديدة ( جديدة !؟ ) . ثمة عَرَصة اخرى ، منزوية بين مقاميْ " الركنية " و " الصاحبة " ، تبدو كسرّة الحارة ، الحسناء ؛ أين الطريق السلطاني ودرب سوق الجمعة فخذاها المتطاولان حتى الصدر المرمر ِ ، الموشى بمائة ثدي ٍ/ مقام ٍ ومائة حلمةٍ / قبة ٍ . هذه المستوطنة ، أضحت نواة مدينة اخرى ، عظيمة هي " الصالحية " ؛ ضرّة لدمشق القديمة ، المحصورة داخل أسوارها . على أنّ الزمن كادها بمعوله وتشوهاته ، فزالت معظم معالم الحاضرة الأيوبية ، ومعها تلك المقبرة الملكيّة الشهيرة ، التي كان مقام " الوليّ القطنيّ " ، حارسها الخرافيّ . داحَ قدْرُ هذا المقام وصاحبُهُ الملغز ، في أرض ٍ أثيرة على أولياء الله ؛ ممن تتناثر مزاراتهم ومشاهدهم في الأزقة والحواري والساحات ؛ فعرفه أبناءُ المدينة بإسم " مزار الأكراد الأيوبية " (3) . وأبعد كثيراً من تلك الأرض ، إنتشرت اسطورة الوليّ ، ذي القدَم المعجزة ؛ فما مرّ حاجٌ آسيويّ بالشام الشريف وهو في طريقه للحجاز ، إلا وعطفَ على المشهد الفاغر على العظمة الملفوفة بالقطن والمطوّحة خلل حجر القبر ؛ اسطورة طريفة ، تزعم ُ أنّ فقيهاً من العرب العاربة ، وقفَ مرة ً أمام المقام ، فسخر من صاحبه قائلاً : " كرديّ دبيّ ، ولو كان نبيّ ! " ، وأنّ هذه الشتيمة " أثارتْ " وليّ الله ، فأخرجَ قدمَهُ في وجه شائنه . القدم نفسها ، التي راشتْ قطنَها بوجه طفولتنا ، حينما كانت قبّة صاحبها قِبلة الأهلين ، مشرعة الباب للشفاعات والصدقات . ولا بدّ أن تبلغ الحكاية كمال طرافتها ، حينما نعلم أن أسرة شيوعيّ بارز في الحيّ ، هي التي كانت تتعهد الوقفَ ؛ بوقوفها على شجرة أنساب تتصل بنسبٍ قطنيّ ، مبارك . بيْدَ أنّ الغموضَ ما انفكّ يحيط بسيرة وليّنا الكرديّ ، دون أن يجليه تلك الإشارة اليتيمة ، عن نبيّ يدعى " ذو الكفل " ، كان على ما يبدو باب الشفاعة الأكبر للسلطان صلاح الدين (4) . على أنّ ذلك الباب سُدّ بقطع من الطوب الفظ ، منذ اواخر ستينات القرن المنصرم ، وبأمر رسميّ ، تبعه إحداق الأبنية الحديثة بالمكان المشوّه ، المنطلس البركة .
" سوقُ الجمعة " ؛ مساءَ خميس ٍ
المساءُ كرمٌ ، برقتْ نجوماً زمعاتهُ . يبدو " سوق الجمعة " عند الغروب ، كغوطة أضواء وظلال ؛ متناوبة " اشجاره " ألوان الليلكي والوردي والأزرق ؛ كلّ مأذنةٍ سروة ٌ ، وكل قنطرةٍ زيتونة ٌ . بدورهِ ، يتراءى جبل " قاسيون " ، مثل قبّة ليل عملاقة ؛ هلاله قمر المحاق الفضيّ ، وإفريزه أطناف دور " الشيخ محي الدين " ، الأكثر علواً . جبلٌ ليلٌ ، قاعدته تحت قدمي ، حيث ظلّي المتطاول بفعل أنوار المدخل البهيج للسوق ؛ أين العرَصَة الفسيحة المطلّ عليها مزارُ " الصاحبة " . ما فتيء هذا المزارُ على حظوته لدى العباد ، ما ظلّ بابه مفتوحاً لوجه الله . أتأمل واجهته العتيقة ، المنارة بمصابيح كهربائية حديثة : ما أشبه المدخل بمحرابٍ متقن النحت دقيقه . قبته تعلو السور البديع ، المزخرف كأسنان قلعة حصينة . هاهنا ، إذاً ، مقامُ " الصاحبة " ؛ مزار نسوة الحيّ ، الأثير .. بركاتكِ ، يا خاتون ! يتناهى في ذكر المرأة ، صدى صهيل الفرس الأدهم وصليل الحسام الإفرندِ ؛ ترددُهُ الأزقة المضاءة المعتمة ، بألوانها وظلالها : كانت ربيعة خاتون ، شقيقة صلاح الدين ، قد آبت نهائياً من " اربيل " ؛ موطن الأسلاف ومستقرّ رجلها ، مظفر الدين كوكبري ؛ بطل معركة " حطين " ، الذي بقي حاكماً لكردستان إلى أن توفي . تعودُ أرملتهُ ، إذاً ، إلى منزل الطفولة ، في " الكلاسة " ، خلف المسجد الأموي ، حيث تفتحت عيناها على مجد عائلتها العسكرية . على أن رمسها شاء أن يكون ، بحسب وصيتها ، في المدرسة التي كانت قد أمرت ببنائها من مالها الخاص ؛ مكرسة إياها لأصحاب المذهب الحنبلي ّ ، المتفرّدة عن قومها بإعتناقه . ولقبها " الصاحبة " ، وُجد مثله لدى غيرها من نساء البيت الأيوبيّ ؛ اللقب الذي إحترتُ في مغزاه ، إلى أن إهتديت لمصدره عند الشيخ الشطي ، صاحب كتاب " أعيان دمشق " ؛ وفيه أن : " الصاحب " ، على قاعدة الأكراد حيث جعلوه للمتاز في أقرانه " (5) . وكانت شقيقتها ، زمرد خاتون ، من أشهر حاملات اللقب الصاحبيّ ؛ وهي المعروفة بإسمها الفريد " ست الشام " ، ولها مقامٌ لا يقلّ أبهة في المدرسة الحاملة إسمها والضامّة رمسها ، فضلاً عن قبور تورانشاه شقيقها وأولادها وزوجها . وهذا الأخير ، هو إبن عمها ، الملك القاهر ؛ من قهرته الخمرة ذات إصباحة من فجر عيد الأضحى ، فمات من إكثاره لها.. !
ولكن السوق الساهر ، المغمور بالجلبة والأضواء ، لا يبالي بالقبور وساكنيها من ملوك وأمراء وأولياء .. فله سلاطينه ، هو الآخر ؛ كهذا الزبال الملثم أبداً ، والمعروف ب " الكفر سوساني " ، الذي يحاذي ، الآن ، موقفي قرب الدكة الخشبية لمطعم " بوز الجدي " ، الشعبيّ . يزيح الرجل جانباً من لثامه ، طالباً من البائع صحناً من " الفول بشمنة " : ويقصد بلهجته الدمشقية المعتقة ، الفول بالسمنة ! البائع ذو الصيت المعروف في المدينة ، يلتفت لمن حوله مشيراً بأثر الزبال ، المغادر للتوّ مع صحنه : " لديه محل لبيع الأثاث القديم ، في هذا السوق نفسه ، ولا يجد بأساً من العمل في البلدية ، طمعاً بالراتب .. تفو " . أسطورة اخرى ، في هذا الحيّ القديم ، أم أنها إحدى المثالب " الشامية " ، التي يضربُ بها الأغرابُ المثل ؟
كلّ ليلة خميس ٍ ، عيدٌ . يسهرُ السوق ويُسهّر أحياءه وأمواته ، محلاته ومزاراته . لا يأبه بالوقت ، إلاّ ما كان من مواعيد الصلاة الخمسة ؛ وختامها الفجرُ ختامَ يومه الحافل : يتصاعدُ حينئذ آذان الصوت الشديّ للشيخ المنشد ، توفيق المنجّد ؛ المبثوث مسجلاً من منارة " الشيخ محي الدين " ، والمنقول عبر الإذاعة المحلية ؛ الآذان ، أيضاً ، طقسٌ مراقبٌ من لدن الأجهزة الأمنية ، المتيقظة ، الحاصية أنفاس الأحياء والأموات . صوتُ المنشد ، المنجّد ، يأتي دوماً عميقاً ، نقياً ، ساحراً ، تهتز لوقعه أفئدة البشر والحجر ؛ فلا غرو أن تكون أناشيده ، الصوفية ، أثيرة على مجالس الأقداح والمدامة ! الأصوات هنا ، لباعة وزبائن غالباً ، متنافرة ، متناشزة ، ينسّقها الظلامُ في سلام أضوائه وأنواره وظلاله ، فتتناهى متناغمة في الأجواء ، مهيمنة على سماء المدينة النائمة . السوقُ " مايسترو " ، أيضاً .
وكما الأمر مع الأصوات ، تتآلفُ الجماليات المرئية ، أيضاً . فالفنّ الأيوبيّ العريق ، الغالب على عمارة الحيّ ؛ من مدارس وقيساريات وخانقاهات وحمامات .. تجدُهُ منسجماً مع ربيبه ، المملوكيّ ، ليشكلا وحدة فنية مميّزة ؛ حالُ النماذج الأصيلة من الآثار التي تعرضت للتلف والتخريب أثناء الإجتياح المغولي والتتري ، والتي إنبرى المماليك إلى ترميمها محافظين على رونقها وروحها . وقد حاول التقليد العثمانيّ مجاراة من سبقوه والإضافة إليهم ؛ على أنّ محاولته لم تثمر سوى نماذج مدجنة . وهاهو مقام ُ " إبن عربي " يتعكز على مدخله المشوّه ؛ مذ تناوله بالتجديد أمرُ الغازي التركي سليم الأول ، لدى مروره الظافر في الشام . إبن عربي ، إمام الصوفية ، والذي بالمقابل ، كانت دعوته أكثر جدّة وإنتشاراً زمن بني عثمان ؛ فرغم أن خرقة طريقة " الشيخ الأكبر " ، ظهرت في دمشق أيام الأيوبيين ، إلاّ أنّ نارها لم تؤرث سوى في زمن العثمانيين ، الزاهرة فيه مختلف الطرق والفرق الصوفية : كان مقدراً لسرّ إبن عربي ، الإلهيّ ، أن يُحفظ في جسد مريد كرديّ ، فقير ؛ هو" النقشبنديّ " ، الذي ما لبث ، بدوره ، أن أضحى " قطب " عصره .
أنحاشُ عن المداميك الأثرية ، المطلة على الدرب الممتد بين " الأيوبية " و " الشيخ محي الدين " ، ملاحظاً أن الحياة الإقتصادية في صالحية العصر الأيوبي ، وما تلاه ، قد تركزت هنا ، في سوق الجمعة . ولابدّ أن إتساع رقعة البناء ، الحاصل في زمن متأخر ، عجل بزحف الدور الشعبية من طرفيْ جادّة السوق ، صعوداً نحو المرتفعات الجبلية معانقة صخورها . ملاحظة اخرى ، تسنى لي تسجيلها ؛ وتتعلق بأسماء المدارس الأثرية . فقد أضيف إلى معظمها عبارة " البرانية " ؛ مما يشي بوجود شقيقة لهذه المدرسة أو تلك في داخل أسوار المدينة ؛ أي " جوانية " . وعندي أن هذا الأمر ، لهو دليلٌ على ما كان يوليه بنو أيوب لحارة بني قومهم ، الأصلية ، من إهتمام خاص . لعل أول " برانية " دوّمتْ أجنحة جولتي حولها ، كانت " المدرسة الأشرفية " . واجهتها ذات القوس الحجريّ ، تشابه مدخل " المدرسة الركنية " ، آنفة الذكر . ولا تزال الرخامة الاولى ، الحائلة ، تحمل بصمات بانيها ، الملك الأشرف ؛ الحاكم الذي ملَكَ في حياته الرها وخلاط وميافارقين وحلب ، وشاء أن يتألق حياً وميتاً ؛ بأن أوصى لراحة روحه بمقام ٍ لصيق ٍ بالجدار الخارجي للجامع الأموي ، شاركه فيه عمّه الكبير ، صلاح الدين . وهاهو شقيقه ، الملك المعظم ، يهوّم مطرقاً متفكراً ، مغادراً مراقدَ أهله في " المدرسة المعظمية " . تبصرُهُ عينا خرافتي ، لحظة عبوره الدروب العتمة وهو في طريقه إلى دار أستاذه ، الفيلسوف الطبيب تاج الدين الكندي ، الكائن في باب جيرون ( شرقي الجامع الأموي ) . يتأبط مجلداً عظيماً ، لعله كتاب " الشاهنامة " للفردوسي ؛ ملحمة ايران الكبرى ، التي عرفتْ ترجمتها الكاملة ، الوحيدة ، في أيامه ؛ حينما أمر مترجمَهُ الفتح البنداري بنقلها إلى العربية . وهو ذاته ، ملكاً معظماً ، تركَ لنا ديوان شعر وكتاباً في العَروض وآخر في الجدل الفقهي . لا غرو ، إذاً ، أن يقول العلامة الدمشقي المعاصر، خليل مردم بك ، عن هذا الملك : " بأنه كان في بني أيوب ، مثل المأمون في بني العباس " . (6)
أعود بأدراجي من السوق ، ما أن تبوّج في الحلكة المقيمة نذيرُ البرق . آيستُ من الإهتداء إلى ضريح المؤرخ الشاعر ، إبن خلكان ، وسط غابة الأضرحة المسماة " مقبرة الجوعية " ؛ نسبة إلى " مغارة الجوع " ، المطلة على المكان . لم ألبث إلا قليلاً في خيبتي ، فقد خيّل إلى عين خرافتي ، ثانية ، رؤية الرجل ؛ أو الأصح ، شبحه الهائم ، الثمل ، المتأثر مثلي ، سواءً بسواء ، خطى ملكنا المعظم ، الهادئة الحالمة . غريبٌ آخر ، هوذا ؛ من إستنفض تاريخ مدينتنا وإستنطق ذاكرتها ، مدبّجاً نثراً وشعراً مطرف دمقسها . ولكنه إبنُ المدينة ، على أي حال ، إبنُ خلكان هذا ، المصرّ على مناكدة خصومه بإدعائه النسب البرمكيّ . أبصره في مشيته غير المبالية ؛ هو المستهتر والمنحي جانباً أقاويل الأهلين عنه ، لا تأبه شطحاته بتزمتهم الضروس ، المستشري عبْر السنين الأموية ، المخلّدَة ؛ ولا يهتزّ منصبه الدينيّ ، كقاضي الشام ، بما أشيع عن معاشرته الغلمان والتصبب بهم بشعره ، وكذلك شربه للحشيشة : " ولكنني أحب الخمرة الحرّيفة أكثر ! " ، يردّ عليهم شاعرنا ، متماجناً (7) . في محاذاتي لسيره تحت قنطرة حجرية ، مضاءة بمصباح شحيح ، وددتُ إعتراضه بمساءلة ؛ عما دهى لعلاّمة الفقه والحديث ، المستبدل مشكاة الفكر بدورَق السُكر . ولكنه كان قد لحق بالذوبان طيفاً غامضاً ، مبهماً ، في العتمة البهيمة .
اشارات : 1 _ إبن طولون الصالحي ، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية _ دمشق 1949 ، ص 153 2 _ رحلة إبن جبير / تحقيق د . حسين نصار _ القاهرة 1992 ، ص 32 3 _ أحمد حلمي العلاف ، دمشق في مطلع القرن العشرين _ دمشق 1976 ، ص 396 4 _ د . عبد الكريم محلمي ، حي الأكراد في مدينة دمشق ( رسالة جامعية ) _ دمشق 1952 ، ص 15 5 _ الشيخ الشطي ، أعيان دمشق في القرن الثالث عشر _ دمشق 1973 ، ص 153 6 _ محمد أحمد دهمان ، في رحاب دمشق _ دمشق 1982 ، ص 102 7 _ إبن خلكان ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان _ بيروت بلا تاريخ ، ص 12 ج 1 * القسم الأول من الفصل الأول لدراسة بعنوان ( ديباجَة جُلّق : معالمُ اللوحة الكردية الدمشقية )
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
-
أورهان باموك والإشكالية التركية
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
-
العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
-
غزوة نوبل ، العربية
-
معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
-
مقامُ المواطَنة ، سورياً
-
الوحدة الوطنية ، المفقودة
-
حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
-
نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
-
سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
-
خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
-
إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً
-
وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
-
الثالوث غيرَ المقدّس
-
الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
-
الأعلام العراقية والإعلام العربي
-
علم الكرديّ وحلمه
المزيد.....
-
خطط ترامب في غزة: أنباء عن كون المغرب من المناطق المرشحة لنق
...
-
مخطّط ترامب في غزة: ليبيا تعلن رفض سياسات التهجير والتغيير ا
...
-
مصراتة
-
ردا على مخطّط ترامب: الجزائر ترفض بشكل قاطع تهجير وإفراغ قطا
...
-
تونس: عائلات مفقودين في عمليات هجرة غير نظامية تحتج أمام الس
...
-
تونس: اعتصام ثان لقيادات في اتحاد الشغل والأزمة تتفاقم
-
النائب الجمهوري جو ويلسون: -الرئيس التونسي قيس سعيد ديكتاتور
...
-
3 سنوات على بدء الهجوم الروسي في أوكرانيا: هل بوتين مستعد لل
...
-
أحكام سجن مشدّدة في تونس: محاكمة نزيهة أم -محاكمة سياسية ظال
...
-
صورة متداولة لشبان جذابون ووسيمون: هل هؤلاء هم أعضاء فريق شر
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|