|
فصل من رواية -خريف العرش - الإمام الأحمر
احمد جمعة
روائي
(A.juma)
الحوار المتمدن-العدد: 7582 - 2023 / 4 / 15 - 13:23
المحور:
الادب والفن
ماريانا وخردله زالت قشرة سماء ولاية ياروبا قبل تحوُّلها لمملكة مصابة بزكامٍ أفطس عرّض سكانها لحمى صفراء لونها الداخلي بنفسجي! كان فصل الربيع بالعام 1716 يقتات على ينابيع جفافٍ جبلي، ربيع وجدب، كوابيس أثمرها الفصل الغرائبي، أهداب مدينة الجبل الأزرق العاصمة تموج بالاخضرار وتشيع ثناياها نهمة للجشع النبهاني بفتنةٍ خلابة تُدَشَن بالشروق وتُقفَل بالغروب على حقول وبساتين وهضاب وغابات، تراقصت على أجفان قمر كرزي يطلّ على مدينةٍ مرجانية ملأت سهولها ووديانها نعم الطبيعة وأفْقِر شعبها حتى ذاق حصْرم البهائم، تنتشر بأرجائِها جموع الجوعى وقوافل المجذومين والعبيد السود المصلوبين، وحشود فحول العتالين بلا شغل سوى أعمال سُخرة، تصبغ جلودهم السميكة سياط ذيول الثيران المُجفّفة والمحشوة بأسياخ الفولاذ، كانت تعجُ بحميرٍ هزيلة، يعلوها سخام، باعة متجولون تُثقل ظهورهم جبالٌ ورزمٌ من سلعٍ لا تطالها أفواههم، تكبح أنفاسهم وتلويهم سياط خشنة، جحظت سماء، بأحداقٍ صبغتها خمرة الظهيرة تنضد بوجهِ شمسٍ خريفية، مُنهيّة موسم قيظ غالبًا تكوّمت فيه شمس غائرة مخلِفة غبارًا ورطوبة سمجتين، تمازج وجها الليل والنهار حين حجبت غيوم نزقة أطرافًا من قرص الشمس.. حلقاتها مُسهبَة من شذرات سحر توالد بداخلها واجترّ من كبد فضاء رصاصي اللون، سحبًا دخانية تحدّرت من رؤوس جبال محيطة، تصطدم عنوة بوجوهِ سكان يمضغون سطوع لونها الأرجواني...بدا الوقت لوهلةٍ قصيرة، مساءً استثنائيًا بفعلِ هبوب نسمات شمالية جافة مشبّعة بالغبار، فانحسرت الرطوبة وانتشر هبابٌ زكّم الانُوف وحض قسرًا على وميض نعاس مُرّ المذاق رافقته أنزيمات بخارية ورائحة عفونة مزابل غائطية، فاضت بوسّط طرقات عمّتها حشرات وجراثيم يتنفسها المارة. رغم ذلك كله، كان مساءٌ أفضل من مساءاتٍ مُنصرِمة، تهب فيها رياح جنوبية قادمة من محرقة مشبّعة بروائحِ جيف قطّط وكلاب وحتى أبقار هائلة الحجم نافقة، تُركت عائمة بطرقاتٍ طافية كما نهرٍ جاش وذابت في وحلِ حرارة سمجة مدفوعة بوجه ريح مجذومة، تنفست صعداء من إثر طوفان ملأ باحات منكوبة طوال فصولٍ هستيرية تقتبسها المدينة سنويًا بمثل هذا الموسم الذي يفيض بخيرات طبيعية على ميسوري الحال هم غالبًا أمراء وتجار وأعيان وحاشية مفرّطة بالنهم مع حراس وشرطة وجند وعسّس مخبرين وكتل غفيرة مداومة على نهب ما تقع عليها أياديها وعيونها ومناخيرها، تشمّ طيبات الأرض، فتملأ مخازنها ودواليبها وحوانيتها بشتى ثمار وسلع الأرض، أرض تختلف عن التي يمشي عليها الحفاة والمجذومون، وأولئك الذين أهدتهم موجات متتاليّة من أوبئة الطاعون والجدري، فوق ما كانوا يتوقعون. كانت سماء مدينة الجبل الأزرق بشطرها الشمالي تتبختر بالخضار والمياه وحظائر بهائم مسلوقة في سوائلٍ مستوردة من شرق وغرب الكرة الأرضية لوجبات محافل عشاء كبار قوم مخمليين رغم وحشية مشاعرهم، فهم بطانة الإمام، يسهرون بحدائق غنّاء ويسيحون تحت سماء زرقاء حتى واتتها معجزة خوت من غيوم تكتسح الباحات كما بالضفة الأخرى، حيث يرفل جنوب تلك المدينة بأطلالِ بقايا وجوه مهشمة بالأوبئة وأجساد ذابلة ومهترئة، تساوت جميعها بهزالٍ كما حال الشجر والبهائم هناك، تجوب ملء هذه الكائنات نهارات الأيام بأطوالها وعلى امتدادِ ساحاتٍ وباحات وثنايا حظائرُ المدينة، تصبو إلى كسرة خبز أو قطرة ماء، وإذا ما تجاسر مجذوبو الأحياء البائسة على قطف ثمرةٍ ناضجة أو حتى لو التقطها من وراء سياج مثقوب، فقد أهدَر القانون وسفك حقوق الشعب وطائفة الإمام وبطانته، حتى سماء ضفة فقراء تلك المدينة التي يحكم طرفيها الإمام ذاته، أبت ألا تتركهم ينعمون بالهواء والسكينة، فترسّبت بغيومٍ سوداء موحلة تُعربد بوحشيةِ أمطارها، مخلِفة أناقيع تجبر بلديات الإمام جحافل الرقيق البشر، أولئك الذين أغارتهم سحابات الجُند من حظائر جُلبوا لها من أسواق العبيد، ليجهشوا دموعهم تنسكب على تلك المستنقعات دون أجر، إلا تركهم يعومون بالمدينة دون ملاحقة، مقابل سخرة عمل مُضني لا نهاية لهُ إلا بموتهم أو تعفنهم في حظائرهم، تلاحقهم غربان وحشرات، تنتزع بقايا عظامهم، حتى أرواحهم تأبى أن تُحلق فيهم، وكأنها تنتقم لانصياعهم...الأطفال لم تستبعدهم سماء وآلهة الرقعة الجنوبية للمدينة، انصهروا بهزالهِم وأسمالهم المرقوعة، تحت وابل عجلات أكبر من أحجامهم يعْدون بها، خلفًا لآبائهم وأجدادهم الذين أما أزْهقت الكهولة والمرض أرواحهم أو خطفتها آلة تعذيب خرافية، لا تفهم لغة من لغات الرأفة. أطفال تنطبق عليهم قوانين الكبار، تلك أبجدية مدينة خردله بن سماعة...
كانت تلك الولاية التي استلمها الإمام خردله من سلالة تويني المتشعبة عنها النبهانية قد جُبِلت على خوفٍ وترويع، لا يجرؤ بشريٌ على مجازفة لرؤية البحر والخوض فيه دون توصية من إمام الولاية، لا أحد يجلي بالليل، لا إيقاد شموع أو قناديل بالطرق والشوارع، أيّ ديك سيرتقي قبل الفجر ويصوح يلحق العقاب بأهل الدار، ثم لاحقًا بالموجة الثالثة لذات السلالة بزمن خردله بن سماعة النبهاني تويني، لا ارتداء للساعات والنظارات، لا جولات ليليّة حتى لو مات الحي وأحيا الميت، لا شراء ولا بيع بعد غروب الشمس، محظور ركوب الدراجات الوافدة حديثًا إلا بإذنٍ من سلطة الإمام، محظور طلاء المنازل بغير اللون الأبيض حتى بدت المملكة كرايةٍ بيضاء في أتون معركة ضراوتها الألوان، باتت المدينة بعهدِ الإمام خردله بعد أن أطاح بأبيه، وخذل شقيقه بالزواج من ماريانا بنت مخزوم تويني قلعة للدجى، أضحى أشبه بإلهٍ يملك الأرض والسماء والبحر والبشر والبهائم والهواء والتنفُّس، يُحي ويُميت وهو على كل شيء قدير. كانت تلك راية تبختر بها وهو يرفع لواء البلاء ويحكُم باسم الواحد الأحد، يجوب أذيال المملكة بالليل عندما يُحظر التجوال، يتلصّص على شعب موبوء، يتنصَّت من وراء الأسوار وثقوب الجدران التي يخرمها حرسه، يشمّ من خلف النوافذ روائح المضاجعة، نوافذ وأبواب صُمِمت طبقًا لمعايير فرضتها سلطته ولا يمكن تجاوزها، تسمح له بالتجسّس والتنصُّت على حركة الرياح وسطوع الشمس ومسار الغيوم وكل حركة تنفُّس بالمملكة، مما حفز الأميرة ماريانا ذات أمسية عندما كانت مطلّة من شرفتها وقد تأنقت لمجرّد إشباع نرجسيتها، فوجئت بقافلةِ خيول يمتطيها جملة من فرسان التاج البريطاني، يرتدون أزياء حرس التاج، تصوّرت لوهلةٍ أن خيالها الواسع تراءى لها عطب أصاب ذهنها الواهي بعد ليلة حلم رمادية، موشّاة بجملةٍ من هواجس موتى وغيوم نارية، تسكب حمّمها في شكل هياكل قشريّة، وكلما دققت النظر بقافلة الفرسان لاحت لها أشكالٌ متباينة حتى شكّكت ببؤبؤ عينيها، هجرت الشرفة ويقينها أن ذاكرتها بعد الأفكار التي صاحبتها وهي تهم بمبادأة إمامها خردله، رغبتها الخروج ليلاً لملاقاة مصير المدينة بتلك العتمة التي ما فتأت يلاحقها فضولها الضاري، برغبةٍ مسعورة توازي شغفها بالقراءة في الاطلاع على حال المدينة وهي تغص بالوجوم وخلوّها من البشر والضوء والأنفاس...
"لا أستحي من طلبي سيدي، بلّلت شفتيها وبدت متحفزِة، لكن تجاه شغفي برؤية سر عاصمة الجبل الأزرق، لا أملك سوى شغف بالخروج والتجوال ليلة من ليالي حظر التجوال، ولأنزع من داخلي غريزة فضول داميةً، تكاد تمحو عقلي. وقف منتصبًا أمامها منتفخ الوجه زائغ العينين، متهدج الحاجبين، أردفت: سأتخفى في زيّ جندي أبله أو حارس غشيم من بطانتك وأرى حال المدينة، لا ترفض ليّ هذا الطلب" نزع خردله من عينيه دهشة كادت تصيبه بحمى، وتفصّد جبينه برميل عرق، لم تُثنها عن النظر في مقلة عينيه حتى تفوز بموافقته، فقد اعتادت أن يبادرها بتلك الدهشة المُفتعلة وقدرته على تفصّد العرق حتى يُطيح بمطالبها التي تبدو غالبًا متخطيّة ذرة العقل، كان يجس نبضه وهو ينظر لها من تحت جفنيه فيما أرجأت الصمت وبادرته مردفة بنبرةٍ خلت من التوَجُّس وراق لها أن تراه حائرًا، فضربت العِبارة وهي ساخنة:
"متى تشهرني ملكة على هذه الديار؟ غمزت بجفنيها بلا مبالاة، لا يليق بك سيدي وأنت ملكها أن تظلّ صفتي أميرة، ما ينقص من شأنِك كمليكٍ ومكانة مملكتك وشعبك" يا للهول، قال ذلك في صمته وقد صدمهُ الطلب الآخر، فقد بدت له هذا المساء وكأنها توشك على الانقلاب عليه. تراءى له لوهلةٍ أن حمى عرضيّة أصابتها، ودّ لو يقترب منها ويتحسّس بنظرةٍ أعمق، دون أن يلمسها، فهو لا يجرؤ دون اذنها، سخونة بدنها، لكنه بومضةٍ تلاشى ظنه وفطِن إلى سداد منطقها وصوابه فيما يتعلق بتتويجها ملكة ولكنه انحاز ضد خروجها وحدها بالليل متنكّرة، وأزاح من ذهنه عبارة يا للهول، مبللاً شفتيه، أزاح نظرته عنها، وصَوَبَها ناحية شرفة القصر المطلة على الجبل، ثم استدار، ورآها تلعب بضفيرتها:
"كما تعلمين ماريانا، إشهارك ملكة مرهون بمجرّد وقتٍ قصير، لكن تجوالك بالليل وحدكِ يتنافى مع حظر التجوال الذي يشمل الجميع" تبدل لون بشرتها فجأة، أزرقت، واتسع بؤبؤ عينيها، بدا لهُ فستانها بدون لون...
"ولكن حظر التجوال لا يشملك أنت"!!
قالت عبارتها تلك بوخزةٍ متعمّدة في نبرتها، وأهدتهُ نظرة حزيمة وهي تُزيح خصلة من شعرها الذهبي المُسترسل كضوءِ قمر بمنتصف الشهر للوراء "رؤيتي للشعب قد تجلب لنا مجدًا مترامي الأطراف، الملك يحكم والملكة تستعرض، هكذا تدار السلطة في لندن والدنمارك، أنت تملك وتقتل وأنا أعزي وأداوي، أنت تهدم المنازل وأنا أُحقن الحدائق، هكذا يجب أن يرانا الشعب، علينا أن نجعله سعيدًا رغمًا عنه، حتى يرضى عنا التاج البريطاني"!! استدار نحوها، راح يعبث بالخاتم الرسولي الزمرد بإصبعه الأيمن، بدا مشككًا في نفسه وبرأيه، كانت قد نسفت فكرته من قاعها عن معارضته رؤيتها للشارع، شعر بذعرٍ من أفكارها الرائقة متأثرًا بأعماقهِ بسدادِ رؤيتها ولو أنه راوغ محاولاً إخفاء اندحاره أمامها متجاوزًا النظر في بؤبؤ عينيها الخاليتين من أيّ تعبير، سوى ذلك الثبات الكاسر يقوِّض أيِّ ردة فعل، لم يعد ينظر لها بشؤم، أزاح من أمامه الأنقاض التي يرى بها مملكته كلما جال بالليالي الجنائزية عندما لا يغفى ويجتاحه عصف الأفكار حين تستقبل قبور المدينة عشرات المسلوخين والمفصولين من قوائم الأحياء، كان يرى في جثامين الأحياء قبل أن يَسْفك عليهم حكمه بمغادرة الحياة، بذور سنابل لحقولٍ أخرى تنبت سواهم، لا يغفو ما لم يحفر قبرًا، ويبذرها بحيوات خارج المجرّة. كان يرى نفسه الله في هذه الأرض التي هي العالم باسرهِ، حتى لو ذكّرته لوحة التاج البريطاني وزيارات المراسم الملكية فيما وراء البحار، بأنه مجرّد والٍ على الديار، لكن الله عيّنه سفيرًا له رغم إرادة لندن. يغفو بعد طوافة ليليّة فريدة برائحتها، رائحة قهوة وشموع ودعارة وخوف، رائحة نساء عاريات وعرق ينتع ويفصد من شقوق النوافذ، حيث يحشر خياشيمه كسمكة قرش نرجسية تتشمّم رائحة فريستها، تبهجهُ روائح عدة، تحديدًا رائحة الأجساد المعجونة بالدعارة، تُغريه، لا يتعجب سكان المملكة من فرط شغفه للتجوال، يدركون وجوده جوالاً بالليل أمنًا لهم، لا يُسْرقون ولا يُقتلون ولا يُعْتدى عليهم إلا بأمرٍ منه، يُجرون احتفالاتهم بالنهار، يتضاجعون ثم يحتسون القهوة السوداء بعدها ينامون، وهم مطمئنون إلى أن الإمام خردله مزروعٌ بشوارع وطرقات وحتى زرائب مملكته، حماية لها من عدوٍ مجهول لا يعرفون هوية له، يكفي أنه وحده شَخّصَ العدو فقرّر مطاردته بالليالي المظلمة، وحده دون حراس، دون شرطة، دون حماية دونهُ بلا خوف يطارد الخوف، يملك الأرض والسماء، يُهيمن على الرياح والبحر، والموج، يحكم بالموت والحياة، يملك الليل والنهار بالظلام، وحده وفي غمرته يحكم مملكة ياروبا لكنه لا يملك شيئًا من زمام ماريانا بنت مخزوم تويني التي انتزعها من شقيقه: "وحدك سيدتي تخرقين العتمة وتضيئين الشموع، وتطلقين العطر بالأرجاء، وحدك تسمحين لضوء الشمس بالتسلُّل، وللغيوم بزخ القطرات وفي نهاية اليوم عندما أمسك بيديك يُسفعني برود مشاعرك، حتى لا أطمح بأكثر من مرة عابرة أستبين ما تخفينه وراء أزياء مُطرّزة بالكتان بدل الذهب والياقوت لئلا أحلم بخليفةٍ بعدي، ماذا أصابك حتى لا تبلين في فراش المُلك كما تبلي العاهرات والمحظيات والمختالات في أسِرَّة الدعارة، أولئك اللاتي يحلمنّ بغرس شجرة في حقولهن؟" تحتمّ أن يصمت حتى ينصت لدقات ساعة ثناياها وهي تطلب المُلْك، ولكن لا تمنح وليًا للعهد بعد كل هذا الوقت، فكّر بمعاقبتها... لكن تذكّر "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع" وعدل عن ذلك لإدراكه العواقب.
"الليل وقتٌ تبيض فيه الدجاجات، والنهار وقتُ جني تفقيس البيض، خروج بالنهار أولاً ثم نرى بعد ذلك، أبدى تأثره وتعاطفه بينما كان يتمخّط بحرجٍ دون أن يسيطر على مخاطه، في النهار الرصاصي تشقين الشوارع بعربتك، تحفرين عيون البشر بهيبتك، تمضين وأنت تزرعين النجوم في النهار، عظّ لسانه وأردف، سأجعل النهار ليلاً لن تري بشرًا، سأحظر التجوال، وحدك بثنايا الطرقات والميادين والشواطئ، ومن فوقك السماوات مرصّعة بنجومِ الليل وحتى نسائم الليل وآهات المتضاجعين وروائح أجسادهم، تنهّد وأكمل، ستتجولين بتاج المُلك على رأسك رغم حظر التجوال، فهناك عيون خبيثة لا يمكن قمعها حتى لو فزعت الساعة الأخيرة، سأؤذن بساعتك لأجل أن تبصرين الليل كالنهار، أكثر من ذلك، سأمحو الوقت سأجعل صوت الديكة تعلن فجر اليوم التالي" اقتربت منه باسمة بدّدت عن وجهها الاكتئاب وبدت تتملّق بنظرات نافذة، كان فستانها شفافًا واقتنصتهُ يسرق نظرة خاطفة لنحرِها البارز كمسارٍ مشذب بين جبلين.
"سأتنازل عن الليل سيدي ولو مؤقتًا لكن من غير حظر التجوال، اقتربت منه وأهدته نظرة عاصيّة، وأردفت: دع المدينة لي وحدي، لا تعطرها، لا تسلبها عذرية منهوبة مقدمًا، من دون تاج فوق رأسي ما لم يكن له رمز، وهذا مثير لشهوة الاعتداء عليَّ" "من يجرؤ "أطلق صرخة، هالتها نبرتهُ، وكأنهُ مرسوم يحضِّرهُ للتوّ لمجزرةٍ ضارية تمهيدًا لجولتها، ثم استعادت هدوءًا مشوبًا بحذرٍ:
"ما أهمية التاج سيدي وأنا لستُ ملكة بعد؟" "منذ الآن أعلنك ملكة ياروبا"
***
رانت رائحة أزهار ونباتات، تنفّست شمس نهار الجمعة رغم دسائس منتقاة، إذ اختار الإمام هذا اليوم لجولةٍ عاطفية! بدت تفوح أجواؤها كتسريحة شعر ملكية، نُسِقت، برزت كوليمةِ عشاء سلطانية مُبجلة بشموخٍ، تبخرت كمياه البحر تحت لهيب شمسٍ مهيبة، أخليت كل الشوارع من المدقعين والمجذومين، خوَت من عرباتٍ وعتالين ومهمشين، تغيّرت سحابات وتفتحت أزهار، جُلبت من جناتٍ خارج المجرّة، طوّيت صفحات الأشجار الذابلة وأزيلت الأوراق الصفراء، أُغلقت حوانيت غثة وسُكرت مخازن ودهاليز، أُلقى القبض على كل البهام السائبة، قطط وكلاب وحواش من البشر بحكم الدواب، بدت مدينة الجبل الأزرق عاصمة ياروبا كعروسٍ تم تجميلها وتزيين ثناياها بجميع ما توفر في عالم الجمال من زخرف وزيان، حتى لم تعد تعرفها الأعين التي لم يتبقَ منها بالطرق والميادين سوى أولئك الذين يمثلون عرسان وأنبياء ووجهاء، شموع سامقة بعزِ نهار مثقوب الأوزون، ترقص أشعته البنفسجيّة تحت سماء خضراء تتأرجح كسنبلةٍ يقظة بوهج نهار يعبق هواءهُ برائحة العزلة، طُرق واسعة، مخْضّرة، منتشيّة، وارقة، شغفة، لم تشهد المدينة نهارًا بتاريخها بهذا السطوع المُستند إلى أوامر الإمام، قال كن، فكانت مدينة ذهبية تتراقص كحرية سماوية، من شدة فتنتها جمَدت ملكة ياروبا المتوَّجة للتوّ أمام هذا السحر. "هل تصدق ما تراه عيناكِ أم هي غفوة الليلة المنصرمة لم نفق منها بعد؟"!! تساءلت ماريانا المُتمرِّسة بكشف الحيّل وقد بهرها منظر المدينة، كانت بعربة ملكية مزخرفة بجواهر وذهبان مناجم الدنيا السبع، يعلوها تاج أثقل كاهلها ونزف دمها الملكي، وفصد عرقًا أسفل ضفائرها، كانت ترفل هيبة سماوية زاخِرة بوحدانية، رطمتها حمى فارهة، شمِلت الشارع والطريق والميدان والساحل وجميع ثنايا المدينة التي كانت صفراء أشبه بمن تعرّض للحمى الصفراء، وفي ومضة ملكية بين ليلة وضحاها أضحت زمردة، تختال كامرأةٍ عروسٍ ليلة زفافها، لا ضجة، لا ضوضاء، لا بهائم ضالة، لا فقراء ولا موبوئين، حتى نجوم الليل سطعت مع صباح أزرق مسترخٍ ومفعم بحيويةٍ غير مسبوقة، مُشرق منذ زخت شمس مستأجرة ضوؤها يوم استقبال موعود. مرّت العربة تحفّها ضفتان من خيالة وفرسان، تعلوهم وجوه حمراء مورّدة لا تنتمي لسمرة ورمادية بشرة ياروبا التي صاغتها أجواء البحر وسخونة الشمس وحرّ القيظ، كانت لحظة خاطفة لمحتها الملكة وهي تعبر وبداخلها نزيف من تساؤلاتٍ واستفهاماتٍ مستندة على غرابة ما رأتهُ قبل اقترانِها بالإمام خردله حين كانت ترافق بعثات وزرافات من زُمرها النسوية، كانت شديدة الوله برؤية مساءات مدينة لا تنام ليلاً حتى بمنع التجوال، بفصولِ خريف وهي بسنٍّ مبكِّرة، لم ترَ يومًا هذه المدينة بمثل ما ألفته عنها حتى بعد اقترانها بالإمام لا تصدق ما رأته، فما أرّختهُ منذ سنوات الطيش عنها لم ترَ إذعانًا غير مألوف كهذا، ركعت له المدينة مذعِنة لمصيرها وهي متيقنة أنها كانت طوال زمن دام، صاخبة وضوضائيّة اعتمادًا على تقارير استباقيّة، استخبارية، كانت تردها من قِبل حاشية مبطنة، موالية لها سرًا من داخل ديوان الإمام. خلعت تاج الملكية من فوق رأسها حين أدمى فروة رأسها وتفصّدت بالعرق، إن من يرى التاج ليسوا سوى حراس وشرطة ومخبرين ومستوردين من جنسيات لا تمت بصلةٍ لجلدة بشرية متاخِمة لهذه الأرض الرمادية التي أدماها الجفاف والحرّ والغبار ونزع منها زينة المُدن التي تقرأ عنها في رواياتٍ مهربة سرًا، تصلها منذ ما قبل زمن الملكية، "أيُّ تاج هذا الذي أعرضهُ من دون ضوضاء ولا حشر من بشر؟" خاطبت نفسها غير عابِئة بالزمر المرافقة لها وهم ينتظرون التوجيه بشأن مرور عرباتها عبر شوارع متقرِّحة وطرق أقرب للحظائر، وقد تجرّدت الآن من أسمالها وأجبروها أن تتعرّى من فقرها وبؤسها حتى تراها كعروسٍ في زفافها. "أي زفاف برفقة سلاح وتهديد بالموت؟" "عد للقصر" خاطبت حاجبها الأكواع، للعودة بالمركبة المحاذية وقد سفك الاكتئاب ذروته بوجهها وبدت محتضرِة وآتية من جنازةٍ ذهبية، غارقة في حدادٍ على سماء كانت صافيّة، وساحل يضجُ بصخب طيور النورس، ما باءت تُحلق، وغيوم مضرّجة بسخامٍ وكأن السماء رمضَت، هذيان عبّأ الأفق بغضبٍ إلهي، خزي وعار ودموع سُكِبت من نوافذ فضاءات عَرى احتجاجًا على إعلان الحداد بمدينة رأتها من قبل تعجُ بأجسادٍ هزيلة، ووجوهٍ مُنفِرة تتضوّع بعرقٍ مُقرف كما لو تفصّد من أموات، أحياء يتسربلون بجلودٍ مزقتها مطواة وأزاحتها لترفل في مدينة عاصيّة على البشر. عن ماذا تتنفّس في بوتقة قاحلة لم تهدها رغم اعتلائها التاج الملكي سوى قبور أحياء مجدبة وسماء من فوق جدباء، وأرض عطشى يابِسة كوجوهِ وهياكل أولئك الذين أُجبروا على الاختباء إكراهًا حتى لا ترتطم بهم بتلقائيتها العاتية التي يخشاها زوجها منذ كانت كزهرة غاردينيا، معلقةً قلبها الخافق الأبيض بطرف شعرها المائج، وقد اجتازت اختبارها مع جدها في علاج الاكتئاب والحمى الصفراء واضطراب النوم وفقدان الشهوة التي ظنتها في المُستهل مرضًا ثم تفطّنت لغز تلك الشهوة المفقودة حين واتتها شجاعةٌ غير مسبوقة دلتها على مفتاح شغفها، تبيّنت ذلك منذ عمر الثالثة عشر ولم تفهم ماهيته حتى اقترنت بخردله حينما بدت شهوة عاصفة بعيدة المنال. وبدلاً من رؤية حافلات مزخرفة وزينات معلقة وزبارج تتدلّى، وزمرٌ من أفراد صُبِغوا ودُبجّوا كي يبرزوا سعداء، درأت وجهها نحو أفقٍ أدجن كانت قد أبصرته من قبل واسترجعت انطباعها بيومٍ غير الذي أُعد وصيغ وزُخرف لها وحدها.
"كيف رأيتِ مدينة خردله؟ تبدو عليكِ البهجة؟"
استقبلها خردله بشرفةِ رواق القصر وهي تحيق خطواتها رافعة فستانها الوردي، متجِّهة بعجلةٍ وكأن مرايا بينت العالم مقلوبًا في ثنايا متعدّدة، عبيدٌ، حراس، عاهرات، وزنوج، شرفات وأزهار ومستنقعات، شعرت برغبة في قيلولة تحطم تلك المرايا وتخلد للنوم. حينما تجاوزتهُ لحق بها حتى باب رواقها الفاصل بينه وبينها، التفتّت نحوه، كان متيقنًا من رغبتها في النوم لشعورٍ بالاسترخاء رافقها خلال جولتها الانضباطية كما صممها لها: "الشمس لا تحجبها الغيوم بل تجمّلها، كذلك الحقيقة، والصمت وقت الضوضاء أقوى تعبير عن الرأي!" بدت نظرته موشّاة بحيرةٍ وشكٍّ حين خاطبتهُ بنبرةٍ ماكِرة مزخرفة بألغازٍ كنست معها رغبته في معرفة رأيها، غير أن فضوله الجانح للاستيعاب دفعه لتكرار السؤال بصيغةٍ ملائمة له: "ربما تسرعتِ بجولتك تلك، كان يمكنك تأجيلها حتى تنتهي أعمال الإعمار التي لم تكتمل، كنا نرسم خريطة للمملكة ستصوغ علامة على الازدهار، على أي حال، رأيتِ ما كنتِ متشوقة لرؤيته" قهقهت ومالت بغطرسةِ جسد هفهاف كغصنٍ طري، استدارت للخلف مغلفة بصمتٍ نحو غرفتها بسحنةِ مياسة، تركت طرف فستانها متقهقرة يسحب بالأرض، ثم التفتّت بتؤدةٍ مستعيدة روح النظرة الجامِحة نحوه وصوبت لمحة مختالة:
"سأرى المدينة بيومٍ ما، يوم آخر قبل القيامة، يوم لا تحتجِب فيه نجوم الخالق، كان يومي مثل عروس موحلة، عروس أفعى مطليّة بسخام مُذهّب، صبغت بيوضها دون نشوة، عروس مُتخَمة بشؤم، تسير تحت رذاذ نجوم مفتعلة، بتعويذةٍ ملكية مزيّنة منذ الغبش بياقوتٍ من أسنان حوت معفن اللثة، صوبته نظرة عدم اكتراث وفحَت من جوفها واستطردت: تنزهتُ بلا ملائكة أو شياطين، تحت بيرق هيبة تاج مائي سرعان ما نخرته العزلة، منذ وقت طويل، طويل جدًا، لم أر ثنايا المدينة، هجرتها، بل هجرتني عنادًا منها على تطفلي، كيف أراها خلسة بينما عشت تحت سمائها طفلة موحلة؟ نزقة بشعة، خَجلَت منها المرايا العاكسة حينما عكسَت الوحل يصبغ قدمي المُذرة، هربَت ذاتي من رائحتي الفاسدة، تطاردني حتى اللحظة، فسخت شالها واسقطته على الأرض وفحت كأفعوانية ثانية: هذه المدينة الطارئة، الطازجة التي وهبها لي خردله بن سماعة، سيدي ومليكي، ترفض أن تتقبلني كما كنت، وأنا تلك الطفلة الغضاريّة، مضى زمني الصبياني، حلّ زمني الثاني، التائه، المائدة الملكية افترشت لي بساط طيبات الأرض، فتحت السماء أبوابها، شرعت نوافذها الشجرية، جنحت رياح شمالية حزينة، تقلّص حجم الأرض التي أقف عليها، ضحكتْ مني النجوم، اصطفتْ الملائكة والشياطين معًا، متناسين خلافاتهم، لتذوّق مؤامرة العبور بشوارع المدينة، شوارع مهجورة رغم طلاء الذهب، شوارع مزخرفة رغم غبطة وكيل الربّ، شوارع، طوباوية، نوافذ مهجورة، بشر محشورون في فذلكة ملكية، رمتني عجلاتي الملوكية على باب العزلة، كمتسولة يعلوها تاج الملك بلا سماء تغطيها... ترى، هل أحتاج لخارطة وأنا بأرض الوطن؟!"
عبرَت طريق الشوك، رمَت تاجها الياقوتي على وسادتها السلطانية، وخلفّت مليكها يقطّب بخيوط الضجر جراحه المُثخنة، كانت أبواق المدينة تُعلن رفع حظر التجوال فالشمس ما فتأت عند ظهيرة مملة، وقيلولة الشعب لم تحن بعد، تنحى في مقصورته وحيدًا، تائهًا، بين جدران صامتة رغم ضوضاء الحجارة فيها، تصدى لتفسير يزيل عن كاهلهِ نواح العاشق الفاسق، ينظر لتقطيب جرحه الفاصد، أين كانت تختبئ هذه الأفعى السرطانية التي تنهش عظامه، لا يجرؤ سؤال، يبدِّد سحابة الغموض، غموض مدينة أبَت رغم حراسها وأعيانها وشمسها الملكية وبحرها السلطاني، أن تمنحهُ شرف استقبال ملكته المتوّجة، "أين الغضاضة يا خردله؟ أين؟"
استدعى نهار اليوم التالي مع سطوع شمس السبت، بديوانه السلطاني، الوزراء وقادة الشرطة والجيش، ورؤساء العسّس والبلديات وكبار شيوخ الدين وسادة الحوزات، كان ضياء المكان يعمي عيون الحضور، وحده ارتدى نظارة سوداء داكنة، كان يرتدي بذلة النوم السلطانية، أشعث الرأس، بعينين زائغتين محمرتين، تسيلان دماء عقيق، افترش سجادة فارسية على الأرض، وأحاط شمعدانان متقدان به، كانت الجدران تتنفّس لون الرماد، برونق الأرجوان الذي طبع السقف وتدلّت من وسطهِ نوافير تريق ضوءًا حادًا كبريق ضوء ليلة شق سماؤها البرق، ثمة لوحات زيتية تصدّرت واجهة وخلفية البهو الذي اكتظّ محيطه، بشمعدانات وطاولات، ومطارح، ووسائد منقوشة ومسانيد مزركشة، وأباريق صينية على مناضد خشبية مزخرفة، كانت القاعة متواضعة وغير مهذبة بدت الأشياء متملقة وهي تفيض ببريق ضامر، ولحدٍ ما بمجرّد تنشق المكان تصادف رائحة عرق نوم مُسهب بتواطئ مع وجوهٍ يبدو أنها قضت ليالٍ قلقة دون فسحة لتنفُّس نوم ليلي، كانوا كما لو خرجوا من خزانةٍ وتبارزوا في سبيل إرضاء الإمام، الذي كان يحتفظ وحده بالاسترخاء ويغط بالوقتِ ذاته بنعاسٍ شبيه بحمى، ظلّ وحده يحتسي سائله الذي لم يُعرف إن كان شايًا أو قهوة سوداء، أو عصارة أطفال. عدة وجوه خرجت من خزانة غبارية، بزيٍ مكتوم كأنهم خرجوا للتوّ من بين فكي حيوان جائع تغريه حتى الأسمال، جاءوا أسرع من ضوء شمس مُنتقِمة لدى استدعائهم، لا يوجد ما يومئ لوجود إقامة مستدامة بالمكان سوى منصات واقيّة بأطرافها بعض حرسه الخاص...كان وجهه متورِّدًا رغم سمرة تعتمر بشرته المشدودة بزغبِ طقسٍ رمادي ضامر، بدأ يتثاءب فيما تحلقت حوله بطانته وحرسه في سربٍ مُبلّل وكأنه فلت من مغارة مائية...
"جمعتكم حتى أدرك عن يقين ماذا حفرتم بالمدينة؟ هل فقأتم عيونها، أو سدّدتم خياشيمها؟ أم سلختم زينتها؟ ماذا نشرتم من ترهات؟ لقد أمرتكم بجعلها مدينة فاضلة، فاتنة، سألهم مشمئزًا بنبرةٍ متحجِّرة وهو يدعك عينيه المدقوقتين تحت ظلِ داكن ثم راح يُحدق بوجه كل منهم على حده، واستدرك: منحتكم امتياز أن تجعلوها عروسًا يومها، فالأميرة آتية للمرة الأولى لتحتفي، باءت وهي مغيظة وموشّاة بسخطٍ هل ذررتم جراثيم وحشرات؟ هل فقأتم سماؤها وسكبتم لعاب ساحلها، أطلعوني ماذا دهاكم؟" تهاوى بعضهم ولاذوا بصمتٍ أقصى للحجر، ونزف بعضهم أنفاسه مختلسًا نظرات متوارية وراء جدار الإحباط، تجرأ قائد الشرطة عجمة المسعري الذي كان يبلّل شفتيه قبل أن يتحفز للمبادرة: "طبقنا لجلالتكم توجيهكم بالكمال والتمام" تمرّغت عبارته بردة فعل مجافية لما كان يتطّلع له الإمام، خلفّت معها انطباعًا تحلّق على سطح ملامحه الذي ساد وجههُ خمول كمساء يومٍ طوّقته سحابة غبارية، كتلك التي اكتسحت المدينة بتلك الجمعة العبوسة، خصهُ خردله بنظرة مُتملِقة، بدا قائد الشرطة المجزوم يرشح في أنقوعة عرق، كان يرتدي معطفًا خاكيًا وسروالاً بلون خراء القطط، كانت عيناه محدبتان، متدليتان كثمرتين متعفنتين، كان بسنّ سبعين خريفًا يتيمًا وما فوق، وبدا من وراء سحنته الناضجة مخادعًا، ذئب تحت جلد حمل، لكنه اندس بشراهةٍ مفرّطة بالتوجُّس وراء صدغيه اللذين اعوجا وهو يمضغ عبارات منمقة: "سيدي الإمام، زففنا مدينة زاهية، مكتظّة بزينات وزخرفناها بقلائد أزهار وحممناها بعقيق سرمدي، أفرغناها من البهائم وأضرمنا أريج الجنة، لا تتصوّر سيدي ما كانت عليه عروس الجبل الأزرق، حتى الله في السماء غنى لأصدائها، لو أبصرتها جلالتكم، لأيقنتم بأنها فاقت لندن وأصفهان، كانت بعيدة المنال، طبقنا توجيهكم وأجرينا فوقه ذرات ونسمات وزرعنا في السماء أزهارًا وفي الأرض أزحنا الغوغاء، أظن يا سيدي لو رأيتم طرحتها لأيقنتم أنها عروس مملكتكم السامقة في حضن السماء" لم يترك منفذًا لبقية من محيطه يستنبطون حجّجًا، أدرك في وميض من وعيٍ اخترق ذهنه المترف بالخيالات واسترد صورة الملكة التي حاول إغرائها بخديعة مدينة من صنع خياله الأرعن وهي التي منذ طفولتها الغِرة رغم زمرد وياقوت وذهب الكون توغّلت بثنايا الوحل وخبايا الأحراش، استنفذت طفولتها المعجونة بالأملاح الشيطانية المُستقطبة من العرق الشوكي، لم ينتبه أنه اختلق فضيلة لم تشهدها ولاية منذ الأزل وفقد حسّ الفكاهة وهو يستشعر شفرة الانقلاب ليس على سلطانه الأزلي بل على الإغراء الذي خلّفه عشقه المدجّج بسلاح الفتنة والإغواء، أتى بالوحش إلى داره بإرادته ولم يستطع الهيمنة عليه، فقد سيادته للتوّ أمام قادته وبسبب الإغواء، جمع أركان ملكه العاتي المثقوب بهوى العيون والأفخاذ وحواجب شغف غير مسبوق بامرأة غير مسبوقة بأفق. تذوّق قهوة داكنة نفذت رائحتها حتى خياشيم صف الأركان من حوله، تنفّس خيبة في أحشائهِ الذهنية العاجزة عن إيجاد حجّة لقذف أولئك الحمير الحمقى، وهو بمقدمتهم كما أقر بسريرته، عندما خذلته أوهامه وأصدر فرمانه ولم يرجع لذكرياته مع تلك الطفلة والشابة الطائِشة، الغارقة في بحيرة الوحل التي عاشت بثنايا مدينة هي حديقة عمرها، ترى الأعاصير، وتعايش المجذومين وتسقي من عينيها صور حقول مدقعين وحثالة مدينة، تغيب بضوضاء عتالين وحلاقين وتعبر باحات موحِلة. ضرب بوجهه صمت مطبق، أفاق فجأة على صفعة، جلس صامتًا لبرهة، تذكّر على إثرها زمنًا مضى كالضباب: كنا أطفالاً وسخين، أسمالنا كما لو كنا أحفاد حمالين، تشهد لنا ياروبا مدينة الجبل الأزرق، كنا بهائم وسط زنين باحة رثة، معجونين بهمجية ورعونة طفلية "كيف فاتني ذلك وأنا أصمّم مدينة الجبل الأزرق؟"
طرد كل من حوله، طفق يتلوّى لفكّ جدران الكارثة التي بنى على أعمدتها مدينة من خيال مريض بالحبّ. بدا وحده في عزلة بالمكان وسّط صمت ورنين يدعوهُ لفتح باب المدينة هذه المرة على مصراعيه "لا لن اجرؤ على ترك التاج يتجوّل وسط حظائر بهيمية" اتصل الليل بالنهار دون أن يرى المرأة، لا يجرؤ على طرق باب سُدّ بسخطٍ وتحجّرت مشاعرها المُنتظر منها أن تلين، كان هو المعصوم منذ الأزل من ارتكاب المعاصي بصفتهِ وكيل الله، وعليه أن يفتح نافذة على السماء ويقرّ بزلته ويطلب غفران ملكة ياروبا ثم يتركها مع رياح المدينة تنتشي. "أتوسل لها وأدعوها تحت شجرة ظلال السماء تجتاز رحلتها البركانية التي تفتّق بها ذهنها عن تاج ومدينة" عندما أمطرت أخيرًا سماء ياروبا بليلةٍ مظلمةٍ، تصَادف مع ظلمةٍ سماوية ولم يعد زغب الشمس يدنو من سقف المدينة، تمّ حظر التجوال رغم نهار اليوم، بحجّة ظلمة الكوْن، لم يكن حظر التجوال إلا ذريعة لرؤية مليكته التي طرق عليها، فلم ترد فدسّ لها ورقة من أسفل الباب" مدينة ياروبا تتوسَّلك سيدتي كيفما ترومين"
"لكل نهار بداية، ولكل ليل نهاية، ولكل زمنٍ بداية ونهاية" درأت عبارتها بصمتٍ، زمَّت شفتيها من وراء باب تركته عمدًا محنطًا! ألقت على كتفيها وربتها الحريرية، قبل أن تفتح، طالت رائحة أزهار قرنفل هندي وجهه الباهت، بيضاء في ضوء قنديل أرجواني مثبت برأس المدخل، انتصبت كنجمة فضية، مبتسِمة باقتضابٍ تغلغل بينها وبين الباب حتى ولج: "لماذا نخشى الموت ونحن ندرك...نعرف جيدًا أننا سنموت في النهاية؟ ليست حكمة أن نعرف ونخاف، بإمكاننا تجاهله، رائحتك زكية مثل الملائكة، من الحنكة أن نقتات على ما تبقى لنا من وقت" تقدم خطوة بحركة تعمّد حسن التصرُّف.
"لا علاقة لي بالموت سيدي، الخطب متعلق بتوخي الحذر من رجالك، هل تعرف كيف ينفذون أوامرك؟ حتى لا تخسر ترتيبك هؤلاء الجوقة مختلون عقليًا، لو اعتمدت عليهم بعد ذلك سوف يقلبون البحر صحراء، لا تضحك.. الأرض التي كانت بقرب سفح الجبل الأزق كانت محيطًا تغرق فيه السُفن، أنظر الآن... كومة رمال، وغدًا سيتحوّل لصخر، حديثنا لا يشمل الموت بل الحياة، هل أنت مستعد أن تحيا؟ إذا لديك فرصة لتنسى الموت، إذا طال انتظارك طويلاً وقدمت كل ما لديك، فأعلم أن قانون الجذب الكونيّ يصنع النتيجة بتمهُل. لا تتعجل ولكن لا تُبطيء" دفعت نحوه المقعد واستلقت هي على أريكة مطوّقة بزخرفة قطنية، مقطّبة بنجومٍ رصاصية: لا بأس من أن تخرج وحدك بالليل ولكن لابد لي أن أخرج بالنهار هذا أدنى ما يُمكن، ولكن مع حفظ طابع المملكة وليس تزيينها كدمية لطفل معاق أو أحول...أنا دهشة مما رأيت...قالت بعصبية طارئة واستطردت...كل شيء تغيّر إلا الرائحة، كانت رائحة الخجل تطارد كل شيء وضع أو سُن أو تم تبديله...قهقهت باسترخاء ثانية وأضافت. ما هكذا تورد الأبل" قرَب مقعده من ناحيتها حيث كانت تسريحتها منسابة بطرف لا يراه، كانت تخفي نظرتها، بلّل شفتيه وتنفّس، ولكنه في لحظةٍ تراجع عن جملته واستبدلها بعِبارة بدت مُفتعلة ثم عاد ومغطّ شفتيه وأخيرًا انهار: "الجميع يؤمن بأن الأرض كرويّة، هل أنتِ معهم، من ابتدع هذه الفتلة قصد أن يخرق عقولنا، من الأفضل أن نعيش على سطح الأرض كما هي، أنا...أنا أترك لك حرية ارتداء التاج والخروج، والأمر لك في اعتبار الأرض كروية أم مسطحة وعلى ذلك ستترتب أمور كثيرة...إذن، توقف لومضة ثم أردف، لكِ المملكة بطولها وعرضها، ما هو الثمن ماريانا؟" "تقايضني؟" "أنا الملك وأنت الملكة، نتقايض المصالح، هكذا في لندن العاصمة يتوّلون الأمور" سرحت لومضة ثم نهضت واستدارت فتبعها... "كم كتابًا قرأت بحياتك سيدي؟" سألت وتوجّهت بقميصها الذي انزاح عن طرفهُ وشاحها، تركتهُ يكشف عن كتفها اللازوردي... "قرأتُ القرآن...صمَتَ، قرأتُ القراء...قرآن التفسير، أعني تفسير القرآن، سرح لوهلةٍ ثم سارع: قرأتُ ابن تيمية، آه يا له من قرآن يحرمُ العقل، هل تصدقين أنه لم يترك شيئًا للكتاب الأول، أعني، آه قرأت أيضًا ألف ليلة وليلة...قهقه حتى كاد ينفطر...يذكرني بك ماريانا" "بيّ أنا" "شهرزاد؟" قال معقبًا على تساؤلها فيما كان يعمد ليفرد وجهه بعد أن أهدى لها عرضًا ملكيًا محاولاً إغوائها. "وأنتَ... هل أنت شهريار؟!" أردفت بدورها وبدا صبرها ينفذ ضاغطة على السقف من فوقها والأرض من أسلفها ألا تبرز فقد الصبر، كانت تتحلى بحيلة واسعة حين راوغته بترك الوشاح يسقط عن كتفيّها... "حسنًا سيدي لقد أفضيّت بحجّجك، قالت وهي تتنهّد موحية له بنفاذ وقتها، وأضافت بنبرةٍ مقتضبة: أتيّت وفضفضت بذرائعك، ولم تتطرق لمزاجي وما تركته لعبة عروس المدن، سواء تلاعبنا أم لا بقواعد الحياة، قالت بنبرة مستسلمة ثم استدركت، علينا ألا نهجر قاربنا لأنه يغرق، تذكّر إننا سنسبح على أخشابه" بدت ماريانا مشْمسة بضوءٍ أرجواني، جعلها مشرقة كما شمس نهاية خريف دافئ، شعر منساب كجدول ماء ينحدر من مصّب تضاريس الجبل الأزرق، اسقطت عيناها حمّمًا متطايرة كانت تلسعه مع كل نظرة وتشوّكه، غرفتها، بل باحتها الملكية المجزّأة لغرفة نوم وصالة ورواق يفصل بينهما ثم شرفة مسيّجة بحديقة متمازجة من أزهار قرنفل ملونة وزهور اللافندر، ووريقات خضراء وبنفسجية، مشكلة جسر يمر فوق حواف الشرفة، سبحت نحو الشرفة بخيلاء متواضع مخلِّفة وراءها حصّة من تهذيبٍ يليق بالملكية، تمدّدت على أريكة وقالت ممازِحة: "هذا النهار يبدو مدعاة لهطول المطر" رد عليها مستنبطًا فسحة من وقت ومساحة للتصالح "ما أدراك ماريانا، ثم استدرك، آه نسيت أنكِ قارئة مواظبة بعلم الفلك، ليأتي المطر، أقلها يروي عطشنا للنوم!"
"سأرى مدينة غير تلك الدمية النحِسة المُضرَجة بالأصباغ، وأعثر عليها مرة أخرى بلا رتوش، دموعها وضحكاتها، سأراها عاهرة، محرومة، معوزة، خضراء وجافة، حزينة وبهيجة، مصابة بحمى الصفراء والطاعون والسل، سأراها من دون تاج فوق رأسي ولا عربات ذهبية يرابط معها جندٌ وشرطة تحفني، لا تقمعني تحت سماء بلا ظلال، وشوارع بلا مشاة، بلا شيخوخة، الأرض كروية سيدي، انظر للطيور تحلق تكوّرًا، والموج يتلوّى، والصدى يرتجف مرتدًا، دعني أذهب وأبصر دون استهزاء من زمرةِ حمقى مرافقين، سوف تراني عندما أعود أجمل من الآن وأكثر هدوءًا. بلّلت شفتيها، وختمت، لا حظر للتجوال" لمح سحنتها تودعه فقال: "أنت الملكة، متى تهبيني من يخلفني؟ يضرك ترك الكوْن للشياطين تعبث به؟ تراجع للخلف خطوة ومطّ شفتيه، مضى زمن مُنعس وأنا أتحيّن بكاء رضيع يتردّد صداه بالقصر!" استذكّرت مولودها الراحل...دمعت عيناها. "بداخل سرتي بذرة تأبى أن تفقس، قهقهت رغم الدمع: لستُ أفعوانه لكن لم يحن وقت البيضة!"
#احمد_جمعة (هاشتاغ)
A.juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستقبلنا بالفوتوشوب!!
-
الآن، يتعرى ولا يخجل القلم %
-
بيضة القمر منذ صدرت محرّمة!!
-
سيمور هيرش يعلن موت رئيس التحرير!!
-
موت رئيس التحرير!!!
-
العدو الذي نظنهُ صديق؟!!
-
الاغتيال والتكفير الطريق الأمثل للشهرة...
-
كذب المسئولون ولو صدقوا!
-
نهاية الرخاء وبداية التنجيم!
-
الشعوب والأنظمة متفاهمة، هل هذا حقيقي؟!!
-
ألف عام ولن يُحل الصراع العربي اليهودي..
-
رمزية الحلم الثوري اللاتيني...
-
هل وصلنا حافة الحرب الخليجية الرابعة؟!
-
حين أخشى الشعب أكثر من النظام!
-
وكلاء الملائكة ووكلاء الشياطين!
-
ليست رواية ما لم يمسها الشيطان !
-
عرب ويهود بلا علمانية
-
شعوب تعبد جلاديها!
-
الله فرنسا والله العرب...وصراع البقاء!!
-
نقرأ ونكتب ونتألم...
المزيد.....
-
قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل
...
-
ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية
...
-
حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
-
عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار
...
-
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح
...
-
الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه
...
-
تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
-
مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة
...
-
دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
-
وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|