|
العقلنة المشوهة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 7581 - 2023 / 4 / 14 - 15:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يرجع العديد من المفكرين نشوء المجتمع الحديث ، الى التبلور التدريجي لعملية يدعونها بعملية العقلنة Rationalisation . ويعود الفضل على وجه الخصوص ، في تطوير هذه الفكرة المركزية ، الى الفكر الألماني عموما ، والى السسيولوجي الألماني المعروف ب Max Feber . يميز Feber بين عدة أنماط من السلوك الفردي : 1 ) السلوك التقليدي المرتبط بالأعراف ، والتقاليد ، والتراث ، وهو نمط السلوك الشائع في الحياة اليومية لمعظم المجتمعات . 2 ) السلوك الوجداني الذي تقوده الأهواء والإنفعالات . 3 ) السلوك العقلاني من حيث القيمة ، وهو نمط السلوك الذي لا تقوده وتوجهه الدوافع والغرائز ، بل توجهه القيم العلمية ، والأخلاقية ، والدينية ، والجمالية التي تجعل الافراد ينذرون حياتهم من اجل تحقيق قيمة من القيم ، وترسيخها واشاعتها ، كمنافحة الأرستقراطي عن شرفه ، والفنان عن مذهبه الفني ، والمناضل عن القيم الدينية او السياسية التي يؤمن بها . 4 ) إلاّ ان السلوك العقلاني الحق ، هو السلوك العقلاني وفق غايات من الغايات العملية . وهذا السلوك يقتضي الملاءمة القصوى بين الغايات والوسائل . وهذا الضرب من العقلانية يُدعى بالعقلانية الأداتية الموجهة نحو تحقيق غايات نفعية ، مع اصطناع كل الوسائل الكفيلة للوصول الى هذه الغايات . والمثال النموذجي للعقلانية الأداتية ، هو سلوك صاحب المقاولة او المشروع الرأسمالي ، الذي يتوخى تحقيق أكبر قدر من الربح ، وكذا سلوك المخطط الاستراتيجي العسكري ، الذي ينظم جيشه بهدف تحقيق النصر في المعركة . ان عملية العقلنة بهذا المعنى تعني التنظيم ، والحساب ، والنجاعة او الفاعلية . الاّ ان عملية العقلنة ، التي رافقت نشأة المجتمع الحديث ، بل توّلد عنها النظام الاجتماعي الحديث ، هي عملية اجتماعية عامة ، تقوم على تنظيم مختلف العمليات الاجتماعية ، تنظيما حسابيا دقيقا ، بهدف تحقيق نتائج ملموسة وناجعة . وقد استندت هذه العملية الى فكرة فلسفية مفادها ، انّ العقل هو الهيأة التي يتعين انْ توجه كافة العمليات الاجتماعية ، وهذه الأخيرة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن سيطرة التقليد ، والتراث ، وقيم الماضي ، لتسلك وفق منطق الفعالية والحساب والمردودية ، فكأن هذه العمليات الاجتماعية المختلفة ، الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، مدفوعة حتما نحو الاستقلال الذاتي ، بهدف الخضوع فقط لمنطق داخلي قوامه النظام ، والحساب ، والفعالية . فمثلا لكي تنخرط المنشأة الرأسمالية في سياق تسيير وتدبير منهجي لنشاطاتها ، فانّ عليها ان تنفصل كليا عن الخضوع للمجموعة العائلية . انّ عملية العقلنة ترتبط اذن لا فقط بالحساب ، والصياغة الصورية ، والفعالية ، بل أيضا بنزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية . أيْ إعطائها طابعا عما ، يعبر عنه بصيغ قانونية ، ومن ثمة التوازن الضروري بين تقدم العقلنة ، وتقدم التشريع والقوانين ، مع إضفاء طابع شمولي غير شخصي على هذه الأخيرة . وبعبارة أخرى ، فان العقلنة تعني تنظيم كافة مستويات الحياة الاجتماعية ، تنظيما تحكمه قوانين لا شخصية ، تنظيما يكون فيه كافة الافراد متساوين من حيث المبدأ ، في الخضوع لهذه القوانين ذات البعد الصوري . وتشكل البيروقراطية في هذا المنظور ، الفئة التي يوكل اليها امر تدبير وتسيير هذه العمليات المختلفة . تفترض العقلنة إذن حداً ادنى من العقلانية ، والصورية ، والمساواة أمام القانون ، والتمييز بين الخصوصي والعمومي . لكن اذا كانت هذه العملية هي الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة الوحيدة القائمة . بل هي الصيغة المهيمنة ، ومن ثمة صرامة القوانين وقدسيتها . اما في المجتمعات التي داهمتها الحداثة التقنية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والثقافية بعنف ، ومن ضمنها المجتمعات العربية ، فقد حدث نوع من الإمتزاج والإختلاط الشديد ، بين المعايير التقليدية ، والمعايير العصرية ، مما أدى الى ان تكون مزيج خلاسي غريب . فمثلا الوظائف العصرية تختلط فيها بشكل واضح ، العقلنة باللاّعقلنة . فسائق التاكسي Le taxi الذي يتعدى ما يسجله العداد ، ويقلب العلاقة مع راكبه الى استجداء ، ونواح ، وبكائيات ، قد تقوده الى رواية قصته العائلية بكاملها ، نموذج واضح للخلط بين الأجر والإستجداء . وموظف الدولة الذي يُحوّل المصالح العمومية الى مصالح خصوصية ، أي الى ملكية شخصية يبيع خدماتها ، لقاء أجر إضافي يسمى قدحا رشوة ، مثال آخر على ذلك . وقد أظهرت البيروقراطية العربية ، قدرة هائلة في تليين العقلنة وتكييفها ، بإعطائها مضمونا ملموسا عبر الزبونية ، والمحسوبية ، والرشوة ، والنهب . وفي أحسن الأحوال ، يقدم لك البيروقراطي العربي خدماته " العمومية " ، مقابل خدمات أخرى إذا كنت " تمتلك " أنت الاخر ، قطاعا آخرا من قطاعات الدولة ، او من القطاع الخاص . وهكذا تصبح القوانين مساطر رخوة ، مطاطة ، تُقصّ وفق المقاس الشخصي ، كما تتحول الملكية العمومية الى ملكية خصوصية ، وتصبح الرشوة ، والنهب ، والزبونية ممارسات " مشروعة " . ان كل هذه السلوكات يتحقق فيهاعنصر واحد من عناصر العقلانية الاداتية ، هي المنفعة والفائدة . لكنها منفعة فردية تنتفي فيها معايير الشمولية ، والصورية ، والتخطيط الحسابي العقلاني . انها اذن " عقلانية " فردانية فوضوية ، وهذا يجعلها تحقق فوائد على المستوى الفردي ، لا على المستوى الجماعي العمومي . انها تقدم الافراد ولا تقدم المجموعة . ومن الأكيد انّ هذا المزيج السلوكي ، هو تعبير عن صراع بين نمطين مختلفين . نمط حداثوي ونمط تقليدوي ، ولكنه صراع ينتج نموذجا ثالثا هجينا ، غير ذي شكل محدد ، ويسهم في احداث نوع من التباطؤ في تراكم العقلانية الصورية ، التي لا يمكن بدونها ان يتحقق تراكم تاريخي إيجابي ..
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العيّاشة المُتعيّشون من السياسة
-
هل إسرائيل في طريقها الى الزوال ؟
-
في الثقافة السياسية
-
هل ستفعلها المملكة العربية السعودية ، وهل سيفعلها الرئيس الر
...
-
فشل الدولة البوليسية بعد سبعة وستين سنة من النهب والافتراس
-
الخطاب السياسي ( 4 )
-
الخطاب السياسي ( 3 )
-
الخطاب السياسي ( 2 )
-
الخطاب السياسي ( 1 )
-
السلف . هل حقا كان سلفا صالحا ، ام كان في حقيقته سلفا طالحا
...
-
في البطريركية السياسية
-
تغول بوليس الدولة البوليسية السلطانية
-
استراتيجية الاختراق الإسلامي للجامعة ومنها للمجتمع
-
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
-
التحالف ضد الشعب
-
حين يكذب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون ، على رئيس جزائري غا
...
-
هل حقا أهان النظام الموريتاني النظام المغربي ؟
-
في الكتلة التاريخية او الجبهة التقدمية
-
جواب الديوان الملكي ، و( المعارضة ) الشاردة والتائهة .
-
حين يصبح القصر في نفس مستوى حزب . فتلكم مهزلة . فهل بلغ الضع
...
المزيد.....
-
سياسي بريطاني سابق يعلن انضمامه إلى المرتزقة الأجانب في أوكر
...
-
تبون: الجزائر تحافظ على توازن علاقاتها مع روسيا وأمريكا
-
رئيس كوبا: الضغط الأمريكي على المكسيك يهدد استقرار أمريكا ال
...
-
قادة الاتحاد الأوروبي يناقشون تعزيز الدفاع والإنفاق العسكري
...
-
توسك يعلق على تصريحات ترامب حول فرض رسوم جمركية على السلع ال
...
-
ألمانيا.. دعوات جماهيرية لاستمرار -الجدار الناري- ضد حزب -ال
...
-
إعلام سوري: القوات الإسرائيلية تخلي عدة مواقع في القنيطرة بع
...
-
إعلام سوري: القبض على -الذئب المنفرد- في -الدفاع الوطني-
-
نائب أوكراني يكشف خطة ترامب الجريئة لإزاحة زيلينسكي
-
الرئيس تبون يرد على تصريحات مارين لوبان المسيئة للجزائر
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|