|
مروية عنوانها: نجيب محفوظ
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1712 - 2006 / 10 / 23 - 10:41
المحور:
الادب والفن
مقولة "موت المؤلف" التي جاء بها البنيويون لا تصح هنا.. نحن نتحدث عن تلازم عضوي، بين مجموعة نصوص أدبية وسيرة حياة، يفضي إلى إنشاء مروية تلخص أو تعكس أو تروي شطراً من تاريخ الأدب العربي المعاصر وأكاد أقول التاريخ العربي المعاصر، وأقصد على وجه التحديد، نصوص/ روايات ومجموعات قصصية/ نجيب محفوظ الخمسين، وحياته التي اكتملت دورتها بالمعنى المجازي والحقيقي بدخول جثمانه جامع الحسين في القاهرة للصلاة عليه قبل مواراته الثرى، بعد رحلة حياة امتدت لـ 95 عاماً بدأت بولادته في العام 1911 ببيت القاضي في الجمالية بالقاهرة في ضمن الفضاء المكاني الذي يستمد خصائصه وسحره من وجود ذلك الجامع "الحسين" وما تنطوي عليه هذه الكلمة من ثقل روحي وتاريخي، وعلى خلفية اجتماعية وسياسية موّارة بتناقضاتها وصراعاتها وتحولاتها وإسقاطاتها.. هذه المروية الجزئية صارت في صلب المروية الأكبر عن بزوغ فكر النهضة العربية، ومباشرة الأدب العربي مغامرة الحداثة، وتدشين عصر الرواية بشكلها الفني الحديث عربياً، وهي مروية جزئية لا غنى عنها، منحت المروية الأكبر، لا عنصر قوة وحسب، وإنما نكهة سردية خلابة. تأخذ المروية هذه ثلاثة سياقات متعاضدة ومتداخلة بالعلاقة مع حياة نجيب محفوظ الشخصية منذ لحظة الولادة وحتى الممات. السياق الأول يتمثل بمتغيرات حياة مصر السياسية في القرن العشرين ( مرحلة الاحتلال الإنجليزي، والكفاح من أجل الاستقلال، الحكم الملكي، ثورة 1919، ثورة يوليو 1952، هزيمة 1967، موت عبد الناصر، المرحلة الساداتية، حرب 1973، الانفتاح الاقتصادي وتصفية القطاع العام، زيارة السادات لإسرائيل، مقتل السادات، صعود وانتعاش الأصولية الإسلامية، وبطبيعة الحال بالتساوق والتزامن مع مجمل المتغيرات السياسية على الصعيد العالمي ). السياق الثاني هو التحولات الاجتماعية والحضرية في إطار الصراعات السياسية والفكرية والطبقية داخل مدينة القاهرة تحديداً بعدّها مركز وبؤرة المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي لا لمصر وحسب وإنما وإلى حد بعيد للنهضة العربية التي بدأت مصرياً واستمرت في أغلب الأحيان بقيادة فكرية مصرية منذ منصف القرن التاسع عشر وحتى هزيمة 1967 على الأقل. السياق الثالث هو تطور جنس الرواية العربية، بعد أن حصل شبه إجماع بين النقاد والمختصين على فضل نجيب محفوظ في إغناء فن السرد الروائي ليتيح تأريخاً للرواية العربية يؤشَّر بما قبل وما بعد نجيب محفوظ. ولد نجيب كما قلنا في الجمالية وسرعان ما انتقلت عائلته إلى العباسية، فبقي طوال الوقت مرتبطاً روحاً وجسداً وعقلاً بأحياء القاهرة القديمة المحيطة بالحسين، هذا المكان سيكون بطلاً دائماً في معظم أعماله ولا سيما تلك التي أكدت عبقريته الأدبية في طور تفتح موهبته الأول، والتي يمكن تسميته مجازاً بالمرحلة الكلاسيكية التي سبقت ثورة يوليو 1952 " القاهرة الجديدة، بداية ونهاية، خان الخليلي، زقاق المدق، ، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية" لكن هناك مرحلة أسبق تكاد تكون متفردة ومفصولة وهي التي كتب خلالها رواياته المستمدة في موضوعاتها من تاريخ مصر القديم "عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة" حيث كان سؤال الهوية؛ من نحن؟ هو ما يؤرق، في العقود الأولى من القرن العشرين، النخب السياسية والثقافية المصرية. وكان محفوظ قد وضع مخططاً لكتابة عشرات الروايات من هذا القبيل، روايات تاريخية جعل من التاريخ الفرعوني مادتها الرئيسة، لكنه في لحظة تألق ذهني، لا شك، اكتشف منطقة موهبته الأصلية، وما يتطلبه منه العصر الذي يعيشه، وهو عصر انتقال نوعي، ومنعطف تاريخي تغادر معه الأمة القرون الوسطى وتدخل العصر الحديث. وتكون على عتبة أخرى برهانات جديدة، وفي ضمنها رهان الرواية الفنية التي هي ابنة المدينة الحديثة، وصعود الطبقة الوسطى، وولوج العصر الصناعي، وانفتاح العالم بعضه على بعض، وبزوغ أول ومضة أمل منذ قرون في أن يحكم المصريون مصر. كانت حياة متساوقة، متوازنة في الغالب، ساعده على أن تكون هكذا، الاستقرار النسبي لمراحل حياته، فهو لم يشترك في حرب، وأظن أنه أعفي أيضاً من الخدمة في الجيش، ولم يسافر بعيداً عن وطنه ليذق طعم البعد والمنفى ـ البلدان الوحيدان الذان زارهما هما يوغسلافيا واليمن في الستينيات ـ كما أنه لم يسجن، ( مرة واحدة كما يقول صديقه جمال الغيطاني كاد يعتقل حين قرأ المشير عبد الحكيم عامر روايته "ثرثرة فوق النيل" فاستشاط غضباً وأرسل إليه من يلقي القبض عليه فأخبر عبد الناصر بهذا مع تحذيره بخطورة أن يعتقل رجل مثل محفوظ فأمر بإلغاء التنفيذ فعادت السيارة الذاهبة إلى المكان الذي يوجد فيه من منتصف الطريق ) كما انه لم يبعد عن عمله ( يذكر الغيطاني في مقابلة تلفزيونية أن القائمة التي أعدها السادات لإبعاد المثقفين المصريين في السبعينيات عن المؤسسات الثقافية كانت تحوي اسمي محفوظ وتوفيق الحكيم إلا أن وزير إعلامه أبو المجد نصحه بأن يستثني هذين الاسمين لقوة حضورهما الثقافي عربياً وعالمياً ففعل ) بيد أنه في مطلع 1973 وقّع بياناً مع كتاب كبار آخرين يحث السادات على الحرب لتحرير سيناء فمنع من النشر في الأهرام والتحدث إلى الإذاعة والتلفزيون وبقي هذا القرار ساري المفعول حتى ألغي في أيلول من السنة نفسها، أي قبل شهر واحد من حرب تشرين. وعلى الرغم من أن محفوظ لم يكن رجلاً غنياً قبل نوبل فإنه لم يعرف حياة الفاقة والجوع والتشرد فقد كانت عائلته في ضمن الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى، كما أنه بقي موظفاً حكومياً يتقاضى مرتباً ثابتاً ( تنقل بين وزارات المعارف والأوقاف والثقافة وارتقى في المراتب الوظيفية وحصل على درجة وكيل وزير أقدم قبل أن يحال على المعاش في 1971) وعرفت كتبه رواجاً مبكراً هيأت له مصدراً للدخل وإن لم يكن كبيراً. وحقاً أثارت كتبه، أو بعضها ردود أفعال لما فيها من جرأة في الأفكار ورموز يمكن أن تفسر على أكثر من وجه، تتحرش بتابوات اجتماعية ودينية وسياسية، لكنه لم يخض معارك فكرية ساخنة على صفحات الصحف والمجلات كما كان يجري في العقود الأولى من القرن الماضي بين مفكري وأدباء ذلك الزمان، وأحسب أنه حسناً فعل ليتفرغ إلى ما هو أجدى، وأقصد فنه القصصي والروائي. وهذا كله لا يشكل مؤاخذات عليه وعلى سيرته، وكان من حسن حظنا، نحن قراءه، أنه لم يواجه منغصات حياتية كبيرة ربما كانت ستحرمنا من بعض أروع وأفضل ما أنتجته العرب من نثر سردي في تاريخها. في السياسة كان هواه وفدياً وإن لم ينتم لهذا الحزب، وهو في حقيقة ميله السياسي ليبرالي قلباً وقالباً، لم يؤيد الملك والملكية، لكنه أيضاً لم يتعاطف مع عبد الناصر الذي عطل الحياة البرلمانية باسم أهداف قومية عليا تبين أنها محض شعارات رومانسية فضفاضة لا تستقيم مع مجريات الواقع العربي والعالمي. كتب رواية "ميرامار" ناقداً من خلالها الفساد المستشري في لب النظام الناصري، وانتقد الممارسات البوليسية/ المخابراتية للنظام وقمعه للمثقفين والقوى الوطنية في رواية "الكرنك"، غير أن "ثرثرة فوق النيل" انطوت على قراءة ذكية للتناقضات والفساد في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، فكانت الرواية أقرب ما تكون للتنبؤ بالهزيمة. تتحدر أسرة محفوظ من البرجوازية المدينية، من الطبقة الوسطى الدنيا، كما أشرنا، وقد ولد ومصر ترزح تحت الهيمنة الكولونيالية الإنجليزية، وكان في الثامنة حين اندلعت ثورة 1919 ومع تفتح وعيه كان الشعب المصري يخوض نضالاً مستميتاً بقيادة حزب الوفد ورئيسه سعد زغلول، وفي هذا المناخ كانت الشريحة المستنيرة من المفكرين المصريين يحركون ما هو ساكن وراكد في ثقافة المجتمع ويتحرشون بما بقي ما يُعتقد هو الصحيح بإطلاق وفي حكم المقدس طوال قرون، إذ حصل حراك ثقافي وفكري غير مسبوق في مصر كانت أطرافها السلطات السياسية والأزهر والجامعة والأحزاب والصحافة والأنتلجنسيا المصرية بشكل عام بعدما أصدر علي عبدالرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" في العام 1925، وأصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" في العام 1926، وما تبع ذلك من تداعيات وملابسات ومماحكات وانعطافات لم تكن كلها في مصلحة الفن والفكر والثقافة والنهضة، بيد أنها أحدثت ثغرة في الجدار السميك وسمحت لبصيص من النور أن يتسلل. وأحسب أنه لولا هذا المنجز الفكري لرواد النهضة، ولولا الانفتاح على ثقافة الآخر لما قيض لشخص نجيب محفوظ أن يكتب ما كتب مهما كانت درجة موهبته، وقدرته على السرد، فمحفوظ هو ابن النهضة الفكرية والأدبية العربية التي أرهص لها الطهطاوي قبل ذلك بقرن على الأقل بكتابه "تخليص الأبريز في تلخيص باريز". وحيث على خطى الطهطاوي وانطلاقاً من عتبته تتابع مسرد الفكر النهضوي وثقافة الحداثة بنجاحاته وإخفاقاته ووعوده وإحباطاته. وحين قام الضباط الأحرار بانقلابهم الشهير الذي اتخذ طابع ثورة اجتماعية وفكرية فيما بعد في العام 1952 صمت نجيب محفوظ مؤقتاً، ربما ليستوعب جسامة الحدث، وربما لأنه ظن أن ما كان يبغيه من وراء الكتابة قد تحقق بالثورة حتى أثبتت له الأحداث اللاحقة خطأ تصوره، وربما كان يبحث في هذه الآونة عن شكل جديد وأسلوب سردي مختلف عما ألفناه في رواياته الأولى التي درج النقاد على وضعها في خانة الواقعية الاجتماعية. تجسد روايات محفوظ جدلية النهضة والسقوط في مسار الطبقة الوسطى المصرية، وهي صورة نموذجية للطبقة الوسطى العربية، صعودها وانتعاشها ودورها القيادي في العمل الوطني، وتناقضاتها وإخفاقاتها ومن ثم هزيمتها أو هزيمة فكرها، مع عدم إغفال تمزقها النفسي وقلقلها الوجودي وأحلامها وفرص تجاوزها منطق الهزيمة، والنهوض ثانية.. فمحفوظ هو مؤرخ هذه الطبقة للقرن العشرين، هو المؤرخ الفنان الذي لا تهمه الواقعة بقدر ما تؤرقه ما وراءها، ما سكت عنه المؤرخون التقليديون، ما جرى في الهامش، ما عاشه المهمشون وما انعكس على حياتهم، ( حميدة، وحسن وحسين وحسنين والمعلم كرشة وزيطة وياسين وفهمي وأمينة وسي أحمد وكمال وسعيد مهران وعامر وجدي ومنصور باهي وزهرة وعاشور الناجي وأولاده وأحفاده، الخ الخ ) عشرات ومئات الأسماء التي ابتكرها محفوظ وأوقعنا في ذلك الوهم الجميل بأن هؤلاء كلهم ليسوا سوى أناس حقيقيين من لحم ودم ولدوا وعاشوا وتزوجوا وخلفوا الأولاد وحققوا نجاحات وارتكبوا حماقات وأخطأوا وأصابوا وماتوا.. تاريخ يكاد يكون أكثر إقناعاً وصدقاً مما كتبه من أرخوا لحياة مصر في القرن العشرين. ولا أحسب أن عاشقاً لكتابات محفوظ، حين يفكر بالقاهرة يستطيع التخلص من الصور السردية الحية التي رسمها محفوظ لهذه المدينة. فالسرد هنا بديل موضوعي عن التاريخ، وبعبارة أخرى ؛ إن المتخيل يخترق الواقع ويتلبسه ويقدمه مجسماً بصدق بكثافته وظلاله وأبعاده الاجتماعية والسياسية والنفسية، وتحولاته على السطح وفي العمق. ولست أتصور مؤرخاً وهو ينكب على دراسة التاريخ المعاصر لمصر، والقاهرة على وجه التحديد، يمكنه تجاهل ما رسمه نجيب محفوظ عن هذا المكان في رواياته، فمثل هذا التأريخ سيبقى ناقصاً يفتقر إلى الروح التي استطاع محفوظ رصد تموجاتها وتمزقاتها وتطلعاتها. تقصى محفوظ عن نماذجه والتقطها من واقع مدينة القاهرة، من حاراتها ومقاهيها وشوارعها وأسواقها وتكاياها ومساجدها ومؤسساتها الحكومية، ولم يتعامل معها بسطحية وميلودرامية مطنبة مثلما يفعل أشباه الموهوبين بل أحالها إلى رموز كونية، ودوماً كانت نصوص محفوظ إطاراً يخفي رؤية متفلسفة إلى الذات والعالم والكون والزمان والمصير، وفي كل نص كان يضعنا أمام جملة من المعضلات والأسئلة المحيرة والصادمة. ولسنا نغالي إذا ما قلنا أن محفوظ استطاع أن يغير من وجهة نظرنا نحو أشياء كثيرة منها قدرة لغتنا على التعبير السردي الحي عن حركة المجتمع ومتغيراته، وفرض على أشد المتشككين احترام فن الرواية بعدِّها ديوان العرب الجديد، كما أنه عمّق من رؤيتنا، إلى أنفسنا وعالمنا. كانت طعنة السكين التي تلقاها في العام 1994 لحظة فارقة في مسيرة ثقافتنا الراهنة، إذ بات على كل معني بشأن هذه الثقافة أن يفرز الخنادق ويحدد طبيعة الخريطة الاجتماعية والسياسية والقيمية كما انتهت إليها بعد عقود من النجاحات القليلة والانهيارات. فتلك الطعنة لم تكن نتيجة مجردة لهوس شاب مغرر به لم يقرأ أياً من كتب محفوظ ولا يعرف ما هي الرواية، بل ذروة دراماتيكية لصراع متناقضات وإشكاليات تعتمل تحت وفوق سطح واقعنا وتعطيه صورته المأساوية. من العسير فك الاشتباك بين مضامين روايات محفوظ والمنظومات الفكرية والقيمية التي سادت وتصارعت طوال عقود القرن العشرين. فمحفوظ كان أميناً لواقع وتاريخ مجتمعه، أو كان ببساطة يمتلك برهافة حس الواقع والتاريخ، كان بمقدوره رصد وتلمس الشبكة الغائرة المعقدة والمتحولة لعلاقات عناصر الواقع، وكان بارعاً في تمثلها وإعادة إنتاجها فنياً، وربما تكون "الثلاثية" مثالاً جيداً لتأكيد مثل هذا التخريج بما يتعلق بالمرحلة ما قبل ثورة يوليو، و "ميرامار" مثالاً جيداً للمرحلة ما بعد يوليو، أما "أمام العرش" فهي خلاصة رؤية للتاريخ، لذلك الجزء منه الذي يعكس العلاقة بين المجتمع والسلطة منذ الفراعنة وحتى اليوم حيث أبرز من حكموا يوضعون أمام المساءلة التاريخية. لم يكن محفوظ متشائماً‘ على الرغم من تلك الغلالة الرقيقة من التهكم السوداوي التي تحيط بمعظم نصوصه القصصية والروائية والمسرحية (جرب محفوظ كتابة المسرحيات ذات الفصل الواحد ) وكذلك سيناريوهات الأفلام التي كتبها ( عددها 33 سيناريو ). كان محفوظ يمتلك حس الفكاهة جزءاً من طبيعته الشخصية وقد انعكس في أعماله أيضاً، لكنها لم تكن فكاهة مسطحة بل غلافاً للقلق والألم والخوف في أغلب الأحيان.. كانت روح التراجيديا هي التي تطبع أعماله وتمنحها أفقها الوجودي. كان حكاءً ماهراً، لا أحد يجاريه في هذا الحقل من مجايليه أو ممن أتوا بعده، وقد بقي مخلصاً للترابط السردي والحبكة داخل النص القصصي والروائي منذ "القاهرة الجديدة" وحتى الهزيمة المرة في 1967 فحاول أن يهشم شكل الحكاية المتسلسلة فكتب "المرايا" و "حديث الصباح والمساء" و "أمام العرش" وفي هذه الأعمال وغيرها فكك الحكاية أو البناء التقليدي للحكاية من غير أن يطيح بها تماماً أي أنه لم يجرد عمله الأدبي/ الروائي من جوهره السردي، فبقيت هناك شخصيات وأحداث وزمان ومكان كما في الرواية التقليدية لكنه تعامل مع هذه العناصر ـ التي لا تنتظم الرواية حسب رؤيته من دونها ـ بطرق فنية مبتكرة أعطت السردية العربية بعداً جمالياً مضافاً. أدرك محفوظ بدءاً من نهاية الخمسينيات، ومروراً بالستينيات أهمية أن يطور الشكل الفني لروايته بالتساوق مع ما كان يحصل في بلده والعالم من متغيرات على الصعد كافة، وكذلك في حقل الأدب، ولم يكن من المنطقي لروائي بمقدرته وموهبته ووعيه أن يبقى يكتب بالطريقة ذاتها والأسلوب عينه الذي عرف بهما في الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، فدشن ما عرف بالمرحلة الرمزية مع رواية "أولاد حارتنا" التي نشرت مسلسلة في الأهرام ( 1959 ) وتدّخل الأزهر ومنع نشرها في كتاب في مصر فاضطر محفوظ لنشرها عبر دار الآداب ببيروت. هذه الرواية التي يقول عنها جورج طرابيشي أنها محاولة جبارة أخذها محفوظ على عاتقه لإعادة كتابة تاريخ البشرية منذ أن وجد في الكون الإنسان الأول. ولجوء محفوظ إلى الرمز كان لأسباب فنية من جهة وسياسية واجتماعية من جهة أخرى، فالرمزية كما يقول طرابيشي "هي اللغة التي تفرض نفسها في مجتمع لا يجرؤ بعد على التعامل مع الحقائق بعريها الثوري". وتتابعت روايات محفوظ الأخرى بالصدور، منها "الطريق ( 1964)، الشحاذ ( 1965 )، ثرثرة فوق النيل ( 1966 ). وعلى وفق منظور طرابيشي أيضاً فإن رواية الطريق، في سبيل المثال، بالمستطاع تفسيره "على مستويين: المستوى المباشر، الواقعي، والمستوى اللامباشر، الرمزي. وعلى المستوى الأول لا تعدو أن تكون قصة بحث عن أب، ولكنها على المستوى الثاني قصة بحث عن الأب، أي الله". بعد هزيمة حزيران 1967 اكتست كتابات محفوظ بشيء من الغموض، حتى بدت لبعض القراء أشبه ما تكون بالألغاز والأحاجي.. يقول محفوظ "لو صح أن كتاباتي تحولت إلى ما يشبه الفوازير والأحاجي بعد النكسة، فلربما كان تفسير ذلك أن حياتي ـ وربما حياة الآخرين ـ تحولت إلى ما يشبه الفوازير والأحاجي بعد النكسة". آمن نجيب محفوظ بقيم العلم والمعرفة والديمقراطية طريقاً وحيداً لتكون لنا مكانتنا في هذا العالم وكي نتجاوز سطوة الهزيمة والتخلف والسقوط. كان محفوظ ليبرالياً في منظوره السياسي، آخر أبناء جيل نحرت آماله الديماغوجية الثوروية، والديكتاتورية التي رأى فيها أس المصائب والكوارث. فدعا إلى تحرير الإنسان ليكون بمقدوره تحرير الوطن وبنائه. أراد نجيب محفوظ للفصل الأخير من روايته الشخصية، مرويته التي لم يكتبها بشكل مباشر، وانكب على كتابتها تورية ورمزاً ومعادلاً موضوعياً في غضون ستة عقود، على الأقل، في كتبه الخمسين، أقول، في هذا الفصل الأخير أعطى وصيته في أن يدخل جثمانه جامع الحسين قبل دفنه، وهو الذي يعرف أن لا أحد يجرؤ على نقض أو إغفال هذه الوصية. وفي هذا الدخول معنى رمزي يمثل الذروة الدرامية لحياة ثرية مبدعة، معنى هو أولاً تأكيد على الانتماء الصميم للمكان ( قلب القاهرة المعزية ) ناهيك عما يلتم عليه من رعشة صوفية ونسغ روحي ورؤية وجودية تشبعت بها كتاباته واستمدت منها حيويتها وقوتها. وهكذا بعد أن أثرى الحياة الثقافية العربية قصاً ورواية وشبع منهما كما قال قبل رحيله بمدة وجيزة فإنه اختتم رحلته الأدبية بكتابة سردية أخيرة لخص فيها أحلامه عنونها بـ ( أحلام فترة النقاهة ) وهذا يذكرنا بمحاولة العالم النفسي الشهير كارل يونغ وهو يروي سيرته من خلال أحلامه في كتابه ( ذكريات، أحلام، وتأملات ) بتحرير ( أنيللا يافه )، مع الفارق في المقصد والأسلوب. أحسب أن كتّاب الرواية العرب، بعد رحيل نجيب محفوظ ينتابهم نوع من الشعور باليتم، إنه الشعور بفقدان الأب، بكل ما يخلّفه هذا الفقدان من أسى وضياع، وفراغ يولِّد الخوف، أو بعبارة أخرى أن الروائي العربي وجد نفسه إزاء حرية فسيحة أختطها وفتح آفاقها محفوظ تُحمِّل الروائي هذا مسؤولية أكبر في إثراء فن الرواية الذي رأى فيه محفوظ منذ الأربعينيات تمثيلاً لشعرية الدنيا الجديدة وهو ينحاز له في مقابل الشعر الذي بقي العقاد يدافع عنه بعدِّه، على وفق وجهة نظره، أعلى مقاماً ورتبة، حيث دخل الاثنان في معركة خلافية على صفحات الصحف، آنذاك، حول هذه المسألة. هناك من أطلق على نجيب محفوظ تسمية الهرم الثالث عشر، وهناك من نعته بضمير مصر، وهناك من يقول، من غير أن يجانب الصواب إلاّ قليلاً؛ إن الروائيين العرب خرجوا جميعاً من تحت معطفه، كما خرج الروائيون الروس من تحت معطف غوغول، لكن جنازته على الرغم من أنها كانت مهيبة، حيث لف جثمانه بالعلم الوطني وحُمِّل على عربة مدفع تجرها الخيول، ومشى خلفه كبار القوم يتقدمهم السيد رئيس جمهورية مصر، مع اهتمام إعلامي، ولا سيما المصري، لا بأس به. أقول؛ على الرغم من هذا فإن عدد من رافقوا الجنازة لا يتعدى بضع مئات من الأشخاص ( عدد أعضاء اتحاد كتّاب مصر بضعة آلاف ) على عكس ما كنا نشاهده في جنازات الفنانين والمغنين حيث يصل عدد المشاركين إلى بضع مئات الآلاف. ومثل هذه المقارنة لها دلالتها الاجتماعية والثقافية تشير بوضوح إلى مدى تراجع الثقافة الرصينة ومكانة فرسانها في مجتمعاتنا لصالح الثقافة الاستهلاكية، وهذا لا يعني قطعاً الانتقاص من دور الفن ( الحقيقي وليس الرث ) بأشكاله كافة في بناء المجتمع. كم من الجيل الحالي يعرفون نجيب محفوظ؟. كم منهم قرأ واحداً أو أكثر من أعماله، حتى بعد حصوله على نوبل؟. أعتقد أن النسبة بائسة بالقياس إلى الجيل السابق وطبيعة اهتماماته. وقد تحدثت الأخبار عن زيادة كبيرة في عدد النسخ المطبوعة لأعماله بعد تلك الجائزة، لكني لا أظن أن تلك النسخ صارت من ضمن مقتنيات الشباب من الجيل الجديد، أو حظيت بالنوم تحت مخدات الشابات. هل لأن العالم تغير حتى بات لا يعنيه إبداع شخص مثل نجيب محفوظ مهما كانت قيمته الفنية والفكرية، أم لأن نجيب محفوظ، كما يقول شاكر النابلسي في مقال رثاء لمحفوظ، عاش ومات في الجاهلية العربية؟!.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعادة ترتيب: شخصيات مأزومة وعالم قاس
-
وعود وحكي جرائد
-
رواية-هالة النور- لمحمد العشري: سؤال التجنيس الأدبي
-
الطريق إلى نينوى؛ حكاية مغامرات وأعاجيب وسرقات
-
هذا العالم السريع
-
الكتابة بلغة الصحراء: إبراهيم الكوني وآخرون
-
تحرش بالسياسة
-
القاهرة في ذكراها
-
صور قديمة
-
إدوارد سعيد: داخل الزمان.. خارج المكان
-
النخب العراقية في حاضنة المقاهي
-
حول المونديال
-
نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
-
حبور الكتابة: هيرمان هيسه وباشلار
-
قصة قصيرة: في أقصى الفردوس
-
حوار مع القاص سعد محمد رحيم
-
تحقيق: بعقوبة ابتكارالبساتين
-
قصتان قصيرتان
-
في رواية اسم الوردة: المنطق والضحك يطيحان بالحقيقة الزائفة
-
قصة قصيرة: الغجر إنْ يجيئوا ثانية
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|