|
العيّاشة المُتعيّشون من السياسة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 7580 - 2023 / 4 / 13 - 16:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يؤثر عن المفكر السسيولوجي الألماني Max Feber ، تمييزه بين من يعيشون السياسة ، ومن يتعيّشون منها . الفعيّاش ليس فقط من يقول عاش الملك ، بل هناك عيّاشون من صنف آخر ومن طينة أخرى ، وهم المُتعيّشون من السياسة ، ولا يعيشونها كما يجري به التطبيق والعمل في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية . ففرق بين الذين يعيشون السياسة ، وهم السياسيون المدافعون عن المصلحة العامة ، وبين عيّاشو السياسة التي يستخدمونها للعيش وللتعيش الذي لا علاقة له بالسياسة . الفئة الأولى هم أصحاب السياسة العقائدية ، وكبار رجالات الدولة ، أولئك الذين ولجوا ميدان السياسة إيمانا بفكرة ، أو دفاعا عن حق ، او خدمة لمبدأ وعقيدة ، او نصرة لمثال سياسي ، أو أخلاقي ، أو ديني ، أو غيره .. ان نموذج هؤلاء كبار السياسة المعروفين في التاريخ البشري ، والذين كان كل همّهم ، وهدف حياتهم كلها نصرة المبدأ وخدمته .. لكن مقابل هؤلاء ، هناك فئة السياسيين التقنيين او الإحترافيين ، رواد السياسة السياسوية ، أولئك الذين دخلوا الساحة السياسية بحثا عن جاه ، او سلطة ، او مال ، أو نفوذ ، ليس همهم الأول تحقيق مبدأ ، أو تجسيم فكرة مثالية . بل " تسيير " الأمور ، وتحقيق الذات ، والاستمتاع بنشوة السلطة ، والإستلذاذ بحكم الاخرين ، والاستمتاع بالخيرات ، والمكاسب ، والممتلكات ، والعقار ، والأراضي الفلاحية .. ان هؤلاء يعتبرون الشأن العام السياسي بمثابة " غنيمة " ، عليهم ان يأخذوا نصيبهم منها قبل فوات الأوان . اذا كانت أخلاقيات السياسيين الكاريزميين الصدق والمثالية ، والإخلاص للوطن ، والتفاني في خدمة البشر( على افتراض وجود هذا الصنف من الكائنات ) ، فان اخلاقيات ساسة المهنة السياسوية ، التحايل ، والتكيف ، والدهاء ، والكذب . لكن هناك صنف ثالثا من الكائنات السياسوية ، وهم الساسة المخضرمون . أي الذين وفّقوا بين النموذجين الأول والثاني .. إن هؤلاء يرفعون شعارات مثالية ( العدالة ، المساواة ، التقدم ) بيد ، ويمارسون الاختلاس باليد الأخرى . ويبدو ان هذا الصنف الثالث الحربائي ، أكثر أنواع الكائنات السياسوية إنتشارا ، وأشدها خطرا عن الفئة الثانية السياسوية ، وذلك تحت تأثير عاملين ، أولهما طغيان الروح التجارية التسويقية على كافة مجالات الحياة في المجتمع المعاصر ، بما في ذلك مجال القيم ، والثقافة ، والسياسة .. ، وثانيهما توسع دائرة العمل السياسي السياسوي في المجتمعات المعاصرة ، عبر ما يسمى اليوم إجمالا بالديمقراطية . فالديمقراطية التي طالما عُقِدت عليها أجمل الآمال ، تحولت الى كرنفال كبير تتحكم فيه الرساميل ، ووسائل الاعلام المؤدى عنها ، والاقلام المأجورة ، وشبكات المصالح الخاصة . كرنفال يقدم نفسه على شكل مشهد متسلسل ، يوجهه مخرجون متخصصون في خداع الجماهير ، واجتذابها لهذه البضاعة ( السياسة السياسوية او تلك ) ، وفي صناعة الرأي العام .. كرنفال أدواته اللون ، والديكور ، والضوء ، والصوت ، والماكياج .. الخ ، تجند فيه كل حيل المسرح والسينما ، لخداع الجمهور المخدوع أصلا . وتلك هي الأرضية الاجتماعية التي يفرخ فيها هذا الصنف من الساسة السياسويين ، وأطلق عليه وصف ذئاب السياسة . ان السياسي السياسوي المحترف ، كما ابدع Nicolas Machiavel في وصف طرائق عمله ، هو الشخص الذي يعتبر كل الوسائل مبررة ، في سبيل الوصول الى الغاية ، سواء كانت أخلاقية أو غير أخلاقية ، مشروعة أو غير مشروعة ، سلمية أو عنيفة ، عقلانية أو لا عقلانية .. المهم لا تعدو أن تكون ديكوراً يراعى في كيفية تقديمها الى الجمهور فقط ، أكثر مما هي غاية في ذاتها . أما فصيلة ساسة المبدأ والعقيدة ، التي تزدهر عادة مع صعود منظومة أيديولوجية أو دينية ، أو عقيدة ما ، فقد بدا أنها آخذة في الانقراض تدريجيا ، وخاصة في الدول المتقدمة . ولعل آخر فصيلة من هذا النوع بالنسبة للإيديولوجيات الطوباوية الدهرية ، قد مثلتها الماركسية قبل خسوفها . ومن حيث أن الليبرالية هي النظام السياسي والاجتماعي الأكثر ملاءمة لطبيعة الانسان ككائن ذي حاجات ، فان انتصارها قد وطد الطريق ، لانتشار أوسع لهذا النوع من الحيوانات السياسوية . انّ " المثال " ، و" المبدأ " الذي يحفز هذا الصنف من السياسويين الحربائيين ، هو الكسب والمصلحة الفردية قبل كل شيء ، وبعد كل شيء . ولعل لغة السياسة اليوم ، تعكس هذا التحول في ماهية السياسة والسياسي ، حيث لم يعد الحديث السياسي حديثا عن المصالح ، والمكاسب ، والموازنة ، والمداخيل ، والمصاريف . لقد اصبح السياسي السياسوي الناجح ، هو الخبير في الاستراتيجيا ، والتكتيك ، والمناورات ، وعقد التحالفات الظرفية ، او كما قال Jean-- Jacques Rousseau الذي لمح هذا التحول في طبيعة السياسة السياسوية ، والسياسي السياسوي ، مع استهلال العصور الحديثة ، فان " قدامى السياسيين يتحدثون باستمرار عن العادات الحسنة ، وعن الفضيلة ، في حين لا يتحدث سياسيونا السياسويين سوى عن التجارة والمال " . برلمان وحكومة الملك في النظام المخزني البوليسي المغربي . ولا شك في انّ تقدم العلوم الإنسانية ، بما تحمله من روح نقدية وتفكيكية ، أسهم في الكشف عن الخلفيات المصلحية ( الاجتماعية والنفسية ) للكثير من الادعاءات المثالية ، عند بعض رجال السياسة ، واقطاب الأيديولوجيا ، بالكشف عن الدوافع اللاّشعورية ، أو عن الدوافع الاقتصادية التي تكمن وراء سلوكياتهم . كما ان الروح البراغماتية المنبثة في ثنايا كل مجتمع ، تهب عليه رياح الحداثة الرأسمالية ، تجعل الادعاءات المثالية ، والطوباوية للساسة والايديولوجيين ، دعاوى غير قابلة للتصديق ، وكأنها تنتمي الى عصر آخر . فعصر المعصومين ، والاتقياء ، والمستقيمين الأطهار ، قد ولّى الى غير رجعة ، تحت تأثير انتشار روح الكسب ، والاستهلاك ، والانتفاع التي تزكيها العلاقات الرأسمالية التي تُحوّل كل شيء الى أداة . لذلك ، وبوعي حدسي ، تلجأ المجتمعات المعاصرة الى تأطير نفسها بالقوانين والمؤسسات ، وبالضوابط من كل نوع ، لتحد من استبداد ذوي النفوذ ، ومن ميْلهم الى ابتلاع الخيرات والمؤسسات لصالحهم الخاص . وربما كان هذا هو جوهر ما يسمى اليوم ، بدولة القانون التي تحاول إحداث التوازن اللازم ، والحد من غلواء وشطط الافراد ، وكأنها تعرف جيدا ان المجال العام ، مهدد باستمرار بمن يعيشون فيه ، مدعين انهم يعيشون له ومن اجله .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل إسرائيل في طريقها الى الزوال ؟
-
في الثقافة السياسية
-
هل ستفعلها المملكة العربية السعودية ، وهل سيفعلها الرئيس الر
...
-
فشل الدولة البوليسية بعد سبعة وستين سنة من النهب والافتراس
-
الخطاب السياسي ( 4 )
-
الخطاب السياسي ( 3 )
-
الخطاب السياسي ( 2 )
-
الخطاب السياسي ( 1 )
-
السلف . هل حقا كان سلفا صالحا ، ام كان في حقيقته سلفا طالحا
...
-
في البطريركية السياسية
-
تغول بوليس الدولة البوليسية السلطانية
-
استراتيجية الاختراق الإسلامي للجامعة ومنها للمجتمع
-
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
-
التحالف ضد الشعب
-
حين يكذب الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون ، على رئيس جزائري غا
...
-
هل حقا أهان النظام الموريتاني النظام المغربي ؟
-
في الكتلة التاريخية او الجبهة التقدمية
-
جواب الديوان الملكي ، و( المعارضة ) الشاردة والتائهة .
-
حين يصبح القصر في نفس مستوى حزب . فتلكم مهزلة . فهل بلغ الضع
...
-
العمل الجمعوي والصحوة الديمقراطية .
المزيد.....
-
شاهد التسلسل الزمني للحظات إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين ف
...
-
لماذا يتعجل الشرع الزمن نحو الرئاسة؟
-
الادعاء الألماني يوجّه اتهامات ضد مشتبهين بالانتماء إلى داعش
...
-
ما أهمية إعلان الجيش السوداني تحرير الخرطوم بحري؟
-
شهيد بنابلس ومقتل جندي إسرائيلي وإصابة 5 بجنين
-
السعودية تهنئ الشرع بتوليه رئاسة سوريا
-
شاهد ما كشفته صور حطام طائرة ركاب ومروحية في نهر شبه متجمد ب
...
-
حماس تعلن مقتل قائد جناحها العسكري محمد الضيف ونائبه مروان ع
...
-
ترامب: -لا ناجين- من حادث اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية ف
...
-
أبو عبيدة يُعلن مقتل محمد الضيف وعدد من القيادات العسكرية لـ
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|