|
خَرَجَ وَلَمْ يَعُدْ
عبد الله خطوري
الحوار المتمدن-العدد: 7576 - 2023 / 4 / 9 - 16:55
المحور:
الادب والفن
زَرَّرَ (زَارَا) معطفه حتى غطى نصف ذقنه آتقاء قَرِّ الشتاء الذي طالت أيامه آمتدتْ حتى أجمع الجميع أنه أطول شتاء يعرفونه منذ سنين .. كانت الأفعى مقوسة منكمشة طاوية جسدها سبع لَفَّات على جسمه النحيل، بينما آستغرق الزرزور في مكانه فوق كتفه يراقب الناس والعالم يبتعدون بعينين متوجستيْن فاحصتين...
قالت الأفعى لزارا :
_ افعلْ شيئا أيها الحكيم، أحشائي لم تَعُدْ تستطيع المقاومة...
قال الزرزور:
_ الأمر سيان عندي أكان حَرّا أم قَرّا.. لكن ما يحز في نفسي هو هذا الرداء الأبيض الذي دثَّرَ آلمعالم كلها وحجب عني رؤية ما يمكن أن أراه، حتى حبات الزيتون لم يعدْ لها أثر...
رَدَّ (زارا ) :
_كفى شكاية أرجوكما.اهتما قليلا بنفسيْكما عوض الخوض في مَناحات لا جدوى من همهماتها...
احتجتِ الأفعى:
_أيها الحكيم، ان اهتمامي بنفسي هو ما يجعلني أبكي بهذا الشكل، تلطف قليلا لا تكنْ قاسيا أرجوك .. قدِرْ وضعنا، استعمل عقلكَ الحَصيف ليحل هذا المشكل...
قال (زارا):
_إِنكِ يا أفعى أنانية زيادة عن اللزوم .. النفسُ التي أقصد هي روحك الثقيلة .. قد يثلج بدنك الوضيع وترتعد الفرائصُ، لكن الروح تظل روحا سامية رشيقة ترفرف بأجنحة الصفاء بين السهى والنجوم.انها أساس العوالم كلها .. دفّْئِيها، دَثِّرِيها، اجعليها شفافةً، كما الأحلام أحَبّيها لتكون لكِ مُعينة رحيمة في عالمك الثقيل.
قال الزرزور:
_ وماذا تقول في الجوع الذي ينهش أحشائي منذ أمد ليس باليسير يا سيدي المبجل؟؟
_الجوع، البرد .. أعذار واهية لأجسام واهية، كل هذه التعلات أوهامٌ تنسجها مساغبُ العُيون بإِتقان كي تحجبَ إِبصارَ وجه الحقيقة كما هي .. لِنَجُسَّ نبض القلوب .. لِنَتَوَغَّلْ في مدارج الأحلام .. لِنَسْتَعْمِل البديهةَ والنباهةَ .. لِيَأْتِ القَرُّ .. لِتأْتِ المَسْغَبَةُ .. لِنَمُتْ إِنِ اقتضى الأمر؛لكن، لِتَبْقَ الأرواحُ آمنةً مطمئنة بسلام، لا تُلَوَّثُ بِدَرَنِ الوضاعة، بترهات الأفكار السخيفة التي تُطوقُ التطلع الى الآفاق الرحيبة، وتُسَيِّجُ الحدائقَ الفيحاءَ تعرقل المَسيرَ .. لِنُحَلِّقْ بِمُهجنا قليلا الى شعفات الأعالي حيث الجبال تعانق الجبال في ألق الظلال وعبق أفياء الدياجير بعيدا عن فصاحة عَيِّ الكلمات .. لتصعد الحياةُ قليلا الى هناك، وتعانق الأطيافَ في ذُرَا الخيالات الجامحة، ترتع تلعب الخُيلاء بنشوة البدايات العارمة .. قَطِّرَا سُلافاتها قطرةً قطرةً لتَصِفَ الجوهرَ الكامنَ في الأحراش وأدغال النفوس المُغشاة بِحُجُبِ الرَّغَام والغبار .. لِنَرْتَقِ ياعَزيزَيَّ!! لِنَكُفَّ عن النواح والبكاء كالعجائز الواهنات تحت وطء السنين العجاف !!
قالت الأفعى:
_هذا كلام مبهم يا سيدي لا أفهمه، فعَقْلي شديد الخَصَـاصَة كما تعلم .. وأنا لا أفكرُ الا في بطني التي تستحثني لأملأها قبل أن أهلكَ .. فلا تطلبْ مني ما ليس لي به علم وما فوق طاقتي أيها الحكيم ...
وصمت (زارا).وقال الزرزور من فوق كتفه:
_كُلُّ الدنيا بيضاء في عيني.ليس في هذا المَدى غير مُدَى البياض.هذا اليقق المقرف كم أمقته .. أريدُ لونا آخر لبؤبؤَيَّ الخسيفيْن .. أريدُ زيتونا .. مصاريني تتلوى ألما وجَناحَايَ واهنان .. افعلْ شيئا سيدي عوض الكلام غير المجدي... صمتَ (زارا) مُطرقا يفكر في مشكلة الغريزة وما يترتب عنها من نتائج تتناسلُ في خصب ورفاه.لقد نفر من جحود الجميع.لفظ سماجتهم كما تلفظُ النواةُ قشرتَها المزيفة.انهم مُحَنَّطون بأكفان أبناء وبنات آوى وسفاسف نعاج الحملان والقطط والعناكب ووو ... وهاهو الآن بعدما خال أن هذا الطائرَ الأفحمَ وهذي الرقطاء الرَّعناءُ بإِمكانهما مساعدته فيما هو فيه، أو على الأقل إِيناسَ خلوته في طريقه الطويل، هاهو يُفَاجَأُ بتذمرهما تعشعشُ أوصابُهُ في بداهة فطرة القريحة أمام أول حاجز يصادفونه في رحلتهم الطويلة، فلا يهدأُ للنفس بالٌ ولا تستكين للروح لواعجُ .. لقد قال لهما، من قبل، ذلك أخطرهما بصعوبة المسارِ ووعُورة المسالك والسبل التي دأبَ على اختراقها.بيد أنهما ألَحَّا على المُضي معه قُدُما ولو كَلَّفَ ذلك التضحية بكل شيء .. غير أن الواقع الدنيئ يجذب الى ثقله النوايا والإِرادات يَسِمَهَا بكلكله يثخنها بمَيْسَمِه.
قال(زارا):
_أَلَمْ أقلْ لكما لن تتستطيعا معي صبرا...
فردَّا عليه بصوت واحد تقريبا:
_ليس هذا أوان التأنيب والتقريع.افعلْ شيئا، نحن نموت وليس لهذه الغاية قررنا الخروج معك أيها الحكيم...
قال (زارا):
_لقد أعلمتكما مسبقا بما يمكن أن يكون في الطريق من أهوال وصعاب، فلا تلوماني الآن...
قال الزرزور وهو لا يزال على كتف(زارا):
_لكن إذا متنا الآن، فموتنا سيكون بلا معنى، مَوتا مجانيا، هكذا في الهواء كأن شيئا لم يكن...
قالت الأفعى:
_أنا لا أريد أنْ أموتَ.
قال (زارا):
_ يا لبجاحتكما _ أيها المسكينان _ ها أنتما تذكرانني بِهِرَرَةِ الدِّمَنِ وجرابيع الدور الخربة وجردان الأقبية المقرفة .. تبا لكما من رفيقيْن خسيئَـيْن!!
وهَـمَّ الزرزورُ بقول شيء فأسكته(زارا):
_لقد انقطع الآن كل حَبل بيننا .. روحَاكُما زَاغَتَا عن هدفها .. أنتما عَبدان وَضيعان لرغبات وضيعة .. فلتغرقا في الأوهان الفارغة وليجرفكما طوفان الهوام والوباء
وهَمَّتِ الأفعى تقاطعه، فأخرسها ضاحكا:
_ لقد ثاقتْ شجاعتي الى الضحك .. إِنَّ السحبَ الثقيلة المُتَمَخِّضَةَ بالعواصف لَهِيَ سُحُبكم السوداء العجفاء، وأنا أهزأُ الآن بها...
صمتَ هنيهةً.أزاحَ الأفعى من حَقْوَيْه. أشار للزرزور بالنزول من على كتفه ثم استأنفَ قائلا :
_رُوحُكُما حِمْل ثقيلٌ في أغوار جُب جسديْكما الجامديْن .. لقد جَشَّمْتُمَاها ما لا تطيق من وَقْرِ الصَّغَار وعـثَيْرِ البوار، فلا تستطيعان التحليق بعد الآن أبدا .. لقد ألفتما السفالةَ غشيتْكُمَا الوضاعةُ، فلن تجديَ همساتي شيئا .. حان وقت الفراق .. لِترحلا عني بعيدا .. عُودَا من حيث أتيتما، الطريق هناك في قيعان السفوح واضحة هَيِّنة لينة .. ارْجعا إليها .. ارجعا مادامتْ تلك غايتكما !! لكن الزرزور والأفعى لم يكونا يفقهان من كلامه شيئا، وأصَرَّا على موقفيْهما.فلمْ يكنْ من (زارا) الا أنْ أَشَارَ الى لحمه للأفعى :
_ هذا زادٌ كُــليــهِ وانصرفي ...
وأومأَ الى عينيْهِ مُخاطبا الزرزور:
_هاتان حَبَّتَا زيتون، اقتطفهما وسرْ لحالك...
واتخذ (زارا) من صخرة ناتئة مكانا يرتاح فيه قليلا، واستسلم لحظة للكَرَى، وكان القَرُّ يتفاقمُ والثلج يتزايد في الهطول حتى دَثَّرَ معطفه خضَّبَ لحيته بهالة من بياض صاف كطيف السماوات.. فأتتْ أفعى رقطاء لدغته في عنقه ونَقَرَ زرزورٌ مُقلتيْه نقرات ثاقبة، فلم يصرخ متألما لم ينتفضْ رانيا؛ بل تركهما يأكلان من بدنه ما شاءا؛ ولما شبعا وهَمَّا بالانصراف، ابتسم (زارا) لم يقلْ شيئا. فقط أطرق للسُّبات ما تبقى من عُيَيْنَتَيْهِ المَفْقُوؤَتَيْنِ وراح يخاطبُ أرواحا غير ظاهرة إِلا لَهُ وحده :
_ما أنا إِلا رحَّالةٌ متسلق مرتفعات.جَوَّابُ آفاق عُليا، ما تستهويني مُنبسطات أرضين ولا يستقر بي قَرار ...
ولمَّا لم يفهما شيئا، استمرا يحدقان به في عجب حتى أعياهما المكوث حذاءه، فانصرفا يلجان أحراش الغابة يبحثان عن طريق يوصلهما للسفوح التي يسهل فيها آلمعيش.وظل (زارا) وحيدا يتأمل يترنم تحت إِيقاع البياض الذي ليس كعثَيْرِ الغبار، بل كالروح إِذْ تصفو معالمها يهدأ حالها وينسربُ :
_لسوفَ أطلقُ صوتي بحُدَائي مُترنما بهذه المعاني بالرغم من انفرادي في مسكني القفر لا يسمع شدوي غير أذني.. آآآه ه ه.. لطالما رأيتُ الساقطين في المُعتركات يُسَيَّجُونَ في توابيت مُغطاة بزجاج يحدجونني بغبش خسوف النظرات، فتُطْمَسُ معالمُهم يُدْفَنون بثقل الأتربة دون أستطيعَ يوما نفظَ هذا الغبار الثقيل عنهم وعني...
واسترسل يرتل ترانيمه لوحده بعيدا عن الخلائق ومتاعبهم، بينما استغرق الآخران يدبان الخطى ليل نهار؛ وبينما هما كذلك، إِذْ بصيادِين يلمحونهما فيلاحقونهما، ولما كان الزرزور يتقن استعمال جناحيْه، فإِنه سرعان ما حلق بعيدا هاربا تاركا وراءه الأفعى تسعى جاهدة للافلات بجلدها دون جدوى، إِذْ سرعان ما وجدتْ نفسها أخيرا سجينة جِرابٍ من خش وكتان، في الوقت الذي أعْيَى التحليقُ الزرزورَ، فَحَطَّ على سُورٍ من أسوار المدينة، فلقمه أحد الأطفال حجرا صغيرا أودى به على الفور... ومنذ ذلك الوقت، بدأ الناس يحكون حكايات غريبة عن أفعى رقطاء يأسرها حَاوٍ في جرابات من خش لفيف كتان يقدمها عَرْضا مسليا في أسواق اللمات والتجمعات... ومنذ ذلك الوقت، بدأ المغنون ينشدون أغنية سارت بذكرها الركبان مُكررين لازمةً أشهر من نار على علم:
_عِـيـنِـيكْ عِينِيكْ طَيْحُوا الزرزور من فوق السُّور ...
أما (زارا) ،،، فلم يعلم أحدٌ أين ذهب ولا ما كان مصيره .. لكن الشيء المعروف عند الجميع، هو أنَّ مقالا صغيرا صدر ذات صباح في صفحة الحوادث مفاده أنه : خرج ولمْ يعدْ. تمت
_ هامش: عِـيـنِـيكْ عِينِيكْ طَيْحُوا الزرزور من فوق السُّور : أغنية شعبية مغربية ، المعنى : عيناك أسقطتا الزرزورَ من أعلى الجدار.
#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رَذاذُ نِيسَانَ
-
اَلْحُوذِيُّ وَآلْحِصَانُ
-
ذُهَان
-
تَادَوْلَى(العودة)
-
عَطَبُ آلْوُجُودِ في قصيدة بَكيتُ عَلَى أَحِبّةٍ بَكوا عَلَي
...
-
سلااااام
-
ديستوبيا الحاضر
-
قَلَانِسُ نِيسَانَ
-
وَجَدْتُهَا
-
رَحِيقُ آلْجِبَالِ
-
تِيفْسَا
-
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
-
حُرَّةٌ هِيَ أمِّي هُناكَ
-
يا رُوحَهَا
-
مَرَاقِي آلْمَمَاتِ
-
بِيبِي عِيشَا مَاتَتْ
-
تَبْقَى عَلَى خِيرْ يَا صَاحْبِي
-
نَزْعٌ أَخِير
-
وَهْمُ آلأَشْكَالِ في قصيدة (من وحي واقعة المخازن) لأحمد الم
...
-
عَيْنَا فَا
المزيد.....
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|