|
مَغامِضُ منزل العزلة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 7570 - 2023 / 4 / 3 - 20:48
المحور:
الادب والفن
اعترافات: 1 واضعةً يدي على بطني، الذي نُفِخَ فيه الروحُ لأول مرة منذ نحو شهرين ( منذ أن أعلمتني القابلة أنني حامل )، أقسمتُ لأنتقمنّ ممن لوّثَ كرامتي بوحل الخيانة. ريحُ مستهل الخريف، المتلاعبةُ بمنزلنا المنعزل على الرابية والمكنّسةُ الأوراقَ الجافة لأشجار حديقته، شحنت إرادتي بمزيدٍ من التصميم. كذلك مرأى حَمْيّ، الرجل المسكين العاجز، كان يمدّني بالارادة على تحقيق العدالة. لكنني، قبل كل شيء، ضمنتُ تواطئه مع خطتي، المُفترض أن تحققَ انتقامه أيضاً: كلانا كان ضحيةً لغدر ذينك الفاجرين، اللذين اقترفا زنا المحارم.
2 في مستهل الصيف، حينَ حللتُ في هذا المنزل المشئوم، قالت لي " عائشة " زوجةُ حميّ: " أهالي الهامَة، أقسموا أمامي أنهم لم يشهدوا من قبل عروساً بجمالك ". كانت من نفس البلدة، سمراء وقصيرة القامة، تكبرني بخمس سنين بحَسب زعمها. مع أنها كانت تلوحُ أكبرَ سناً من ذلك؛ ما لو تأمل المرءُ وجهَها الجاف، المُبقّع بالهالات القاتمة تحت العينين. ما سمعته من إطراء في يومي الأول، جعلني استبشرُ بأننا سنغدو صديقتين أكثر منا قريبتين. إلا أن طريقة معاملتها الفظة لرجلها المريض، مثلما لحظته في الأيام التالية، فرضت عليّ أن أكون على شيءٍ من الحذر معها. وكنتُ قد سألتُ زوجي عن طبيعة مرض أبيه، فأجابَ: " أصيبَ قبل قرابة العام بالتهاب الأعصاب، ومنذ ذلك الوقت لا يستطيعُ مغادرةَ الفراش ". هارباً بنظراته من عينيّ، ردّ عليّ باقتضاب لما استفهمتُ عندئذٍ عن سبب المرض: " لا أحد يدري ". انتبهتُ أيضاً لندرة اطلالته على الرجل المريض، المقيم مع امرأته في الدور الأول. وكان " أحمد " قد حلّ مكان والده العليل في إدارة محل التحف والأنتيكا، الكائن في حيّ الصالحية. منزل أسرتي يقع بالقرب من المحل، وكان قد خطبني عقبَ فترةٍ قصيرة من الإعجاب المتبادل، الصامت. والده من أصيلي ذلك الحيّ، وكذلك والدته، التي كانت تعاني من السل؛ وبنصيحة الطبيب انتقلوا للعيش في بلدة الهامة، المعتبرة من أهم مصايف الشام. ماتت الأم قبل زواجنا بثلاثة أعوام، وما لبثَ الأبُ أن اقترنَ بعائشة، المُعانية على الأرجح من العنوسة. ما لحظته من ندرة اطلالة أحمد على والده المريض، أحلتها ببراءة إلى تعففه من الانفراد بامرأة شابة حتى لو كانت بمثابة أمه. مع مرور الوقت، تيقظت فيّ حاسّةُ الشك من مسلك هذه الأخيرة مع رجلي. إذ كانت سفرةُ الطعام تجمعنا، وفي الأثناء اعتادت هيَ على التبسّط معه إلى درجة الابتذال. في البداية، وضعتُ وزرَ مسلكها على طبيعتها الريفية، المُخالفة نوعاً لعاداتنا المدينية المحافظة. وكنتُ آنذاك ألاحظ طبيعتها المَوصوفةَ في أشياء أخرى، وذلك في خلال حياتنا اليومية المشتركة. كأن تتعجب من اهتمامي بالورود والأزهار، مؤكّدةً أن الحديقة وُجدَت، حَسْب، لانبات الخضار والفاكهة. كانت تجدني أحياناً مسترخيةً على الأريكة، الموجودة على الشرفة، مغمضةَ العينين. فتنبهني بالتساؤل، ساخرةً: " أتحلمين وأنتِ مستيقظة؟ ".
3 ذات صباح جمعة، اقترحَ عليّ أحمد أن نزورَ أسرتي بما أنه يوم عطلته. كان أحد أيام أيلول، وقكّرتُ أنه من المرجّح أن يشتد فيه الحر عند الظهيرة. كوننا لن نعود من الصالحية قبل حلول الليل، فإنني توجهتُ إلى زوجة أبيه، لأرجوها أن تسقي الحديقة عند العصر. إذاك كانت عائشة في حجرتها، جالسةً أمام تواليت الزينة، فسألتها عَرَضاً ما لو كانت تبغي الخروجَ أيضاً. زمّت فمها، المصبوغ بالأحمر: " أنا لا أتبرّج إلا لزوجي "، قالتها بنبرة تهكّم. رجلها المسكين، كان ينفردُ بحجرة أخرى منذ ابتلائه بالمرض، وكنتُ أنا مَن يقوم بخدمته وليسَ هيَ. " آه، لقد اتصلَ بي صديقٌ للتو يطلب مني خدمةً مستعجلة "، بادرني أحمد بارتباك عندما عدتُ إليه. ثم أضافَ، زائغ البصر: " في وسعكِ ركوبَ التاكسي إلى الصالحية، وأنا سألحق بك بعد حوالي ساعتين ". أبديتُ تذمري من الاختلاف الطارئ لايقاع مخطط الزيارة، لكنني سرعانَ ما أذعنتُ ورأيتني من ثم لوحدي في الشارع. في أوان موسم الصيف، كانت سيارات الأجرة لا تهدأ في الهامة لنقل المتنزهين وغالبيتهم من سكان الشام. الموسمُ أفِلَ، وعليّ كان أن أنتظرَ مطولاً لحين ظهور إحدى تلك السيارات من منعطف الشارع، المنحدر إلى جهة الوادي. ربما مضت نصفُ ساعة أخرى، لما تيقظ عقلي على احساس غريب تبعه شعورٌ بالقشعريرة. إذا بي التفتُ إلى الجهة الأخرى من الشارع، لكي أعود أدراجي إلى المنزل. حالَ ارتقائي الدرجَ الحجريّ المُرتجَل، المُفضي إلى الرابية، راودني احساسٌ آخر: " ماذا دهاكِ، يا امرأة؟ أبلغ الأمرُ بسخافة تفكيرك إلى هذا الحدّ! ". بيدَ أن الاحساس الاول غلبني أخيراً، وجعل خطوي أكثر تعجلاً. في اليوم التالي، وكنتُ منفردة نهاراً مع حميّ في حجرته، قلتُ له بصوتٍ منخفض ومرتعش تأثراً: " لقد دخلتَ ذاتَ مرةٍ إلى منزلك كالمتسلل، وذلك بعدما سبقَ وداهمك احساسٌ غريب. فصعدتَ إلى الدور الثاني، فسمعتَ أصواتٍ مريبة من حجرة النوم. ولما أنصتَ بانتباه وراءَ الباب الموصد، ميّزتَ صوتيهما وهما في حالةٍ من التهتك والفسق. أليسَ هذا بالضبط، ما جرى معك وأدى من ثم إلى وقوعك فريسة المرض العضال؟ ". دموعه، انهمرت عند ذلك بسخاء حتى خضّلت لحيته، الأشبه بالأشواك الرمادية. سألته، بالرغم من اشفاقي على مشاعره: " لِمَ أبقيتها في بيتك، عقبَ تأكدك من خيانتها؟ " " كانا عندئذٍ سيهربان معاً، فأرمى في مأوى العجزة. لأنني سقطتُ مريضاً في نفس ذلك اليوم، وبقيتُ عاجزاً عن الحركة كما ترينني الآن " " ولعلك أملتَ أيضاً بمجيء مَن ينتقم لشرفك؟ " " لقد حلمتُ بذلك حقاً ليلة أمس، يا للعجب! "، هتفَ وهوَ يلهثُ رافعاً رأسه عن الوسادة. بدَوري، كنتُ طوال معظم ليلة أمس مُسْهَدة، أنظّم في ذهني خطةَ الانتقام من الفاسقَيْن. على الأثر، عرضتُ الخطة بإيجاز على مسمع الرجل المسكين، ثم انتظرتُ جوابه. أغمضَ عينيه، وما عتمَ أن ردّ باعياء: " حقاً إنه ثمرة فاسدة، ولكنه ابني الوحيد " " حفيدكَ ينمو هنا "، قلتها وأنا أضعُ يدي على ثمرة بطني اللامرئية. وأردفتُ: " سأظلّ أرعاكما ما بقيتُ أتنفّس ". لاحت ابتسامة واهنة على طرف فمه، قبلَ أن يغمغمَ متنهّداً: " ابقِ على حذر، يا بنيّتي، وليكن الله معكِ ".
خاتمة ( أو وقائع التحقيق ): 1 لم تغب شمسُ اليوم التالي، إلا وبلدة الهامة تضجّ بخبر العثور على جثّة امرأة مجهولة في قعر الوادي وقد هشمتها أسنّة صخوره. تم التعرّف بسرعة على صاحبة الجثة؛ وكانت عائشة، التي سبقَ وأعلنوا في قسم الشرطة عن اختفائها منذ منتصف النهار. المحقق الجنائيّ، انتقل في صباح اليوم التالي إلى منزل الضحية لأخذ أقوال المعنيين بالأمر. طلبَ منهم المحقق اثباتَ وجودهم بين الساعة الثانية والثالثة بعد الظهر، قائلاً أن تشريح الجثة حدد توقيت وفاة الضحية. الرجل الأرمل، كان واضحاً أنه مصابٌ بالشلل. لكنه شهدَ أيضاً لصالح زوجة ابنه، بالقول: " كانت تخدمني وتسليني طوال تلك الفترة، وهيَ أساساً الوحيدة في المنزل المهتمة بي! ". أما أحمد، فأكّد أنه بعد الغداء أخذ قيلولة حتى الساعة الرابعة ثم عاد بعدئذٍ إلى عمله: " وفي وسع امرأتي أن تشهد بذلك ". لكن امرأته، مثلما علمَ لاحقاً بكثير من الدهشة، قالت للمحقق أنها لا تستطيع الجزم بالمسألة: " لأنني كنت آنذاك في حجرة حميّ ". كذلك، أجابت رداً على سؤال المحقق حول طبيعة علاقة زوجها بالضحية: " كانا يتشاجران لدوافع غامضة، لحين أن سمعتها ذات مرة تتهمه بخيانتها " " هل سألتِ زوجك عن معنى هذه التهمة؟ " " نعم. قال لي إنها مجنونة ومسعورة، وكل ما في الأمر أنها تغار منكِ لأن زوجها مريضٌ وعاجزٌ " " وأنتِ، اقتنعتِ بكلامه؟ " " ربما، لأنني كنتُ أتجنب تقويضَ حياتنا الزوجية "، ردت برصانة.
2 زخات مطر الخريف الأولى، كانت تُحدث قرقعة على سقف المبنى، عابثةً بأعصاب المتهم الشاب. سبقَ أن ساقوه إلى هذا المبنى، المصبوغ الجدران بلونٍ جنائزيّ، ضافرَ من كآبة عمارته وموجوداته. الشيء الوحيد، المريح نوعاً لنفسية أحمد، تمثّلَ في أنّ الشارع، المفتوحة عليه نافذة حجرة المحقق، كان امتداداً لمنطقة الصالحية. لقد تذكّرَ محلّ التحف والأنتيكا، ثمة، الذي لم يَهنأ بادارته طويلاً: " ربما يستولي عليه أهلُ زوجتي، ما أدراني؟ لكن إلى الأخير، سيؤول بالوراثة إلى ابني. هذا بافتراض أنّ المولودَ ذكرٌ، بطبيعة الحال! ". لو أنّ المحامي قدّرَ له أن يسمعَ ذلك المونولوجَ، المفصحَ عن يأس المتهم من البراءة، لأصيبَ بعسر الهضم ولا ريب. مع أنّ هذا الرجلَ السمين، العابث بربطة عنقه طوال الوقت ـ حال معظم زملائه ـ كانت تعوزه أدلة براءة موكله. عليه كان أن يتعرّق أيضاً، عقبَ معرفته بأنه حتى والد المتهم، قد قدّمَ شهادةً تضرّ كثيراً بقضية ابنه: " أثبتَ الرجلُ صحةَ كلام الكنّة، بشأن المشادات بين زوجته وابنه، والتي لم يخبره أحدٌ قط عن سببها ـ كما قال. لعل الأب فعلَ ذلك بنيّة حسنة، ابتغاءً لوجه الحقيقة. كون الرجل عاجزاً، وأحد رجليه في القبر، فإنّ من الصعب الطعن في شهادته. سيرته أيضاً، دلّت التحقيق على نقاء سريرته "، استسلمَ المحامي بدَوره لمونولوجه الداخليّ. " وعلى أية حال، هل من المعقول أن يسلّمَ أبٌ ابنَه لحبل المشنقة؟ "، خلصَ المحققُ إلى هذه النتيجة وكأنما يواصلُ فكرةَ المحامي. هذا الأخير، بقيَ صامتاً فيما كان يواصلُ تجفيفَ عرقِهِ بالمنديل. لكنه المتهم، مَن تعهّدَ إعطاء الجواب. قال ببطء مع ابتسامة مُحتضرة: " نعم، يسلّمه لو كان على ثقة بعلاقته المشينة مع امرأته! بالنسبة لزوجتي، فأنا أيضاً أعذرها وبودّي أن أطلبَ الصفحَ منها لو شاءت زيارتي أو حضرت المحاكمة. مع ذلك، أشهدُ أمام الله أنني لم أقتل عائشة. لعلها هيَ مَن ألقت بنفسها إلى هاوية الوادي، لشعورها بأنها سبقَ وتردّت في هاوية الإثم؟ ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حواءُ التاسعة مساءً
-
حدائق الليمون
-
المُعسكر المُريب
-
الحسناء والإنتحار
-
التاجرُ والجنيّ
-
الخرابة
-
السبت المستحيل
-
مساء شتائي دافئ
-
الوصيّ
-
مفتاح الفردوس
-
لعبة الموت
-
نظرة جنونية
-
فتاة الحديقة
-
الورقة الخضراء
-
منزل في الأزقة العُلوية
-
المكتبة المهجورة
-
الأخدود
-
سفير جهنم
-
شباب إمرأة: ريف ومدينة ورغبة
-
غزل البنات؛ فيلم الكوميديا الخالد
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|