|
ذكر إنما أنت مذكر... ح 6
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7568 - 2023 / 4 / 1 - 15:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من الأخلاقيات السليمة التي تبين إنسانية الفرد ومسئوليته تجاه الأخر هي قضية القبول بالمختلف، أو ما يعرف اليوم بالتسامح الإنساني الذي هو قبل أن يكون فرض ديني يبقى جزء من أخلاقيات الإنسان السوي، هذا المبدأ المثالي والذي نجد صداه في الكثير من الأعمال الأخلاقية التي تميز بها الحكماء والفلاسفة الإنسانيون دون أن يربطوه بعنصر أخر، أو يؤمنوا به لسبب خارج كونه قيمة مثالية مفعمة بالروح الإنسانية السوية، وبما أن الدين كمنبع أخلاقي وإنساني فاضل قبل أن تلوثه النزعة الأنانية البشرية ويتحول عن مساره الطبيعي إلى المسار الأنانوي يمثل سمو الفكر البيني بين الإنسان والإنسان، هنا جاء الخطاب القدسي ليؤكد قيمة هذا المبدأ ويحث الرسول على أتباع التسامح والتعاون بغض النظر عن الأختلاف والنوايا، فالنص الذي يقول {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المائدة 42، القبول والمسامحة والتعامل البيني المبني على أحترام وجود الأخر إنما جعله الله سنة في الناس، ليثبت من خلاله قيمة الإنسانية ويؤسس لمبدأ قبول به حتى لو كان كاذبا أو نتوجس من خلف ما يأتون به شرا. و لأن العمل الصالح مهما كان لا ينتج في النهاية إلا حصاد الخير الذي هو غاية كل عاقل، كان الخطاب القدسي وكما جاء في النص على وجهين فيهما الخيار وفيهما التفضيل، فمن ناحية أولى منح الله حق الأختيار للنبي بين الأستجابة أو الأمتناع بقوله (لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، هذا الترديد في الأمر بين الأستجابة وخلافها له مبرراته وأسبابه، فالله الذي جعل من أوامره وأحكامه ميسرة وأختط منهجية الخيار الحر طالما أن الأمر لا يشكل ضرر ولا يفتح الباب عليه، فهو من باب المحلل الذي يدور بين الأنتداب له أو الإعراض عنه حسب تقديرات الحال والمحل، وهذا يعني أن الأمر ليس إلزاميا فيذهب كحكم فرضي قد يتحول مع التشدد إلى واجب عيني فيرهق الناس ويسبب لهم الضرر وأرتكاب المحرم، أو مع التساهل به فيختلط الأمر بين التقصير والإقصار وأيضا التفريط بحكم واجب الإتباع وندخل في التأثيم والتحريم، لذا كان الأمر هنا إرشاديا حسب الظروف والمعطيات دون الفرض المولوي أعتمادا على أن يكون أخلاقيا مجردا فيتبع بالإحسان والعدل. أما الوجهة الثانية التي طرحها النص وهي الحث على الفضيلة من خلال تفضيل الأستجابة مع أحتمالية أن لا يكون الأخر فاضلا، فيأتي ذلك ترجمة لمبدأ أخلاقي ديني أخر جاء في نص مماثل (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت 34_ 35، فالدفع بالتي هي أحسن تتجلى هنا في الأستجابة الفاضلة من الرسول للذين جاءوه لطلب الحكم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)، مع أن الله قدم الخيار الحر بجانبيه لكن أشار من باب أولى إلى موضوع الإحسان الذي يفهمه غالب الناس على أنه من أوجه الأنفاق المادي فقط، فالإحسان منظومة أخلاقية كاملة تتحرى دوما ما هو أكثر قدرة على ربط الإنسان بالإنسان من وسائل وأفكار وممارسات وحتى مشاعر، هذا الإحسان يعد في رأي الخاص واحدا من أصول الدين ومقدم حتى على الفرائض والواجبات الدينية لأنه جاء بصيغة الأمر الملزم عالي الدرجة بقول الله تعالى (إن الله يأمركم)، هذه الصيغة المتشددة لا يمكن مساواتها مع كل ما جاء بصدد التنبيه على إداء الواجبات مثل (كتب عليكم الصيام.... فإن تصوموا خيرا لكم)، أو )أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأركعوا مع الراكعين)، وفي نص ثالث (وعلى الناس حج البيت من أستطاع إليه سبيلا)، كل هذه الفروض تنتظم تحت عنوا التكليف المشروط دوما بالفدرة دون الأمر به ملزما كما في قوله تعالى (لا يكلف الله نقسا إلا وسعها)، بينما التكليف بالإحسان جاء مع الوسع ودونه لأنه تكليف وجوبي عام (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل (90). هذا التكليف بالإحسان أيضا يقع على الله من باب وجوب التذكير به والعظة اللازمة دوما كمذكر لذلك الله يوعظ المؤمنين ويذكرهم به على أنه أمر لازم لبناء مجامع متماسك، وكمقدمة أساسية لتطهير النفس البشرية من أردان الأنانية ورفض الأخر وإبعاد السلبية والشرور عن منظومة العلائق الأجتماعية البشرية التي لا بد منها كي يقوم الإنسان بوظيفة الإصلاح والتعارف (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)الأنفال 1، هذا الإصلاح كان مبدأ أوليا وعلة من علل خلق الإنسان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)الحجرات (13)، شرط التعارف يبدا أولا وضروريا من خلال التسامح وقبول الأخر والتعامل الأحسن بين الناس حتى وصل الأمر في الدعوة له إلى إلزام المؤمن بإظهار المودة والحميمية البشرية مع وجود الأختلاف الكبير (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت (34)، هذا الدفع بالتي هي أحسن واحدة من صور الإحسان ومصاديقها العملية وجوهر روح التسامح. ومع أن الإحسان وجوهره التسامح وإشاعة الرحمة بين الناس والمداومة على الموالاة البينية وأعتبارها حكما إلزاميا أعلى درجة من كل الفروض والعبادات ومفدم عليها، إلا أننا وبسبب عقلية وتركيبة ومقدمات العقل الديني الكهنوتي الفارغة من حقيقة الإيمان الصحيح بالله، وأنتهاج مسلكية العصيان بدل الطاعة، أنتشر مفهوم وممارسة ما يعرفه الكهنوت بالكراهية المقدسة وربطوا بينها وبين حب الله باطلا وزورا، ونسبوا لله ما لا ينسب له (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) أل عمران 31، أو كما قال سيدنا المسيح ع "إن الله محبة"، السؤال هنا هو (هل ألتزم المؤمنون عبر التاريخ بقيمة التسامح هذه؟ أم أحكموا أمرهم للسيف والعذاب والأختلاف والكراهية حتى بدون دواع كذب أو خشية)، في مثل شهر رمضان هذا علينا أن نعود للخلق الديني الملزم، وننبذ ما قال الفقهاء والعقائديون الذين غلب عليهم حس الكراهية والحقد، فنشروا السموم وأباحوا قتل المختلف بعناوين شتى، منها أنهم لم يروا ما يراه الأخرون، لأن الحق كما يظنون تجسد فيهم وحدهم دون خلق الله، ودون دليل ولا حجة ولا كتاب منير.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكر إنما أنت مذكر... ح 5
-
ذكر إنما أنت مذكر... ح 4
-
ذكر إنما أنت مذكر... ح 3
-
الرسول والرب والغراب
-
ذكر إنما أنت مذكر... ح2
-
ذكر إنما أنت مذكر...
-
الكتابة بدون هدف...
-
حكاية الطين والرمل والحجر
-
رمضانيات...ولكن.
-
لا مهديا بعد كتاب الله ورسوله. ح2
-
لا مهديا بعد كتاب الله ورسوله. ح1
-
قراءة في المتغيرات العراقية القادمة
-
حرزف.... وأزرار
-
أنا والطريق
-
خرافات
-
من إشكاليات المعرفة في عالم يركض سريعا.
-
موازنة السنوات الثلاث المقترحة حلم أقتصادي فاشل أم فشل أحلام
...
-
مخاوف مشروعة
-
ليس بالعقل وحده يدرك الدين، بل أيضا بالغباء.
-
ق ق ج
المزيد.....
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
-
لأول مرة خارج المسجد الحرام.. السعودية تعرض كسوة الكعبة في م
...
-
فرحي أطفالك.. أجدد تردد قناة طيور الجنة على القمر نايل سات ب
...
-
ليبيا.. وزارة الداخلية بحكومة حماد تشدد الرقابة على أغاني ال
...
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|