|
قاهرة إنشراح التي هزمت ناصر
مختار سعد شحاته
الحوار المتمدن-العدد: 7521 - 2023 / 2 / 13 - 17:00
المحور:
الادب والفن
توطئة: صدفة خيرٌ من ألف ميعاد: أدعي طوال الوقت أني رجل لا يؤمن بالصُدف، رغم أن تفاصيل جليلة في حياتي كانت مبنية على الصدفة، تلك الصدفة التي رحتُ أزيد في رفضها لها كروائي، وأجدها سقطة لا تُغتفر في الحبكة الروائية، وأنسى دومًا أن الصُدفة مفردة من مفردات حياة المحظوظين بها، وربما لأني أظن أن حظي في الحياة كان الكتابة وما حولها، فتكاد صدفي تنحصر في هذا النطاق، كأن أتعرف إلى الكاتبة ضحى عاصي عبر واحدة من صُدف الكتابة تلك، بل تُزيد الصدفة حبكتها فأعود من حفل توقيع روايتها الأخيرة "ليلة 19 أغسطس" الصادرة عن دار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وأنا أحمل هديتها روايتها العذبة "104 القاهرة"، والتي لو أُتيح لي أن أكون محررها لاقترحت لها "قاهرة إنشراح"، نسبة لبطلتها موغلة الجمال في تفاصيلها الإنسانية، وهي الرواية الصادرة عن دار بيت الياسمين برقم إصدار يحمل العام 2016، وهو نفس العام الذي تركت فيه مصر. طبقات الحارة المصرية: وأدعي أنني صوفي الهوي، لكن لي ممارسة تخالف المتصوفة، وهي تبجيل المرشد الروحي لكل صوفي، فحتى إن احترمت فكرة "المرشد الروحي" أو "الشيخ" في مفهوم المتصوفة، إلا أنني أجده تمكينًا لفكرة السلطة الأبوية بشكل ما، تلك السلطة التي تخلع على رأسها المقُدس ما يجعله فريدًا في كل شيء، حتى في مجال الأدب والكتابة، فهناك من مجاذيب الكاتب فلان، ودراويش الكاتب فلان، وما عليك إلا أن تختبر ولاءهم لمرشدهم حين تُطلق اختلافًا في التعاطي أو الرؤى لما قال به هذا الأيقوني المقدس لدى مجاذيبه. مثلاً لو حاولت أن تفكك من سطوة عُشاق نجيب محفوظ، وأن تقول لهم إن محفوظ الذي ندرك قيمته الأدبية، ليس الممثل الحقيقي الأوحد، ولا صاحب السلطة الشرعية على الحارة المصرية في الأدب المصري، وقتها استعد لهجوم ضارٍ فأنت بمثابة المدنس لقدس أقداس الكتابة حول الحارة المصرية، والتي لها قماشة أدبية وكتابية واسعة اتسعت لمحفوظ ولعشرات غير محظوظين حظ محفوظ في النشر والشهرة، فالحارة المصرية القاهرية بعظمتها أكبر من أن يحتويها أدب نجيب محفوظ، وإن عرض لتفاصيل جمة منها. لماذا أقول ذلك وأنا أعرف أن البعض لن يحلو لهم نزع القداسة عن محفوظ وحارته؟ أقول ذلك لإيماني الشديد أن ثمة كتابات عن الحارة المصرية لها من الجمال نصيبها الأخاذ، لكن نصيبها من الشهرة لم يكن بقدر أدب نجيب محفوظ، وبالمناسبة هذا ليس هجومًا على أدب نجيب محفوظ، لكنه إنكار لجعله كإله للكتابة عن الحارة المصرية، فمثلاً منذ سنوات قرأت رواية "بيت من شبرا" للأستاذة الدكتورة عصمت حسن، والتي صنعت من عالم شبرا وحواريها وشوارعها موازيًا موضوعيًا لما قدمه محفوظ في الجمالية والحسين ودروب مصر القديمة والفاطمية، وأكدت كغيرها كثيرون، أن الحارة القاهرية طبقات بعضها فوق بعض، وكلٌ منا في طبقته الاجتماعية والسياسية والثقافية، يراها من زواياه وتفاصيله الخاصة. هذا ما فعلته رواية 104 القاهرة عبر شخصية إنشراح، وتتبع سيرة حياتها، التي تقترب من الملحمة الإنسانية بضمير مستريح منذ الصفحات الاولي للرواية التي جاءت في قطعها المتوسط حسب النسخ المنشورة عبر ما يربوا عن 240 صفحة من الحكي السلس الأمين في نقل تفاصيل جديدة عن الحارة المصرية، تفاصيل ربما لها ظلال وتقاطعات مع حارة محفوظ، لكنها مختلفة السياق عنها تمامًا، بل وتنفرد بها وبعلاقاتها الشائكة. ماذا فعلت إنشراح بالقاهرة: يبدو أن الروائية ضحى عاصي، والتي تلقت تعليمها في روسيا، ونشات في بيت شيخ أزهري مشهو باستنارته هو الشيخ مصطفى العاصي، سمح لها أن تتخلص من عقد شرقية رائجة، أهمها الانبهار بكل ما يظنه الناس كبيرًا وعظيمًا، وفي ذلك مثالاً واحدًا أسوقه هنا، عبر تفكيك شخصية كشخصية جمال عبد الناصر، وهو أمر فعلته كتابات عديدة كما أشرت مثلا لرواية "بيت من شبرا"، وسيفعله آخرون مستقبلاً، لكن ضحى عاصي اختلفت في ظني في هذا التفكيك، إذ أعطت مبضعه في يد المهمشين والفقراء الذين روج المشروع الناصري إنه منحاز لهم، فكان تفكيك عاصي عبر شخصيات روايتها 104 القاهرة، لعصر ناصر وأحداثه الجللة كحدث النكسة في 67، مدخلاً شفيفًا لهذا التفكيك الصادر على ألسنة من لا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أو النخبة المثقفة والسياسية، إنما صدر تفكيكها عن مهمشين غير متعلمين، أدركوا أنهم عاشوا في هذا الوهم الناصري، حتى وإن لم تُصرح الرواية بذلك وإنما التمسناه بين ثنايا بعض المشاهد، وترك أثره بخفة غير زاعقة، ما زاد هذا التفكيك جمالا وفرادة. اعتدنا دومًا على أن يأتي نقد السلطة عبر النخب، أو أبناء البرجوازية الناشئة، لكن هنا في 104 القاهرة، قدمت الروائية ضحى عاصي طرحًا جديدًا عبر أصوات المقهورين والمهمشين، وعبر ما يُشبه السيرة الذاتية لتلك الشخصية المُتخيلة "إنشراح" والتي تضُج بالحياة والأمل، في إسقاط شديد الذكاء على الحالة المصرية بعد يوليو 1952، ولتكون أحداث حياتها وتفاصيلها شاهدًا إثنوغرافيًا على الحياة المصرية إبان العهد الناصري وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، وفيها محاولة نزع القداسة عن كثير من مظاهر السلطة الاجتماعية والسياسية، مثلما يفعل الناصريون مع شخص الرئيس عبد الناصر ويروجون له، وهو إسقاط يمكن لمحه ولو في جملة واحدة صغيرة تصف بها البطلة بيتها حين قالت: "بيتٌ صغير، ماتت فيه أحلام كبيرة"، وما حملته هذه السيرة الذاتية للشخصية من تحولات في المشهد المصري بالغة التعقيد والحدة أحيانًا، وبالغة الهشاشة والضعف أحيان أخرى، تاركة ظلالها على أبناء هذا الوطن ممن هم طين هذا البلد الحيّ. أعرف أننا معشر الكُتاب في بعض الأحيان لا نعمد إلى الإسقاطات، وأن القراءة والنقد تأخذ نصوصنا إلى أبعاد أخرى، ربما لم نكن منتبهين لها، لكن ما لا شك فيه أن التأويلات التي يُحدثها نصٌّ ما، إنما تدل على موهبة صاحبه ورؤاه للعالم وللأحداث من حوله سواء بالتلميح أو الإشارات المقصودة وحتى غير المقصودة، فعلى الرغم من فهمي لانتماء الكاتبة ضحى عاصي إلى اليسار التقدمي، لكن ذلك لم يمنعها عبر روايتها كما أشرت أن تفكك قداسة العهد الناصري، وأن يأتي هذا التفكيك على عكس الكتابات الكثيرة التي حاولت تحليل فترة الناصرية، فجعلته عاصي تفكيكًا من أسفل قاعدة هرم السلكة في مصر، عبر أصوات هؤلاء المقهورين الذين كانوا وقود معركة في الأسطورة التي صنعها الناصريون لجمال عبد الناصر، وهو تفكيك ذكي ولمّاح. وماذا فعلت ضحي عاصي بالقاهرة؟ كما أشرت، اختارت الروائية شخصية من صميم الحارة المصرية، والتي تختلف في سياقها عن معظم حارات نجيب محفوظ المشهورة، وإن تقاطعت مع بعض تفاصيلها ومفرداتها، لكن عاصي قررت أن ترى هذا العالم بعين امرأة من قلب الدروب والحارات القاهرية ذات الخصوصية إبان فترة التغيرات المتلاحقة في العهد الناصري، ومثلاً على عكس رواية "بيت من شبرا" التي انتمت بطلتها إلى أسرة برجوازية، اختارت بذكاء شديد ضحى عاصي شخصيتها الرئيسية محور الحكي في روايتها، شخصية "إنشراح" وعالمها الثري والمتشابك والمتناثر عبر مستويات مختلفة اجتماعيًا وسياسيًا، وعبر رحلة صعود الشخصية تلك قررت الكاتبة أن تطرح كلمتها في التحولات المصرية على مستوى الأسرة وعلى مستوى السلطة منذ الخمسينيات وحتى الألفية الجديدة، ومن خلال تتبع تفاصيل رحلة إنشراح بكل تشعباتها وتقلباتها المتوقعة وغير المتوقعة، والتي انتهت إلى الحرية كما ادعت الرواية في آخر سطورها. أكدت لي هذه الرواية أن سياق القارئ ولحظة القراءة هام أيضًا إلى جانب سياق المكتوب والكاتب، بل يمكن أن يكون بوصلة تأويل هامة للنص المقروء كله، ويدعونا إلى المزيد من التأويلات، فرواية (104 القاهرة)، إذ أخذتني إشارات الفترة الناصرية عبر الرواية والتي تؤكد لي أن الفترة الناصرية بأحداثها الجسام مثل نكسة يونيو بمثابة منجم كتابي لم نغترف منه كثيرًا في الرواية المصرية، حتى ومعالجات السينما المتواضعة، تمامًا كما فعلت رواية "بيت من شبرا" لعصمت حسن، إذ رأينا الناصرية من سياق مختلف ورؤية أخرى، وهنا لا أود تقييمها بالاتفاق أو الاختلاف، لكن أنكر تقديري لها كونها جاءت من رؤية امرأة من قاع دروب وحواري مصر "إنشراح"، حتى ولو كانت نهاية حكايتها المتخيلة بعيدة كل البعد عن المتوقع لكثيرات في نفس الظرف الإنساني والاجتماعي والسياسي الذي عاشته إنشراح، لتؤكد لي من جديد ما أؤمن به من عبارة الحبيبة الزوجة د. إيمان النمر، أن ما يميز الحالة المصرية على مر تاريخها الحديث والمعاصر، أن خلاصها كان خلاصًا فرديًا وفريدًا بامتياز، قبل أن يسير العالم برمته إلى حداثته السائلة. بقيت إشارة: صدرت الرواية عن دار بيت الياسمين، في قطع متوسط في العام 2016، بعدد صفحات تعدي 240 صفحة، قدم لنا الناشر زياد إبراهيم فيها وجبة دسمة من الحكي والجمال عبر تقنيات مختلفة للسرد، استخدمتها ضحى عاصي، وعبر مستويات متفاوتة للغة، جمعت بين الفصيحة والعامية التي تم تضفيرها في ثنايا حوارات النص، وعبر تطعيمات بمفردات أجنبية، لها دلالات سياقها. ولأني لا أحب حرق الأعمال الأدبية لم أشأ حرق تفاصيل العمل، وإنما حاولت الإشارة إلى نقطتين بارزتين تميز بهما هذا العمل، الذي يحتمل تأويلات كثيرة ومناقشات كثيرة، وله دلالة عظيمة عندي، أن الكتابة الجادة البعيدة عن الاستسهال لم تُعدم في مصر، التي تصدرها الآن في مشهدها الكتابي كثيرون من أنصاف المواهب وأصحاب الشلل او هؤلاء الذين خرجوا علينا من أدراج ستينياتهم بكتابات مدرسية مملة. لذا أرى واجبي أن أدعو القارئ لهذا العمل الذي تعرفت إليه وإلى مبدعته بصدفة محضة في رحاب النادي الاجتماعي لمدينتي، وهو مكان كنت أظنه غير معني بالأدب ولا الثقافة لولا جهد د. غادة لبيب التي تحاول بمجهود شخصي تغير تلك الصورة النمطية عن المكان وساكنيه.
#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المخبرون
-
نوح
-
بين أفخاذهن
-
عربي 96
-
الجنة
-
رسالة إلى وزارة الأوقاف المصرية والأزهر.
-
مصلوب
-
عرفتُ
-
حضرة الHR
-
الصحاب يا رب.. نص بالعامية المصرية
-
النصوص
-
طابور النمل... (نص بالعامية المصرية)
-
ATM
-
عيد ميلادكِ
-
لو أنني في النيل سمكة!
-
رجل غارق في الحزن في الجنة ست ساعات
-
عيد الأب الوحيد
-
في الحزن، الناس سواسية كأسنان المشط
-
مقهى الآلهة
-
نادي السيلما
المزيد.....
-
بعد الحادثة المروعة في مباراة غينيا ومقتل 135 شخصا.. جماعات
...
-
-عاوزه.. خلوه يتواصل معي-.. آل الشيخ يعلن عزمه دعم موهبة مصر
...
-
هل تعلمين كم مرة استعارَت أمي كتبي دون علمي؟!
-
رئيس الهيئة العامة للترفيه في السعودية تركي آل الشيخ يبحث عن
...
-
رحيل الفنان المغربي مصطفى الزعري
-
على طريقة الأفلام.. فرار 8 أشخاص ينحدرون من الجزائر وليبيا و
...
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|