منذ أربعة أسابيع وهم يأتون الى هذا المكان في نفس الساعة. الجمعة العاشرة صباحًا. مفترق الطرق المركزي في منطقة الهدار في مدينة حيفا. هنا تتقاطع شوارع ذات أسماء مثيرة ومشحونة: منها هرتسل وبلفور. الصهيوني رقم واحد، وصاحب الوعد الاستعماري الشهير. وكأن المكان مرسوم بألوان الولاء والامتنان لصانعي هذه القطعة من التاريخ الصهيوني الذي لا يزال ينتج "الكثير".
الآتون الى هذا المفترق المعبّأ بالأيديولوجيا المشفّرة في تسمية وهندسة المكان، هم طلاب من جامعة حيفا ومن معهد العلوم التطبيقية "التخنيون" في المدينة. لا ينتمون الى حركة محددة ولا الى حزب أو تنظيم معيّن. يقضون أسبوعيًا عدة ساعات وهم يحملون الشعارات ويطلقون الهتافات ضد سياسية الحكومة الاقتصادية التي تنتج يوميًا، كما تؤكد شعاراتهم، المزيد من الفقر والبطالة والكثير من الضحايا المحتاجين المحرومين من العمل ومن الحياة باستقرار وبكرامة.
هؤلاء الضحايا يمكن رؤيتهم هنا بكثافة: الطلاب المحتجّون يُحضرون طعامًا يتبرع به عدد من أصحاب المطاعم في الجامعتين، ليتم توزيعه على من يحتاج من المارة. فتحت سقف المجمع التجاري الذي أُغلق العديد من محلاته، بين عدد من الأعمدة الباطونية الشاحبة ترى طاولة مؤلفة من لوح خشبي محمول على قوائم حديدية وفوقها عدة أوعية مغطاة بأكياس بلاستيكية. بجانبه لافتة كتب عليها "توزيع مجاني للطعام". أقف متأملا، وبين فترة وأخرى يتوجه أحدهم. ليس من السهل رؤية هذا المنظر. أشخاص في القرن الحادي والعشرين من اسرائيل التي تنام قريرة العين في ظل الديمقراطية الوارف جدًا، يمدون يدهم لأنهم لا يملكون طعامًا. سيدة معها عربة يرقد فيها طفلها تقول: منذ ولادة الطفل لم أعمل ولا توجد لديّ أصلا إمكانية لوضعه في حضانة. وحتى لو وجدت حضانة فكيف سأجد عملا؟ أنظر إليها وهي تبتعد وقد ربطت كيس الطعام بعربة الطفل. لا أعرف كيف أو ماذا ستأكل غدًا. سؤال غير بسيط، فماذا بشأن الحق في الغذاء، ألا تنص عليه الديمقراطيات.
على بعد أمتار قليلة يواصل الطالبات والطلاب رفع الشعارات المكتوبة بفوضوية جميلة على قطع من كرتون غير متجانسة الحجم ولا اللون. أقرأ: "التنمية مستحيلة على معدة فارغة"، في إشارة الى البلاغات الكلامية المبالغ بها لوزير المالية بنيامين نتنياهو الذي يكثر من ترديد مصطلحات التنمية والنمو وغيرها بشكل أجوف، إن لم يكن بشكل خبيث وهذا أدقّ. فهو لا يزال يهرب من الأسئلة الصعبة الحقيقية: كيف ستحقق التنمية والجهاز العسكري يبتلع نصف الموارد ليجترّها احتلالا واستيطانًا وتوسّعًا؟ أحد الشعارات يردّ على السؤال مباشرة ودون قصد: "أموال لأحياء الفقر وليس للمستوطنات". وبجانبه كُتب بشكل أيديولوجي يساري واضح: "لا حرية في السوق الحرة". وهذا خطاب يلائم بالمناسبة كردّ على مفردات السياسة الاقتصادية اليمينية المتسلّطة في اسرائيل، حيث يُكثر واضعوها من سحق أسماع الجمهور بـ "ضرورة تحرير القطاع العام" (أي: تحويل ما تبقى من مرافق حياتية حيوية الى رحمة أصحاب الرساميل)، وأيضًا "وجوب الاستفادة من إيجابيات الخصخصة لتشجيع التنافس" (مثلا أرادوا خصخصة كل ما يمكن وحتى أجزاء من الجهاز الصحي، لمصلحة التنافس المقدس).
ردود فعل المارة على مشهد الاحتجاج الشاب هنا متفاوتة. وما يصنع التباينات بينها ليس الخلافات السياسية والفكرية بل منسوب اليأس. فمما يتضح أن اليأس والاحباط طاغيان والفرق هو في مستوى الادمان أو الوقوع ضحية لهما. "ماذا ستفعل مظاهرتكم" يقول أحدهم قبل أن يتابع واصفًا قوة الحكومة وضعف المواطنين. آخر يبدأ بالصراخ على المتظاهرين لأنهم لا يطرحون خطة اقتصادية وهو في نفس الوقت يشتم الحكومة والوزراء بأقذع الشتائم، ولا تنفع كل المحاولات لاقناعه بأن المتظاهرين ليسوا وزراء وما يحاولونه هنا هو رفع الصوت وإقناع الناس بالاحتجاج. وهناك قلائل فقط تصدر عنهم جملة سياسية واضحة وهم في الغالب يعودون الى نفس الموقف المتسائل بيأس عن احتمال أو جدوى تحرّك كهذا. حالة من الشعور بانعدام القوة وصعوبة التأثير. إحدى السيدات تقول: أعرف أمرًا واحدًا وهو أن كل الحكومة يجب أن تذهب الى الجحيم. هكذا. مع أنه من المحتمل جدًا أنها ستصوّت لحزب الليكود الحاكم في الانتخابات القادمة، فعندها سيُعاد انتاج "البُعبُع" العربي. فهو، هذا العربي بصورته المفبركة الوهمية مترامية الاطراف والوحشية يفوق الفقر خطورة. هنا يمكن محاولة تلمّس السبب الذي يجعل جمهورًا عريضًا ناقمًا على حكومته يعود لينصّبها فوق رقابه. إنه الخوف أو صناعة التخويف في اسرائيل. إحدى أكثر الصناعات تقدمًا ورواجًا. دوائر شائكة معقّدة متداخلة يجري زجّ الجمهور فيها لإبقائه ضحية لخوف شبه مرضي. وليتحول ما يدبّ الرعب في القلوب، العربي، الى خطر مجرّد يجب الوقوف في وجهه عبر مواصلة الاحتلال والاستيطان والهيمنة، لتعود هذه الأساليب الأخيرة لتقذف الجمهور الخائف الى مستنقع الأحباط واليأس نفسه. دائرة مقفلة.
في هذا الشارع تبرز نقائض ملموسة حقيقية. فالشابات والشبان المتظاهرون ينتمون بغالبيتهم الى طبقات متوسطة وهم من أصول أوروبية على الأرجح. هناك ما يشبه الطوباوية في احتجاجهم فهم لا يسارعون مثلا الى تسمية الأمور بأسمائها. لا يقولون للجمهور إن الاحتلال هو المشكلة بل إنه المصيبة الكبرى. هذا التكتم يتم ربما بنوايا حسنة "حتى نحظى بتأييد الناس" كقولهم "لا نريد إثارة نقاشات". ولكن الثمن هو إبقاء النقاش محصورًا في دوائر الخير والشر، الرحمة والقسوة، سعة القلب مقابل التبلد. وما يظل ناقصًا هو طرق البوابة الرئيسية، السياسية. بالمقابل، من المثير هنا التوقف عند ما قاله اريئيل شارون نفسه مطلع هذا الاسبوع في معرض محاولة إقناع وزرائه (والجمهور) بدعم خارطة الطريق التي يبدو أنه لم يعد قادرًا على التهرب منها: "هناك علاقة بين المشكلة الاقتصادية والوضع السياسي. لذلك علينا قبول الخارطة". ها هو شارون مع وزرائه، يستعمل نفس الادعاء الذي كان لا يزال لتوّه يحاول اقناع الجمهور بأنه غير صحيح ويجب الابتعاد عنه: هناك علاقة جدلية قوية بين استمرار الاحتلال وبين السقوط في الوحل الاقتصادي. ومن الملائم أن أورد هنا مدى الغضب الذي انتاب وزير العمل زبولون أورلاف (من حزب مفدال الاصولي) عندما سأله الصحفي الجريء غدعون ليفي لماذا لا يعترف بأن الاموال التي يجب أن تُصرف على النواحي الاجتماعية، التي يتباكى على حالتها، غير متوفرة لأنها تذهب للصرف على الاستيطان الذي يدعمه؟ فقد استشاط ذلك الوزير غضبًا واعتبر السؤال "سياسة رخيصة". عمليًا، كان غضبه هو برهان الاعتراف بصحة أقوال ليفي.
ربما أن ما يتكشف من هذه المشاهد والمعطيات والنقاشات، أنه لم يعد بالامكان الغوص أكثر في المصائب الاجتماعية الاقتصادية، فقرًا وبطالةً وعوزًا، وبات معروفًا أنه سيصبح من الصعب اخفاء مدى ارتباط كل ذلك بالسياسة الاحتلالية والاستيطانية (مكمّلتها). ويبقى السؤال أن تقوم قوى إضافية في المجتمع الاسرائيلي، ممن تدّعي الاختلاف عن النهج الحكومي السائد، لتتجرأ على تقديم الصورة كاملة للجمهور: الاحتلال يعمّق الفقر والبطالة والمآسي الاجتماعية. نقطة. وهي مطالبة بذلك ليس حتى بسبب أية أخلاقيات بل، ببساطة، لأن هذه هي مصلحتها نفسها إذا أرادت، كما تدّعي، أن تشكّل بديلا لليمين المتسلّط. أما إذا ظلت مصرة على العيش في دفيئة "الاجماع القومي" إياه، فسيظل قناعها القومي على ما يرام، لكن الجوع سيظل مرئيًا ومسموعًا قرب رمزيّ الفخر القومي بلفور وهرتسل.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/