|
الدين العراقي في إصالة التكوين ح 3
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7499 - 2023 / 1 / 22 - 04:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من هذه الملاحظات الأساسية في طريقة فهمنا لنشوء الدين وصيرورته جزء من الهم البشري، وتحوله من فعل فردي إلى رابط أجتماعي ضخم ومتضخم بفعل المشاركة والتواصل في الإيمان والأعتقاد، نرى أن الدين العراقي القديم بكل ما تمظهر فيه من أعتقادات وإيمانيات وتعبديات سلوكية أو معارف عقلية لا يخرج من حقيقة كونه نتاج روح المجتمع ولم يكن وليد نقل وأنتقال أو تطور من حالات أفتراضية صاغها بعض المنظرين أو محاولة الزعم أن الدين مجرد مرحلة تطورية من سلسلة مراحل الوعي البشري، فكل الدلائل المتحصلة من البحث الأركولوجي ودراسة النصوص الدينية القديمة لا تؤكد أي زعم بأن أصل الدين كان سحرا، بقدر ما تؤكد أن السحر هو حالة منحرفة من وعي ديني سليم، بمعنى أدق أن شركيات السحر مولودة في بيئة منحرفة أصلها التوحيد، فلا يمكن أن يكون الشرك طريقا للتوحيد، مع حقيقة أن الإنسان بتدخلاته الغبيه هو الذي أخرج الدين من سيرورته الحقيقية "السراط المستقيم" إلى جادة الظلال والتحريف بفعل الشعور الطاغي بقوة الأنا المتضخمة التدميرية. وعلى عكس رأي الكثيرين من الذين يجزمون بحقيقة يؤمنون بها مفادها أن الشرك والوثنية والطوطمية هي الأصل الطبيعي للتوحيد الديني، أرى أن التوحيد هو الأساس الطبيعي لكونه يتفق مع الفطرة الطبيعية الشعورية عند الإنسان، فالعلامات الأولى للوعي بها من خلال الملاحظة والتجربة تؤكد الميل النسقي اللا واعي واللا مختار كان دوما يتجه نحو الإحساس بوجود قوة واحدة هي المسيطرة والمتحكمة بالوجود، وحينما يكون الأمر طبيعيا منطقيا يكون هو الأصل لأنه يحمل ما هو متوافق مع الصيرورة الطبيعية التي لم تلوث بعد، أما الإنحراف اللاحق عن هذه الحقيقية فيعود إلى التشويش والتشويه الذي يلحق الإيمان الأولي، نتيجة عوامل كثيرة منها فكرية ومنها سوء تجربة، ومنها أيضا ما يعرف بالإرادة الشريرة المقصودة كموقف ضد الدين يراد منه أهداف وغايات غير طبيعية. يقول الباحث إبراهيم إسماعيل في مقالته "هل يتطور الدين" المنشور على موقع السبيل في هذا الشأن وفي بدلية حديثه (لم تكن نظرية التطور مجرد نظرية للتفسير البيولوجي، بل سرعان ما حُمِّلت بحمولات رشحتها لتفسير كثير من مظاهر الحياة غير البيولوجية، ولذلك شاع هذا السؤال عند العديد من دارسي تاريخ الأديان الغربيين، أيهما هو الأصل الشرك أم التوحيد؟)، هذه الالتفاتة الفكرية توضح قضية الأصالة في التكوين من خلال دراسات نظريات التطور التي وجدت مجالها البحثي في علوم أخرى، لكن هذا التخصص لا يمنع من أن نبسط الأفكار العلمية في البحث عن عناوين أخرى تتعلق بالتطور الجزئي غيلا الإحيائي، وهو التطور الفكري والعقلي والأجتماعي لمؤسسات الأنسان في تاريخه العام، فيقول بنتيجة ما أثاره علماء التطور من أسئلة والتي أكدوا فيها على ما نعترض عليه بالعلة السابقة فيقول (تكاد تتفق إجاباتهم على أن الشرك هو الأصل وأن التوحيد شكل متطور في حياة البشر، فالأديان مرت بأطوار من التطور من أشكال سحرية وأرواحية بدائية إلى مفاضلة بين الآلهة إلى إلهين ثم انتهى الأمر بالتوحيد) 1. عند مناقشة هذا الزعم المسمى علمي لا بد من أن نفهم أن التطور في الأفكار والمقولات العقلية يتخذ دوما الأفق المستعرض في التطور خاصة في المثاليات والروحانيات، لأنها تعتمد جوما على التفاعل الروحي والنفسي أكثر من بسط الحقائق العلمية والمنطقية، لذا ومن خلال التجربة العملية والتاريخية التي سجلتها الأديان التوحيدية بالرغم من أنها قد تكون متكاملة ومترابطة في مضمونها النصي والفكري، إلا أنها دوما تنتكس كثقافة وأفكار وتنتج إنحرافات عقائدية ترجع بها إلى الشركيات وأحيانا للوثنيات، هذا الأمر يدل على أن خط الشروع في المثاليات ومنها الدين لا يسير وفق خط عمودي تصادي دائما، بل في خط أفقي مستعرض يتجه في بعض مسارات نحو الإنكسار والنكوص عن الخط الأساسي بفعل التدخل البشري في بناء بعض المفاصل التي منها يؤسس للانحراف كمنهج مختار أو ربما يكون نتيجة لقراءات أعتباطية خارج روح الدين والإيمان به. فلا يمكن أن يكون الشرك والوثنية والطوطمية الإرواحية هي الأساس لأنها أساسا هي مظاهر مختلة من فكرة التوحيد البدوية الفطرية الأولى، هذا أضافة إلى حقيقة أخرى أن الدين بغطائه القدسي من خلال الشعور به وكأنه حتم مسجل في ذاكرة الإنسان التكوينية، تجره دوما إلى نوع من الممارسات السلوكية التي تحاول التخفيف من القيود العقدية أو لنقل محاولة بشرية للتلائم والتأقلم مع حاجات وجوديه غريزية مستحكمة ـأبضا، بمعنى أكثر وضوحا أن الشرك وما شاببه من ممارسات دينية هي بالحقيقة صراع بين مثالية طبيعية في التكوين الإنساني، ومتطلبات وجودية يسعى لها الإنسان مختارا بميله نحو الكثير من المتعة واللذة وأستسهال الحياة ومتطلباتها، لذا أقول أن النيل النكوصي حالة طبيعية هي الأخرى تكوينية في حياة البشر، وجزء من الشخصية الطبيعية وقد أقرت ذلك الكثير من الأديان بهذه الحالة بما يسمى موضوع العفو والتوبة. إذا التوبة التي عرفتها الأديان كطريق تصحيحي مناسب لمنهجها يؤكد أن الأصل الطبيعي هو التوحيد، بينما الشرك والوثنية والطوطمية يمكنها أن تتطور بالدعم الفكري إلى حالات قريبة من الإيمان بإسقاط جزء من المنظومة الفكرية، لا إسقاط الإيمان بالقوة المهيمنة، أي أن طريق الشرك هو في جزء منه إيمان مختلط أو مشوش أو منحرف بمجرد أن نزيل العوالم والعلامات التي تجعله منحرفا سنعود للأصل، من هذا نستشهد بمقولة محمد عبد الله دراز التي تبدو فكرة حقيقية لا يمكن إنكارها لا على المستوى النظري ولا حتى في مجالها الواقعي التأريخي، فيقول (“إن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين، بل هما متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعاً لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقية من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك”)2 . أذا ونحن نعود لفهم إصالة الدين العراقي من أن منشأه توحيدي سليم من خلال دراسة النصوص الخاصة بمعتقدات العراقيين القدماء أو حتى أدبياتهم الدينية والفكرية، وبعض مما ورد في ملاحمهم وأساطيرهم، نرى أن الغالب في هذه المعتقدات كانت على خط التوحيد لولا التشويش والتحريف الذي مورس على نقل الصورة الدينية من خلال النقل المزيف والترجمة المشبوهة، لاسيما وأن الأيادي التي كابت هذا التاريخ ونقلته من الحجارة والطيب إلى الورق والكتب كانت تسعى دوما لإثبات أهليتها العقائدية وخلفيتها الدينية بالريادة في التوحيد كدين وإيمان، ومنح نشارك الكثير من الباحثين الذين يرفضون الربط بين ما يسمى عند البعض بالإنسان البدائي ويقصدون الإنسان القديم الذي بنى كل مقدمات ما نعتبره اليوم حضارة، وما كانت لتكون ولا كان للدين أن يستمر ونصفه بالهمجي والمتخلف (يرفض محمد كمال جعفر اعتبار الإنسان البدائي منحط التفكير كما تصوره هذه النظرية، فيقول: “إن سذاجة الفكر أو بدائية الحضارة ليست دليلاً على انحطاط الدين أو بدائيته، فقد نجد حضارة مادية وفكرية ممتازة مع عقيدة دينية ساذجة تعبد الأصنام والآلهة التي تتمتع بصفات البشر”)3 . نعم عندما تكون الحضارة في مظهرها وجوهرها الفاعل مادية أو ذات توجه وجودي صرف بعيدا عن تقدير للمثالية الفكرية وتتصف بالجفاف الروحي، تكون عقائدها جافة يابسة لا يمكنها أن تتطور ولا يمكنها أن تنتشر خارج بيئتها، في الدين العرافي الذي نشأ في بيئة روحانية مثالية شديدة الحساسية والتعلق بكل ما هو ديني، حتى أنها ربطت كل شيء في الوجود وكأنه يدور حول محور الرب والسماء والعالم الأخر، لا يمكنها أن تكون أمة مادية ذات عقيدة ضحلة أو مستوردة من مجتمع أخر لم تثبت الوقائع وجوده أصلا، لقد فهم العراقي القديم كل مفاصل الوجود وتعرف على العوالم الميتافيزيقية والفلك وما وراء العلم، حتى أنه بادر من دون معرفة مسبقة بالكشف عن منجزات أسست لكل التطور والعلم والمعرفة، بدأ من الدولاب والعربة والزراعة وبناء المعابد والأسوار، ونظم المجتمع وسن القوانين والشرائع وبناء أولى المدارس في الوجود، هذا الشعب لا يمكن أن يتعبد بعقيدة فاسدة أو ضحلة أو منبثقة من السحر أو متطورة من الشرك والوثنية، ولا يمكن أن يكتب دينه بالتجربة بقدر ما تشير الدلائل إلى صياغات فوقية قدرية توحيدية لبناء هذا الدين وهذه العقيدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1. . https://al-sabeel.net/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d8%b7%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%9f/ 2. . محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، الكويت دار القلم ص 112. 3. . محمد كمال جعفر، الإنسان والأديان دراسة مقارنة. الدوحة: دار الثقافة، الطبعة الأولى 1985م. ص87.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النزول عن ظهر البغلة والركوب فوق السخلة...
-
الدين العراقي في إصالة التكوين ح 2
-
الدين العراقي في إصالة التكوين ح 1
-
دوران الوجود حول مفهوم الرب وقضية الموت ح 2
-
دوران الوجود حول مفهوم الرب وقضية الموت ح1
-
الطقوسية التعبيرية ح 3
-
الطقوسية التعبيرية ح2
-
الطقوسية التعبيرية ح1
-
الرمزية الألوهية والقداسة ح2
-
الرمزية الألوهية والقداسة ح1
-
الرب الله في الديانة العراقية القديمة ح 3
-
الرب الله في الديانة العراقية القديمة ح2
-
الرب الله في الديانة العراقية القديمة ح1
-
المشتركات العقائدية بين الدين العراقي وفروعه الإبراهيمية ح 2
-
المشتركات العقائدية بين الدين العراقي وفروعه الإبراهيمية ح 1
-
الله والماء والحضارة ح3
-
القداسة والشخصنة وأوهام الربوبية دون الله في الديانات الإبرا
...
-
تشرين العراق 2019 بعيون ملونه.... ح4
-
تشرين العراق 2019 بعيون ملونه.... ح3
-
تشرين العراق 2019 بعيون ملونه.... ح2
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|