|
الوحدة في غروب العمر مسرحية مونودراما من فصل واحد
رياض ممدوح جمال
الحوار المتمدن-العدد: 7489 - 2023 / 1 / 12 - 20:18
المحور:
الادب والفن
المكان : إحدى الدول النامية، التي لا تنموا. الزمان : تسعينات القرن العشرين.
(امرأة في الستينات من العمر، وحدها في غرفة قديمة الاثاث، تتكلم في الهاتف النقال. جالسة على اريكة مجاورة لشباك في آخر المسرح، مطل على حديقة اشجارها ضخمة ومتيبسة)
المرأة : (تضحك) نعم، نعم اتذكر، وكيف يمكن ان انسى تلك الايام، يا اختي حياة! نعم اتذكر حتى ذلك اليوم، اليوم الاول لدخولي المدرسة، كان ذلك قبل ستين عاما. ياااه، يا له من زمن بعيــد، يا عزيزتي. الان اتساءل، كيف انقضى هذا العمر بهذه السرعة؟ جرى كالحلم، ودون ان احقق شيئا من احلامي الخاصة. وكل الذي حققته هو احلام الاخرين، امي، وزوجي، واولادي ... امي الارملة، فقد مات ابي وانا عمري عشر سنوات، كان حلمها ان اكون معلمة في مدرسة للبنات، لا عينها في مصروف البيت. هذا هو حلمها الذي لم تستطع تحقيقه لنفسها، فأرادت تحقــيقه في انا. ومن ثم حلمها بان اتزوج. باي شكل من الاشكال، وبأول رجل يتقدم لخطبتي، المهم عندها انه رجل. الزواج هو كلعبة القمار فأما ان تصيب واما ان تخيب. فقد اصابت معـــي، على قــاعدة ان الحب يأتي بعد الزواج. كما أنها خابت معك، فقد تزوجت ابن خالتنا الذي رغبت به ورغب هو فيك ايضا، ولكنكما اصبحتما دائمي الشكوى من بعضكما. نعم يا حيــاة، يا اختي، انا لا اناقش من المسبب واعلم انكـــما جيدين، لكــــني اعني النتائج، وما الت إليه من خلافات أدت للانفصال. نعم، نعم كما تقولين. انا وزوجي كنا نختلف، ولكن في نقطة واحـــدة، ولم تصل بنا إلى الانفصال. وانت تعرفين اني كنت لا احب السياسة ولا العامليــــن فيها. ولكن زوجي كان من المولعين بها، حتى أنها كادت أن تكون الزوجة الثانية وكأني احس منذ البداية بانها ستكون السوسة التي تنخر شجرة العائلة. وانها نار لا تلتهم الجذع فقط، بل كل الاغصان حتى تأتي على اخر ورقة فيها. السياسة في بلداننا كالأعشاب المتسلقة تتشبث بشجرة العائلة وتخنقها. كنا نتناقش كثيرا انا وهو في ذلك. كان يتغلب علي في قوة منطقه وسعة ثقافته ومعلوماته لكني لم اكتسب ايمانه ابدا، كلماته كانت ماء يجري فوق قطعة مرمر فلا يخدشها، ولم اكن اعلم حينها، انها كانت تصـب في راس ابننا منذ أن كان صغيرا. حين يقطع جذع شجرة، ينبت من أسفل جــذورها غصنا يفوق الجذع الاولي. وتشبع ابني بأفكار ابيه وامتصها كما تمتص الاسفنجة الماء. وانتهى إلى المشاركة بمظاهرات وهو في الكلية ومن هنا بدأت المتاعب. فقد اعتقل وطرد من دراسته في الكلية، وتوالت اعتقالاته وسجنه وحين لم يجدونه يعتقلون اباه كرهينة للضغط عليه وتسليم نفسه لهم. نعم، يا اختي حياة، انت لم تعرفي كل التفاصيل في حينها، لا نك كنت مشغولة بمشاكلك انت ايضا، وانا اعذر لك ذلك. ماذا تقولين؟ صوتك غير واضح، اللعنة على شبكات الهواتف. اعيدي ما قلت. اه، لا، لا يجب أن تقولي ذلك. فان حظينا انا وانت، رغم كل معاناتنا، هو افضل من حظ اختنا سعاد رحمها الله، على الأقل نحن تزوجنا خيرا منها ماتت وهي عزباء ليست تلك هي رغبتها، رحمها الله، فقد رفعت شعار ”كل شيء او لا شيء." ها! إلا تعلمين السبب، كيف وهي اختنا!... اه نعم كنت انت صغيرة ولم تكن تحدثك بمثل هذه الامــور الشخصية. نعم سأقول لك حقيقة قصتها.. حقيقة انها في إحدى ليالي مراهقتها، حلمت بأن وزيرا سيتزوجها، وتعلقت بذلك الحلم، حتى أنه في أحـد الأيـــام زارت امي امرأة يقال انها كانت تعلم الغيب قصت سعاد حلمها لتلك المرأة العرافة بالغيب، واكدت لها تلك المرأة ان الحلم سيتحقق عاجلا او آجلا. وتمسكت اختنا سعاد بذلك الحلم اكثر، الى ان فاتها القطار فحاولت اللحاق به، ولكن بعد فوات الأوان. بحيث انها في الآخر كانت تتمنى أن يتقدم لخطبتها أيا كان، فستوافق عليه دون أي شروط، حتى ان كان طاعنا في السن، او ارملا ولديه العديد من الاولاد. ومهما يكن وضعه المادي والاجتماعي. الى ان ماتت ولم يتقدم لخطبتها ذلك الوزير الذي حلمت به. و بذلك تحقق شعارها ولم يتحقق حلمها، فلم تحصل على كل شيء بل اللاشىء كان نصيبها. أما نحن فقد نلنا بعض ما قدمته الحياة لنا. اه، ماذا تقولين؟ انها هي الأفضل منا! هذا رايك وانا لا أوافقك عليه. وهذا هو سبب تعاستنا في الحياة، ان ننظر إلى ما لدى الآخرين، ولا ننظر الى ما لدينا من نعم. ها وانت قطعت نصف المشوار الذي قطعته انا. وانسحبت عند منتصف حرب الحياة. انت مسكت العصا من الوسط، فقضيت نصف حياتك الاول مع المعاناة الزوجية، مثل حياتي انا كلها. ونصف حياتك الثاني قضيته كما قضت سعاد عمرها بالكامل، عشت لنفسك فقط. اه صحيح ما تقولينه فقد وصلنا نحنا الثلاثة الى نفس المحطة، محطة الوحدة. الويل لي انا التي خضت كل غمار اوحال الحياة، بكل عمقها وطولها وعرضها، لم تبق ساقية أو بركة اسنة إلا وقد خضتها. واجهت رمح الحياة بصدر مفتوح، لم اعط له ظهري. بل واجهت طعنات الحياة وجها لوجه. لا لشيء الا لإنقاذ ما يمكن انقاذه من عائلتي، ولكن اه من الحياة اه والف اه. فإنها غولة تتولى تدميرنا شر تدمير. تضــــعنا بين المــــطرقة والسندان وتسحقنا حد طحـــــن العظام. الحــــياة غولة تطلب الخضوع لها ومسايرتها بذلك يا عزيزتي حياة. ان الضحية ليس هم زوجي وولدي، بل الضحية الحقيقية هي انا ، وليس هما. فالمقاتل الذي يموت في الحرب ليس هو الضحية بل زوجته واولاده، فهو قد مات لمرة واحدة وانتهى. أما زوجته وأطفاله فسيموتون في كل يوم ألف مرة. والأم التي تنظر إلى وخزة الإبرة في ذراع طفلها تحس بها وخزة في قلبها هي. فليس الموت هو مقياس للتضحية بل ما تخلفه الضحية من موت لإحبابها. الو...... الو هل انت معي على الخط يا عزيزتي؟ اه نعم نعم. اخشى ان تكوني مشغولة واني أعيقك عن اعمالك؟ اه حسنا، وشكرا لك فانا بحاجة الى من ابادله بالحديث معه، وانا وحدي في الدار، كما تعلمين، وليس هناك ما يشغلني... شكرا لك. انه عمر طويل ومطباته أطول منه بكثير. ولا تكفي ايام ولا اسابيع ولا حتى أشهر للحديث عنه... نعم يا حبيبتي، السياسة، السياسة هي سبب دمار عائلتي. السياسة في بلداننا هي من أكثر أسباب تدمير العــوائل، لأننا لا نفـــهم شـــيئا منـــها سوى ابادة الاخر. وأولادنا يرضعون مع الحلـــــيب السياسة، ثم يموتوا بسببها ولم يخلفوا وراءهم إلا أمهات تندب حظها وتقضي بقية عمرها حزنا وتحسرا. كان الأب في بداية حياته حاملا لواء السياسة محـــــاولا تغيير العالم، دون ان يعمل ضمن مجموعة سياسية لكنه كان حاملا للوباء، وباء السياسة. وحين كبر اصبح يلوم ابنه على اتخـاذ طريق سبق له ان سلكه هـــو نفـــسه ولكــــن هيهات. الابن أصبح عصفورا طار من بين أيدينا وصعب السيطرة عليه، او اللحاق به. انا متأكدة لو ان العمر طال بابني لندم على افعال الشباب تلك، كما ندم ابوه قبله وأصبح عاجزا حتى عن تغيير نفسه، لا العالم. وفي اخر هروب لابني سجنوا ابوه كالعادة، وطال سجنه، ويأسوا من تسليم ابني لنفسه. اطلقوا سراح زوجي، لا لشيء الا ليأخذوا رهينة اكبر واكثر تأثيرا على ابني الهارب. لقد جاؤوا لا خذ ابنتي.. نعم ابنتي كرهينة مضمونة التأثير. من هنا انعطف مجرى حياتنا انعطافا حادا. فهذه هي القشة تقصم ظهر البعير. وحالما مدوا ايديهم ليسحبوا ابنتي معهم صرخت صرخة رعب طار لها صواب الاب، ذلك الاب الهادئ المسالم الرصين، تحول الى كتلة نار تفوق في وهجها ولهيبها عين الشمس. هجم عليهم كاسد جن جنونه. كسيل بركان لا تقف أمامه كل سدود العالم. اصبح صدرا يدفع الرمح عن ابنته. اصبح كفا يدفع المخرز عن ابنته. تطاير من عينيه شرر الغضب لو انها صبت على جهنم لا حرقتها. لو كانت حدقتا عينية رصاصتين لانطلقتا نحو وجوههم. ضرب واحدا منهم على انفه فأدماه، وخنق الاخر فمات بين كفيه الناحلتين. حاول الاخرون اعتقاله ولم يستطيعوا. اصبح ذئبا تحيط به الخرفان. احتضنت انا ابنتي وبقينا في زاوية الغرفة ادفع ظهري الى الجدار لعله يبلعنا. كنت احس برجفة ابنتي بين ذراعي، وكأنها تريد أن تجعل من ذراعي تابوتا لها. كانت تبكي بجنون و هستيريا. لقد راينا كيف تتغلب الكثرة التي مكنت الخرفان من ان تقتل الذئب. وهكذا انهار السد الاول المنيع، واردت ان اكون انا السد الثاني لإنقاذ ابنتي من الغرق في بحر قذاراتهم. هجمت ودافعت عن ابنتي كقطة ليس لها إلا مخالبها وإسنانها. وبضربة واحدة على راسي غاب العالم مني ولم أفق إلا بعد ساعات، وحدي ملقاة على الأرض. يا للهول، لقد اخذوا مني ابنتي، وحتى جثة زوجي اخذوها. غابت بي الدنيا ثانية. الا ينبغي للشمس والقمر ان ينخسفان وعلى الارض ان تلفظ حممها؟ وليبق الليل ازليا وينمحي النهار. وعلى السماء والأرض ان تتشحان بالسواد. وبعد مضي اسبوع واحد، عادت لي ابنتي، بعد أن سلم اخوها نفسه وغيبوه ،وباي حال عادت! عادت ذاهلة محطمة، ممزقة الروح والجسد. و العالم كله لا يشفي جراحها. كالبركان هادئة و فجأة تجار حتى ترتعب الوحوش منها. كان صياحها يضرب قلبي ضربات مدوية. واناتها الصامتة باقية الى الان تدوي في فؤادي وتفطره. كانت تصرخ صراخا كأنما تريد ان تسمع السماء صراخها. وانتحرت في غفلة مني. وسقطت اخر ورقة في الشجرة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت انا مجرد جذع شجرة يابسة فقدت كل اغصانها وأوراقها. وفي هذه الدار التي كانت مسرحا لذلك الجحـــيم. ولم يــــكن لي الا الدموع، تلك الاهوال جعلت مني إنسانا من دمع، اني اكـــاد اذوب دمـــــعا، دمعا من رصاص مصهور. تملاني الأحزان بقدر ما تملاني السنون. منذ عشرين سنة وانا جثة تنتظر الرحيل. وما عادت الحياة تستهويني. فالحياة مرة تلتهمني كل ساعة و بوحشية. (صوت المطر ينقر زجاج النافذة، فتنتقل بجلستها بجوار الشباك، وتستمر في حديثها بالهاتف النقال، وهي تنظر الى المطر) عشرون شتاء جاء وعشرون ربيع رحل، ولازالت الاشجار تنتظر موتها. كم كانت مثمرة تلك الاشجار، وكم كانت مزهرة تلك الحديقة! وغادرتها الطيور والعصافير مقهورة حزينة، والبـــلابل لملمت الحــانها مـــــودعة اعشاشها. تيبست الحشائش الخضراء، واندثر كل اثر لأي زهرة او نبتة. ولا اثر لأي مخلوق حتى القطط والفراشات او حتى طائر غراب. اصبحت مليئة بالأشواك والأعشاب. أعجب من قلبي كيف لا ينفجر! هااااا، لا اسمعك جيدا.. الو... الو... حياة، اختي حياة! (تتجه نحو الجمهور مصدومة ذاهلة، صامتة لفترة قصيرة) ماذا جرى لي؟ هل جننت؟ اختي حياة! انها ماتت قبل عشر سنوات مضت. إذن كنت انا اكلم نفسي؟ وان الهاتف معطل منذ سنين. وانا هنا وحدي مقطوعة عن العالم. (تبرك على الارض وتسقط الهاتف من يدها وهي تبكي) ســـــــــــــــتار
#رياض_ممدوح_جمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المخلعة مسرحية من فصل واحد
-
مسرحية (طلب زواج)
-
مسرحية -الأعداء-
-
بعد فوات الاوان مسرحية مونودراما
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|