|
قصر الحمراء الاندلسي
محمد وليد السبعاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7483 - 2023 / 1 / 5 - 12:15
المحور:
الادب والفن
قصر الحمراء .. معجزة تحكي وجع طرد المسلمين من الأندلس ...
هل كان ابن الأحمر يدري أن القصر الذي أفنى حياته في بنائه وتحصينه من هجمات الصليبيين سيتحول ذات يوم إلى معلمة سياحية ينتفع منها أبناء أراجون وقشتالة؟ وهل كان يدري أن قصر أسرته الأسطوري سيستحيل ذات قرن إلى منبع لاغتناء "أعدائه" ما دام كل زائر عليه أن يدفع مبلغاً من المال للمشي في أركانه؟ إذن فقد تخلى قصر الحمراء عن مهامه الدفاعية والعسكرية، وصار آثراً سياحياً يمكن لأي كان أن يدخله بتذكرة زيارة بسيطة، وفي غمرة تخليه عن أدوراه التاريخية، ينسكب من بين جدرانه جرح بليغ لم يلتئم بعد: قصة من الهزائم العربية المتتالية في هذه المساحة من الأرض، مكائد بين الإخوان، تحالف مع الأعداء، واضطهاد جماعي للمسلمين الذين عانوا من محاكم التفتيش. احتار المؤرخون في سبب هذه التسمية بـ"الحمراء"، فهناك من يقول إن المادة التي بُني بها كانت حمراء، وآخرون يتحدثون أنه سمي كذلك نسبة إلى مشيّديه بني الأحمر الذين كان يوصفون بهذا اللون لاحمرار بشرتهم، ومهما اختلفت أسباب التسمية، "فالحمراء" هو جزء من ذاكرة سقوط الأندلس، بما أنه بُنِي في العصور الأخيرة من تواجد المسلمين بالمكان الذي فتحه طارق ابن زياد. تعود قصة هذا القصر إلى حدث مهم جداً في تاريخ الأندلس، وهو هزيمة الموحدين في معركة العقاب سنة 1216م، وما تلى ذلك من استيلاء صليبي على غالبية المدن الأندلسية، وفي غمرة الفوضى التي انتشرت في هذا المكان، ظهر شخص في ظروف غامضة، قيل إنه وُلِد وقضى فترات من حياته بمدينة جيان الأندلسية، وبعد سقوط الموحدين، قرر استغلال نسبه الشريف وشهرة أسرته لإقامة دويلة جديدة. إنه محمد بن يوسف بن نصر، المعروف اختصاراً بابن الأحمر. بعد جولات في المنطقة، وصل ابن الأحمر رفقة أتباعه إلى غرناطة التي لم تكن قد وصلتها بعد في تلك الفترات جموع المحتلين المتوحدين تحت راية "حروب الاسترداد"، ووقع نظره هناك على زاوية توجد على تل سبيكا، وتحدّها من بعض جوانبها تلال نيفادا، في هذه الزاوية، كانت هناك قصبة تُعرف ب"القصبة الحمراء" بناها في عصر ملوك الطوائف ملك أمازيغي يدعى باديس بن حبوس كان قد أنشأ سوراً حول الهضبة، إلا أن توحيد الأندلس تحت راية المرابطين، أنهى فترة حكم دويلته المعروفة ب "طائفة غرناطة" وجعل القصبة تقريبا شبه فارغة. يعتبر باديس هو من وضع حجر الأساس للـ"الحمراء"، وبدونه لم يكن ليختار ابن الأحمر هذا المكان، إلا أن هذا الأخير، قرر أن يترك بصمة خالدة في هذا القصر تنسي ساكنته من سبقه من حكام، لذلك سيكون على ابن الأحمر قضاء حياته في تشييد القصر-المدينة الذي أخذ منه جل فترات حياته. مساحة القصر تتجاوز 16 هكتارا، وهو ما يدل على أنها اتخذت كمسكن للسلطان وحاشيته والجند المدافعين عنه، الهدف من طريقة البناء هو تحصين القصر ضد الهجمات القادمة وإن حاول ابن الأحمر تأخيرها بعد عقده لصلح مع ملك قشتالة ساعده بموجبه على إسقاط إشبيلية في أحضان المسيحيين. تقريبا بعد سقوط إشبيلية سنة 1248، بقيت غرناطة المنطقة الأهم التي تندرج تحت حكم المسلمين، لذلك سعى ابن الأحمر إلى تحصينها، فبنى قصر الحمراء من مادة قوية هي مزيج من الطين والرمل والحجارة، تمت إضافة الجير إليها كي لا تتآكل، وقرر تشييد عدد من الأبراج التي تراقب تقدم الصليبيين، ومن بينها برجاً رئيسيا أدت محاولة تقويته إلى التخلي عن وظيفته الجمالية في ذلك الوقت والإبقاء فقط على وظيفته الحربية. كان القصر يضم قرابة 5 آلاف قاطن إلى جانب الأسرة الحاكمة، وهنا ظهر تحدٍ كبير، وهو إيصال الماء إلى هذا المرتفع انطلاقا من الجبال المجاورة، لذلك كان قرار ابن الأحمر بتحويل مجرى نهر بأكمله إلى "الحمراء"، ولأجل ذلك تم بناءُ سدٍ يحصر المياه القادمة من الجبال، وبعد ذلك تشييد قناة مائية ضخمة طولها ستة كيلومترات، ثم الساقية الملكية التي تزوّد "الحمراء" بالمياه. ولأجل الحفاظ على طهارة المياه وقابليتها للاستخدام في الوضوء، بُنيت النافورات التي كانت وظيفتها الأساسية تجديد المياه بشكل دائم، وتحسباً لزيادة المياه على الحاجيات، أعطى ابن الأحمر الأمر لتشييد بعض النواعير التي تسمح بتخفيف جريان المياه، وكذلك بعض القنوات التي تصرف المياه الزائدة، دون نسيان بناء خزانات تحتفظ بالمياه تحسباً لمواسم الجفاف. غير أن المعجزة الكبرى في هذا القصر، هي ساعة الأسود التي تم إتمامها في عهد محمد الخامس، والتي تحتوي على اثني عشر أسداً، كان الماء فيما سبق يخرج من فم كل واحد منها على رأس كل ساعة، كأنها "بيغ بن" الخاصة ب"الحمراء"، إلا أن محاولة الإسبان معرفة طريقة اشتغال هذه الساعة الخرافية بحفرهم لبعض الجوانب من حولها، أدى إلى توقف الساعة عن الاشتغال بشكلها المعروف، وصار الماء يخرج اليوم من أفواه الأسود جميعها في وقت واحد. توفي محمد وحلمه باستكمال بناء القصر لم يتم بعد، غير أنه حقق حلماً آخر هو رد هجمات قوات فرديناند الثالث عشر الذي حاول غزو غرناطة أكثر من مرة، فردته حصونها المنيعة وجعلته يجر ذيول الخيبة، خاصة وأن قدوم المجاهدين من المغرب الأقصى، وفر له مساعدة كبيرة جعلته يهزم القوات الصليبية سنة 1261، رغم أنه اضطر فيما بعد، وتحت وطأة هجوم الصليبيين المتحالفين، إلى التخلي عن بعض الحصون وعن مدينة شريش. قرر ابن محمد المعروف بالفقيه استكمال بناء القصر، وفي أثناء ذلك، تحالف مع المرينيين وعقد صُلحاً مع ملك قشتالة خاصة بعد انتصار المسلمين في معركة الدونونية سنة 1276م التي ضمّ من خلالها المسلمون عدة مناطق في الأندلس، ليتفرغ الفقيه للقصر من أجل إتمامه، حيث بنى حصناً وقصراً جديداً، وبعد وفاته، قام محمد الثالث ببناء مسجد جديد داخل القصر تم تحويله فيما بعد إلى كنيسة. استمر بناء قصر الحمراء أزيد من 150 سنة، وإن لم تظهر بشكل كبير معالم بقية الحاكمين الذين أتوا بعد محمد الثالث، فقد كان لزاماً انتظار فترة يوسف الأول "سابع حكام بني الأحمر" الذي أجبرته هزيمة ساليدو سنة 1340، على الاعتناء أكثر بالقصر، وعلى جعله مكاناً دبلوماسيا يُبهر فيه سفراء الخصوم، كما يرجع الفضل ليوسف في تزيين القصر بنقوش إسلامية لا زالت حاضرة إلى اليوم. ومن سوء حظ يوسف، أنه قُتِل وهو لم يتجاوز بعد 36 من العمر بعد أن هاجمه أحد خدمه، وقد أدت العلاقات الجيدة فيما بعد بين ابنه محمد الخامس وملك قشتالة بيدرو إلى تنافسهما معمارياً، وهو ما كان له فضل كبير على قصر الحمراء الذي تطوّر كثيراً في عهد هذا الملك. لم يختر بنو الأحمر هذا المكان عبثاً، فانطلاقا من جهته الشمالية يُمْكن مشاهدة جزء كبير من مدينة غرناطة، ومن جهته الجنوبية يطل الزائر على جبل الثلج. هذا الموقع المميز زادته مكونات القصر جمالاً وروعة، فمن حيث الوظائف الأساسية، يتكون قصر الحمراء من ثلاثة أقسام كبرى: أولا العسكري، ثم الملكي، فقسم الخدم، أما من حيث المعمار، فالقصر يتشكل من مجموعة من المباني من أهمها بهو الأسود، فناء الريحان، قاعة الأختين التوأم، قاعة الملوك، قصر جنة العريف.. أما أبواب القصر فهي متعددة ومنتشرة وما تكاد تدلف من باب حتى تجد نفسك قد خرجت من باب آخر، من بينها باب الشريعة الذي يعتبر المدخل الرئيسي، باب الطباق السبع، باب الغدور..في وقت لا زالت فيه بعض الأبراج شاهدة على الوظيفة العسكرية للقصر كبرج قمارش وبرج المتزين. وبين أركان مباني القصر، تنبسط الحدائق الجميلة التي تزيّن كل واحدة منها رشاتٌ من المياه المنبثقة من النوافير الصغيرة الممدوة في المكان..وظيفة هذه الحدائق تجاوزت مجال التزيين إلى إنتاج الثمار وغرس بعض المزروعات..وقد حاولت مؤخراً حديقة في نيويورك استنساخ نفس حديقة "الحمراء"..إلا أنها باءت بالفشل. الحمراء يستقبل سنوياً أزيد من أربعة ملايين سائح من مختلف البقاع العالمية، وهناك من يأتي إلى اسبانيا خصيصا لزيارته ولاكتشاف الحضارة الإسلامية بهذا المكان. كانت مساحته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين بعد تسليم آخر ملوك بني الأحمر أبو عبد الله الصغير مفاتيح القصر للملكة إيزابيلا الأولى، إلا أن شتات المورسكيين المنتشرين في شمال إفريقيا، والكتب التي تحدثت عن اضطهادهم، دليل يؤكد أن سقوط غرناطة في 2 يناير 1492، كان فصلا أليما يجسد معاناة المسلمين في ذلك العصر، بعدما أُحْرقت كتبهم وحُوّلت مساجدهم إلى كنائس، وانتهى وجود دولهم التي استمرت هناك قرابة ثماني قرون، في وقت كان كريستوف كولومبوس ينتشي فيه باكتشاف "العالم الجديد" أمريكا.
#محمد_وليد_السبعاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأسيس الجيش العراقي
-
الاندلس من الفتح الى السقوط
-
العصر الذهبي للدولة الاموية
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|