|
الفصل الثاني والثالث رواية لم اشرقت ..لم رجعت
مؤيد عليوي
الحوار المتمدن-العدد: 7480 - 2023 / 1 / 2 - 02:36
المحور:
الادب والفن
الفصل الثاني """""""" الكتاب العتيق وشغفه """""""""" كان يردد في نفسه من الكتاب :( ... ليست كل أرض هي الوطن بعسله وحنظله...، كلمات جميلة : ربما كان أحد القرّاء قد نسي ذاك الكتيب العتيق على الطاولة .)، وهو يمرّ مثل نسمة هواء هادئة، بين كراسي وطاولات القراءة الطويلة المتقابلة غير المكترثة لغياب زوّارها.. أمسى خارج المكتبة، متجاوزا بابها الزجاجي الكبير ذا المصراعين، الذي يفتح ذراعيه حال ما تكون على مقربة منه، مشى وهو يردد تلك الكلمات بصوته كأنّه يغنّيها ويتفحص معانيها، بينما أخذت الكلمات تغوص في أعماق نفسه دون دراية منه، حتى أمسى وسط المارة في جوف الشارع وسط الحركة المستمرة للناس وراحت أقدامه تجد المشي مع سابلة الطريق الذي يأخذه إلى عمله الصحفي وسط مدنية لندن، على بعد عشرات الأمتار من خطواته تلك، فيدلف بناية الجريدة وهو ينعم براحة أنجاز العمل، ملقيا بالابتسامة على وجه مَن يقابله، فتناوش بقايا أغراضه الشخصية من فوق مكتبه المخصص له، وحشرها في حقيبته دون اكتراث لها، ثم تعاطت يده مع جواز سفره البريطاني، بدفقة عشق للمدن التي سمع عنها بشغف حكايات أبيه، مدن حكايات الوطن والناس الطيّبة وقصص العشق التي لا تنتهي، تحيطها من كل جوانبها في حوارات مقاهيها وأزقتها وإحيائها المترامية الأطراف اليوم، تماماً مثلما تحيط بها بساتين النخيل، وللعشق فيها طعم الصدق، فأكثر أهلها عاشقون بالفطرة. نقله شوق السفر الى العراق إلى غرفة رئيسة تحرير الجريدة التي يعمل فيها، بخفة روحه وقوة شخصيته المرحة وهدوء ابتسامته، توارى خلف باب غرفتها، صار بوجه مكتبها وهي تجلس خلف مكتبها المقابل له، اقترب من وجهها المشرق الذي يشع بالحيوية والشباب، همس في أذنها كأنه يمنحها سراً، ولا يريد لأثاث غرفتها أن يسترق السمع، إذ لا أحد غيرها يصغي لهمسه تحت خصلات شعرها، دسّ في سمعها كلماته الأخيرة قبل أن يغادرها بفرح:(إلى اللقاء سأغادر مسافراً إلى العراق، إلى مدن الطين والعشق) ثم أدار عنها ووجهه مشعاً بألق بشاشته وهي تبتسم له، غادرها موصداً الباب على ابتسامتها، ليأخذه الشغف في تحقيق أمنية سفره إلى العراق مثل بداية كل إجازة عمل، خرج من باب بناية الجريدة ونشوة سفره هذا، في رأسه إلى مدنه التي يعشقها، بينما كان يدرك أن كلمته (مدن الطين والعشق) تأخذ مأخذها من عقل وقلب المرأة البريطانية رئيسة تحرير الجريدة وصاحبتها فأنها ترى بلاد الرافدين أول حضارة في العالم نبعتْ من تلك المدن وذاك الطين وتلك الصبابة للحياة، إذ سبق واخبرته عن حبّها لبلاد مابين النهرين، وقت أول تقديمه للعمل في الجريدة، في المقابلة التي تجريها هي بنفسها مع كل مَن يتقدم للعمل في جريدتها، وقتَذاك حاورته فسمعتْ منه أول مرّة: - أنا عراقي من مدن الطين والحياة على ظهر هذا الكوكب. - لكنكَ تحمل الجنسية البريطانية وولدتَ هنا ؟ . - أمي وأبي أخبراني كل شيء عن أسلافي، وكانا مضطرينِ للعيش في لندن ووُلدتُ فيها، فأنا وأنتِ آنستي، متقاربان بسني العمر وأظنّ أننا سنفهم بعضنا بسرعة عندما تسمعين رأيي، لذا أقول أن كلامكِ كان يدل على أني لستُ بريطانيّاً، فقد قلتِ، أنتَ تحمل الجنسية البريطانية، ولم أسمع في قولكِ : أنتَ بريطاني، أذن النظرة مُسبقة لديكِ أنني عراقيّ وأحمل الجنسية البريطانية، وللمملكة المتحدة الفضل في هذا وليس يُنكر . منذ تلك المسافة الحوارية بينهما، أعُجبتْ هي بشخصيته وذكائه الحاد ودقة كلامه، كانت معجبة به حتى تلك اللحظة التي انتهت علاقته بها وبالجريدة ولندن..، ففي تلك المقابلة أجابته حينها : - ستعمل معنا أرجو أن تخلص في عملك، كما أود أن أخبرك شيئا، أنني أطلق التسمية ذاتها على العراق، مدن الطين وأقصد الحضارة الأولى للبشرية ونبض الحياة الأول للوجود، ذلك العشق الأزلي فيه، فهل التسمية من بنات أفكارك ؟! - نعم هي كذلك، فأنا كثير القراءة مثل شغفي بالعراق . - أذن أقترح أن يكون أسمك الصحفي محمد عزيز السومري. - تمام ..أتفق معكِ، وشكرا جزيلا على إنـتـقاء إسمي الصحفي وموافقتك على عملي معكم في الجريدة. صار هو في باب بناية الجريدة من الخارج عند الشارع، وفي رأسه تلك النشوة للسفر الى أرضه التي سمع عنها الكثير وقرأ الكثير، ورأى أناس من أهلها في دول الاتحاد الأوربي، وتعرّف الى إنسان تلك المدن عن قرب أكثر بين النهرين وسهلهما، وأعالي جبالها، إلا أن كل لحظة سفر يتخيلها إلى العراق يعاوده ذات الإحساس الشغوف والشوق والحنين ليشبع رغبته في الانتماء لجذوره الأولى، كان إحساسه هذا يتفجر مثل عاشق تأخذه نوبة رومانسية من أجل رؤية المعشوق فيطير قلبه فرحا بجناحي عاشق، وينسى عمله وعالمه في لندن وديانا صديقته، كأنه بسفره هذا يعيد الحياة لروحه، يستمد نبضاً جديداً لها من أرض أسلافه ليواصل أيامه في مدن العالم. بعد أن خطى خطواته مسرعاً باتجاه حافلة نقل الراكب من أمام باب الجريدة، إذ لا حقائب ثقيلة أو كثيرة، مسافرٌ مثل أغلب شباب جيله في ذلك الوقت، لا يحمل سوى حقيبته في كـتفه من القماش البني، ركب الحافلة إلى مطار لندن، بينما كانت صديقته البريطانية ديانا، تترقب قدومه في صالة الانتظار، لتكون هي آخر مَن يراه في لندن قبل سفره، لم ينتبه لمكان انتظارها واقفة عند بوابة دخول المسافرين إلى المطار في أزدحام المارة منها، ولم يكن قلقها يمنحنها فرصة الجلوس، لوّحت له بإحساسها قبل حركة يدها، التفتَ إليها وعيناه تلمعان وسط بشرته الخمرية، كان مبهوراً بها، وبلهفتها عليه وهي تهاجم إحساسه قبل أن يرى يدها مرتفعة بالإشارة له، غيّر من حركة خطواته وعطف بجسمه نحوها، اسرع نحوها بلهفته وشغفه للسفر، كاد يركض نحوها بشعور غير ما أعتاد عليه معها، فلم تكن سوى صديقة وليست حبيبة، انساق لها تماماً كأنه يعشقها، قبّلته فاحتضنها، لم تقل شيئا وهو كذلك، ابتسم لها ملء وجهه كما الشمس تشرق ملء سماءٍ صافية. لم يمضِ الوقت إلا دقائق معدودة حتى مرّر جوازه أمام رجل المطار، ليختم فيه مغادرته، ولينتقل بخطوة واحدة من شغفه فوق السحاب والغمام وهو يستقل الطائرة إلى مكان جلوسه على أجنحة اللهفة، الى جلوسه في مقعده وعينه على ديانا وفرط مشاعرها هي إليه أيضا، فيما جزء من شغفه مازال ينبض بالحنين إلى مدينته، فأمضى وقت رحلته جالساً ينظر إلى الغيوم من نافذة الطائرة القريبة من وجهه المُبستم البشوش، وفي نفسه شيء من لهفة ديانا عليه هذه المرة على غير المتعاد منها طوال صداقتهما منذ سنيتن:(إحساس ديانا يختلف! لم يكن إحساسها هذه المرّة مجرد مشاعر صداقة، كما أنا لم أكن بهذه اللهفة عليها مِن قبلُ، كثيرا ما أوصلتني إلى المطار قبل هذه، كثيرا ما سافرنا سوية خلال أيام هذه السنة، أو في المكتبة حيث نلتقي وحواراتنا فيها، أنها نقية و "رويْحة حلال")، فتظلّ ديانا تعشْعش في خياله، فيما أخذ ولدٌ مشاكس مع أمّه في المقعد المجاور له، يُومضُ ببريق كاميرته بوجهه كلما التفتَ إليهما، فتعتذر الأمّ عن فعل ولدها، أنه يودّ اللعب بكاميرا الهاتف المحمول، في المرة الثالثة ابتسم بوجه الولد وسأله بهدوء وود لمَ تفعل هذا؟ كان جواب الولد أكبر من صغر سنه الذي قارب الست سنوات، : (إنت تشبه الممثل الهندي سلمان خان، إلا أن عينيكَ أوسع وأجمل ولهما لمعان أكثر، ثم أني كنتُ التقط صورا لكَ وليس للعب كما قالتْ أمي)، شكر الولد المشاكس بفرح غامر:( أنت أجمل وأرق أيها الفنان الصغير)، رجع إلى نافذته وغيومها تمرّ بوجه ديانا وهي تقبله بتلك اللهفة حركة وسط المسافرين من المطار، حتى غفى وهو يحلم أنها معه في المقعد المجاور على متن الطائرة..، ثم أمسى في مطار بغداد، حزم شجاعته وزم يده على حقيبته الوحيدة وخرج بسيارة أجرة من مطار بغداد إلى "علاوي الحلة ".
الفصل الثالث """ مدن الطين .. """ كانت تلف سماءَ بغداد راياتُ السواد في مساء وصوله لها، أخرج كامرته من حقيبته، وأخذ يلتقط بعض الصور للمارة والرايات المنصوبة على أعمدة الكهرباء الطويلة، على مقربة من مصابيحها الوهّاجة، في حين بعضُ الرايات أحتلتْ مكاناً لها فوق الجسر لتحلق في الهواء، هبط من التاكسي بسلام وقلبه جذلاً يطير حين دخل "كراج العلاوي" وفي نفسه مسرّة خاصة، جذب سمعه ونفسه صوت مميز في ذاكرته السمعية، صوت سائق يردد باستمرار على خط سيره :( هله بزوار أبو السجاد)، ميّز الصوت عن قرب وتذكره: (أنه السائق أبو عمار)، حينها تنبّه أبو عمار إلى الشاب الذي صار قرب باب سيارته، تحرّك صوبه وضع يده فوق حاجبيه الكثيفين ليمنع ضوء مصابيح سيارته عن التأثير على عينيه، أقترب منه أكثر سأله أبو عمار بنبرة الواثق من الجواب : - أنت محمد ؟ - نعم ، مشتاقين - نحن الأشوق، أصعد .. أصعد ، بقي راكب ونمشي إلى إهـلـنـا. جلس في مقعدٍ داخل جوف السيارة الذي يشبه مغارة باردة مظلمة ولها كراسي للجلوس، فيما ظلّ أبو عمار يواصل حراكه في برد الكراج ويردد(واحد ونطلع)، وهو يلّف رأسه بيشماغه الفراتي الابيض والاسود، وبخفّة حركة يديه السريعتين في لف يشماغه حول رأسه، ليتّقي برد أول الشتاء في أمسية بانت أنها تشبه فريزر ثلاجة كبيرة بحجم الكرة الارضية، يفرش جناحيها في سماء بغداد ليصل البرد إلى أعماق أرضها، ذهب أبو عمار صوب عربة الشاي وهو ينادي (واحد ونطلع)، ويداه مستمرتان بالحركة يفركهما أمام فمه وهو ينفخ فيهما بعض زفيره الدافئ، حتى لم يظهر منه سوى وجهه الفراتي الأسمر بتجاعيد رسمتها الأيام بدقّة، فيمدّ يديه إلى السماور الفضي اللون ينفخ دخانه من فمه إلى سماء عربة الشاي المغطاة بشيء من الكارتون الخشن، مد السائق يديه وهو يردد دون قصد (واحد ونطلع)،أخذ بإحدى يديه استكان الشاي سريعا من يد الشاب صاحب العربة، وأرتشف نصفه من ماعون الشاي الصغير، ويده ترتجف بردا وضعفا في قلّة حيلة منه وهو يواصل عمله سائقا بعد سبعين عجافا مرّت وهو سائق ويعيل أسرته الكبيرة، عمله هذا الذي غدا شاقاً على رجل مُسن بمثل عمره، قبل أن يكمل استكانه ربتَ على كتفه من الخلف أحدُ الركاب ممازحا إياه : ( واحد وتطلع ؟! أين يركب هذا الواحد فوق السماور أم في بطن عربة الشاي)، التفتَ أبو عمار إليه ضاحكا، وببداهة مَن اعتاد المزاح في عمله هذا لسنوات طويلة (لا يخوي على راسي والله)، ضحك الجمع المُلتف حول عربة الشاي. وصل غرفته الأثيرة عند بيت عمه الوحيد، التي تشبه تصميم غرفته في شقة والده اللندنية، بديكورها الورقي وصورها من الارث الحضاري للعراق، جلس يدوّن تفاصيل لحظاته في "دفتره السومري" الذي اعتاد ان يسميه هكذا، حين يختلي بنفسه ليدوّن مذكراته التي تتزود منها روحه، وهو في برد لندن، فيحسُ بدفء عجيب، ويتساءل هناك :(أ يعقل للوطن كل هذا السحر ) . أخذه الزقاق في صباح يوم مشمس من صباحات شتاء عراقي النكهة، بين ذكريات أبيه وحكاياته عن المدينة التي لم تغفُ يوما بين طيات نسيانه في هدوء أو صخب لندن، أو تأخذها لحظات سباتٍ في برد تلك الحاضرة وضبابها، كان الزقاق المنقوش بطيبة أهله في ذاكرة الأجيال، كان أبيه يقص عليه تلك الحكايات والمكان الذي يبدأ من خلف "مدرسة دجلة" ثم يمر بـ"حسينية فيروز" باتجاه المرقد الوحيد، الذي تربع على عرش حكايات أبيه، وزميله الاستاذ كاظم، وهما يمران به، حين كان شرطي الأمن يتابع أستاذ كاظم لكثرة كلامه عن ضرورة أن يكون الإنسان مع الفقراء والكادحين لا مع الحكومات والانظمة، فـلا يتصدق عليهم بل عليه أن يبحث ويعمل لكي يمنحهم حقهم، فالحل الجذري للمشكلة هو أن يتم كل شيء بقانون، فيضرب مثلا بجوهر قانون الإصلاح الزراعي وحقوق فقراء الفلاحين فيه، فيما كان تلاميذ أستاذ كاظم من أبناء الفقراء والكادحين ومتوسطي الدخل، يأخذون كلامه هذا على محمل اليقين، فيهرعون إلى الدراجات الهوائية القليلة لزملائهم أبناء الأغنياء، ليعبثوا بها كونهم لا يملكون مثلها، وعلى قلّة الدرجات الهوائية في المدرسة، وقع أحد التلاميذ الفقراء بيد مدير المدرسة، كان التلميذ يفك مكبس هواء إطار درجة هوائية لزميل له، يحاول إفراغها من الهواء، لكي يمشي زميله صاحب الدراجة على قدميه مثلهم من المدرسة إلى البيت، سأله المدير لمَ تفعل هذا؟ أجابه بـ(المعلم قال)، عندها نصحه بصفعة من يساره ثم أهمله، وعند مرورنا مِن هذا الزقاق حينها كان شرطي الأمن الغريب عنّا، والذي تم نقله حديثا إلى المدينة، لعدم وجود شخص يرغب بهذه الوظيفة من أبناء المدينة أو عشائرها المحيطة بها، كان شرطي الأمن ذاك مسموما بنظره وسمعه، يمشي وراءنا دائما بخطوات ليسترق السمع بسبب كثرة انتقاد الأستاذ كاظم للحكومة كما كان يتندر بفكاهته المعهودة على الجبهة الوطنية فيقول :(جبحة وطنية، طركاعة هاي موش جبهة وطنية..)، فكانت تغرد العصافير في مخيلة أبيه استاذ عزيز السومري، الذي يواصل قوله أضحت جميع بيوت الزقاق المطلة بالحياة تضحك بوجهينا بحبور انا واستاذ كاظم، بيوت الفقراء والأغنياء على حد سواء، فرح الصبية وفي عيونهم وسلامهم مرح الطفولة، وهم يودّون اللعب فيتركونه بسبب مرورنا، وجوه الناس المُستبشرة التي كانت مثل قلوبهم نقية ولسانهم لا يعرف غير قول الخير والمحبة، تحية كل مَن يرانا بغبطة وبسرور، وقصديّة تلك المرأة التي لم نرَ وجهها يوما، وهي ترمي من باب بيتها الماءَ على شرطي الأمن خلفنا، برمية صائبة من قدرها على وجهه، لنلتفتَ على صوته(عمه العماج) وهو يمسح وجهه ثم نراه يدير ظهره لنا، ويذهب مِن حيث أتى، لنواصل نحن طريقنا إلى "مقهى البرغوثي"، كان كلام وذكريات أبيه عن الناس والمدينة والعراق والحضارة والانسان، يُزيد من شوقه لمعرفة كل كبيرة وصغيرة في حياة العراقيين حبا بوطنه والناس، فيعودمحمد مخاطبا أباه، في ذاكرته وهو يتأمل صورة له حضرت في ذهنه قائلا :(لا أعرف يا أبي اليوم مَن هو شرطي الأمن الجديد بعد غربة لندن، ربما لا يعيرني اهتماما، حتى لو أعدّتُ كلام أستاذ كاظم حول علاج مشكلة الفقر، الذي كنتَ توافقه أنت الرأي، حتى لو أعدتُ كلامه وزدتُ عليه طنانا من الكلام عن ضرورة فرصة عمل للكادحين وحملت الشهادات التعلمية اليوم، فأحزابهم نهشت مؤسسات الدولة بالفساد كما نهشت عقول الناس باسم الدين تارة وباسم الوطن تارة أخرى، وحتى لو قلتُ عن نهب اغلب الحاكمين للثروات الوطنية، وتكلمتُ عن كذب المؤسسات الدينية على كثرتها من الشمال الى الجنوب، وأثر الاحتلالات التي حطت على العراق في لحظة واحدة بسبب حماقات الصنم الاوحد، فالجميع يتكلم بهذا وأكثر..). تنبّه السومري محمد عزيز إلى دعوة طفل:( جاي أبو السجاد) وقد أخرجه الطفل من حواره مع نفسه، جذبه إليه بصوته الطفولي، وإلحاحه بتكرار قوله مع حركة يده الصغيرة تجذب طرف ملابسه بقوة تشبه إلحاحه، فأجابه إلى منضدته الصغيرة من الخشب متوّجة بأقداح الشاي وبعض الكعك، والى جانبها إبريق الشاي "القوري"، كان زملائه الاطفال قد توهّجوا حول المنضدة الصغيرة، بينما ذهب زميلهم بذات الإلحاح الى امرأة، ممسكًا بطرف عباءتها لجذبها حيث الشاي والأطفال، كانت أصواتهم الندية بالطفولة قرب "حُسينية فيروز" فيها رجولة مبكرة، كانت براعم تفتح على الحياة والعمل الجماعي الطوعي حول مناضدهم الصغيرة بلا منع أو مراقبة أو توجيه، تجدها من جهة شارع " أمّ عيّاش"، أو غيره من الأزقة والشوارع المتبقية وهي تحيط بمرقد القاسم بن موسى الكاظم، غادرهم وهو يجد الخطى واللهفة في الزقاق باتجاه مركز المدنية حيث المرقد. تجاوز السومري الزقاق والحكايات التي علقت برأسه، وأصوات البراعم الندية، حين أشرقت قبة المرقد الذهبية تطل على حركة الناس، ولهفة بعض الناس إليه في تقديم الطعام من مواكبهم الحسينية، المدينة تعج بالزوّار المارين مشيّا فيما كان بعضهم يبدو بلا ملامح، فلا هو حزين ولا هو مسرور بخدمة أهل المدنية له أو تمسكهم به ومَن معه للمبيت، بكل حفاوة وترحيب، لقد كان أهل المدنية يرحبون بجموع البشر الراجلة من جنسيات مختلفة تمر بهم يوميا من أقصى الجنوب إلى كربلاء وقت الزيارة الأربعينية، كانت المدنية مثلها مثل مدن الطين والعشق الأخرى، تمزج كل شيء بالعشق وعزة النفس والإباء والتحدي والكرم، صار هو في قلب المدينة، يمشي وسط الحشود التي أخذته صوب "موكب الزعيجي" حيث رسمي الزعيجي الذي يعمل يديه في سيخ الكباب، فسألـه محمد السومري واستكان الشاي بيده بعد أن منحه إياه أحد الأطفال واختفى بين الناس المارة من أمام منقلة الموكب، سأله بعد أن رأى الناس تسعى لهدف واحد هو خدمة زوار الإمام الحسين، كان سؤاله :(هل للجميع أن يفهم الحسين ثورة على الأنانية التي تسبب ظلما للآخرين؟) فيما كانت المدنية تتشح بسواد الرايات كُتب عليها "يا حسين"، تخفق فوق كل مكان مرتفع، أنزل عينيه عنها إلى رسمي الزعيجي، الذي صار منشغلاً أكثر بسبب كثرة الزوّار والدخان يعبّ لحيته التي زحف الشيب فيها، وبقايا صوت شباب في داخله يبقي على سواد بعضها، وسط احمرار وجهه وهو يغمض عينا ويفتح أخرى بسبب دخان المنقلة. ، فيما كان محمد السومري يرتشف شايه وينتظر إجابة رسمي الزعيجي حين أخذ يمسح عينيه ووجه بقطعة قماش نظيفة، فأجابه بنعم وأكمل - الناس اليوم بدأت تفهم هذا خاصة الشباب، وربما يتعجب المرء ممَن كان مظلوما وصار ظالما، فأنا سُجنتُ في الاستخبارات العسكرية مدة ستة أشهر وقت النظام السابق، فوجدتُ هناك أناس مظلومة بكثرة، ولكن ما أن خرجوا من السجن وعادوا إلى الوحدة العسكرية، فبعضهم الذي كان مظلوما، قام بظلم الآخرين من الفقراء، ومحدودي التفكير، شاهد كلامي الآن، هذه الأحزاب كانت مظلومة والآن حكومتهم تظلم الفقراء في التعليم، تهدم المدارس وتتركها، قاطعهما رجل من الزوّار دون سابق معرفة بهما، تداخل بالحديث معهم بحدّة وانفعال، كان رجلا مسننا، وله لحية بيضاء خفيفة بعض الشيء، فكانت لحيته والغضب على سمرة وجهه التي لفحتها الشمس وهو يقول - العجيب والغريب أن يستمر الظالم بظلمه ونهبه وهو ممسك بمقاليد الحكم على الناس، ويدعي أنه يعيش مظلومية الحسين كما تفعل الأحزاب الدينية الحاكمة الآن، بل حتى رئيس الجمهورية يخرج على التلفاز ويعزّي الشعب العراقي باستشهاد الحسين، ومثله رئيس البرلمان وأمثالهما لا حصر لهما، وجميعهم ينهبون ثروات البلاد، تاركين نصف الشعب يعيش تحت خط الفقر في أغنى بلاد العالم، ثم التفتَ عنهما إلى صاحب المنقلة في الموكب، وقال بالانفعال ذاته :(مشيني صار ساعة منتظرك واني زاير)، حينها سارع رسمي إلى خلف المنقلة، وقد وضع له في كيس بعض الكباب الملفوف بالخبز الحار، وقدّمه له ملفوفا بقوله:(تفضل عمي بخدمتك)، تناول الرجل المسن الكيس وغاب وسط حركة الناس وازدحامهم باتجاه كربلاء، لقد كان رسمي الزعيجي منطلقا في موكبه بإخلاص من رؤاه أن الحسين ثورة على الظلم، وثبات على الموقف، وبناء في الحياة، ورحمه للأنسان والانسانية.. فالتقط له محمد السومري بعض الصور دوْن دراية منه، وهو واقف خلف منقلة أمام موكبه ، والجمر يتوهج ثورة مثل روحه ...
#مؤيد_عليوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التميع والتطبيع
-
شعر كزار حنتوش ومرجعية الجمال في قصيدته - قصائد رسمية - إنمو
...
-
أخرُ عشاءٍ للشاعر تأبط شرا في بغداد
-
تقنية السارد بين الراوي العليم والرواي الثانوي في رواية -رما
...
-
أخرُ عشاءٍ لتأبط شرا في بغداد
-
في 2021
-
قصة قصيرة - ضوءٌ منتفض -
-
جماليات إيقاع التقابل في -تحوّلات- / الشاعر عبد المنعم القري
...
-
سقوط
-
سيرة نضال نجفيّة في قصيدة -خطى على ضفاف- *
-
فنيّة اليوميات ولغتها في ولهِ الشاعر عمر السراي
-
فنيّة القافية عند الشاعر د. وليد جاسم الزبيدي / ديوان -أناشي
...
-
التضاد المكاني في قصيدة -الملوك - لكريم جخيور
-
لا اشبهكَ
-
همس الايقاع الداخلي في مكان قصيدة - شهرزاد - لرسمية محيبس *
-
طفولة بنات الشوارع في فنية السرد القصصي ل-هي لا تشكو.. الى م
...
-
ما يخبئه النص في جيب المكان لديوان - ثمّة قلق- عماد الحيدري
-
ولادتي
-
فنيّة القافية والسكون في قصيدة -أرقص معي -
-
فضاء النص / الشارع في قصص -ضفاف النيل - *
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|