أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود (سرادق العشق ويليه رباعيّات في الحبّ الإلهيّ)















المزيد.....



الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود (سرادق العشق ويليه رباعيّات في الحبّ الإلهيّ)


أسماء غريب

الحوار المتمدن-العدد: 7465 - 2022 / 12 / 17 - 11:48
المحور: الادب والفن
    


هذا ديوان شِعريّ توقّفتُ عنده باللّغة العربيّة لأكثر من مرّة، وكتبتُ فيه أكثر من مقالة، وأصدرتُ بشأنه كتاباً نقديّاً بعنوان (في الحانة مع هيثم المحمود / قراءات عرفانيّة في ديوانه (سرادق العشق)) ، لكن مازالتْ هناكَ أشياء عالقة تستدعي منّي الرّجوع إليه والحفر فيه بأكثر من إزميل، وحينما أقول الحفر، فإنّني أعني هنا وقوفي عنده بإزميل التّرجمة والتّعليق والشّرح لمفاهيم لم أفض في الحديث عنها في دراساتي السّابقات. وعملي هذا سيكون باللّغة الإيطاليّة، وذلك لإيماني ويقيني أنّ الكثير من الكنوز لا يُمكن لنصّ أن يفصح عنها إلّا من خلال العمل التّرجميّ الّذي كثيراً ما يفتحُ أمام المُتَرجِم أبواب أخرى للغوص والسّفر في فراديس لم يسبق لأحد أن اكتشفها قبله. وهذا ما سيظهر لكَ سريعاً عزيزي القارئ ومنذ النصّ الأول بحيث ولا شكّ ستلاحظ كيف أنّني في النّسخة الإيطاليّة، استخدمتُ من أجل ترجمة كلمة (خرقة)، مصطلح (mantella)، ومصطلح (tabarro) لترجمة كلمة (دثار). وهما في اللّغة الإيطالية من المرادفات، أيْ أنّ الكلمة يمكن أن تستخدم بدلاً من الأخرى وتعطي المعنى نفسه. لكنهما ليستَا كذلك في اللّغة العربيّة ولذا توجّب أن أتدخّل لأشرح للقارئ الإيطاليّ والمستعرب الفرق بينهما لتكتمل لديه المعاني. لكن السؤال الّذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا استخدم هيثم الخرقة والدثار؟ عليك أن تعرف أنّ شاعرنا درويش، وهو يعلم جيّداً لماذا يستخدم مصطلحًا دونًا عن آخر. والخرقة كما يعلم أهل الطّريق هي رداء يُلبِسُه الشّيخُ للمريد كعلامة للتسليم والتفويض ونقل للحكمة والبركة. أمّا كلمة "دثار"، فهي تجد صوتاً وأثراً لها في سورة "المدثّر"، وقد اتّفق معظم الشّراح على أنّ هذا "المدثّر" هو نبيّ الرّحمة محمّد (ص). لكنّ هل صفة التدثّر هذه هي نفسها الظّاهرة في نصّ هيثم؟ وسؤالنا هنا موجّه لأهل الأسرار، ونحن نجيب عنه ونقول، إنّ محمّداً هو ناقل للوحي، وجسر بين الله وعبده، وهذا يعني أنّ الرّسالة هي موجّهة بالأساس إلى الإنسان في كلّيته وشموليّته، وعليه فإنّ هذا المدثّر هو كلّ إنسان، وهو كذلك لأنّ الدّثار هو الجسد الّذي يحجب الشّخصَ ويمنع روحه من بلوغ أقصى درجات الحريّة المتمثّلة في لبس خرقة التّواضع الّتي لا يمكن أن يسلّمها أيّ شيخ لمريده، لأنّها شأن المريد الدّاخلي، ولا علاقة للشّيخ بها أبداً لأنّه لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال أن يمنعه من أن يصرخ كما صرخ الحلّاج وقال: "أنا الحقّ"، لأنّ هذه الصّرخة قد تكون ذنباً عظيمًا، يعني الانبهار والتعجّب من بلوغ درجات قصوى من الكرامات والفضائل والنّعَم. وكل من يسير في هذا الاتجاه يصبح وجهه أسود اللّون من فرط الإعجاب بنفسه المُعبَّر عنه في نصّ هيثم بحبّ الحياة. وهذا يجد أثراً له في حديثه صلّى عليه وسلّم حينما قال: "لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العُجْب، العُجبُ". لذا فالذّات الشّاعرة في نصّ هيثم تسعى إلى أن تُظهر كيف أنه لا يكفي أن تلبس خرقة العرفاء وتقول (أنا الحقّ)، وإنّما العبرة في أن تبلغ مقام التّواضع والتسليم والانكسار، بحيث تُخلّص قلبكَ من اضطرابه، ومن كِبره وغروره، حتّى تستطيع بذلكَ أن ترفع النّقاب عن وجه الحبيب، وهذا ما عبّرتُ عنه قائلةً في قصيدة قديمة جدّاً كنتُ قد نشرتها في ديواني (مقام الخمس عشرة سجدة) :
((قال: "لا شأنَ لك بالحَلاج وأهله"
قلتُ: "لمَاذا؟"
قال: "قيل عنه قُتل لأنّه باح بالسرّ"
قلت: "أهُناك سبب غير هذا؟"
قال: "مَات كَما هُو أراد لنفسِه"
قُلت: "أوَ يُمكن للمرء أن يختار على أيّة حال يموت؟"
قال: "كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت
وكلّ امرئ يَمُوت على ما عَاش عليه
ويُبْعث على ما مات عليه
وأنا لستُ منْ أهوى ومنْ أهوى أنا
لا أحُلّ في أحد ولا يحُلّ في أحد
يحترقُ الإنسان إن أنا فعلتُ ذلك
أنا من لا ألدُ ولا أولد
من لا كُفؤ له ومن لا شيء مِثله
ولستُ بسرّ ولا بسرّ سرّ
وليسَ لي خاصّة ولا خاصّة خاصّة
لي أولياء، ولي أصفياء
لي عشّاق ومحبّون، وأصحاب أوفياء
ولي مجَانين وفقراءٌ لا يَسْتطْعمون ثراءً
إلّا بذكْر اسمي وفي القُرب منّي
فلا تُقوّلوني ما لمْ أقله في كتابٍ ظاهرٍ أو باطن.
كُلكُم شأني وكلّكُم سرّي وكلّكم خاصّتي
وأنا بينكمُ وفوقكمُ وتحتكمُ ومحيطٌ بكمُ
فلا تفرّقوا بينَ عبَادي ولا تستعْلوا عليْهم
واقتربُوا منّي اليومَ جَميعكُم
وادخلوا مقامَ محبّتي لكم
مقام الخمْس عشرة سجْدة".)).
وبالعودة إلى المدثّر، فهو لا يُمكنهُ أن يكون بأيّ شكل من الأشكال محمّداً الّذي قال فيه الحقُّ (فإنّكَ بأعيْنِنا) ، إذ كيف يعقلُ أن يكون النّبيُّ محتجباً بجسده، وهو من يصلّي اللهُ ويسلّمُ عليه آمراً الخلق جميعاً بفعل الشّيء ذاته! بل كيف يكون مدَّثِّراً وهو من قال فيه ربّ العزّة وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم؟! أمّا أولئكَ الّذين يُبرّرون صفة التدثّر وينسبونها له باعتباره كان يشعر في لحظات الوحي بالبرد الشديد، ويتصفّد من العرق ويغيب عن الوعي وما إلى ذلك، فإنّنا ندعوهم للتفكّر في السورة قليلاً، فلربّما يشعر أحدهم بالخجل شيئاً ما وهو يقرأ (وثيابكَ فطهّر) وينسبُ في الشّروح والتّفاسير حتّى النّجاسة للنبيّ! هذا ولا شكّ أمر فيه مقال وإعادة نظر، ولا تلوموا البعض من المستعربين والمستشرقين إذا ما وجدتموهم يصفون الرّسول في كتبهم بالممسوس والمصروع، فما أتوا بشيء من عندهم، بل كلّ شيء مسطور في كتب التّفاسير القديمة، الّتي أعتقد أنّه حان الأوان لغربلتها من كلّ ما يُسيء إلى صورة النّبيّ، مصدر الأرواح كلّها، وصاحب النبوّة قبل وجود الأنبياء كلّهم.
في النصّ السّابق (القلب المُضطرب)، كنتُ قد تطرّقتُ إلى مسألة احتجاب العارف عن وجه المحبوب مستندة في هذا على الصّورة التي رسمها هيثم المحمود والمتمثّلة في سواد وجه من يرتدي الخرقة والدثار معاً ويصرخ (أنا الحقّ). وهي الصّرخة الّتي لا تُسْقطُ عن صاحبها صفة العارف وإنّما - على عكس المتوقّع تماماً - تفضحُ زيف عرفانه، بالضّبط كما حدث لفرعون وهو في حضرة موسى حينما صرخ هو الآخر قائلاً: (أنا ربّكم الأعلى) . وفرعون لمن يجهل هويّته، عارفٌ يشبه كثيراً النّموذج الّذي وصفه لنا هيثم في نصّه، لأنّه وإن ارتدى الخرقة فاته أن يتنازل عن الدّثار، أيْ أن يستغني عن جسده المادّي الحاجب للفيوضات الحقّة، وذلك لأنه حينما قطع بالعلم والحكمة صحراء الصّفات والأفعال رأى في نفسه ما يذهل العقل ويذهبهُ فانتحل صفة الرّبوبيّة وتفرعنَ ونسبَ الألوهيّة لنفسه فكان من المُحتجبين بالأنا. أقول هذا وأدعوكَ لتتأمّل معي البيت الأوّل للنصّ الثّاني والّذي يقول فيه هيثم: (أغلق البقّالُ دكّانه الصّغير). لاحظ جيّداً كيف أن الشّاعر استخدم مصطلح "البقّال"، ولم يقُل "التّاجر" أو "البائع"مثلاً، ولمن يسأل عن السّبب، فإنّني أوجّهه للسّورة الوحيدة الّتي ظهر فيها أصل كلمة "البقّال"، وهي سورة البقرة والتي في الآية 61 منها يقول ربّ العزّة: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)). البقل إذن هو ما تُنبتهُ الأرض، والأرضُ هنا هي الجسد، والجسد في نصّ هيثم هو (الدّكّان)، والبقّال هو من كان يأكل من بقل أرضه وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، أيْ ممّا تنبته النّفس من اللذّات الحسيّة والشّهوات. إذن نحن هنا أمام عارف انتبه لاحتجابه بدثار الجسد فقرّر أن يستيقظ من غفلته ويخرج من أرض مصر السّفلى (الدكّان) ثمّ يصعد إلى مصر العليا (الحانة)، أيْ إلى الأرض الّتي استسقى فيها موسى القلب ربّه وطلب هطول أمطار العلم اللّدنيّ والحكمة الإلهيّة من سماء الرّوح. بهذا يكون نموذج العارف الهيثميّ قد غادر ظلمانيّة مقام (أنا الحقّ)، ودخل إلى شعشعانية حانة العشّاق ليتنافس ويتطلّع معهم إلى رؤية وجه الحبيب، والّتي لا يُمكنها أن تتحقّق إلّا بسقوط الكأس من يد السّاقي كما يقول هيثم في البيت الثّاني (سقطتِ الكأسُ من يد السّاقي)، وهو السّقوط المرادف ليد موسى وهي تضربُ بعصا النّفس حجر العقل لتفجّرَ منهُ العلوم اللّدنيّة.
وفي نصّ (دلال الحبيب) أجدني أمام تحدّييْن الأوّل لغويّ إيديولوجيّ، والثّاني تأويليّ تشويقيّ. الأوّل له علاقة باستخدام هيثم لمصطلح (المحفل)، وهو مصطلح دقيق وشائك نوعًا ما وحمّال لعدّة أوجه، ولا أريد بأيّ شكل من الأشكال أن أدخل به في متاهات تفسيريّة دينيّة أو انتمائيّة لأيّة إيديولوجيّة كيفما كان نوعها، لا سيما وأنّ المعاجم اللّغويّة الإيطاليّة والعربيّة تضجُّ بهذا النّوع من الإحالات، ولكنّي سأحرصُ كلّ الحرص على أن أجد لهُ المصطلح المناسب الّذي يحفظ له نقاء المعنى وطهره، ولا أجد خيراً من كلمة (cerchio)، وقد اخترتها لسبب وجيه وجدتُ ما يُبيحهُ ويُجيزه في كلمة (المعبد / tempio) الّتي ذكرها الشّاعر في قصيدة (روضة المحبوب). أمّا التحدّي الثّاني فهو يكمنُ في التمسّكِ للّحظة بمسألة عدم الإفصاح عن هويّة المحبوب الّذي ذكره هيثم لأكثر من مرّة منذ نصوص ديوانه الأولى، لأنّني أعتقد أنّه من الأفضل أن يتمّ هذا الإفصاح لوحده وبشكل عفويّ تفرضه تدفّقات المعاني والطّريقة التّسلسليّة الّتي اتبعها الشّاعر في نسج نصوصه. وعليه، فإنّ هذا النصّ الّذي بين أيدينا الآن، هو مرتبط بالنصّيْن السّابقيْن عبر وحدة زمنيّة وأخرى مكانيّة وثالثة نفسيّة وروحيّة. أيْ أنّ هيثم بدأ من حيثُ انتهى الوعي الجماعي الأوّل في قضايا العرفان والتصوّف، وطوى كلّ شيء، وأعلنَ عن بداية عهدٍ حروفيّ جديد يرنو من خلاله إلى غربلة العديد من المفاهيم المستهلكة، وعليه فإنّه يظهر لنا كيف أن صفة العرفانيّة لا تنفي عن صاحبها أبداً الوقوع في المحظور كما حدث لكلّ من نازع الله في كبريائه وعزّته، وإبليس أوّلهم وهو العارف الّذي أخرجه زهوه وغروره من رحمة الله وإلّا فما معنى قوله تعالى: ((العِزُّ إِزاري، والكِبْرياءُ رِدَائِي، فَمَنْ يُنَازعُني في واحدٍ منهُما فقَدْ عذَّبتُه))؟!. وهيثم المحمود في كتابه هذا يطوي كلّ ما فات، ويتجاوز كلّ ما خُطّ في الكتب قديمها وحديثها من تبجيل للعديد من أقطاب العرفان في شتّى الديانات والملل، ويرسم طريقًا جديداً للخلاص، يخرجُ بصاحبه من سواد الوجه، ويدفعه دفعاً إلى غسل الدّثار ومغادرة الدكّان، ثمّ الدخول إلى الحانة أيْ إلى المحفل، الّذي يعني دائرة الوقت الّتي تتمُّ فيها هذه التّجربة الرّوحيّة العجيبة. ومن المحفل يتمُّ العبور إلى المعبد أو الفضاء المكانيّ الكونيّ للعارف، ثمّ بعد ذلك الدّخول إلى مكان قيام السّاعة الكبرى المرموز له بروضة الزّمان المذكورة في نصّ هيثم الخامس (روضة المحبوب). والوقت عند العارف الّذي يرمي وراءه ماضي الزّيف والاحتجاب، ليس هو الزّمان ولا الساعة، والمحفل ليس هو المعبد ولا الرّوضة، وكلّ مصطلح له معنى خاص مرتبط بدرجات تطوّر الوعي الرّوحاني الجديد، وتحقّق اليقظة الكبرى كما يظهر في الرّسوم التّخطيطيّة التّالية:

(هنا صور الرّسوم التّخطيطية)
بعد أن كانت الكأس قد ظهرت في نصّ (تنافس العشّاق) بدون شكل أو مفتاح يدلّنا على ما تحويه من كنوز غير تلك الّتي فجّرتُ في الشّروح الأولى، هاهي الآن تظهر بكلّ جاهها وملكوتها وسلطانها في نصّ (موسم الخمر)، فنعلم من هيثم أنّها (كأس دهاق)، وتلمع أمام أعيننا سورة (النّبأ)، وتبدأ شفاهنا تردّدُ: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ))، ويظهرُ هذا النّبأ العظيم بصورته الحقّة بين كلمات الشّاعر، لأنّه هو نفسه الحبيب الّذي يتنافس العشاق فيما بينهم من أجل الفوز بطلعته، ساعين إليه راجين إياه بأن يكفّ عن دلاله وغنجه، ويسارع بالتجلّي.
وبالحديث عن هؤلاء العشّاق وعن أمنياتهم، يحقُّ لي الآن أن أتساءل وإيّاك عن هويّتهم وما علاقة الشّاعر بهم؟ ولربّما تظنّ عزيزي القارئ، أنّهم صحبُ الطّريق الهيثميّ، ولربّما تقول إنّهم أهل المحفل الّذي ينتمي إليه الشّاعر أو الحانة العرفانيّة التي يرتادها، وربّما وربّما وربّما...واسمح لي أن أقول لك، إنّ الشّاعر لا يتحدّث عن نفسه بتاتاً، وإنّما هو هنا واصف لتجربة العشق كيف تكون، وواصف للطريق، ولا تعنيه محافل الأرض كلّها ولا حاناتها على تعدّد ألوانها ومشاربها التصوّفيّة ولا ينتمي إلى أيّة منها، إنّما هو يتحدّث عن حانة واحدة بعينها، وعن كأس واحدة بذاتها، وعن رفقة معيّنين في هيئاتهم وتمثّلاتهم. إنّه يتحدّثُ عن الإنسان في كلّيته وشموليّته، وعمّا يحدث له حينما يسلك طريق السموّ والارتقاء. وهو في اختياره لكلمة (الكأس)، يشعل القنديل، ويضيء الطّريق الّتي تحملكَ إلى معانيه العرفانيّة الحقّة، لتبحث بنفسكَ وتتقصّى أثرَ ما ينثره من لآلئ، فمن يدري فلربّما من سورة النّبأ، تدخل إلى خزانات سورة الإنسان، وتكتشف أن الثّانية تقود إلى الأولى، وأنّ الإنسان السّاعي إلى النّبأ العظيم ليس هو الإنسان الّذي تعرفه أنتَ، ولا الّذي عرّفهُ الفلاسفة والأطبّاء وغيرهم من أهل العلوم الأخرى، وإنّما هو كلّ ما تؤانِسُه عينُكَ وتراه، وهو نفسه فعل الرّؤية الّذي عبّر عنه موسى (ع) بقوله: ((إنّي آنستُ ناراً)) ، أيْ رأيتُها. وعليه يُصبحُ الإنسان الظّاهر في الوجود على أربع تجلّيات، أوّلها الإنسانُ النُّقْطيّ، وثانيها إنسان النّبأ العظيم، وثالثها الإنسانُ الكونيّ، ثمّ رابعها الإنسانُ الأرضيّ.
وإنسانُ النّبأ العظيم عندنا هو خليفة الله على الأرض، أمّا الإنسان الكونيّ فهو كلّ العوالم الكونيّة الّتي ظهرت في الوجود برقم النّقطة ورسمها، ونقش الحرف ونفخه. وإذ تسألني عمّن يكون الإنسانُ الأرضيّ، أقُلْ لكَ إنّه الإنسانُ الحيوان بما في ذلك الإنسانُ الآدميّ، لأنّ هذا الأخير نباتيّ ولاحم مثل الحيوانات بأنعامها وطيورها ووحوشها وسباعها، وإن رأيته بهيئَتكَ يمشي على قدمين، وهو ما سمّاه هيثم في قصائده بالإنسان (البقّال) الّذي لا يتغذّى بعلوم الفكر والذوق والكشف السّليم، كما عادة يفعل إنسانُ النّبأ العظيم، ذاك الّذي حينما آنس نور الرّوح قال ((لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)). وهم هؤلاء الأهل الّذين ما انفكّ يتحدّث عنهم هيثم كلّما ظهرت في أبياته الحانة وساقيها، وهم ليسوا بأهل مكان أرضيّ ما، وإنّما هم رفقة روحيّة، يراهم الإنسان حينما تكتحل عين البصيرة بنور الهدى، أيْ بنور وجه المحبوب الهادي إلى الحقّ، وهو هذا النّور الّذي يدخل من أجله العاشق إلى حانته، ويطلب الكأس من السّاقي، هذه الكأس الّتي ترمزُ إلى القلب العارف، أيْ إلى الزّجاجة أو الكوكب الدرّي الفيّاض بالنّور ساعة التحقّق بالحقائق والطّبائع الّذي لا يمكنه أن يتمّ إلّا عبر الجلوس إلى مائدة العلم اللّدني النّازلة من سماء الرّوح والأخذ بتعاليمها، الأخذ الّذي أشار إليه هيثم حينما قال: ((حين بدأ الرّأس المخمور // يأخذُ تعاليمه من السّاقي)).
إذن نحن هنا، أمام عارف مزّق خرقته ودثاره، ودخل إلى حانته الجوّانيّة لحظة تحقّق القيامة الكبرى، فحدث له الاطّلاع على رفقته المشار إليها في قوله تعالى: ((وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ)) . وهي الذرّية المتجسّدة من خلال صور العشقيّات والمعارف والعلوم المنبعثة من النّور الجبروتي المنكشف في حضرة الصّفات. ولو كان هيثم يعني في هذه النّصوص الأولى الكشفَ بحضرة الأفعال لظهر فيها ما يفيد ذلك، أيْ لظهرتِ الحور العين بدلا من الولد أو الغلام السّاقي. على أنّ هذا لا يمنع من القول بأنّه يوجد في قصائد هيثم الكثير من العناصر الدالّة على الحضور الأنثوي في مقام الذّكورة الآدميّة الشّريفة، أولاها الكأس والليلة المقمرة، أيْ "القلب - القمر" المنفلق بتأثير نور الرّوح وظهور شمسه من مغرب النّفس السّائرة نحو الشّهود الذّاتي المطلق المتحقّق بالتشوّق لظهور الحبيب الّذي طالما تساءلتَ عنه أيها القارئ، والّذي ما هو سوى مهديّ زمانك وصاحب الوقت فيك وحالك. وهو السّير المُبارك الّذي تجده ضمن هذا الرّسم التّخطيطيّ:
(هنا صورة الرسم التخطيطيّ)
وفي الرّسم لا شكّ ستلاحظ كيف أنّني للدّلالة على الكأس، اخترتُ لها شكلاً طويلاً وضيّقاً من الأسفل، وذلك لأنّ من كان قلبه الرّوحي مستعدًّا لتقبّل هذا النّوع من الفيض، لا بدّ أن تكون كأسه بالشّكل الّذي رسمته لكَ، لأنّ نبيذها لا يكون أحمر اللّون، وإنّما أصفر شفّافًا بلون النّور المتدفّق عليها والفائض منها، أيْ كأساً دهاقاً كما حدّدها هيثم في نصّه، ونورها يكونُ بردًا وسلامًا، لتوهّجه من قلبٍ محكوم بغلبة النسمة الأنثويّة المتمثّلة بتعاقب الفصول ودورانها، وإلّا لما كان الشّاعر أعطى لنصّه عنوان الموسم، ولما افتتح أوّل بيت بفعل (أدِرْ) وذلك ليسلّط الضّوء على معنى الدّوران القلبيّ وفصوله المحكومة بالقمر وبما فيه من معاني الخصوبة والموت والولادة والتجديد.
وما دمنا عن الحانة والسّاقي نتحدّث، فإنّه لا بدّ سيخطر على بالك عنصر السُّكْرِ كيف يحدث؟ دعني أقُلْ لكَ إنّه - على غير المتوقّع - لا يتمُّ من خلال الشُّرب بالشّفاه، وإنّما هو قبل كلّ شيء شرب بالعين، لأنّه حالة بصريّة بصيريّة، وحسيّة شمّيّة، وهذا ما يفسّر كيف أنّني رسمتُ الكأس ضيّقة من الأسفل ومنفرجة من الأعلى حتّى يتسنّى لكَ معاينة تصاعد العطر النّوري وتخيّل سكر الحواسّ بتحقّق المحبّة واستلاء لطف روحانيّتها على جثمانيّة العاشق.
ترتيب النّصوص عند الشّاعر محكوم بتسلسلٍ عرفانيّ خاصٍّ جدّاً، وخاضعٍ لتطوّر معراجيّ مُبْهر، بحيثُ لا يمكنكَ أن تخرج من نصّ وتدّعي أنّكَ أحكمتَ قراءته وأغلقتَ كوّاته وأصدرتَ تأويلاتكَ فيه بشكل نهائيّ أو قاطع؛ انظر في نصّ (روضة المحبوب) مثلاً واحكم بنفسكَ. ستجد معي - ولا شكّ في هذا - أنّنا فقط في ثيمة (السّكر)، لم نقل كلّ شيء، فهاهو هيثم يخرج بنا من الكأس ليباغتنا بالسّطل ويدفعنا للتّساؤل عن معنى هذه الحبكة الملتويّة الّتي تفاجئ المُتلقّي بكلّ ما هو جديد كلّما مضى قدُماً في قراءة قصائد هذا الدّيوان العجيب. وليس هذا فحسب، فلا بدّ ستستفسرُ معي أيضاً عن هذا العارف الّذي يرسم لنا الشّاعرُ طريقَه ويجعلنا متشوّقين إلى معرفة ما يحدث له من نجاحات وإخفاقات، فبعد أن رأينا منذ النصّ الأوّل كيف أُغْلِقتْ بابٌ قديمة، وفُتِحتْ أخرى من أجل تحديد فاصل بين تجربة عرفانيّة "خاطئة"، وأخرى جديدة ترنو إلى التقدّم والتطوّر وتصحيح هنات الماضي وهفواته، وبعد أن رأينا تدرّج القاموس اللّغوي المعراجيّ من خلال استخدام مصطلحات تدلّ على السّير والانتقال من مرحلة إلى أخرى عبر الخروج من الدكّان (الخرقة والدّثار) ثمّ الدّخول إلى الحانة. نجدُ هيثماً هنا يصحبنا إلى مكان جديدٍ ليُوثّقَ أمامنا نوعاً من الانفراج والبسط، فعارفُنا لم يعد محبوسًا في ضيق الدكّان ولا محكوماً أو مُجْبَراً على المكوث في الحانة، إنّه الآن في مكان أوسع وأرحب، إنه في "البادية"، ولا يبحث عن مجرّد كأس دهاق، وإنّما عينه على السّطل القديم بأكمله. وهذا يحدثُ لأنّه أفاق من سكره الدّهاقيّ الأوّل، أيْ سُكْر (أخذ التّعاليم من السّاقي)، والآن هو على عتبة تجربة سُكْرٍ ثانية تنقله من السُّكرِ الإيمانيّ، إلى السُّكْر اليقينيّ الّذي لم يقع بعد. لذا فإنّي أطلب منكَ أن تكون حذراً وأنت تقرأ كلمات هيثم، فالعارفُ الّذي يرسمه لكَ، مازال طفلاً رضيعاً يحبو نحو أبيه الكونيّ، وبادية عليه كلّ علامات الدّهشة والخوف والارتباك. إنّه مازال لم يخبر السُّكْرَ الحقيقيّ، وكلّ حواسّه خربة ولم تبلغ بعدُ فصل الطّرب ولا أدركتْ فصل السّعادة رغم كلّ المحاولات. وهذا يجدُ ما يؤكّده في قول هيثم في قصيدة أخرى (الكأس الواحدة لا تكفي / للجواز إلى دَكّة الخَمّارين / فَفخّ الرّياء، / وخرقة التّزوير، / كلّها تَحجبُ رؤية السّاقي). وربّما تقولُ إنّ هذا لا يمكنُ أن يحدث مادام العارف قد دخل إلى البادية، وعليكَ أعقّبُ وأردُّ: هذه البادية الّتي يتحدّث عنها هيثم هي أرض الله الواسعة، أرض البدن والعبادة الحقّة، لكنّ بلوغها لا يكفي لكي تُسجِّلَ حضوركَ بين يدي الحبيب، إنّها مجرّد بدايات لا أقلّ ولا أكثر، ألمْ تسمع الشّاعر وهو يقول: (بدا لي وميضٌ / من تُراب الباب / ونَسيمٌ / من روضة المحبوب)؟! إننا أمام وميض ونسيم فقط. فلا يغرّنّكَ ما قد يظهر لكَ من النّعيم والمُلْكِ العظيم، فقبلكَ حدث لسليمان (ع)، سُكْرٌ شديد – ربّما لا قبل لكَ بهِ ولا قدرة لك على تحمّله - من مجرّد رؤيته للفردوس ماثلاً حيّاً أمام عينيه فسجد لله حامداً إيّاه وشاكراً له على هذه النّعمة النّادرة الحدوث، ولم يكن يعلم أنّ تلك الصّورة المُسْكِرة والمُثملة صنعها إبليس من أجل فتنته، لكنَّ سجودَه ذاك أنجاه من الهلاك، وجزاه اللهُ بتثبيت الفردوس وإخراجه من حيّز ملكوت الخيال إلى الملكوت الحيّ الواقع، ومضى إبليس خاسئاً مدحوراً مذموماً يجرّ أذيال الخيبة والفشل. هذه صورة بسيطة لنوع من أنواع السُّكْر الّذي يحدّثكَ عنه هيثم، وذلك فقط ليقول لك، إنّ في طريق السّير إلى الله لا يمكن الوقوف عند سُكْر واحد، فلا بدّ من التدرّج والصّعود أكثر فأكثر، ولا بدّ للعارف أن يصبح لديه نوعاً من الخبرة في مراقبة ما يتولّدُ في مخيّلته من الصّور والكشوفات المُسْكِرَة حتّى تتقوّى لديه وتقوم بين يديه وتصبح لها صفة الشّهود الحسّيّ، ويُميّزَ بين العابر منها المقذوفة من إبليس، وبين الثابت منها المُرَسَّخَة من طرف الخالق عز وجلّ.
لا أريد أن أختم الحديث بشأن هذا النّص، دون أن أشير إلى نقطة في غاية الأهمّيّة: إنّ الشّاعر في ديوانه هذا لا يُحاكمُ أبداً بعين الانتقاد "السّلبيّ" تجربة مَن مضى مِن أهل الله، وإنّما هو يفتحُ فقط باباً جديدةً - أزليّة للعروج من ماضٍ قديم، والدّخول في تجربة حيّة، ترنو إلى المزيد من السموّ الحقّيقي، وهذا منهج تربويّ إلهيّ يجد ما يُشرّعه في نصوص القرآن كافّة، ولا أدلّ على ذلك من حديث الحقّ سبحانه وتعالى عن كثير من الأنبياء الأولياء العرفاء الّذين حدث لهم هذا النّوع من النّكوص، ثم ارتقوا بعد سقوط إلى ما هو أعلى وأنقى وأطهر، وهاهو سيّدنا آدم وقد قال فيه عزّ وجلّ ((فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) ، وهذا لا يعني أنّ هبوطه إلى الأرض كان عقاباً له، وإنّما لإبليس على وجه الخصوص والتّحديد، وذلك لأنّ هبوط آدم حدث من أجل أن يتحقّقَ وعد الله بجعل خليفةٍ له على الأرض، أيْ بوصول الإنسان إلى مرتبة النّبأ العظيم، أيْ إلى إنسان المهديّ الكامل. وهذا يعني أنّ هيثماً وهو يرسمُ لنا تجربة العارف الحقّ، تراهُ يرافقه بحنوّ ورحمة وعطف، ويشدُّ من أزره خطوة خطوة، ويريه الحفر والمطبّات والفخاخ المنصوبة له حتّى يتفاداها ويدخل إلى الحانة الحقّة، حيثُ السّطل الكبير، أو رحمُ المعرفة الأصليّة، المتمثّلة بالنّقطة الأولى، صاحبة الفيضِ الأوّل والدّواة الأولى: الأمّ الكبرى، أو النّون المحمّدية الّتي بها ظهر النّور واكتملَ الخلق.
أينما يمطرُ العشقُ، يُزهرُ الشِّعرُ، والشّعرُ في ديوان هيثم هو الرّسالةُ والوحيُ، بل هو القصيدة الأنثى التي تتحرّكُ داخل كلّ عاشق. لذا فالشِّعرُ طوفانٌ عظيم يقتضي الكثيرَ من الحنكة والشّجاعة، ووحدهم الأذكياء أصحاب الهمم العالية يخطون نحوهُ، وهم يعلمون أنّهم يخطون نحو الحريّة. وستُلاحظُ عزيزي القارئ كيف أنّني حدّثتُكَ عن "البادية" عند شاعرنا العرفانيّ، لكنّي لم أقل لكَ بعدُ شيئاً عن "روضة المحبوب"! قلتُ لكَ إنّ "البادية" هي الجسد المعنويّ، باعتباره أرض الله الواسعة، وأرض العبادة الحقّة. والآن حان الوقتُ لأميط اللّثام عن "روضة المحبوب" وأقول لك إنّها عند الشّاعر وعند أهل الله جميعاً، جنّة النّفس المطمئنّة، أو جنّة الوعي الأعلى، هناك حيث كلّ شيء بِكر، ذبّاح برّاق لم يطمثه إنس ولا جان. وما من روح استطاعتْ إظهار الدرّ المكنون فيها كما فعل هيثم إلّا وكُتِبت بين النّاس من ذوات الطّبع المُشَرَّف، صاحبة المقامات العليا، ذات الجاه والسلطان على ممالك العرفان المخصوصة بالشّراب الرّائق الفائض، فسبحان مَنْ مَنّ عليه بهذا الفضل العظيم وأعطاه من جوده محاسن الدرّ النّظيم، وجعل كلامه بين الأنام كالفجر البسّام الّذي يمزّق جلابيب الجهل والظّلام.
أمّا وأنّك تسأل كيف السبيل إلى هذه الجنّة، فإنّي أقول لك: عليك بسورة الفجر، ففيها ستجدُ الحقّ وهو يقول: ((يا أيّتها النّفسُ المطمئنّة، ارجعي إلى ربّكِ راضيةً مرضيّة، فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي))، ولا شكّ سيظهرُ لكَ كيف أنّه بهذه الجنّة وقع السَّتْرُ الإلهيّ، وكيفَ أنّكَ إذا عرفتَ جنّة نفسكَ عرفتَ ربّكَ، وعرفتَ أنّ خالقكَ مستترٌ فيكَ ولا يُعرفُ إلّا بذاتكَ، وهو الاستتار الّذي عبّر عنه هيثم في رباعيّته هذه قائلاً:"تجول في نفسي وأبحثُ عنكَ / مجنوناً لاهثاً واقفاً / على عتبات قصركَ / أجاءكَ مثلي عائلاً ضاقت به؟ وحيدكَ في الهيام سلطان"، لكن احذر يا عزيزي القارئ إذا ترسّختْ لديكَ هذه الحقيقة أن تصيح "أنا الحقّ"، لأنّكَ وإن استترَ فيكَ وبكَ خالقُكَ، فإنّ الأمرَ ليس فيه سوى صورةٍ واحدة بسيطة جدّاً من صور لا تعدُّ ولا تُحصى من الاستتار الإلهيّ في الأكوان كلّها، ومعرفة هذا النّوع من الاستتار لا تكون إلّا على درجات ومراتب تصل ذروةَ صفائها لدى الكُمّل من أهل العصمة والطّهارة، وهذا وفقاً لما ظهر لنا في الحديث القُدسيّ الّذي يقول فيه جلّ شأنهُ: ((كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ فخلقتُ الخلقَ لكي أعرَف))، أيْ أنّهُ سبحانه وتعالى حينما أراد وشاء بعلمه أن يتفضّل ويتكرّم على الخلق كلّه بأن يقوده نحو مدارج السموّ، تجلّى بأسمائه وصفاته وحدّد لهم طريقاً يقودهم إلى مرتبة الإنسان الكامل، أو إنسان النّبأ العظيم. وهو نفسه هذا الطّريق الّذي نرى هيثماً يسعى إلى التّذكير ببعضٍ من معالمه في كلّ نصوص هذا الدّيوان. وبالحديث عن الإنسان الكامل، أريد أن أثير انتباهكَ إلى قضيّةٍ سبق وأشرتُ إليها بشكل موجز في الشروح الأولى، وأعني بها قضيّة "الإنسان ومَن يكونُ لدى أهل العرفان"؟
اعلم يا أيّدكَ الله بنوره ومحبّته، أنّ الإنسان هو كلّ مَنْ آنستْه عيناك، فالحيوان إنسان وإن كان يمشي على أربع أو يطير أو يزحف، ألمْ تسمع ربّ العزّة وهو يقول: ((وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ))؟، وكلّ إنسان لم يصل إلى درجة الكمال فهو حيوان، وقد يكون من تعتقده حيواناً بالمفهوم التقليديّ العام قد وصل إلى تحقيق كماليّة الرّوح وتأكيد حضورها المطلق لدى الحبيب وأنتَ لا، وإن كنتَ ممّن يمشي على قدمين، فافهم قولي وتدبّر معانيه. ودرجة الكمال هذه لا يمكنها أن تتحقّق إلّا حينما تدخل النّفس إلى (روضة المحبوب) ببلوغها الأربعين، كما هو واضح في نصّ آخر لهيثم بعنوان (فصل السّعادة) وهو العمر الّذي يعني زوال ظلمة البدن بتجرّد الرّوح ودخول النّفس مرحلة النّكاح الموصل إلى الفناء الظّاهر في قوله جلّت قدرته: ((حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم)) والمقصود هنا بلوغ يتامى قوى الرّوح مقام الفردوس تحت رعاية وتربية الأب الرّوحي الّذي هو الرّوح المجرّد المقيم في (القصر المشيد)، أيْ المَلِك الصيّاد الظّاهر في الأبيات التّالية من قصيدة ((قفص الصيّاد)) والتي يقول فيها هيثم: (( فَرَّ العصفورُ من قفص الصيّاد / مُسَلِّماً بالنّجاة والخلاص / نَصَبَ الصَّيّادُ الفخَّ / فانحنى العصفور تواضعاً / عِندَ قدم الصّيّاد !)).
قد تتعاظم حيرتُكَ وأنت ترى هذا العصفور وهو يحاول الفرار من قفصه، وقد تعصف بعقلك سيول من الأسئلة، وتقول كيف يحدث هذا للنّفس بعد أن أدركت مقام الطّمأنينة، كيف أنّ فردوسها بات يظهر في عينيها سجنًا وقفصاً، بل كيف أنّها أصبحت ترى مَلِكَها سجّانَها؟ أيُعقلُ أن يحدث هذا؟! هيثم ومن اكتوى بأوار العشق الحقّ مثله يرى أن هذا شيئٌ ممكن حدوثه، بل هو أمرٌ طبيعيّ جدّاً، فلكلّ مكسب وإنجاز في طريق الخلاص عارض يحاول أن يمنع النّفس من ترسيخه وتثبيته بشكل نهائيّ، وهي حينما لا تفهم أنّ صيّادها هو حارس وخادم وحلقة وصل بينها وبين العوالم العلويّة والأخرى السّفليّة، فإنّها تحاول الفرار من بين يديه، لكنّها سرعان ما تعود حينما تُدركُ خطأها، تعود ثمّ تنحني بتواضع عند قدمي حارسها المَلك! ولا أريدك طبعًا أن تغادر هنا نصّ هيثم حتّى تلاحظ معي كيف أنّه من خلال هذه المصطلحات حدّدَ الآفة الّتي جعلت النّفس لا تنتبه إلى هويّة صيّادها الحقيقيّة: إنّها الغرور باكتساب ذوقيّات ومعنويّات روحانيّة عالية جدّاً، أيْ الغرور الّذي لم ينمح ولم ينمحق إلّا بحركة الانحناء هذه. أمّا بالنّسبة لمن يتساءل عن سرّ استخدام الشّاعر لصورة العصفور كرمز للنّفس المطمئنّة، فهذا تمّ تقريره لأسباب عدّة أهمّها، أنّ العصفور رمز أفروديتيّ بامتياز، فهو كائن لطيف وعلى قدر عالٍ من الجمال والحيويّة والدفئ الموحي بالخصوبة والحياة، ثانياً أنّه رمز للإبداع والعمل الجماعيّ الجادّ، وهذا يعني أنّها، أيْ النّفس، وهي في فردوسها ليست وحدها أبداً، فهي مزوّدة بجيش من الأعوان والخدّام والرفقة الرّوحيّة الّتي لا أوّل لها ولا آخر، وكلّها تعمل تحت إمرتها، وفيها المستشارون والقضاة والمرشدون، وهم هؤلاء كلّهم مَن أظهروا لها كيف أنّها مادامت في مقام الطّمأنينة، ومادام فيها جوع لعلوم السيّد، فمن الأفضل لها العودة بتواضع إلى حارس القصر الملكيّ المشيد. وهي هذه العودة الّتي رسمها القرآن بشكل مدهش في حكاية بلقيس وسليمان. أوَلَيْست هي من أُلقيَ بساحة عرشها كتاب العلوم الشّرعيّة فارتبكتْ وهي في جنّتها وسارعتْ لتستشير أهل الحكمة في بلاط جسدها الموسوم بمدينة سبأ، فنصحوها بأن تأكل من الحَبّ الّذي في يد سليمان ففيه نجاتها ونجاتهم، وبأن تخضع له وتدخل إلى قصره المهيب؟! نعم إنّها هي بلقيس المطمئنّة، إنّها هي الطّائر الّذي وإن ارتدى خرقة الصّوفيّ ظلّ حبيساً في قفصه القديم، كما يقول هيثم في هذه الأبيات من قصيدة (ركن القفص)): (أيّها النجمُ الغائر في أعماق الوجود / يا مُظهرَ الجمالِ والدّلال / أعد إلى المَفتون الصّب ذاته، / وامنن عليه بغَمزةِ عين، / أَزح النقابَ والسّتر / عَن وَجهِ هذا السَّرو، / فالطائر الذي ارتدى خرقة الصّوفي / مازالَ حبيساً في ركن القَفَص!). بلقيس أو عصفور النّفس، أو حوّاء آدم، أو زليخة يوسف، - سمّها كما شئت-، كانت إذن في قصرها منشغلة بعبادة شمس العقل ولم تنتبه إلى أنّه هناك في الجوار عرش أعظم من عرشها، وشمس أكبر وأقوى وأكمل من شمسها، وأنّ عبادتها تلك هي نفسها العبادة الّتي قال عنها هيثم في نصّه (النّرجسة المخمورة): (( وكُنتُ أنا أُقَبِّلُ / يَدَ مَن يصطنعونَ الزّهدَ / فلم أهنأ بترياقِ شفة الحبيب / فامتنعَ السّاقيُ من إعطائيَ الخمرة / إلّا أن ألقي بنفسي / عندَ أقدام المعشوق !)). نعم عبادة شمس العقل فيها غرور ما بعده غرور، وقد تمنع العارف من التعرّف على معشوقه حتّى بعد ظهوره في الجنّة المستترة. كيف ذلك؟ جهّز نفسكَ للمفاجأة الكبرى، واشحذ كلّ قواك الفكريّة والرّوحيّة لتكتشف معي ما لم يخطر على بال أحد!
(هنا صورة الأديب هيثم المحمود)

هذه صورة لهيثم، وهو في أحد الجبال المغطّاة بالثّلوج، ولأنّ صور هذا العارف نصوص، فلا بدّ أن أقف عندها كما أقف عند قصائده، لأنّها مكمّلة لها، وشارحة لما قد يشكل في بعضها.
في ديوانه (سرادق العشق)، والّذي أغلقتُ على نفسي في محرابه لما يزيد عن عام ونصف أقرؤه وأغربل رموزه، وأحرّكُ مفاتيحه، لاحظتُ أنّه يتحدّث كثيراً عن شجرة السّرو، وهو الأمر الّذي جعلني أقف عندها في الإصدار النّقديّ الأوّل (في الحانة مع هيثم المحمود) بمفاتيح مختلفة نوعاً ما وقلتُ إنّ شجرة السّرو هي الألف في استقامتها، بل هي شجرة الحياة والوعي بمختلف درجاته بدءاً من الوعي أو الصّحوة الجسديّة، وانتهاءً إلى الوعي الخارق للرّوح العليا. لكنّي اليوم تتدفّق في قلبي معاني جديدة عن شجرة السّرو هذه، وأنظر إلى صورة هيثم فتحضرني القصيدة الّتي يقول فيها:
((صرتُ (في حوزة أصحاب النّظر
كالثّلج البارد)
لا أرى إلّا رسمك!
حتّى انثنت قامتي كالقوس
فعدني يا أثيري ومؤنسي
إن مرّ في المقصرين اسمي
أن تكون سنداً لقامتي!)).
تلجمني المفاجأة وأنا أرى شاعرنا العرفانيّ هو نفسه شجرة السّرو الّتي يتحدّثُ عنها بقامته الرّاسخة في الجبل الأبيض، وأتذكّر كيف أنّي أطلقتُ عليه في دراساتي السّابقة اسم لايكور المقيم بقمة الإيفيريست، وتستمرّ الأفكار في الهطول فيمثل أمامي تعبيره المتكرّر في أكثر من نصّ عن الذّقن والغمّازة، فأتذكّر أنني سبق وقلتُ عنها إنّها حرف الباء، وإنّ الباء ألف منبسطة وبالنقطة التي تحتها تميزَّ العابدُ عن المعبود، وهي القطب والأصل الذي تدور جميع الحروف عليه، وكيف لا وهي التعين الأول والنور المحمّدي، فنحن هنا أمام نبوّة وولاية، والأمير العليّ هو نقطة ابتداء عالم الإمكان، والنبيّ الأمين صلة الوصل بين الخالق والمخلوق. ولكنّي الآن أرى أنّه ثمّة أشياء جديدة لم أكن قد رأيتها من قبل في نصوص الشّاعر، أشياء تقولها مدينة بدنه، وهاهو وجهه فيه ذقن بغمّازة تذكّرني بالنصّ الّذي يقول فيه: ((خَيالُ وَجه الحَبيب / لا يُغادر ذاكرة العاشِق! / وَغَمازة الذّقن / الّتي هيَ من دلائل الحُسن، / وَقَعَ القلبُ في شِباكها؛ / كَأقواس الحاجب / كانَ يرمي سهامه! / ماتَ الجميع بِغيرِ ما شيء / أمامَ شفته الصّامتة، / وَخالهِ المَليح، / وقامته المُعتدلة.)). وهو نصّ يشير فيه هيثم إلى حدوث رؤية وجه الحبيب التي طالما كان يسعى إليها العارف بكل ما أوتي من عزيمة ورياضات روحية وقلبيّة. لكنّ سؤالي الآن، وأظنه سؤالك أنت أيضاً عزيزي القارئ، لماذا يشبه هذا الحبيب في أوصافه هيثماً نفسهُ؟ وهل تعي الذّاتُ الشّاعرة هذا الأمر، وهل انتبهت إليه وفقهت معانيه أم لا؟!
دعنا إذن نمضِ في فكّ هذا اللّغز خطوة خطوة، ولنبدأ باسم الشّاعر: ((هيثم))، وهو كما يعلم الجميع من النّسريّات؛ وهو طائر كريم ذو مقام شريف بين الطّيور، وقد ظهر في القصيدة التّالية بِاِسْم الصَّقر، ويقول فيها الشّاعر: ((لقد تَقَدَّمَ بيَ العمرُ / (أنا الصَّقر الذي يليقُ لِيد المليك) / أتَعلّلُ بالرّجاء ولطف الكَلام / أَطلبُ فراغ البال كالفراشة. / فيا صاحِبَ اليد البيضاء / لقد أتلف السّامري خزانة قلبي العامرة بالمَحَبّة / وأقامَ مملَكة البلاء! / فَقُم واصنع من رأسيَ المخمور / طيناً لإبريق الخمر / واجعل الحديثَ حضرَ هذا المجلس / فَلربّما ينتهي بيَ السَّفر / إلى كأسكَ المُضيئة كالهلال! / وأنتَ يا مَن تسمعَ هذا المَقال، / كيفَ يَعلَم بحالي / مَن لم يكتوِ بنارِ هذا الفخّ المَنصوب / فاضرب في هذا المَكان الخَرِب خيمَتَك / تَنحَني أشجار السّرو لخدمة قامتكَ / وَقَبِّل شَفة الكأس بِنَهم / تَماماً كما يَفعل العربيد السَّكران / (وأصلح بهِ رؤوس مَن في صحبَتك) / واترك صغار القوم يقتَسمونَ المَغانم / ولا تعِر لغير صحبة السّكارى الاهتمام / فالعمرُ يَمضي للأمام.)). والصّقر عندنا كالهيثم محكوم بالأمومة الكونيّة، وهو لهذا رمز للنّفس الشّريفة المطمئنّة، وهو البلقيس والحوّاء والزّليخة في يد مليكها، ولأجل هذا هي ذات خال مليح، وطرّة وذؤابة، وهذا يعني أنّ الذّات الشّاعرة في هذا الدّيوان قد رأت نفسها كيف هي حالتها في مملكة البدن، جنّة الفردوس الآدميّ، أو مصر يوسف، أو سبأ سليمان. وليس عيباً أن تتجلّى للعارف نفسه، لكن هذه الرّؤية وحدها لا تكفي، بل لا بدّ أن ينتقل من مرحلة النّفس إلى مرحلة الرّوح، وإذا لم ترَ روحكَ وفيها الكثير منكَ ولكن بشكل سلطانيّ وملوكيّ فاعلم أنّ مرآتكَ بها خلل ما. وعليه فالحبيب أو الرّوح الأعلى إذا ما تجلّى كان على صورتكَ بدايةً وكانت عليه آمارات أعمالك وصفاتك وأفعالك المتمثّلة بكل ما هو كريم وطاهر وبهيّ. وهذا ما يبرّر كيف أنّني رأيتُ الحبيب في نصوص هيثم فيه الكثير منه. وعليه فإنّ مهديكَ الجوّانيّ وإنسانك المكتمل لا يكون إلّا على ما أنت عليه حقّاً وحقيقة، وإذا تحقّق لكَ أنت هذا، ولآخرين غيرك من النّاس في الأرض والأكوان قاطبة، كان علامة بقرب الظّهور الحقّ، أي ذاك الّذي به يخرج المهديُّ من حيّز الصّورة القلبية المرتسمة في مدن الأبدان، إلى الصّورة الحسيّة المشهودة في كلّ الأقطار.
وقد تعترضُ عزيزي القارئ على فكرة الظّهور الجوّانيّ بصورة تُشبه صاحبَها وتَرُدُّ الأمرَ إلى قضيّة القرين وتقول إنّه من الممكن جدّاً أن يكون الظّاهر في رحلة أيّ عارفٍ قرينُه وليس مَهْديُّهُ الدّاخليّ. وأجيبُكَ وأنا متفهّمة تماماً لما ذهبتَ إليه، وأجد لك العذر ولكلّ من ينحو نحوكَ، فإيمان النّاسِ اليوم بالقرين والشّياطين والجنّ يفوق حتّى إيمانهم باللّه، وحديثهم عنهم أصبح يغطّي على أيّ حديث وقضيّة، ولو أنّ المتفكّر أمعن النّظر ولو قليلاً، لوجد أنّ الله عزّ وجلّ في كتابه لم يفرد للحديث عنهم سوى بضع آيات، وسورة واحدة تحدّث فيها باختصار شديد عن الجنّ، وكلّ ما بقي من السّور هو مخصّص للرّحلة الدّاخليّة لكلّ إنسان كيفما كان معتقده ولغته وانتماؤه الزّمني والجغرافيّ. لكن ماذا سنعمل وأينما تلتفتُ يا صاحبي ترى الرّقاة أصبح عددهم يفوق عدد الشّياطين أنفسهم، وكلّهم لا حديث لهم سوى عن نشاط القرين، وعن سيطرة الجنّ، ولا أحد منهم يتذكّر أو يذكر على لسانه أبداً السيّدَ المُخَلِّص، وكأنّهم لا يعرفونه ولم يسبق لهم أن سمعوا به أبداً، مع أن القرآن نفسه وغيره من الكتب المقدّسة لا يتحدّثون إلّا عنه؟!
اعلم يا أيّدكَ الله بنوره ومحبّته، أن باب الصّراع مفتوح في الحياة بين الإنسان والشّيطان فقط لا غير، وليس بينهُ (أيْ الإنسان) وبين الجنّ. ولا بدّ أن تُمَيّز بين الإثنين، فإبليس وإن كان "جنّاً" إلّا أنّه تمرّد وتأبلس فأصبح شيطاناً. أمّا بقيّة الأقوام والشّعوب من الجِنّ فيسري عليهم ما يسري عليكَ من قوانين السّير نحو الله، فتُكتبَ أنت وهم إمّا من الفائزين أو الخاسرين، وإبليس في امتحان وصراع معهم أيضاً، وهم معنيّون كذلك بالظّهور المهدويّ. أمّا بالنّسبة لقضيّة القرين، فهو في نصوص هيثم لا وجود له بتاتاً، لأنّ النّفس حينما دخلت مقام سماء الرّوح حدث الانفطار والانشقاق، فبزغ قمرُ القلب، ووقعت القيامةُ الكبرى الّتي قهرت ومحقت وأحرَقَتْ كلّ ما كان يدور في ساحة البدن المعنويّ من صور أوهام الشّياطين وخيالات القرائن كيفما كان نوعها، وهذا يبدو بوضوح في نصّ هيثم التّالي:
((في وادي العِشق تَستوي الخَرابةُ والقلعة؛
وفي حانة الخمّارين تصيرُ الوجوهُ بلا خِمار
فيا أيّها المُمسِكُ بلِجام الروح
أحرقتَ بالنار كلّ مَن وقَعَ أمامك !))
وهذا يعني أنّ كلّ وَهْمٍ كان يلبسُ خماراً أو قناعاً مزيّفاً ليغطّي به حقيقته الإبليسيّة أو القرينيّة، يفتضح أمره، ويحترقُ بمجرّد ظهور شمس الحبيب؛ وركّز جيّدًا معي في كلمة "النّار"، الّتي تدلّ على هويّة من يحترق بالنّار لا بالنّور.
هذا من جهة، أمّا فيما يخصّ قضيّة استتار هويّة الحبيب الموعود، فإنّها ظهرت بشكل جليّ في النصّ التّالي الّذي يقول فيه هيثم:
"أقْبِلْ أَيّها القَمَر المَستور
إلى سكارى حُبِّكَ
فقَد ملَّ العاشقونَ النَّظَرَ
إلى تراب إيوانكَ
وانحنت قاماتهم أمَلاً بالعثور
على ألطافَكَ النّازلة بغيرِ حِساب!
أقبل أيّها القَمَر المَستور
وليَكُنْ شَعرَكَ
يَضرِبُني بِأطراف سيوفه
كَزنّارة صيّاد ماهر
يوقعني بشباكه!"
وإنّي لأدعوكَ هُنا إلى التّساؤل معي عَمَّ يستُر هذا القمر؟ وهنا أعود وأقول لكَ، إنّه مُسْتَتِرٌ بالصّورة الإنسانيّة في فردوسها الدّاخليّ، أيْ بصورة صاحب الرّحلة نفسه، وهو أمرٌ منطقيٌّ جدّاً، لأنّ الصّورة الدّاخليّة لكلّ إنسان ليست كما تبدو في الظّاهر المحسوس، ولأجل هذا قال نبيُّ الرّحمة: ((إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، ركّز معي جيّداً يا باركك الله في كلمتَي "القلب" و"العمل"، لأنّكَ على قدر طهارة وصفاء قلبكَ وعملكَ، تكون صورتُكَ الدّاخليّة الّتي لا تُنْتَقَشُ إلّا بيدِ النّقطة، وهذا يُبرّرُ كيفَ أن الظّاهر في قصائد هيثم هو صورة جوّانيّة على قدر بديع من الجمال والبهاء والجلال والدّلال.
وقد تتساءل عن سبب ذكر عبارة الشَّعْر الطّويل وأقول، إنّها تدلّ على شباب وحيويّة وخصوبة المُخَلِّص الظّاهر، وهي الخصوبة التي حدّدها أهل الأسرار باللّونين الأخضر والأسود. فالأخضر هو لون رداء وسجّادة صاحب الزّمان (ع)، والأسود هو لون العماء الّذي منه ظهر أبو الأرواح كلّها سيّدنا محمّد (ص)، ولونُ الفرس الّتي يمتطي الحبيب المُنْتَظَرُ صهوتَها.
ومادام قد تحقّق هذا الظّهور في ديوان شاعرنا العرفانيّ، فإنّه يهمّني جدّاً أن أسجّل أنّ هذا الحدث لم يتمّ إلّا عبر صعود 116 سلّم، وهو عدد قصائد هذا الدّيوان؛ 95 منها خاصّة بسرادق العشق، و21 برباعيّاته. وهذا الرّقم يدلّ على حقائق في غاية الأهميّة أجردها لك كما يلي:
- ضرورة التخلّص من سموم مدينة البدن المتمثّلة بكلّ ما يعرقلُ الوصول إلى حضرة المُخلّص الموعود؛
- ضرورة تحقيق اليقظة الكبرى عبر محبّة الذّات والبحث عن سبيل النّجاة والخلاص لها؛
- ثمّ ضرورة كتمان نتيجة الرّحلة، وهو الكتمان الّذي يوصي به هيثم في الرّباعيّة التّالية قائلاً:
"شَكَوتُ حالي للّذينَ أُحبّهم
فذقتُ الهَوانَ لِمَن شَكوتُ لَهم حالي
كَتَمتُ هَوايَ فَكُنتَ العَليمَ به
مَنْ لي سِواك أشكو لهُ حالي؟".
نعم، لا بدّ من الكتمان، ولتعلم أنّكَ لستَ أنتَ وحدكَ المخصوص بهذه النّتيجة، فغيرك من النّاس كثيرون في الأكوان كلّها ساروا على الدّرب ووصلوا. والوصول عندنا هو بداية وليس نهاية. وذلك لأنّه لا يعني سوى عودتِكَ لأصلك الطيّب وحقيقتك النّقيّة التي صوّركَ بها وعليها خالقُكَ، لذا فأنت ملزم بصيانة هذا الأمر وحمايته لأنّه شأنك الخاصُّ وليس شأن الآخرين، ولتعلم أنّه لا يوجد أحدٌ في الدّنيا كلّها قد يُحاسبُكَ عليه أو يعاتبُكَ، ولا أحد يتآمر ضدّكَ لانتزاعه منكَ. خلّص نفسكَ من الأوهام، واحم قلبكَ من جنون العظمة، ولا تمضِ بين النّاس تتفاخر بما أنت فيه أو عليه، أو تصرخ أنّك أنت الله مثلاً، أو حتّى أنّكَ مهديُّ زمانكَ: هذه أشياء لا تليق بالكُمّل من أهل الحقّ، وهي مدعاة للضّحك والفضيحة، وقد تعرّض الكثير من النّاس ممّن ادّعوا المهدويّة لهذا النّوع من التّقزيم والاستهزاء، وتحضرني الآن منهم صورة شخص ظهر في مدينتي آسفي عام 1930، وكان اسمه أحمد بن محمد السليماني، وأعتقد أنّه كان من قرية المْناصْر وهي في منطقة أولاد سلمان وهُم بطن من بطون قبيلة البْحَاترة. هذا الرّجل خرج فجأة بين النّاس وبدأ يخطب فيهم ويقول إنّه مهديّ الزّمان إلى أن وصل خبره إلى قاضي المدينة وكان آنذاك الفقيه محمد ابن العربي المرّاكشيّ، فاجتمع بنخبة من العلماء ممّن عُرفوا بالحصافة والحكمة وعمق التّفكير، فقرّروا أن يتحدّثوا مع المعني بالأمر ونصحه وتوجيهه إلى طريق الهداية والسلام، فكان أن اقتنع الرّجل وعدل عمّا كان فيه وتاب إلى الله ولم يعد يتحدّث أبداً في أمر المهديّ أو غيره. وقد أدرجتُ هذه الواقعة لأنّه يهمّني جدّاً أن أقولَ بأنّ الأمور اليوم لم تعد توزن بهذه المكاييل، وذلك لما حدث من صحوة عميقة في الفكر الإنسانيّ وفي علم النّفس الرّوحيّ على وجه التّحديد، وأصبحنا نفهم جيّداً أن مثل هذه الظّواهر إنّما تدخل فيما يسمّيها العلمُ اليوم بالتطوّر والتنميّة الذّاتية والطّاقيّة للعقل والنّفس، ولم نعد نحاكم بشكل قاسٍ أو مستفِزّ كلّ من تظهر عليه علامات الخروج من حالة الإنسان الحيوانيّ، إلى الإنسان الآليّ ومنها إلى الإنسان العاليّ صاحب الوعي الرّوحيّ النّظيف والنقيّ من كلّ الأمراض واللّوثات والعيوب الرّوحيّة. وأصبحنا أيضاً نستوعب فكرة أنّ كلّ إنسان بغضّ النّظر عن دينه أو بلده أو فكره هو معني بهذا الرقيّ والتطوّر، وأن ما كان يسمّى سابقاً بالظّهور المهدويّ – ونحن هنا لا نتحدّث عن الحالات الشاذّة أو المرضيّة - ما هو في الحقيقة سوى بلوغ أقصى درجات الرّشد الرّوحي لدى كلّ إنسان بشكل يسمح له من مغادرة الحالة البهيميّة والانتقال إلى الحالة الفردوسيّة العدنيّة العليا. وقد تحقّق هذا الأمر لنا حاليا نحن المغاربة بحيث استطعنا أن نجذب أنظار العالم لنا خلال هذا العام (2022)، مرّتين: مرّة حينما سقط ريان في البئر ، ومرّة أخرى حينما حقّقنا انتصارات باهرة في مباريات كأس العالم لكرة القدم وأثبتنا للكون بأسره، أنّنا شعب صبور وكريم، وأنّ أرضنا الغالية هي منجم للكفاءات والقدرات والعقول الفذّة ولدينا الاستعداد الكامل للتضحية من أجل أن نصل بكلّ إخوتنا في الحرف والإنسانيّة إلى مقام الخلاص والنّجاة، وبأنّنا في هذا الشّأن قادرون على تحويل فكرة "المهدي المخلّص" إلى واقع فعليّ يكون فيه كلّ إنسان مُخلّصَ نفسه ومنقذَها، ولا ننتظر أن ينزل أحدٌ علينا من السّماء، لأنّنا نؤمن بطموحنا الفرديّ ونلتزم بالتطوّر نحو الأفضل والأمثل ونطمح أيضاً ليؤمن الآخرون بطريقتنا الجديدة في النّظر إلى الأمور وتحقيق الوعي الكامل والأعلى، وهي الفكرة الّتي تجدها حاضرة لدى الأديب العرفانيّ هيثم المحمود الّذي ما فتئَ يقول ويعيد في نصوصه ألّا أحد مسؤول عن تحقيق فعل الظّهور الجوّانيّ سواك أنتَ أيّها السّالك، ولا تلومنّ سوى نفسكَ، ولا تلقي مسؤوليّة فشلك في ذلك على الآخرين لأنّ الوصولَ إلى بلاط الحبيب وتحقيق الوصال مع الذّات والرّوح ليس بالأمر الهيّن أبداً، والمثقّفون اليوم على وجه التّحديد هُم أبعد النّاس عن هذا المسار التَّطوّري، لأنّ "الثّقافة" في حدّ ذاتها تُنَاقِضُ مفهوم الخلاص نفسه، وأنّى لها أن تسمحَ للإنسان بتحقيقه وفي أبراجها يتمسّكُ النّاسُ بكلّ ماورثوه عن الأجداد ويتناقلونه من جيل إلى آخر دونما أدنى تساؤل أو محاولة للتّجديد أو الغربلة! ألا ترى معي عزيزي القارئ أنّ الإنسانَ في الثّقافة القطيعيّة مسجونٌ داخل قضبان الكليشيهات الَّتي تُفرضُ عليه تارةً باِسم الدّين وتارة أخرى باسم الفكر أو الفلسفة أو الأدب أو العلوم؟! ألا ترى لماذا لم يفهم بعد النّاس سبب معاناة العرفاء؟ أو لماذا صُلب الحلّاج بذلك الشّكل المُفجع والشّنيع، وقُطعت رأسه وأطرافه وأُحْرقَ جثمانه ونُثر رماده في نهر دجلة؟ ولماذا سُمِّمَ آخرون من قبله وبعده، ولماذا يُمزّقُونَ لليوم كلّ ممزّقٍ ويُشَتّتُون في كلّ الأرض والبلاد: هل لأنّ السرَّ يظهرُ عليهم، أو لأنّهم باحوا بهِ كما فعلَ الحلّاج من قبلهم؟
لا أعتقدُ أنّ هذا هو السّبب الحقيقيّ، لأنّه لا يوجدُ فعلاً أيُّ سرٍّ يمكنُ البوحُ به أو التَّكتّم عليه. واللهُ شمسٌ ساطعة ظاهرة بادية لكلّ العيان شاء من شاء وأبى من أبى، وما هو بسرٍّ حتَّى يستحقَّ من يعشقُه أو يعتنقُه، أو يذوبُ فيه كلَّ هذا العذاب أو العناء والشّقاء.
مأساة الحلّاج أنّه جاء في زمن الفتن والقلاقل، وسَيَّسَ طريقتَه الصّوفيّة، وكلّ ما يُسَيَّسُ يكونُ مصيرهُ الهلاك، ويفرُغُ في الختامِ من محتواه. وقد يُسيَّسُ كلّ شيءٍ في الحياة، لكنّ قلبَ العارفِ الحقِّ لا يقبلُ أبداً أنْ يُسيَّسَ اسمُ الله وحضوره فيه. وهذه الحقيقة ستقودني إلى أسئلةٍ أخرى: لماذا لمْ يتَّعظْ بعدُ العديدُ من العرفاء؟ لماذا مازالَ بعضُهُم يُشْرِكُ بالله؟ لماذا الحُلم بالمشيْخَة والكرسيّ والأتباع والمريدين في كلّ قطر منْ أقطار العالم؟ أوَلمْ يعرفِ العارفُ بعدُ أنَّ الشّيخَ لا يقتلُه إلّا مريدوه؟ وأنّه لا يظهر الخائنُ إلَّا في الأتباع والمحبّين؟ وهل مازال لليوم من العرفاء من يحلمُ بتغيير الكون؟!
الكونُ الإلهيّ بمفهومه العلميّ والفيزيائيّ أيّها السّادة صالحٌ وكامل كما هُو، وكما أراد لهُ خالقُه أن يكون وليسَ في حاجة إلى من يُصلحُه، إنّما الكونُ الَّذي في حاجة إلى الإصلاح الحقيقيّ هو الكونُ الدّاخليّ لكلّ إنسان، وهذا الكونُ لا يحتاج لا إلى شيوخ، ولا إلى أتباع ومريدين، ولا إلى أيّ شيء آخر من هذا القبيل، وإن مازالَ في كثير من الأحيان العديدُ من عرفاء اليوم يجنحونَ إلى تغيير مفهوم المَشْيَخَة القديم وتعويضه بمسمّيات أخرى غالباً ما تتخذُ من الشِّعر والأدبِ غطاءً، فيفسدُ بذلك الاثنان: شعرهُم وكذا تصوّفُهم، لأنّه بدلَ أن يكونَ هدفهُم الرّقيّ بالذَّائقة الأدبيَّة، والوجدانيّة لدى المتلقّي، يصبحُ هدفهم الرّئيس، جذبُ المتلقِّي إليهم ليكونَ من أتباعهم بطريقة أو بأخرى. إنّه شيء يشبه لعبةَ السِّياسيّ مع أصوات المواطنين في فترة الانتخابات.
الكونُ الدّاخليّ للإنسان بحاجة اليوم وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى الاهتمام بالإنسانِ نفسه، وبمتطلّبات حياته اليوميّة: كرامتُه، صحّتهُ، سلامتُهُ، أمنُهُ، ثمّ حقّهُ في التّعليم، وفي السّكن وفي السّفر طلباً للعلم، أو للمتعة الرُّوحيّة، إلى غير ذلك من الحقوق الَّتي لا تعدُّ ولا تُحصى. باختصار شديدٍ؛ الكونُ الدّاخليّ للإنسان بحاجة إلى المحبّة والعشق والحبّ، حتّى يتحررَ من أوزاره، وأثقاله، وهمومه، ويصعدَ بطِينه إلى شجرة النّار والنّور.
مرحلةُ الحلّاج والحلّاجيين كان لا بدّ منها، وقد تعلّم منها العديدُ منَ العرفاء درسَ العشق الأهمّ: لا تُثِرْ حسدَ النَّاسِ وغلّهم وحقدَهم. لأنّ النَّاسَ عبر كلّ هذه العصور، ما حاربوا وليّاً، ولا نبيّاً إلَّا بدافع من الحقد والحسد والغلّ، وهُم في هذا معذورون. لأنّ مَنْ يطّلعُ على نفسيّة الحاقد والحاسد، سيرى الكثيرَ من الحنق والغضب والألم، لا لشيء سوى لأنّه يرى نفسَه مُهمّشاً ومعزولاً عن النّور.
لا أحدَ يغارُ منَ الله، إنمّا يغارُ الإنسانُ من أخيه الإنسان ويحقدُ عليهِ إذا ما سمعَه يقولُ إنهُ هو الله، وهو بهذا يشبهُ في ألمهِ ألمَ إبليس؛ لأنّ إبليس كانّ أوّل من عرفَ أنّ اللهَ كمُنَ وسكنَ في آدم وذرِّيّته!
علينا أنْ نتعلّم إذن مِنْ محَن العرفاء القدماء، علينا أن ننتبهَ جيّداً لمَنْ حولنا، وأن نستوعبَ أنّنا لسنا أفضل من أحد، ولا أقلّ من أحد، وكلّ إنسانٍ يمكنه أن يصبح إنساناً صالحاً، ولا داعيَ لإقصاء أحدٍ مهما كان عمره، ولونه وجنسه ومعتقده.
كلّ عارف يُفصحُ عن عرفانه وتصوّفه، يُقصي الآخرَ بشكل آليٍّ، وكأنّهُ يقولُ بشكل غير مباشر؛ إنّني أفضل من غيري، وهذا ليس بالشّيء الجيّد أبداً. نعم، ليس بالشّيء الجيّد أن ترى نفسكَ أفضلَ من غيرك، وتنعتَ الآخرين بالجهل وبالاحتجاب عن الحرف. لأنّ اللهَ كما خلقكَ وركّبكَ في أحسن صورةٍ ظاهرة وباطنة، خلقَ غيركَ على نفس الصّفة والشّكل، وما الفرق إلّا في الهمّة، والجهد المبذول في الطّريق إلى الخالق.
علينا اليوم أن نقرّ جميعاً بأحقّية النّاس كلّهم في خالقهم، لقد تجاوزْنا زمن الأنبياء والأولياء والقدِّيسين، وأصبح اليوم من حقّ أيّ إنسان أن يرقى ويسمو، لأنّه خُلِقَ لهذا الشّأن، وبدل أن ينشغلَ بالمريدين والأتباع، عليه أن ينشغلَ بنفسه ليعرفَها، حتّى يستطيعَ أن يعرفَ بعد ذلك خالقَه، وهذا أمر يتطلّب كلّ العمر وما بعدُه أيضاً، لأنّ الرّحلة لا تنتهي أبداً، ولا حتّى بعد الموت.
ثمّة دائماً شيءٌ جديد تكتشفه في مدينة الجسد: عقلكَ، قلبُك، نفسكَ، بل كلّ خليّة وذرّة فيكَ: هذا هو كتابكَ أيُّها الإنسانُ الَّذي يجبُ أن تنهل من خزائنه. وبهذا اختلفَ ابن عربي عن الحلّاج، لقد دخل هذا العارفُ الأندلسيّ مدينة جسده، ولمْ يخرج منها إلّا وقد أحاط ببعضٍ من كنوزها، فكتبَها وتركها إرثاً ينتفع بهِ غيره، وقد ساعده في هذا طبعاً أنّه أفاد من خبرة من سبقوه بمن فيهم الحلّاج، ومن تجاربهم، ودروسِ حيواتهم، وهذه هي سنّة تطوُّر الحياة والفكر عبر الأجيال.
والرّحلة لم تنتهِ بعدُ، ومازالت مدينة الجسد حبلى بالعديد من الخزائن، ومازال اللهُ ينادي خلقَه ليأتوا للقائه فيها، ولقراءة وسماع ما تحويهِ من كتب بصريّة ومسموعة، بل للسّفر بين مفاوزها، وجبالها وبحارها، وسماواتها، لأنّ الجسدَ هو ملكوت الله، والقلبُ فيه هو عرشُه، والعقل والرُّوح والنّفس من جنوده، فاخترْ أيّها الإنسانُ أيّ جنديٍّ تريدهُ أن يكونَ رفيقك في رحلة الحياة، واعلم أنّكَ أنتَ أيضاً، يمكنكَ أن تكون ملاكاً، قدِّيساً، وليّاً أو نبيّاً، إذا شئت ذلك واستوعبت أنَّ كلّ ما حكاه الله في كتبه السّماويّة عن أنبيائه وأحبّته السَّابقين، إنّما جاء لتحتذي بهم، وتتعلّم منهم لتكون مثلهم، أو أفضل منهم. اشحذ همّتكَ إذن، وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموت، ولا تنسَ أنّ طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. وأنّ المُخلّصَ الحقّ لا يعنيه كلّ هذا بتاتاً لأنّ النّجاة شأنُ الفرد بذاته وروحه، في الوقت الَّذي تكون فيه الثّقافة شأنُ الجماعة والقبيلة والعشيرة ثمّ المجتمع، لأنّ بها تتأسّسُ المنظومات السِّياسيّة والدَّساتير والقوانين والأديان وما إلى ذلك. والنّجاةُ هي حالة عميقة من التَّنوّر والتّفتّح الرّوحيَيْنِ، وهو أمر لا يحدث بالبساطة الّتي يتخيّلها الجميع، وأهل الله الأحقّاء قليلون جدّاً، وهو الأمر الّذي يدفعنا إلى التَّساؤل عن المعوّقات الَّتي تحول دون تحقيق حالة الخلاص لدى كلّ إنسان، أيْ لماذا لا يحدث التَّنوّر إذن؟
هل رأيتَ عزيزي القارئ القمرَ ليلاً وهو يعكسُ ضوءَه فوق البحيرة؟ هل تساءلت كيف يحدثُ هذا؟ الأمر لا يتطلّب أيّ جواب من أيّ نوع، هو يحدثُ وكفى، لا البحيرةُ تطلبُ ذلكَ من القمر، ولا القمرُ يتوسّلُ البحيرةَ بأن تسمح له بالانعكاس فوقَها. وظهور وجه الحبيب هكذا، لا يوجد أحد في الطَّبيعة يتآمر ضدّه أو يعوقه، فأنتَ البحيرةُ، وضوءُ القمر المنعكس فوقها هو حالة الخلاص المنشودة، لن تطلبَه ولا هو سيركضُ خلفَك، إنّما إذا تحقّق ستصبحُ أنت وهو تشكّلان أجمل لوحة في الوجود. لكن والحال أنّ الإنسان قد هجرَ حالة البحيرة وأصبح بحراً هائجاً، فإنّ ضوء القمر يتكسّرُ فوقَه وتتجعّدُ أشعّته ولا يمكنه أبداً أن ينعكس بكلّ صفاء وبهاء ونقاء. أتعرف ما الّذي حوّلكَ أيّها الإنسان إلى بحر تصرخُ فيه الأمواج: إنّها الأفكار، أو الثّقافة القطيعيّة الَّتي حشوتَ بها عقلكَ فحرمتَ القمرَ من أن ينعكس فوقك، ومن أن تكون بحيرةً أو مرآة صافية. لقد فرضتَ على نفسكَ كلّ شيء حتّى أنّك لم تعُد قادراً على التّمييز بين ما ينبغي أن تكون عليه، وبين من تكونُ أنتَ فعلاً. لا أحد اليوم يعرفُ من هو حقّاً وحقيقةً، لا أحد يستطيع أن يصدّقَ أنّه في الواقع بحيرة ساكنة وبديعة الجمال حدّ النّشوة، والرّوحُ فوقها زنبقة بيضاء تتألّقُ تحت ضوء القمر، لكن ما العملُ والكلّ أصبح ضحيّة الثّقافة بل الثّقافات العالميّة، ضحيّة الآباء والمدارس والجامعات والمؤسّسات وهلمّ جرّاً! جرّب عزيزي القارئ أن تستعيدَ حالةَ البحيرة، سيكون الأمر في البداية صعباً، وستشعرُ أنّك أصبحتَ فارغاً من كلّ شيء، وستفتقرُ إلى ثقافة المجتمعات من حولك بل ستشتاقُ إليها، لكن في المقابل ستكون قد تخلّصتَ من كلّ النِّفايات الفكريّة والإيديولوجيّات المريضة، وحتّى إن أصبحتَ فقيراً فإنّك ستكون غنيّاً بنفسك وببحيرتك الجديدة، بل بفكرك المستقلّ عن الجميع.
في الكتاباتِ العرفانيّة، وأعني بالتّحديد الشِّعرَ والرّواية والسّيرة الذّاتيّة، مَنْ يكونُ الكاتبُ حقيقةً، هل الأديبُ نفسهُ؟ أطرحُ هذا السّؤال، وأنا على وشكِ إغلاق ديوانِ هيثم المحمود، وأقرأُ - وربّما للمرّة الأخيرة - بين القصائد اسمَه بشكل صريح ، فأُبَادِرُ للبَحثِ عنهُ أديباً وإنساناً، ولكنّي لا أجدهُ، وأتذكّرُ إصداراتي كلّها وما كنتُ أحكي بين صفحاتها من تجارب، بما فيها تلكَ المخطوطة ضمنَ إصداري الأخير (دزاﯕـرا / إمامُكَ المُنْتَظَر كما لمْ يُخْبِرْكَ عنه أحد) ، فأجدني من جديد أطرحُ سؤالكَ وسؤالي أيّها المُتلقّي وأقول: "هل كنتُ أنا المعنية بالأمر في كلّ ما سطّرتُ وإن ظهر اسمي صريحاً بل حتّى لقبي؟ هل كنتُ أحكي أشياء تخصّني أم تخصّكَ أنتَ أوّلاً وأخيراً أيّها القارئ؟" يأتيني الجوابُ قاطعاً من أعماقي الرّوح الواعية ويقول لكَ ولِي: "ما أنتِ إلّا وعاء، والعارفُ وهو يكتبُ لا يحكي تجاربَهُ الخاصّة وإنّما يحكي تجاربَ خليفة الله على الأرض وهو في طريقه نحو التحقّق، والخروج إلى واقع الشّهود الذّاتيّ، وأنتِ وغيركِ من أدباء العرفان مهمّتُكِ تكمنُ بالأساس في الانحناء بكلّ تواضع وتقديم اسمكِ لتَنْتَقِشَ فوقه حيواتُ الخلق جميعاً". أنتبهُ إلى كلمات الرّوح، ويمثلُ أمامي نصُّ الوحي المحمّديّ بأسره، ويظهر لي جيّداً كيف إلى وقتٍ قريبٍ كانَ الجميعُ يعتقدُ أنّ كلّ ما في القرآن لا يخصُّ سوى محمّدٍ (ص)، وغاب عن العديد من النّاس كيف أنّ الرّجلَ كان حبلاً ممدوداً بين الأرض والسّماء وقدّم اسمَه كاملاً ليُمهّدَ للظّهورِ المُقدَّس، ويُذَكّرَ به دون السّعي إلى السّيطرة على أحد مهما كانت العوالمُ الّتي ينتمي إليها . والعارف والوليُّ في رسالته مثل النبيّ، وهذا ما يُؤكّدُ كيفَ أنّ هيثماً في قصائده لم يكُنْ يعني نفسَهُ أبداً، وإن قلتُ لكَ سابقاً إنّ صورة جبل الثّلج تعنيه شخصيّاً كشجرة سروٍ تكرّرَ ظهورُها بين أبيات الدّيوان، ولكن إذا قرأتَ بعين البصيرة حروفي، فإنّكَ سترى نفسَكَ في صورة هيثم، وسترى أنّكَ أنتَ شجرة السّرو، والشّأنُ نفسه سيحدث لكَ وأنتَ تُعاينُ كتاباتي، فأنتَ لن تجدني وإن ظهر لكَ اسمي، وإنّما ستجدُ نفسَكَ، ستجدُ مدينةَ بدنكَ، بل ستجدُ محنتكَ الكُبرى وأنت في طريقكَ لتحقيق بزوغ شمس الحقّ العظيمة. وستفهمُ حينئذٍ أنّ كلّ العرفاء الأحقّاء مشتركون في هذا النّوع من الكتابات، وستعرفُ لماذا لا تظهر أبداً الانتماءات الّتي تفرّقُ لحمة الإنسان دينيّة كانت أو طائفيّة أو عقائديّة في ديوان هيثم، بلْ ستعرفُ أنّ لغة العشق كونيّة، ولا مجال فيها للفرقة ولا للتعصّب لأنّ المهديّ نفسه يُمثّلُ الإنسان بشتّى جذوره وألوانه ولغاته، ولم يكن أبداً خاصّاً بقوم أو أرضٍ دونًا عن أخرى، وكيف لا وهو نور العالمين كافّة. وإذا قرأتَ ديوان هيثم بهذا المنظار، فسوف ينفتحُ قلبُكَ للرّسالة الحقّة، وسترى هيثماً أخًا لكَ في الإنسانيّة، أخاً تجاوز كلّ الإيديولوجيّات ومظاهر الزّيف أينما وكيفما كانت، وأصبح روحاً خالصةً تُحلّقُ في الأعالي، وترى تحقّقَ الظّهور الجوّانيّ لمهديكَ البابَ المباشرَ المؤدّي إلى الحضرة الإلهيّة الخاصّة بأهل اليقين الخالص، وهذا ما يُفسّرُ كيف أنّه بعد قصائد (سرادق العشق)، تأتي رباعيّاته في الحبّ الإلهيّ، وذلكَ لأنّ الأولى تُمهّدُ للثّانية. وهذا سرّ من الأسرار الكبرى في هذا الدّيوان، سرّ يُظْهِرُ كيفَ أنّ ما يكتبهُ لكَ هيثم، وما أكتبهُ لكَ أنا بعدَهُ إنّما أقرؤه قبلكَ ولا أدري مَنِ الكاتبُ ولا من القارئ، أأنتَ أم أنا أم هيثم نفسه، ولا مَن السّائلُ ولا المسؤول، يكفي أنّ المعاني في القلب تتوحّدُ مهما اختلفتِ الأشكال والقوالب، مادام الإنسانُ يعرفُ بفطرته أنّه متّصلٌ بالسّماء، وهناك آيات كثيرة في هذا الدّيوان - الّذي هو صورة مصغّرة عن كونك الدّاخليّ - تُثْبِتُ ذلك، لكن مَن يلتقطُها، من يلاحظُها، ومن يقرؤُها؟ وكيف يحدثُ ذلك وقد نسيتَ أنّكَ جهازٌ لاستقبال صاحب الدّار الحقيقيّ: اللهَ الّذي لا معبود سواه. نعم، لقد نسيتَ أنّكَ هاتفٌ إلى الله محمول وتحتاجُ دائماً إلى شحنِ بطاريتك لتتواصلَ مع خالقكَ؟ فكيف يمكنكَ أن تقول "ألو" وأنت لا طاقة فيك؟! قُلْ "ألو" وافهَم سرّي، وانظر إلى هاتيْن الصّورتيْن، وسترى كيف أنّني في الأولى شجرة سرو، وفي الثانية صقرٌ وهيثم لا أعرف، لا كيف ولا منذُ متى، ظهرَ مرسوماً بطريقة غرافيتيّة فوق جدار وسيطِيّ العُمر، ولا كيف أنّ قدمَيَّ قادتاني إليه أثناء نزهة من نزهاتي الصّباحيّة لأجدَ نفسي أمامَه وأراه وهو يشربُ خمرةَ العلوم اللّدنيّة من كأس السّاقي، وبالقرب منه رسم يُجسّدُ طفلةً تحمل بين يديها لافتةً صغيرةً كُتِبَ فوقها باللّغة الإيطاليّة: (/ Vota me/ sono Zolia انتخبني، أنا البيت)، وتحتها عبارة باللّغة الإنجليزية هي (lit) أو المُشْتَعِل! قل "ألو"، وتذكّر معي أنّ في لغة العرفان لا يوجد شيء اسمه المصادفة، وأنّكَ أنتَ الحاضرُ هنا سرٌّ ما دمتَ تقرأ هيثمًا الآن وتقرؤني.

(هنا صورة أمام شجرة السّرو بتاريخ: الجمعة 17/12/2021)
(وهنا صورة أمام رسم جداريّ عتيق وقد ظهر فيه الهيثمُ وهو يشربُ خمرة العلوم اللّدنيّة من كأس السّاقي
بتاريخ: الثلاثاء 01/11/2022)

هل ما قلتُهُ عن غياب الكاتب في نصّه، يعني إفراغَ التّجربة الإنسانيّة الإبداعيّة من محتواها؟ إذا كان الأمرُ كذلك فما الّذي سيبقى منه بعد رحيله؟ يقول النّاس إنّها الأعمال الّتي ستبقى، وأنتَ منهم عزيزي القارئ، لكن دعني أسألْكَ وأقول: هل سمعتَ بآية يقول الحقُّ فيها: "واللهُ خَلقكُم وما تعملون"؟ ستقول لي إنّها كانت تخصُّ الأصنامَ الّتي كان يصنعها قوم إبراهيم (ع). وأردُّ وأقول: طبعاً هذا أمر لا شكَّ فيه، ولكن هل تساءلتَ يوماً ما عن هذه الأصنام عَلامَ هيَ وإلامَ ترمز؟!
دعني أقلْ لكَ إنّما هيَ تعني الشّواغل الفكريّة المانعة لإبراهيم-القلب عن تحقيق الوصول إلى مقام المهديّ أو إنسان النّبأ العظيم الّذي حدّثتُكَ عنه آنفاً. إذن فكلّ كاتبٍ عارفٍ باللّه، يعلمُ جيّداً أنّه حينما يكتبُ فإنّه ليس هو الحاضرُ في أدبيّاته، وكيف يكونُ كذلكَ وقد بلغ مستوى الفناء، ومن يفنى عن نفسه يفنى عن أصنامه الفكريّة، فلا تظهر أبداً، وذلكَ لأنّ إبراهيم-القلب بداخله يكون قد كسرها بفأس اليقين الخالص وضربَها بيمين الوعي الأعلى. وهذا يعني أنّ هذا النّوع من العرفاء يعي جيّداً أنّ ما هو بصدد كتابته أو تأليفه إنّما يصبُّ في باب ما يُسمّى بالرّزق الإلهيّ، والهبة اللّدنيّة، والّتي قال بشأنها عزّ وجلّ: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ"؟. إذا ظهر لكَ المعنى عزيزي القارئ، فسوف تفهمُ لماذا وصلتُ إلى ذاك الزّقاق القديم، وكيفَ عثرتُ فيه على رسم جداريٍّ فيه النّسرُ أو الهيثم أو الصّقر وهو يشربُ الخمرة الإلهيّة من يد السّاقي!
من حملني إلى ذاك المكان يا ترى؟ ومن دفع بزوجي إلى التقاط تلك الصّورة العجيبة؟ ألا يعني هذا أنّ كلّ أعمالنا قد كُتِبَتْ في لوح الوجود منذُ الأزل، وأنّ كلّ ما علينا فعله هو أن ننتبه إلى ما رُقِمَ فيه من أبجديّاتٍ تُخاطبنا كل يوم وفوقَها بصمة الإله؟!
آن لكَ أن تعلم يا أيّدكَ الله بنوره ومحبّته، أنّني حينما أكون منشغلة بعمل إبداعيّ ما، يُصبحُ كلّ شيء من حولي يُحدّثني عنه، والنّسرُ والفتى في ذاك الرّسم الجداريّ بعد أن عدتُ إلى البيت بقيَا يشغلاني لأيّام، ولم أهدأ إلى أنْ عرفتُ أنّهُ تمَّ رسمهما في شهر تمّوز من هذا العام (2022)، أيْ في الشّهر الّذي صدر فيه كتابي (قُبْلةٌ تحتَ شجرة السّرو) ، وتكفي نظرة خاطفة لصورة الغلاف وسترى النّسرَ ظاهراً فوقها كما في غلاف الجزء الثّالث من السّلسلة ذاتها !
قد يبدو لكَ كلّ هذا ضرباً من الخيال، لكن الشّيء الوحيد الأكيد هنا هو أنّ ما كان كامناً في خياليَ الإبداعيّ أصبحَ واقعاً مادّيّاً، وأصبحتُ أرى النّسرَ من حولي في كلّ مكان، بل أصبحتُ أجدُ مدينتي تحدّثني حتّى بلغة البرتقال الحاضر في كتاب (دزاﯕـرا)، بأجزائه السّتّة، انظر إلى هذه الصّورة وسوف تتحقّقُ من الأمر بنفسك!

وهي صورة التقطها لي زوجي في اليوم الّذي عثرتُ فيه على لوحة الولد السّاقي، وقد كاد يحدثُ بسببها عراك بينه وبين شخص مجهولٍ كان مارًّا من هناك، رآنا أمام برتقالها الذّهبيّ فقال باللّهجة الصقليّة وبصوتٍ عالٍ مستهزءاً - وكان يظنّنَا من السّياح الغرباء عن المدينة ولن نفهم كلماته-: "عجباً، أيّ شيء هذا الّذي أثارَ ذائقة هذين السّاذجين في هذا المكان الخَرب؟!" وبالفعل كان المكانُ خرباً ومتّسخاً، لكنّ اللّوحةَ الّتي كانتْ فوق جداره المُتهالك كانتْ تُحدّثني أنا، وكنتُ أنا وحدي أرى فيها ما لا يراه الآخرون من أسرار: نعم لقد رأيتُ دنان الخمرة، والعشق والشّمس، ورأيتُ روحي محلّقة وزوجيَ الحبيب أمامي يوثّقُ بعدسته أعمالي الّتي خُلِقَتْ قبل أن ننزل معاً إلى هذه الرّحلة الأرضيّة العجيبة. لكن ليت الأمور تقف عند هذا الحدّ، فاللّوحة ظلّت تتحدّث بداخلي، وكنتُ أظّنها من بعض جداريات المدينة الّتي لا يظهر فوقها اسم الرّسام أو المُصوّر، لكنّني حينما بحثتُ عنها بشكل جدّيٍّ وجدتُ أنّها لرسّام صقلّي من مدينة كتانيا، اسمه سالفاتوره كارامانيو: يا للمفاجأة العظيمة، هل تعتقد أنّ الأمر مجرّد مصادفة؟ ! طبعاً لا، وهل تعرفُ معنى اسم السيّد الرّسّام؟ إنّه يعني حرفيّاً المُخلّصُ العزيز الأعظم. هل مازلت تظنُّ أنّ الأمور لا علاقة لها بشمس الحبيب المتوهّجة؟ وماذا عن نسري الّذي ألّفتُ فيه كتاباً من 316 صفحة ؟ لقد كنتُ ومازلتُ أعرفهُ جيّداً، وقد شرحتُ رمزيّاته في أكثر من مقام، وجعلته ينطقُ بأكثر من حقيقة، وهاهو يقول: " وكنتُ أنا أيضاً مثلها، أُحِبُّ ما تحبّهُ وأكرهُ ما تكرهُهُ، ولأنّني أنا المراقبُ لكلّ شيءٍ يعنيهَا، بتُّ أفهمُ أنَّها ليستْ طفلةً حديثة النّزول إلى هذا الكوكب الأرضيّ، وإنّما هي سيّدة قديمة جدّاً جدّاً، وتحبُّ مثلي أن تُراقبَ كلّ شيءٍ بهدوء عميق وسكينة نادرة. نعم يا أحبّائي، لقد فهمتُ أنّني وإيّاها بعُمْر هذا الكونِ، وأنّنا عشنا التّجاربَ كلّها، وأنّها كانتْ مثلي صخراً وحجَراً وشجراً، وريحاً وبَرقاً ومطراً، وكانتْ نهراً وجبلاً وبحراً، وكانتِ الوجودَ بأسرهِ، أمّا روحها فروح نسرٍ، لا عصفور، لذا فهي تحبُّ التّحليق لوحدها ملكةً وسيّدةً في الأعالي، ولا تُثرثرُ مثل العصافير أو البلابل أو بقيّة الطّيور، وإنّما تحبُّ أن تحكمَ الرّعودَ والبروق في السّماء، وتحيطَ بكلّ صغيرة وكبيرة في مملكتها السرّيّة، ولأجل هذا استغنَتْ عن كلّ الأغيار، وإن كانوا من أقرب النّاس إليها، فغادَرَتِ الأهلَ جميعاً، وهاجرتْ إلى ديارٍ بعيدة لتُحَقِّقَ لها كينونتَها النّسريّة، ولترعاني أنا بكلّ ما تملكُ من حُبٍّ وإخلاصٍ، لأنّها فهمتْ باكراً بأنّني أنا إمَامُها، ودليلُها الوحيد الأوحد، وشيخُها الأوّل والأخير، وأنّه كان لا بدّ عليها أن تُحاربَ من أجلي لتُحقّقَ ليَ الظّهور والخروج من سراديب الغيبة. نعم، فأنا متى ما انتبهتْ فتاةٌ ما إلى وجودي بين ثنايا روحها، جعلتُ منها مُحارِبةً كبيرةً" .
لكن ماذا عن نسر الأديب العرفانيّ هيثم المحمود الّذي ظهرَ لي فوق ذاك الجدار القديم؟ ستندهش عزيزي القارئ إذا ما عرفتَ أنّه هو نفسهُ نسري، ونسر الأسطورة الإغريقيّة التّي تتحدّثُ عن ساقي الإله، الشابّ الرّاعي الآسر الجمال جانيمادس، والظّاهر في هذا العمل الفنّيّ الأصليّ الّذي منه اقتبس صاحب الرّسم الغرافيتيّ أيقونته التمّوزيّة.

(هنا صورة منحوتة جانيمادس وزيوس: للنّحات الدّنماركيّ بيرتل تورفالدسن)
وجانيمادس لمن لا يعرفه، هو عند أهل الأسرار النّفس البهيّة المطمئنّة الّتي يختطفها الإله ليجعل منها ساقيته الخاصّة، كما هو ظاهر في هذه اللّوحة الفنّية للفنّان الفرنسي غابرييل فيرييه:

(هنا لوحة اختطاف جانيمادس)
إنّهُ زُليخة، وبلقيس وحوّاء، والنّسرُ في ديوان هيثم المحمود وكتاباتي القديمة والحديثة، هو المقامُ الّذي يُدْرَكُ فيه الوعي الكامل، ويتحقّق فيه الظّهور المهدويّ الّذي تتحدّث عنه كلّ الكتابات اللّدنيّة، وكلّ الأعمال الفنّية والأدبيّة المؤيَّدة والمسَدَّدة من لدن خبير عليم.



#أسماء_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وادي الملوك
- رواية بوشكين (عربي قيصر) ترجمة د. نصير الحسيني
- من الإنسانِ الآليّ إلى الإنسان العاليّ في عرفانيّات #عبدالجب ...
- (26) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (25) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (24) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (23) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (22) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (21) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (20) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (19) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (18) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (17) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (16) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (15) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (14) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (13) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (12) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (11) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...
- (10) رحلةُ السّلامِ الرّوحيّ من الفَحْمِ إلى الألماس: أسماء ...


المزيد.....




- اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار ...
- كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل ...
- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسماء غريب - الكأس الكونيّة الكُبرى: قراءات جديدة في ديوان هيثم المحمود (سرادق العشق ويليه رباعيّات في الحبّ الإلهيّ)