|
مجتمع المعرفة العربي: تحديات الواقع وآفاق التوطين
عبد الحكيم الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 7451 - 2022 / 12 / 3 - 17:46
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
في تسعينيات القرن الماضي، ونتيجة للتحولات السياسية والاقتصادية والفكرية التي أنتجتها ثقافة العولمة، ظهر مصطلح جديد هو: "مجتمع المعرفة" وأضحى من المفاهيم والمصطلحات الشائعة منذ ذلك الوقت، ومع ذلك لم يتبلور معناه بشكل تام لدى الباحثين، بدليل: تعدد تعاريفه واختلافها، حيث يستخدم هذا المصطلح بمترادفات متعددة كالمجتمع ما بعد الصناعي، المجتمع الرقمي، والمجتمع الإلكتروني. وقد يتداخل مفهوم ( مجتمع المعرفة)، وربما يتقاطع أحيانا مع مصطلح أو مفهوم آخر قريب منه هو (مجتمع المعلومات)، لكننا نرى عدم التكافؤ التام بينهما، وذلك بسبب الاختلاف الجوهري بين مفهومي (المعلومات) و (المعرفة)؛ فالمعلومات هي مجموعة البيانات الموضحة بطريقة ما، والطريقة التي تنظم بها المعلومات ناتجة من قصد المستعمل على اعتبار أن البيانات عناصر خام لا معنى لها، أي أن البيانات في حد ذاتها لا يمكن أن تقدم معنى، ولا يمكن أن يستفاد منها إلا إذا أضفنا لها صفة المصداقية لغرض معين. فالمعلومات هي ما نحصل به على المعرفة، وليست معرفة بحد ذاتها، أما المعرفة فتتشكل نتاج معالجة المعلومات وتخصصها في موضوع معين . لعل أول استعمال لمصطلح" مجتمع المعرفة" كان سنة 1969 من قبل الدكتور بيتر دروكر Peter Drucker ( 1909 ـ 2005 )، المتخصص بعلم الإدارة، والذي أشار إلى أن مجتمعات المعرفة: هي المجتمعات التي تمنح القيمة للعقول أكثر من الماديات، على عكس الرأسمالية، فمجتمعات المعرفة تعد "عامل المعرفة" مصدر مهم للإنتاج. وإذا ما حاولنا البحث عن جذور ومقدمات هذا المفهوم، ربما نجدها ترجع إلى القرن السادس عشر في مقولة فرنسيس بيكون1561 ـ 1626 ( إن المعرفة قوة! ) التي قالها في زمن كانت فيه كثرة الجيوش وتطور معدات الحرب هي عنوان القوة بين الأمم آنذاك، وفي وقت لاحق ظهر مفهوم جديد للقوة تمثل في فن (أو علم الإدارة )، أي أن من يمتلك الإدارة العلمية الناجحة هو من ستكون له الغلبة وصدارة العالم آنذاك، ثم حل عصرنا الجديد، وهو عصر السباق من أجل المعرفة، بعد أن أيقن الجميع إن من يمتلك المعرفة هو من سيهيمن وتكون له الصدارة والنفوذ في عالم اليوم. لقد أبتكر (دروكر) أيضا مصطلحا جديدا هو (عمال المعرفة)، باعتبارها فئة مساهمة في إنتاج المعرفة، وسيكون لهذه الفئة (عمال المعرفة) الدور الأساسي في المجتمعات ما بعد الصناعية، حيث يقول عن ذلك: "عامل المعرفة، هو العامل الذي يحتاج أن ُيفكر بإبداعية لكي يقوم بكسب المال من أجل المعيشة". وينبع هذا التعريف من فلسفة بيتر دروكر المشهورة، والتي ُتفيد بأن كل ما تحتاجه المجتمعات هو بضعة عقود من الزمن لكي تتغير، وتتحول إلى مجتمعات مختلفة كلًيا، فيعيد المجتمع النظر في قيمه الأساسية وأسسه السياسية والاجتماعية، بل ويعيد تشكيل مؤسساته الرئيسية، وفي غضون خمسين سنة يتحول المجتمع إلى مجتمع مختلف كلًيا. لقد شّكل مجتمع المعرفة محورا أساسيا في العديد من الأطاريح السياسية والفكرية، ومجالا للكثير من الدراسات المستقبلية المتخصصة التي حاولت رسم التحديد الدلالي لمفهوم "مجتمع المعرفة، وانطلاقا من تلك الدراسات والتعاريف الكثيرة التي وضعت، يكون مجتمع المعرفة هو: حالة يتميز بها مجتمع من المجتمعات فكريا ومعرفيا وتقنيا وبشريا، وهذا التميز في هذه العناصر هو أساس تقدمه وتطوره، فلا تطور في غياب العنصر المعرفي والعنصر التقني، والأهم من ذلك العنصر البشري الذي هو أساس كل تنمية وكل تطور . وبناء على ذلك، تكون المعرفة أساسا للتقدم في كل مجالات الحياة، ويكون العنصر البشري من العناصر الفاعلة بشكل أساسي، باعتباره مصدرا لكل إبداع مادي أو فكري، وهو في الوقت ذاته، هدف التنمية والمساهم فيها. إن المجتمع الذي ينتج المعرفة ويوظفها اقتصاديا هو وحده المجتمع القادر على التنافس وفرض وجوده الفعال، وبهذا المعنى سيكون للمعرفة دورا محوريا في نشوء ثروة المجتمعات وتحقيق تنميتها ورفاهيتها. وسينتج عن ذلك تحولا على مستوى العمل والإنتاجية من خلال الانتقال من اقتصاد الموارد إلى اقتصاد المعرفة، ومن الاهتمام بالثروة المادية إلى الثروة المعرفية، ومن ثّم سينصب الاهتمام من الرأسمال المادي إلى الاهتمام بالرأسمال البشري الذي يحقق التنمية، وتكون فيه المعرفة المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي، وهذا الاقتصاد القائم على المعرفة تحركه تقنية الاتصالات والمعلومات لإنتاج السلع، ومن ثم فإن البعد الاقتصادي لمجتمع المعرفة يعني في نهاية المطاف استخدام المعلومات كموارد اقتصادية، بحيث تستخدم المؤسسات المعلومات والمعارف في زيادة كفاءتها وفعاليتها التنافسية فضلا عن الابتكار والإبداع. ومن المؤكد أن هذه التحولات ستؤدي إلى فصل المعرفة عن القيم (الثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، وغيرها). أن الوصول إلى مجتمع المعرفة ينطلق من ضرورة اكتساب المعرفة بدايةً بإنتاجها، ونشرها، وتوطينها، وتوظيفها، الأمر الذي يتطلب جهودا مركزة من أجل تفعيلها، خاصة في ظل المنافسة الثقافية العالمية، كما يتطلب جهودا أخرى إضافية لمواجهة تلك التحديات الداخلية المرتبطة بترتيب العلاقة بين تحقيق المعرفة وجهود التنمية البشرية بشكل عام. من الأهمية هنا أن نشير إلى ما جاء في تقرير المعرفة العربية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي يؤكد أن العالم العربي يواجه تحديات في دمج الشباب لنقل وتوطين المعرفة، فالمنطقة تمر بمرحلة حرجة تهدد التماسك المجتمعي، وأكثر المتأثرين بها هم الشباب والأطفال. وأبرزت المؤشرات الخاصة بالمعرفة ارتفاعاً في الفجوة بين الدول العربية والدول النامية الأخرى، حيث وضعت الدول العربية في الدرجة السادسة من بين مناطق العالم التي قسمت إلى ثماني مناطق، لتسجل المنطقة العربية درجة أقل من المتوسط العالمي وفق دليل اقتصاد المعرفة، لأن معظم الدول العربية عاجزة عن تحويل الثروات السكانية التي تتركز في الشباب إلى طاقة معرفية تساعد على تحويلها من مجتمعات مستهلكة إلى مجتمعات قائمة على اقتصاد المعرفة. ووفقاً لإحصاءات منظمة اليونسكو لعام 2014، يعاني 51.8 مليون عربي في سن الـ 15 فأعلى من الأمية، بينهم سبعة ملايين شاب، وذلك على الرغم من تحقيق بعض الدول لإنجازات ملموسة في نسب التحاق الشباب في التعليم الأساسي، لكن تبقى معدلات الالتحاق بالتعليم الثانوي والعالي والجامعي أقل من المتوسط العالمي. استنادا إلى معطيات الواقع العربي المتخلف معرفيا، وإلى تلك البيانات الإحصائية، فضلا عن الأطر النظرية لمفهوم مجتمع المعرفة، يمكننا أن نطرح السؤال الأهم: ما هي إذن الآليات الممكنة، والخطط العملية الهادفة إلى توطين المعرفة في المنطقة العربية؟ نقول أنه: بعد أن أصبحت المعرفة معيارا أساسياً في تقدم الدول، وصار قصورُها يفسر بوضوح سبب الفجوة المعرفية بين العالم العربي والعالم المتقدم، من حيث التعليم والمناهج والإنفاق على التعليم. فإن العالم العربي بحاجة ماسة إلى التحول من مجتمعات مستهلكة إلى مجتمعات منتجة قائمة على المعرفة، وهذا يستوجب ضرورة التعرف على التحديات التي تواجه المجتمعات العربية، ومواجهتها بإيجاد منصة عالمية لنشر المعرفة وعرض الممارسات التي وصل إليها العالم لإثراء المخزون المعرفي في المنطقة، استنادا إلى ما أفرزته ثورة التكنولوجيا في السنوات الأخيرة من وسائل تواصلية وتفاعلية، أثرت على العمل الاقتصادي، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، والإعلام التعايشي، وصناعة المعرفة، والتدفق المعلوماتي الآني، الذي يتيح لكل مستخدم أو متابع للاقتصاد أن يتفاعل مع الأسواق العالمية بصورة حية. وعلى هذا الأساس، لابد أن يشكل مجتمع المعرفة مشروعاً شاملاً ومتكاملاً للأمة العربية، تتجلى معالمه وخطوطه الناظمة في بضعة محاور رئيسة هي: ـ العالم العربي بحاجة ماسة إلى بيان ومنهج ثقافي وفكري جديد متعدد الأبعاد، يأخذ في الاعتبار أدوار المثقفين في الفضاء العام، مع إنتاج أفكار ومعان توازي التحولات الاجتماعية والمتغيرات الحالية في قضايا: الإصلاح، الحداثة، العولمة، الديمقراطية والمواطنة. ولأن (الوعي قبل السعي، والإنسان قبل البنيان)، فإن تقريب الثقافة والفكر يستدعي مداخل تواصلية بين المفكرين والمثقفين العرب في شتى المجالات، لصيانة الهوية والخصوصية الحضارية ومقاومة نزعات التطرف، العنف والاستبداد. ـ إصلاح قطاع التعليم والبحث العلمي: حيث يشكل تطوير سبل التعليم ومناهج الدراسة تحدياً أساسياً وكبيراً في المساعدة على ظهور أجيال جديدة من العلماء والباحثين مع ترسيخ ثقافة المعرفة في أوساط الشباب عموماً، فالتعليم العربي يحتاج رؤية جديدة، تُحسن جودة المنتج التعليمي، وتطور مواهب الإبداع والقيادة عند الناشئة وذلك من خلال مراجعة برامج التعليم الجامعي والمدرسي، وتحقيق التكامل والانسجام بينهما، مع توفير حرية أكاديمية، تقبل الاختلاف، وتقبل التواصل. ـ الاهتمام الجاد بقطاع الترجمة كونها أحد أهم أدوات التبادل الثقافي والمعرفي، وبناء الجسور بين الشعوب، فضلا عن إثراء المعرفة والمعلومات عند المواطن العربي. وتاريخنا يشهد على أن أهم مراحل الحضارة العربية، هي المرحلة التي ارتبطت بالاهتمام بالترجمة واعتبارها جزءاً من السياسة العامة للدولة. ـ ومن أولويات المرحلة أيضا تحقيق التكامل بين المعرفة والابتكار، فضلا عن دور الشبكات المعرفية في دمج الإبداع مع مسارات البحث والتعليم، وكذلك بحث وسائل توظيف تقنيات المعرفة في رفاهية المجتمع. ـ الحاجة إلى تغييرات مؤسساتية في الاقتصاد تستوجب تقوية الرأسمال المؤسساتي العربي، بتنسيق العمل المشترك بين الفاعلين في الأنشطة المعرفية والابتكارية من: جامعات، مراكز أبحاث، شركات تكنولوجية، مصارف تمويلية ووسائل إعلام. وكذلك، الدفع بالمبادرات الاستثمارية داخل الحقول المعرفية والعلمية من وسائط تمويلية للمشاريع الابتكارية، والمقاولات التكنولوجية، كما يقتضي هذا التغيير ترسانة قانونية، تواكب اقتصاداً معرفياً، يعكس صورة مجتمع العلم المأمول. ـ ضرورة ربط مخرجات التعليم باحتياجات السوق، وتشكيل فرق متخصصة للتنسيق والتحاور، ونقل وجهات النظر بين القائمين على المؤسسات التعليمية والعاملين على وضع القرارات المطلوبة لإدارة الاقتصاد. ـ إيجاد تنافسية معرفية عربية تتزامن مع إطلاق العمل على بناء مؤشر المعرفة، لرصد واقع المعرفة في الوطن العربي بشكل سنوي وفقاً لعدد من المؤشرات والمعطيات الفرعية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية الدالة على التقدم نحو مجتمعات واقتصادات المعرفة، ومن الضروري بعد ذلك منح تصنيفات خاصة عن مدى تطور المعرفة في كل دولة عربية. وختاما نقول: لقد صار العلمُ ساحةً للوغى، تتبارى فيها الدول، من أجل مواصلة الركب الحضاري، وإنجاز الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، على الرغم من الإكراهات الكثيرة، ويعد مجتمع المعرفة بالنسبة للعالم العربي ضرورة حتمية، تجعلُ مصيرَ الأمةِ مقيدا ببناء اللبنات الداعمة لكيان معرفي وعلمي متين، ومستقبلهَا رهنٌ بشعار وهدف كبير لا خيار فيه هو: العلم هو الحل!. كما أن نجاح التوجه المعرفي والتقني يظل مرهونا بتحقيق استقرار سياسي، وحرية فكرية، مع سلم اجتماعي ومقومات اقتصادية، وتطلعات ممنهجة نحو بناء المستقبل، ولكن من دون قفز على المراحل. *****
#عبد_الحكيم_الكعبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صفحات من تــأريخ التاريــخ : قراءة منهجية
-
الفكر التاريخي العربي: بين عُقم الواقعِ وآفاق التجديد
-
مقاربات في الوعي التاريخي: حُكمْ التاريخ !
-
المنهج النقدي في قراءة التاريخ
-
الإنسانية البازغة وسباق التحدي
-
التباس المفاهيم* والمصطلحات** أزمة الخطاب الإسلامي
-
# # الغراب لن يغرد أبداً !
-
أنسنة الاختلاف الديني، ضرورة حضارية
-
# مقاربات في جذور التخلف العربي الإسلامي المعاصر.(1)
-
## الوهم والحقيقة: في مشاعر الكراهية والعداء بين الأفراد وال
...
-
عصر الكراهية والإكراهِ
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|