|
الثورة المستحيلة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7450 - 2022 / 12 / 2 - 16:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إستحالة الثورة العالم القديم يحتضر. والعالم الجديد تأخر في الظهور. وبين النور والعتمة تولد الوحوش. أنطونيو غرامشي “Il vecchio mondo sta morendo. Quello nuovo tarda ad arrivare. E in questo chiaroscuro, nascono i mostri.” Antonio Gramsci
عندما يلقي الإنسان المعاصر نظرة ولو جانبية، على العالم "كما هو"، بأنظمته الشمولية المعقدة ومؤسساته وشركاته الرأسمالية العملاقة والجيوش الضخمة المسلحة بأعتى الأسلحة الفتاكة من القنابل الذرية والصواريخ المحملة بالرؤوس النوويه والتكنولوجيا النانوية والإلكترونيه والتي أصبحت تجعل الفرد مجرد هدف للدعاية التجارية العالمية، عندما يعي الإنسان كل ذلك تتبخر فجأة فكرة إمكانية تغيير العالم، ويتبخر الأمل البسيط الذي ما يزال يتحرك حيا في صدور الذين يحلمون بـ"الثورة". الثورة تبدو مستحيلة اليوم في أية بقعة من العالم، ونقصد الثورة الإجتماعية التحررية وليس الثورات المضادة المنظمة من قبل المخابرات السرية والعلنية. الثورة تبدو مستحيلة ليس لأن المجتمعات البشرية تخلصت من الفقر والتفاهه والتعاسة والإستغلال والإستعمار والعنصرية وبقية القائمة من الآفات الناتجة عن فيروس الكابتال وتحولاته المتعددة، بل العكس هو الذي يجعلنا نتسائل عن سبب هذه الإستحالة، الفقر يزداد يوما بعد يوم، والحروب المتعددة تحصد أرواح الأبرياء في كل مكان، حتى في أوروبا نفسها، ويزداد الإستغلال والعبودية الإختيارية ويزداد الأثرياء ثراء لدرجة جنونية .. فما الذي يجعل الأمل في الثورة والتغيير يتقلص ليصل درجة الصفر رغم أن الأسباب التي يمكن أن تبرر هذه الثورة وتشعل شرارتها الأولى توجد اليوم أكثر من الأمس؟ ربما أحد الأسباب يعود إلى النجاح الساحق للديانة الرأسمالية في تعمية المواطنين وتدجين الفكر وتسميم العقل النقدي وتفجيره ليتحول إلى عقل مفتت ومشتت بين مئات القضايا الجانبية ونسيان قضية الثورة الإجتماعية. ولا نعني بالقضايا الجانبية قضايا لاأهمية لها أو قضايا ثانوية، وإنما القصد هو أن نجاح هذه القضايا أو فشلها يرتبط عضويا بقضية واحدة وأساسية وهي قضية القضاء على الرأسمالية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن الدفاع عن البيئة ومحاولة إنقاذ الكرة الأرضية من الإحتراق دون التخلص من الرأسمالية التي تسمم الأنهار والبحار وتثقب الأرض والسماء، كما أنه من المستحيل القضاء على النظام الرجالي دون القضاء على الرأسمالية ومؤسساتها العسكرية. والرأسمالية ليست كائنا مجردا أو فكرة إفلاطونية تتسكع بين السحب، الرأسمالية كائن حقيقي يتمظهر واقعيا في ترسانة رهيبة من الأسلحة الدعائية الوبائية التي لا مثيل لها في السابق من ناحية الأثر والفعالية وسرعة الإنتشار. فقد خلقت الرأسمالية العالمية الأسلحة المناسبة لنشر ديانتها، فشيدت معابدها وعينت أنبيائها وكهنتها الذين يقومون بالدعوة لها ليل نهار دون كلل. فقد جندت المدارس والجامعات والكنائس والمساجد ولكن أيضا المؤسسات العلمية والمعامل والمختبرات وأجهزة الإعلام والمؤسسات الثقافية والفنية والإقتصادية والسياسية من أجل تسويق بضاعتها الليبرالية وإقناع العالم بعدم وجود بديل آخر لهذا الإله العدواني، وقد يعترف البعض من الذين لا يستطيعون تعمية المواطنين البسطاء لأسباب أخلاقية، بأن هذه الديانة لها مساوئها ومشاكلها الجانبية العديدة، مثل الحروب والفقر والمجاعة .. إلا أنها البضاعة الوحيدة المتواجدة في السوق، وليس هناك إختيار آخر. إن الرأسمالية لا يمكنها أن تزدهر بدون اللجوء إلى العنف بكل أنواعه، غير أنها منذ البداية فضلت العنف الملون بنوع من الحرية والإنسانية، وفضلت العبودية الإختيارية والعمالة المأجورة على الرق وعبودية السوط والسلاسل الحديدية. وجيوش العمال اليوم في العالم يستطيعون في ظرف أسبوع واحد من الإضراب العام أن يوقفوا هذه الآلة المتوحشة، غير أنه كما سبق القول، لقد أخذ السم طريقه إلى القلب وليس هناك أي مصل وقائي ضد الرأسمالية العالمية، بالإضافة إلى أن النظام أصبح من الضخامة والتعقيد بحيث أصبح المواطن يشك في قدرته على إدارة حياته بنفسه أو مع المواطنين الآخرين دون اللجوء إلى المؤسسات الرأسمالية، فكيف سينتج كل هذه الأشياء التي تملأ الأسواق وكيف سيدير الإنتاج والطاقة ومشاكل الدفاع والأمن والصحة والتعليم .. إلخ، وأصبح المواطن، في غياب الوعي الطبقي وغياب الفكر الثوري مقتنعا بضرورة الدولة والسلطة والجيش ورجال الأعمال. ولكن حتى لا نزيد المواطن اليائس إحباطا، نقول بأن المجتمعات لا تخضع لقانون القضاء والقدر، فهي تستطيع على الدوام النهوض من غفوتها وقلب الموازين والقوانين السائدة، وأحيانا بدون مبرر عقلي واضح. ونتسائل إذا كان ما يحدث في إيران اليوم هو بداية ثورة حقيقية سياسية وإجتماعية، أم هي ثورة مضادة مسيرة ومبرمجة من قبل القوى الرأسمالية العالمية للسيطرة المطلقة على شعوب المنطقة، كما حدث في الإنقلابات السابقة فيما سمي بالربيع العربي؟.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقل الزواحف
-
العقل بين الأرض والسماء
-
الإله البارد
-
الوجود بين الواقع والخيال
-
الإله اللامنتمي
-
تعايش العلم والخرافة
-
المثلية وحقوق الإنسان
-
مفارقة العقل والإيمان
-
النمل وكلام الله
-
الكلمات والكائنات
-
القرآن .. بين القراءة والفهم
-
-الحجر- بين العلم والفلسفة
-
الإنسان الآلي
-
الإنسان جسد أم جثة ؟
-
الإنسان بين المادة وال-الروح-
-
صمت الحروف
-
العدم والتجلي
-
عبادة العقل المتطرف
-
الكاثارسيس والفن كمطهّر إجتماعي
-
نشوة الفن ونشوة النبيذ
المزيد.....
-
لأول مرة منذ 9 أشهر.. شاهد إجلاء مرضى فلسطينيين عبر معبر رفح
...
-
السيسي لترمب.. لا لتهجير الفلسطينيين
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة ليكون أول رئيس يلتقي ترام
...
-
-د ب أ-: منظمة الشباب التابعة لحزب -البديل من أجل ألمانيا- ت
...
-
صربيا.. المحتجون يغلقون الجسور عبر نهر الدانوب في مدينة نوفي
...
-
اكتمال تثبيت قلب مفاعل الوحدة الثالثة في محطة -أكويو- النووي
...
-
بعد سحب منتجات كوكاكولا مؤخرا.. إليكم تأثيراتها على الجسم!
-
هل تعاني من حرقة المعدة أو الارتجاع بعد شرب القهوة؟.. إليك ا
...
-
مشاهد للقاء الأسير الإسرائيلي الأمريكي كيث سيغال مع بناته
-
ظاهرة غامضة تتسبب في سقوط شعر جماعي لسكان إحدى ولايات الهند
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|