|
رواية للفتيان البجعة
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7445 - 2022 / 11 / 27 - 23:49
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
البجعة
طلال حسن
" 1 " ـــــــــــــــــــ
خرج ساشي من الكوخ ، بعد شروق الشمس ، قاصداً البحيرة ، التي تقع وراء الغابة ، ملبياً نداء ، لا يدري من أين يأتيه ، أهو من مجاهل أعماقه ؟ أم من حلم لا يكاد يفارقه أم من مكان ما من البحيرة ؟ ولم يلتفت إلى أمه العجوز ، التي لحقت به ، ووقفت عند الباب ، وهتفت : ساشي ، عزيزي ، لا تتأخر ، لن أتناول طعام الغداء حتى تعود . وأشارت لكلبه أن يتبعه ، فتبعه الكلب مسرعاً ، دون أن ينبح ، أو يصدر عنه أي صوت . وكما أن ساشي لا يلتفت إلى ظله ، حين يمشي في أي مكان من القرية أو الغابة ، فإنه لم يلتفت إلى كلبه ، الذي قلما يفارقه ، في الليل أو في النهار . وراحت الأم العجوز تتابع ساشي بعينيها الكليلتين ، وهو يسير مبتعداً ، وكلبه يهرول وراءه ، ودخلت الكوخ ، دون أن تغلق الباب ، رغم أن الريح كانت محملة ببرودة الخريف ، آه من ساشي ، وهزت رأسها مبتسمة ، إنه كأبيه الراحل ، لا يكاد يستقر في مكان ، وكأن الأبعاد تناديه دائماً : ساشي .. تعال .. تعال . وتوغل ساشي في أعماق الغابة ، سائراً كالمسحور ، وكأنه لا يرى ما حوله ، وكلبه يسير وراءه إلى جانب ظله . وتوقف في فسحة بين الأشجار ، حين سمع رفرفة أجنحة ثقيلة ، ورفع رأسه إلى الأعلى ، متمنياً أن يرى البجعة ، التي طالما رآها في أحلامه ، لكن بدل بجعة الحلم البيضاء ، رأى زوجاً من اللقالق ، يطيران متجاورين ، متجهين إلى البحيرة القريبة . واستأنف ساشي سيره بخطى ثابتة ، متجهاً هو الآخر إلى البحيرة ، لعله يرى بجعة الحلم ، تسبح في المياه الصافية ، رغم أن الخريف ، بدأ يفقدها بعض دفئها ورونقها . وعند طرف الغابة ، القريب من البحيرة ، أفاق على الحطاب العجوز يناديه بصوته الشائخ : هي .. ساشي . وتوقف ساشي ، والتفت إلى الحطاب العجوز ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي . وردّ الحطاب العجوز قائلاً، وهو يتكىء على فأسه : أهلاً بنيّ ، توقف قليلاً . وتوقف ساشي ، وقال : إنني ذاهب إلى البحيرة ، لكن أبقى معك بعض الوقت . فابتسم الحطاب العجوز ، وهو يمسح العرق عن جبينه المتغضن ، وقال : أكون ممتناً لك . واقترب ساشي منه ، يتبعه كلبه ، وقال : أنت متعب ، يا سيدي ، أعطني الفأس ، ودعني أساعدك . وهزّ الحطاب العجوز رأسه ، وقال : لا يا بنيّ ، إنني لا أحتاج إلى هذا النوع من المساعدة . وصمت لحظة ، متطلعاً إلى ساشي ، ثم قال : إنني كما تعرف ، أعيش وحيداً في كوخي ، بعد أن ماتت زوجتي ، وتزوجت ابنتي ، ورحلت بعيداً مع زوجها . ابتسم ساشي ، وقال : هذه مشكلة حقاً ، لكن هناك حلاً لها . ونظر الحطاب العجوز إليه متسائلاً ، فقال ساشي :تزوج ، يا سيدي ، ما زلت شاباً . وابتسم الجد بدوره ، وقال : هذا محال ، فبعد زوجتي ، التي عاشت معي حوالي خمسين عاماً ، لن أتزوج من أي امرأة ، حتى لو لم أكن في هذا العمر . وضحك ساشي ، وقال : أعرف هذا ، كما يعرفه جميع من في القرية ، أنت إنسان وفي . وصمت لحظة ، ثم قال : أريد ، يا سيدي ، أن أساعدك بما أستطيعه . وربت الحطاب العجوز على كتفه ، وقال : أشكرك ، يا ساشي ، لقد ساعدتني . ونظر إليه ساشي متسائلاً ، فقال الحطاب العجوز : وقفت قربي ، وحييتني ، وتحدثت إليّ ، هذه أجمل مساعدة يقدمها لي شاب مثلك . وصمت الحطاب العجوز ، منصتاً إلى رفرفة أجنحة ، في أعالي السماء ، ورفع مون رأسه ، وقد أشرقت عيناه بفرح غامر ، وقال بصوت حالم : آه .. بجع . ونظر الحطاب العجوز إلى البجع ، الذي يحلق على شكل الرقم سبعة ، تقوده بجعة حكيمة مجربة ، وقال : آه ، ها هو البجع يهاجر بعيداً ، يبدو أن الشتاء سيأتي مبكراً هذا العام . وتابع ساشي سرب البجع ، وهو يحلق عالياً ، في سماء بدأت الغيوم تغزوها ، وقال : آه ليتني أهاجر أنا الآخر ، حيث يهاجر سرب البجع هذا . وضحك الحطاب العجوز ، وقال : هذا صعب للغاية ، يا بنيّ مون ، فالبجع يهاجر كلّ عام ، في مثل هذا الوقت ، إلى بحيرة البجع ، التي تقع وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس . ونظر ساشي إلى الحطاب العجوز ، وقال : أيها الحطاب ، أنت عشت عمراً مديداً ، وكنت طبعاً شاباً في يوم من الأيام ، ألم تنادك يوماً بجعة من البجع ؟ وابتسم الحطاب العجوز ، وقد التمعت عيناه : كنت في شبابي أحلم ببجعة تأخذني إلى البعيد ، لكن بجعة من قريتني نادتني ، فلبيت نداءها ، وعشت إلى جانبها سعيداً العمر كله . لاذ مون بالصمت لحظة ، ثم نظر إلى الحطاب العجوز ، وقال : أنا تناديني بجعة في الحلم ، ويأتيني صوتها الساحر من بعيد ، ويبدو أنها تناديني من بحيرة البجع ، التي تقع ، كما قلت ، وراء الجبال البعيدة ، حيث تشرق الشمس . وشدّ الحطاب العجوز يده على مقبض فأسه ، مستعداً لمواصلة عمله ، وهو يقول : إياك ، يا ساشي ، أن تصغي إلى بجعة ، تناديك في الحلم ، فطالما ضاع فتيان كالورود في متاهات أحلامهم ، ولم يعودوا إلى بيوتهم وأحبائهم أبداً .
" 2 " ــــــــــــــــــــ عاد ساشي من الغابة ، دون أن يعرج على البحيرة ، كما كان قد قرر ، حين غادر الكوخ ، ولماذا يعرج عليها ، مادام البجع قد مضى محلقاً في أعالي السماء ، عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع ، التي تقع عند مشرق الشمس ؟ وبدل أن يدخل الكوخ ، حيث كانت أمه العجوز تنتظره ، بعد أن أعدت له طعام الغداء ، جلس على المصطبة الخشبية ، التي صنعها أبوه ، قبل رحيله بسنوات طويلة ، ووضعها تحت شجرة الجوز ، وعلى مبعدة منه ، أقعى كلبه ، الذي لم يفارقه لحظة واحدة ، وهو يتطلع إليه بعينيه الصغيرتين اللامعتين . وعلى الفور ، خرجت أمه العجوز من الكوخ ، وقد اشتمت رائحته ، التي تقول إنها رائحة أزهار الغابة ، واقتربت منه ، وقالت : بنيّ ساشي . لم يتحرك سلشي ، فمالت أمه العجوز عليه ، وقالت : تأخرت كثيراً في الغابة . ونظر الكلب إلى ساشي ، كأنه يحثه على الإجابة ، لكن ساشي ظل صامتاً ، فقالت الأم العجوز : بنيّ ، لقد برد طعام الغداء . واعتدلت الأم العجوز حائرة ، فالتفت ساشي إليها ، وحدق فيها بعينيه اللامعتين ، اللتين ذكرتاها بعيني أبيه ، عندما قرر ذات يوم أن يتركها ، ويذهب إلى وادي الذئاب ، وقال : أمي . وربما شعرت الأم العجوز بخطورة ما سيقوله لها ، فتراجعت قليلاً ، وقالت : بنيّ ، تعال إلى الداخل ، وتغدّ ، لابد أنك متعب وجوعان الآن . وأدرك سلشي ، أن أمه العجوز التي حنكتها الأيام ، تريد أن تتهرب من تساؤله ، وكأنها تعرف ماذا سيقول ، رغم أنه لم يفصح لها يوماً عن دخيلته ، فتساءل قائلاً : هل تعرفين بحيرة البجع ؟ لاذت الأم العجوز بالصمت لحظة ، ثم قالت : بنيّ ، إنني جائعة ، ولابد أن آكل ، لقد تأخرت كثيراً عن موعد تناول طعام الغداء . وقاطعها ساشي قائلاً : أمي . واستدارت الأم العجوز ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : أنت شاب ، ويمكنك أن تتحمل الجوع ، أما أنا فامرأة عجوز .. نهض ساشي ، ولحق بأمه العجوز عند الباب ، والكلب يهرول في أثره ، وقال : أنت تعرفينها ، يا أمي ، تعرفين بحيرة البجع . اندفعت الأم العجوز إلى الداخل ، دون أن تلتفت إليه ، وقالت : هذه حكايات مجانين . وتبعها ساشي إلى الداخل ، وتوقف الكلب ، ودار حول نفسه حائراً ، لكنه لم يتجاوز عتبة الباب ، وقال ساشي : حدثني عنها الحطاب العجوز . فقالت الأم العجوز منفعلة : الحطاب العجوز ، إنه خرف مجنون .. قاطعها ساشي محتجاً : أمي . لكنها واصلت كلامها قائلة : لقد جنّ هذا العجوز ، منذ أن فقد زوجته ، إن المرء يصيبه الجنون ، يا بنيّ ، حين يعيش وحيداً .. وصمتت لحظة ، ثم أضافت بصوت دامع : وأنا لا أريد أن أعيش وحيدة ، يا بنيّ . توقف ساشي ، ثم تراجع صامتاً ، وقد بدا عليه التأثر ، وجلس على الفراش ، وقال : الوقت تجاوز منتصف النهار بكثير ، فلنأكل بعض الطعام . لم تند عن الأم العجوز أية حركة ، فنظر إليها مشفقاً ، وهز رأسه ، وقال بنبرة هادئة مصالحة : آه يا أمي ، أشمّ رائحة سمك . فمدت الأم العجوز يديها إلى صحاف الطعام ، وقالت : بصوت تبلله الدموع ، إنه السمك ، الذي اصطدته يوم أمس من البحيرة . ووضعت الأم العجوز صحاف السمك أمامه ، ووقفت دون حراك ، ونظر ساشي إليها ، ، وقال : هيا يا أمي ، لنأكل معاً . وتنهدت الأم العجوز ، وردت قائلة : كل أنت ، سآكل أنا فيما بعد . فاعتدل مون ، وقال : اجلسي ، يا أمي ، وكلي ، لن آكل إذا لم تأكلي معي . وظلت الأم العجوز واقفة ، ثم جلست قبالته ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وبعد أن انتهيا من تناول الطعام ، نهض ساشي ، وقال : إنني متعب ، سأنام قليلاً . وتمدد ساشي في فراشه ، وأدار وجهه إلى الحائط ، وأغمض عينيه ، لكنه لم ينم . ونهضت الأم العجوز ، ونظفت الصحاف ، وأعادتها إلى أماكنها ، وبدل أن تتمدد في فراشها هي الأخرى ، فتحت الباب بهدوء ، ومضت إلى الخارج ، وجلست على المصطبة ، تحت شجرة الجوز . وجلس الكلب على مقربة منها ، وعيناه الضيقتان المتلامعتان تطفحان بالحيرة والتساؤل ، وانتبهت الأم إلى الكلب يرفع رأسه ، ويلتفت ، فنظرت حيث كان ينظر ، فرأت رانمارو بعينيه السوداوين اللامعتان تسير وجرتها فوق كتفها ، لابد أنها ذاهبة إلى البئر ، آه في يوم بعيد ، كانت هي أيضاً بجعة شابة ، وكانت تحمل جرتها ، وتذهب لتملأها من البئر ، حتى لو لم يكونوا بحاجة ملحة إلى الماء ، فقد كانت عينا صائد الذئاب تترصدانها .. آه يا صائد الذئاب .
" 3 " ـــــــــــــــــــــ
نادت ابنتها من المطبخ : رانمارو . أنصتت الأم ، لم تسمع رداً ، ظنت أن رانمارو لم تسمعها ، لكن رانمارو سمعتها ، وظلت تتقلب قلقة ، منزعجة ، على فراشها . اقتربت الأم من باب المطبخ ، ورأت زوجها في الفناء ، يتأمل مبتسماً شجيرات الورد ، فتطلعت إلى غرفة ابنتها ، ونادت بصوت أعلى : رانمارو . اعتدلت رانمارو ، إنها تعرف ما وراء هذا النداء ، لكن هيهات ، وزمت شفتيها بغضب ، الأحمق ساشي ، بدل أن يأتي ، ويقابل أمها وأباها ، يركض على شاطىء البحيرة ، وراء البجع . ولكي تقطع الطريق على أمها ، وتتجنب الحديث الذي لا تريد أن تسمعه ، نهضت من فراشها ، وخرجت من الغرفة ، وتناولت الجرة ، دون أن تلتفت إلى أبيها ، وصاحت من الفناء : أمي ، سأذهب إلى البئر ، وأملأ الجرة ماء . لم تفلت رانمارو ، فقد أسرعت أمها إليها ، وأمسكتها عند الباب ، وقالت : دعي الجرة الآن ، لدينا ماء يكفينا حتى الغد . وحاولت رانمارو أن تعترض ، فأخذت أمها الجرة منها ، وأعادتها إلى مكانها ، وقادتها برفق إلى المطبخ ، وهي تقول : أبوك لم يفطر بعد ، تعالي ساعديني في إعداد طعام الفطور . وانقادت رانمارو لأمها ، ودخلت معها المطبخ ، ونظرت إليها أمها مبتسمة ، وقالت : عندما كنت في عمرك ، يا رانمارو ، رزقتُ بطفلي الأول . وردت رانمارو ، دون أن تنظر إلى أمها : هذا صار من الماضي ، الزمن يتغير ، يا ماما . والتفتت إليها أمها ، وقالت : الزواج الجيد فرصة ، يا حبيبتي ، قد لا تتكرر في العمر مرتين . ولاذت رانمارو بالصمت ، فتابعت الأم قائلة : لو كان ساشي جاداً ، لربما كان زوجاً لا بأس به . قالت رانمارو : ماما ، إنني أحبه . ردت الأم قائلة : هذا لأنك حمقاء . ولاذت رانمارو بالصمت ، فقالت الأم : لا تقولي هذا أمام أبيك ، وإلا قتلك . وتناهى وقع أقدام من الفناء ، فتطلعت الأم عبر النافذة ، ثم قالت : أقبل أبوك ، سيتناول فطوره . والتفتت إلى ابنتها ، وقالت : بنيتي . والتفتت رانمارو إليها ، فقالت الأم : اذهبي ، وخذي الجرة ، واملئيها من البئر . وردت رانمارو قائلة : لكنك قلتِ .. وقاطعتها أمها ، وهي تمسح يديها : اذهبي إلى البئر ، واملئي الجرة . وخرجت رانمارو من المطبخ ، لتأخذ الجرة ، وتملأها من البئر ، ورآها أبوها في الفناء ، فقال متسائلاً : رانمارو ، هل الفطور جاهز ؟ وردت رانمارو قائلة ، دون أن تتوقف : نعم ، ماما تنتظرك في المطبخ . ودخل الأب المطبخ مبتسماً ، بينما حملت رانمارو الجرة ، وخرجت بها من البيت ، متجهة عبر أزقة القرية إلى البئر لتملأها ماء . وتوقفت رانمارو ، والجرة في يدها ، لابد أن لدى أبيها أخباراً سارة لأمها ، وعليها أن تعرفها ، لكن أمها صرفتها عامدة ، وقالت لها ، أن تذهب إلى البئر ، وتملأ الجرة ، هذه ليست معضلة ، ما فائدة القوى السحرية ، التي ورثتها من جدتها إذن ؟ ونظرت شو إلى الجرة ، وهمست لها قائلة : أيتها الجرة ، امتلئي . وعلى الفور ، طفحت الجرة بالماء ، فوضعتها شو على كتفها ، وقفلت عائدة إلى البيت . وعلى عجل ، دفعت رانمارو الباب ، ودخلت إلى البيت ، حاملة الجرة المليئة بالماء . ورأتها أمها من نافذة المطبخ ، فتوقف عن الكلام مع زوجها ، وهتفت بها : قلتُ لك ، املئي الجرة من البئر . فأرتها رانمارو الجرة الطافحة بالماء ، وقالت : وهذا ما فعلته ، انظري . وسكبت بعض الماء من الجرة ، لتريه لأمها ، فصاحت الأم : كفى ، لا تسكبي الماء . وخرج الأبوان من المطبخ ، واقترب الأب من رانمارو ، مبتسماً ، وقال : مبروك ، يا ابنتي . وابتسمت الأم ، وقالت : سيأتيان غداً ، الشاب الغني وأمه ، ويخطبانك . أسرعت رانمارو إلى غرفتها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، فضحك الأب ، ونظر إلى الأم ، وقال : هذا خجل العذارى الصغيرات . لكن الأم نظرت إليه ، دون أن تبتسم ، أو تتفوه بكلمة واحدة . ثم التفتت إلى ابنتها رانمارو ، التي دخلت غرفتها ، وصفقت الباب بقوة . وألقت رانمارو نفسها على فراشها ، وضربت مخدتها بشدة بجمع يدها ، آه من هذا الأحمق ساشي ، وجمدت لحظة ، لا فائدة من هذا الكلام ، سيأتي هذا الشاب الغني غداً ، ومعه أمه اللعينة ، و .. لابد أن تفعل شيئاً ، وإلا طار عاشق البجع من بين يديها .
" 4 " ــــــــــــــــــــ
لم يغادر ساشي فراشه . والأم العجوز ، لم تغادر المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز . والكلب يجثو على مقربة منها ، متطلعاً إليها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، كأنه يريد أن يعرف ، دون جدوى ، ما الذي يجري . ورانمارو نفسها ، بقيت في فراشها ، متحفزة منزعجة ، وقد أغلقت أذنيها ، عما يتحدث به والداها ، وهما يجلسان ، في الفناء ، بين شجيرات الورد . ومن بعيد ، لاح الحطاب العجوز ، حاملاً فأسه ووحدته ، يسير متثاقلاً ، متجهاً بتثاقل نحو الغابة ، ليحتطب حطباً ليس بحاجة إليه . ونهضت الأم العجوز من على المصطبة ، ورياح الخريف المثقلة بالرطوبة والبرد ، تداعب أغصان شجرة الجوز ، ومعها نهض الكلب ، ومضت إلى الكوخ ، وسار الكلب وراءها ، لكنها حين اجتازت عتبة الباب إلى الداخل ، توقف الكلب بعينيه الضيقتين اللامعتين ، وراح يدور قلقاً ، إنه يعرف حدوده ، ولا يريد أن يتجاوزها ، وحدوده باب الكوخ ، لكنه يريد أن يعرف ، ما الذي يجري ، لعله يهدأ قليلاً . ودخلت الأم العجوز غرفة ساشي ، ونظرت إليه ، إنه مستيقظ ، هذا ما تعرفه جيداً ، رغم أنه منطرح في فراشه ، ووجهه إلى الحائط . اقتربت منه ، وتوقفت لحظة ، ثم مالت عليه ، ونادته بصوت هامس : ساشي . لم يردّ ساشي ، ولم تند عنه حركة واحدة ، فهمست الأم العجوز ثانية : ساشي .. ساشي . وثانية لم يردّ ساشي ، ولم يتحرك ، فتابعت الأم العجوز قائلة : سألتني عن بحيرة البجع .. وندت عن ساشي حركة لا إرادية ، لكنه لم يلتفت بوجهه إليها ، فقالت : إنني أعرفها .. لم يردّ ساشي ، ولم يلتفت ، فقالت الأم العجوز : حدثتني عنها جدتي ، وقالت إنها تقع عند مشرق الشمس ، وراء الجبال البعيدة . واستدار ساشي ، متطلعاً إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأم العجوز : كان زوجها شاعراً ، نادته بجعة ربما في الحلم ، فتبعها عبر الجبال البعيدة ، قاصداً بحيرة البجع ، لكنه لم يعد ، ويقال أنه وصلت منه قصيدة شعرية عنوانها .. بحيرة البجع . واعتدلت الأم العجوز ، وهي تقول : أنتم الرجال ، تصابون في مرحلة ما من أعماركم بلوثة ، قد تكون أحياناً خطرة للغاية ، إذا لم تعالجها امرأة في اللحظة الأخيرة . لاذ ساشي بالصمت ، ونهضت الأم العجوز ، وغادرت الكوخ ، وعادت إلى مكانها الظليل ، على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وعاد الكلب ، وجلس على مبعدة منها ، وعيناه الضيقتان مازالتا تلتمعان بالأسئلة . انحدر قرص الشمس الملتهب ، رغم برودة أول الخريف ، وكاد يغرق وراء الأفق ، حين تناهى إلى الأم العجوز ، وقع أقدام ساشي ، خارجاً من الكوخ ، وأنصتت متوجسة صامتة ، وهو يسير مقترباً منها ، ثم أحست به يجلس إلى جانبها على المصطبة تحت شجرة الجوز . ومن غير أن تلتفت إليه ، قالت : أبوك نفسه ، أصيب بلوثة ، قبل زواجه مني . وصمتت لحظة ، ثم قالت : لم يفكر في الذهاب إلى بحيرة البجع ، فقد كانت لوثته من نوع آخر ، كان مولعاً بقتل الذئاب ، وأراد أن يذهب إلى وادي الذئاب ، ولو ذهب إلى ذلك الوادي لما عاد أبداً . وصمتت الأم العجوز ، فالتفت ساشي إليها ، وقال : ليس فيّ ، على ما يبدو ، شيء من أبي ، بل شيء من جدي .. الشاعر . لاذت الأم العجوز بالصمت ، ثم نهضت ، ومضت نحو الكوخ ، وهي تقول : لقد غابت الشمس ، لابد أن أشعل القنديل ، وأعد طعام العشاء . لم يلحقها الكلب ، وإن تابعها بعينيه الضيقتين اللامعتين ، حتى دخلت الكوخ ، ثم التفت إلى ساشي ، محدقاً فيه ، دون أن يندّ عنه أي صوت . غربت الشمس ، وتغامزت في السماء أولى النجوم ، لكن ساشي ظلّ جالساّ في مكانه على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعيناه مشدودتان إلى الجبال البعيدة . وتحركت رانمارو في فراشها ، وتطلعت عبر النافذة إلى السماء ، النجوم تتلامع ، ويزداد تلامعها مع اشتداد الظلام ، لكن الوقت مازال مبكراً ، فالقمر لم يطلع بعد من وراء الجبال ، ويسطع فوق القرية . وأطلت الأم العجوز من باب الكوخ ، وهتفت بابنها : ساشي ، تعال ، الطعام جاهز . ومن بعيد ، لاح الحطاب عائداً من الغابة ، حاملاً على ظهره المتعب حزمة من الحطب ، وسار ببطء متثاقلاً ، متجهاً إلى كوخه البارد ، الواقع في الطرف الآخر من القرية . ونهض ساشي ، ومضى نحو الكوخ ، والكلب يسير في أثره ، حتى الباب ، ودخل الكوخ ، وجلس قبالة أمه العجوز ، وراحا يتناولان طعامهما صامتين . وأطلت الأم من النافذة ، متطلعة إلى غرفة رانمارا ، التي يلفها الظلام ، وقالت : يبدو أن رانمارو قد أطفأت القنديل ، ونامت . ونظر زوجها إليها ، وهو متمدد في فراشه ، وقال : لم أرَ رانمارو فرحة بخطيبها . وتمددت الأم إلى جانبه في الفراش ، وقالت : لا عليك ، ستفرح حين تراه ، وترى مقدار غناه .
" 5 " ـــــــــــــــــــــ
سمعت الأم العجوز ، وهي متمددة في فراشها ، وقد جفاها النوم ، نقراً خفيفاً على باب الكوخ ، فاعتدلت منصتة ، لعل ساشي ينهض ، ويرى من الطارق . وسمعت الأم العجوز النقر الخفيف ثانية ، وثانية لم يتحرك ساشي ، فنهضت متسللة من فراشها ، وفتحت الباب بهدوء ، ووقفت مندهشة ، ثم هتفت بصوت هامس : رانمارو ! مالت رانمارو عليها ، وهمست محيية بصوت خافت : طاب مساؤك ، يا سيدتي . وردت الأم العجوز بنفس الصوت الهامس : طاب مساؤك ، يا بنيتي رانمارو . ولمعت في ذهنها فكرة ، فمدت يدها ، وأغلقت باب الكوخ بهدوء ، وأمسكت بيد رانمارو ، وقالت : من حسن الحظ ، أنك جئت الآن ، يا رانمارو . دهشت رانمارو ، لكنها استسلمت للأم العجوز ، التي قادتها في ضوء القمر ، وأجلستها إلى جانبها ، على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت : رانمارو ، أعرف أنّ ساشي يهمك . نظرت رانمارو إليها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : وأعرف أنك تهمين ساشي . ومرة أخرى ، لم تتفوه رانمارو بكلمة ، فقالت الأم العجوز : ساشي سيطير منك . وهنا قالت رانمارو : بل أنا سأطير منه . وقالت الأم العجوز ، وكأنها لم تسمعها : أنت صغيرة ، وربما لم تعرفي بعد ما يصاب به بعض الرجال من لوثة ، في مرحلة ما من مراحل عمرهم .. وحدقت رانمارو فيها مندهشة ، فتابعت الأم العجوز قائلة : ساشس جُنّ ببجعة ، يا رانمارو . هتفت رانمارو : امرأة ! فقالت الأم العجوز : لا ، بجعة بيضاء ، تأتيه في الحلم ، وتقول له تعال .. تعال .. تعال . وهتفت رانمارو ثانية : هذه امرأة . وتابعت الأم العجوز ، كأنها لم تسمع ما قالته رانمارو : يقول إنها تناديه من بحيرة البجع . واتسعت عينا رانمارو ، وتمتمت مذهولة : ماذا ! بحيرة البجع ! فقالت الأم العجوز : هذه بحيرة غريبة ، تقع وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، هذا إن كانت هناك فعلاً مثل هذه البحيرة . وقالت رانمارو : وأنا سيأتيني شاب غنيّ ، ومعه أمه ، وسيخطباني غداً ، ويطير بي إلى قريته ، إن أمي مجنونة به . فقالت الأم العجوز : أمك مجنونة ، دعك منها ، ساشي لك ، اشفيه من لوثته ، وخذيه . اعتدلت رانمارو ، وكأنها تتهيأ لخوض معركة ، فقالت الأم العجوز : سأدخل الكوخ ، أطرقي الباب بعد قليل ، وسأدعه يخرج إليك . ومضت الأم ، وقالت : لا تخبريه بما قلته لك . فقالت رانمارو : لا ، كيف أخبره ؟ إنني رانمارو . ابتسمت الأم العجوز ، ومضت إلى الكوخ ، وهي تقول : تهيئي ، أطرقي الباب ، وسترينه أمامك . دخلت الأم إلى الكوخ ، وتمددت في فراشها ، وبعد قليل طرق الباب ، فاعتدلت الأم ، وقالت : ساشي ، انهض يا بنيّ ، الباب يطرق . طرق الباب ثانية ، ففتح ساشي عينيه ، وهو يغالب النعاس ، فقالت الأم العجوز : الباب يُطرق ، يا ساشي ، انهض وانظر من الطارق . نهض ساشي ، واتجه نحو الباب ، فتمددت الأم العجوز في فراشها ، وهي تقول : أغلق الباب ، يا ساشي ، إذا كان الطارق أحد أصدقائك . وفتح ساشي الباب ، وسمعته أمه يتهامس بصوت خافت حنون ، ثم يخرج ، ويغلق الباب ، فابتسمت ، وقالت في سرها : رانمارو فتاة داهية ، وستشفيه من لوثته ، إن جدتها كانت ساحرة كبيرة . ونهضت الأم العجوز ، وتسللت بخطوات مكتومة إلى الباب ، ووقفت تتنصت . جلست رانمارو على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وقالت لساشي : تعال يا ساشي ، تعال ، اجلس هنا إلى جانبي . وجلس ساشي إلى جانها ، وهو يهز رأسه ، فنظرت رانمارو إلى القمر ، وقالت : أنظر ، يا ساشي . ونظر ساشي حيث أشارت رانمارو ، ثم قال : يبدو أنك جئتِ تودعينني ، يا رانمارو . ردت رانمارو قائلة : هذا ما تحلم به أمي . ونظر ساشي إليها ، فتابعت رانمارو قائلة : سيأتي الشاب الغنيّ غداً ، ومعه أمه ، وسيتقدم لخطبتي ، وسيطير بي بعيداً ، يا ساشي . احتجّ مون قائلاً : لكن .. وصمت ساشي ، فتساءلت رانمارو : لكن .. لكن ماذا ، يا ساشي ؟ قال ساشي : لا تتزوجيه . قالت رانمارو : إنه شاب ، وغني .. لاذ ساشي بالصمت ، فنظرت رانمارو إليه ، وقالت : لن أتزوجه إذا أردتَ . قال ساشي : أنتِ لي . فقالت رانمارو : لا تسافر إذن . قال ساشي بصوت مقهور : لابد أن أسافر . نهضت رانمارو ، ومضت مبتعدة ، حتى تلاشت في الظلام ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة . وأقبلت أمه من الكوخ ، وقد تنصتت إلى كلّ شيء ، وجلست على المصطبة تحت شجرة الجوز ، وقالت بنبرة جازمة :ساشي ، اسمعني جيداً ، غداً مع الفجر ، سأذهب عند أختي ، وأبقى معها عدة أيام .
" 6 " ــــــــــــــــــــ
دخلت عليها أمها الغرفة ، والشمس لم تشرق بعد ، واقتربت منها ، وهتفت بها بصوت يشي بفرحها : رانمارو ، استيقظي . لم ترد رانمارو على أمها ، رغم أنها كانت مستيقظة تماماً ، فهزتها أمها برفق ، وقالت : انهضي ، يا عزيزتي ، سيصل خطيبك اليوم ، ومعه أمه . وهمهمت رانمارو بكلمات مختلطة ، لا يفهم منها أي شيء ، فمضت الأم خارجة إلى الفناء ، وهي تقول : الفطور سيجهز بعد قليل ، الحقي بي . وتوقفت الأم لحظة عند الباب ، فقد خيل إليها ، أنها سمعت رانمارو تقول : لن يصلا .
ولسبب ما ، وعلى غير العادة ، ظلّ رانمارو منطرحاً في فراشه ، رغم أن الشمس كانت تطل عليه من شباك الكوخ ، وقد خلا تفكيره ـ ويا للغرابة ـ من بحيرة البجع . وحتى كلبه ، الذي يستيقظ عادة ، قبل أي ديك من ديكة القرية ، كان مستسلماً لإغفاءة عميقة ، عند عتبة باب الكوخ .
واعتدلت رانمارو في فراشها ، وخاطبت جدتها ، التي لم ترها في حياتها مرة واحدة : جدتي ، إنني حفيدتك رانمارو ، لن يصلا ، يا جدتي ، لن يصلا . ولم تسمع رانمارو جدتها تردّ عليها ، ونهضت من فراشها مطمئنة ، فجدتها ساحرة عريقة ، وهي تعرف بالضبط أنها سمعتها من عليائها ، وأنها توافقها على ما صممت عليه ، بل وستساعدها على تنفيذه ، مهما كلف هذا الأمر .
وفي غضون ذلك ، كان الخطيب الشاب كينشن ، يستبدل ملابسه على عجل ، وحانت منه نظرة إلى قميصه ، الذي كان يبكل أزراره ، وهتف بأمه ، التي كانت ترتدي ملابس الخروج في الغرفة المجاورة : ماما ، أين قميصي الأزرق ؟ وأطلت أمه من باب الغرفة ، وألقت عليه نظرة سريعة ، وقالت مندهشة : أوه ، هذا هو قميصك الأزرق ، يا كينشن ، أنت ترتديه . ونظر كينشن إلى قميصه ، ولم يتوقف عند لونه ، الذي لم يكن أزرق ، فإن عليه أن يسرع ، فعربته بالباب ، يجرها حصانه الأدهم ، وسيأخذه على جناح السرعة إلى خطيبته الشابة .. رانمارو . انطلقا بالعربة ، كينشن وأمه ، على طريق زراعيّ ، تحيطه حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، ولم يلتفت الشاب إلى حصانه ، الذي لم يعد ـ كما كان ـ أدهم ، وقالت أمه ، دون أن تلتفت إليه : لا تسرع ، يا كينشن ، فالطريق إلى بيت خطيبتك رانمارو ليس طويلاً . وخفف كينشن سرعة العربة ، لا لأن أمه قالت له ، أن لا يسرع ، بل لأنه رأى بحيرة على جانب الطريق ، لم يرها في هذا المكان من قبل ، وعاد إلى سرعته ، حتى عندما رأى أن من يقود العربة ليس حصانه ، الذي لم يعد أدهم ، بل كائن آخر ، لم ير ما يشابهه في محيط عالمه ، فقل لأمه ، دون أن يلتفت إليها : ماما ، أنظري رجاء ، وأخبريني ، من الذي يقود عربتنا ؟ ونظرت أمه ، وقالت : هذا جمل . وتساءل كينشن : إذا كان هذا جملاً ، فأين هو حصاني الأدهم ، يا ماما ؟ وهزت الأم رأسها ، وقالت : واصل قيادتك للعربة ، ، ياكينشن ، المهم أن نصل ، سواء بعربة يجرها حصان أدهم أم جمل أم .. فيل . ولم تكد الأم تنطق بكلماتها ، حتى كان فيل ضخم ، يجر العربة ، في طريق صحراوي قفر .
وأعدت الأم الفطور ، وجلست إلى جانب زوجها ، وقبالتهما جلسترانمارو ، وراحوا يتناولون صامتين طعام الإفطار . ونظرت الأم إلى رانمارو فرحة ، وتراءت لها فرحتها في مثل يومها هذا ، ورمقت زوجها بنظرة سريعة ، وغمزت له ، فمال عليها زوجها مبتسماً ، وهمس لها : أنت أيضاً كنت خجلة هكذا ، عندما زرتكم لأول مرة ، ألا تذكرين ؟ وكتمت الأم ابتسامتها ، ولكزت زوجها قائلة : كلْ الآن ، كلْ ، كلْ . وهزت رأسها ، هل كانت حقاً خجلة هكذا يوم ذاك، أم أن هذا ما أرادت أن تريه يومها لخطيبها ، فهي تعتقد ، أن الرجال عامة يريدون أن يروا الخطيبة خجلة ، وهذا ما حرصت وقتها أن تريه له . ونظرت الأم ثانية إلى رانمارو ، وقالت : كلي ، يا ابنتي ، كلي ، فهذا يومك . وردت رانمارو ، دون أن ترفع وجهها إلى أمها : إنني آكل ، يا أمي .
خرج مساشي من الكوخ ، بعد أن تناول القليل من الطعام ، فأمه عند أختها ، وهي من كانت تحثه دائماّ على تناول المزيد من الطعام . وجلس على المصطبة ، تحت شجرة الجوز ، وعلى مقربة منه ، أقعى كالعادة كلبه ، وعيناه الضيقتان اللامعتان تتابعانه في حركاته وسكناته . ورفع ساشي رأسه ، وتطلع إلى أعالي السماء ، فقد خيل إليه أنه سمع صوت بجعة ، تحلق في الأعالي ، منطلقة إلى البعيد ، لكنه وعلى امتداد الأفاق ، لم يرَ أثراً لبجعة واحدة .
ارتجت العربة ، وتلفت كينشن حوله ، لقد اختفت الصحراء ، ومعها اختفى الفيل ، وها هي العربة يجرها الجمل على طريق تحفه الأشجار ، فالتفت إلى أمه ، وقال : ماما ، يبدو أننا لن نصل مطلقاً . فقالت أمه : لا تتعجل ، يا بنيّ ، سنصل حتماً ، فلكل طريق ، مهما طال ، نهاية . وواصل كينشن طريقه ، واندفعت العربة ، يقودها حصان أدهم ، تدرج على طريق زراعي ،تحيط به حقول خضراء زاهية ، مترامية حتى الأفق ، وعند غروب الشمس ، وحلول الظلام ، توقفت العربة ، فنزلت الأم منها ، وقالت : لقد وصلنا أخيراً ، يا بنيّ ، انزل . ونزل كينشن من العربة ، ونظر إلى البيت ، وقال : ماما ، هذا بيتنا .
دخلت عليها أمها الغرفة ، وعلى ضوء القنديل ، رأتها تجلس في فراشها ، وعيناها تلتمعان ، فحدقت فيها بنظرة متهمة ، وقالت : لم يصلا . فردت شو قائلة : هذا شأنهما ، يا أمي .
بزغ القمر ، من وراء الجبال ، وأطل ساطعاً على القرية ، فنهض ساشي من على المصطبة ، التي تحت شجرة الجوز ، ومضى نحو الكوخ بخطوات كسولة ، والكلب يسير كالعادة في أثره ، ودفع مون الباب ، ودخل الكوخ ، لكن الكلب توقف عند الباب ، رغم أنه طالما تمنى لو يدخل الكوخ ، ويرقد قرب ساشي . وتمدد ساشي في فراشه ، وأغمض عينيه ، وأغفى على صوت بجعة يأتيه من بعيد ، ويهتف به بصوت آسر أن .. تعال .. تعال .. تعال .
" 7 " ـــــــــــــــــــــ
أطفأت رانمارو القنديل ، وجلست في فراشها ، تتطلع عبر النافذة ، إلى السماء المعتمة ، التي بدأت النجوم تتلامع في فضائها الشاسع ، وتنهدت نافدة الصبر ، ترى متى يطل القمر من وراء الجبال البعيدة ؟
لم يغمض جفن للأم العجوز ، وتراءى لها ابنها ساشي يرقد في فراشه ، لينطلق مع الفجر إلى بحيرة البجع ، وراء الجبال البعيدة ، عند مشرق الشمس ، عندئذ اعتدلت في فراشها ، وصاحت في داخلها : رانمارو ، تحركي ، تحركي بسرعة ، ربما تحركك البارحة ، كان مبكراً ، غداً سيفوت الأوان ، الآن هو الوقت المناسب ، يا رانمارو ، تحركي .. تحركي يا رانمارو . رقد الزوج في فراشه ، ورقد ت زوجته إلى جانبه ، وقد لاذ كلاهما بالصمت ، بعد ما كابده طول اليوم من ابنتها رانمارو ، وعدم وصول كيتشن وأمه ، لم تنم الأم ، بينا ارتفع غطيط الأب بعد فترة قصيرة . وتراءت لها ابنتها رانمارو ، وتملكها ضيق غريب ، ترى ماذا تفعل رانمارو الآن ؟ هذا ما أرادت أن تعرفه أمها ، فنهضت بهدوء ، وبهدوء تسللت عبر الفناء إلى غرفتها ، ودفعت الباب بهدوء ، و .. وقفت مصعوقة ، لم تكن رانمارو في فراشها ، ترى أين مضت في هذه الساعة من الليل ؟
استسلم ساشي للنوم في فراشه ، وخارج الكوخ ، عند عتبة الباب ، استغرق الكلب في النوم ، لكن الأم العجوز ، ورغم أن أختها استغرقت في نوم عميق ، ظلت مستيقظة ، تتطلع إلى القمر عبر النافذة ، وهو يسطع فوق البيوت النائمة ، وقالت في نفسها : رانمارو هذا يومك ، وإلا طار ساشي من بين أيدينا ، وجننا أنا وأنت من الوحدة . نبح الكلب في الخارج ، على مقربة من باب الكوخ ، وانتبه ساشي إليه ، لكنه لم يحفل بنباحه ، فهذا الكلب سيسكت بعد حين ، فطالما نبح كائنا ما رآه في منامه ، لكنه هذه المرة لم يكف عن النباح . واعتدل ساشي ، حين سمع الباب يُطرق ، ترى من يكون الطارق في هذا الوقت من الليل ؟ طرق الباب ثانية ، والكلب لم يتوقف عن النباح ، فنهض ساشي ، وفتح الباب ، واتسعت عيناه ذهولاً ، إذ رأى بجعة تقف أمامه ، وقد ارتخى جناحاها ، وبدت وكأنها ستتهاوى منهارة على الأرض . وأفاق ساشي على البجعة تحييه بصوت متعب جريح : آه .. طاب مساؤك . وبدل أن يرد ساشي على البجعة ، نظر إلى الكلب ، ونهره قائلاً : كفى ، ابتعد من هنا . وكفّ الكلب عن النباح ، وتراجع منكسراً ، وتوقف على مقربة من المصطبة . ونحت البجعة ساشي برفق ، ودخلت الكوخ ، وهي تقول : أرجوك ، أغلق الباب ، إنني أشعر بالبرد . وتوقف ساشي لحظة ، ينظر إلى البجعة ، ثم أغلق الباب ، ووقف مذهولاً يحدق فيها ، فنظرت إليه بعينين متعبتين ، وقالت : تأخرت عن السرب ، الذي طار قبل أيام إلى بحيرة البجع ، التي تقع خلف الجبال البعيدة ، قرب مشرق الشمس . وجلست على الفراش متأوهة ، وتابعت قائلة : أخرني المرض ، وخفت أن يشتد البرد ، فحاولت اللحاق بهم ليلاً ونهاراً ، آه .. أسرع ساشي إليها ، وأسندها برفق ، وهو يقول : تمددي هنا ، وارتاحي قليلاً . تمددت البجعة ، وهي تتنهد متوجعة ، وقالت : سأبقى عندك إلى الغد ، إذا سمحت ، ثم أواصل تحليقي عبر الجبال البعيدة إلى بحيرة البجع . وصمتت البجعة متأوهة ، ثم قالت : آه أشعر بالبرد ، أغلق النافذة . والتفت ساشي إلى النافذة بصورة لا إرادية ، وهو يقول : النافذة مغلقة . وتناول لحافه ، وراح يغطيها به ، وهو يقول : ستدفئين الآن ، فهذا لحاف سميك . وأمسكت البجعة بيديه ، وقالت : حدثني ، يا ساشي ، حدثني ، لعلي أدفأ . وصمت ساشي مذهولاً ، إنها تعرف اسمه ، لكنه قال ، وهو يتطلع إلى عينيها المتعبتين : أنا أيضاً أريد أن أطير إلى بحيرة البجع . وربتت البجعة على يده ، وقالت بصوت متعب : أنت لست من البجع . وقال ساشي : نعم ، لكن هناك بجعة تناديني في الحلم ، وتقول لي .. وصمت ساشي محدقاً فيها ، ثم قال : صوتك ليس غريباً عني ، لا أدري أين سمعته . وتنهدت البجعة ، وقالت : من يدري ، ربما سمعته في الحلم . وصمت ساشي لحظة ، ثم قال : نعم ، ربما . ونظرت رانمارو أليه ، وقالت : لو كنت بجعة حلمك ، هل تتزوجني ؟ لاذ ساشي بالصمت ، فقالت البجعة : أنت ستطير عبر الجبال البعيدة ، لتلتقي بها هناك ، في بحيرة البجع ، أنظر ، قد أكون أنا بجعتك . صمت مون لحظة ، ثم قال : لا ، لا أستطيع ، لدي واحدة هنا . تساءلت البجعة : تحبها ؟ هزّ ساشي رأسه ، فطوقته البجعة بجناحيها ، وهي ترتعش ، وتقول : ما أشدّ البرد ، ضمني يا ساشي ، ضمني ، لعلي أدفأ . استسلم ساشي لجناحيها ، لكنه سرعان ما رفع رأسه ، وصاح : رانمارو ! وضمته رانمارو بجناحيها ثانية ، وقالت : نم ، يا عزيزي ، إنني بجعتك . قبل منتصف الليل ، تمددت الأم العجوز في فراشها ،وأغمضت عينيها ، وتنهدت بارتياح ، وهي تقول في نفسها مبتسمة : هذا ما عرفته منذ البداية ، فساشي لن تشفيه من لوثته سوى .. رانمارو . 29 / 6 / 2012
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان جبل الوعول
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
-
مسرحية مونودراما الرعب والمطر
-
مسرحية من فصل واحد الصحراء
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|