|
رواية للفتيان جبل الوعول
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7442 - 2022 / 11 / 24 - 18:36
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
جبل الوعول
طلال حسن
" 1 "
أطلت الشمس من وراء الجبل ، بأشعتها الدافئة البشوشة ، وكأنها تطل للمرة الأولى ، على هذه التلال والجبال والوديان والأنهار والكهوف والغابات . وتسللت حزمة من الشعاع ، عبر مدخل الكهف ، مداعبة وجه صخر ، الذي كان يغط في نوم عميق .واعتدل متثائباً، وابتعد بوجهه عن الشعاع ، وقال بنبرة متذمرة : لا أدري لماذا تشرق الشمس كلّ يوم . وضحكت أخته نسمة ، وكانت تعيد ترتيب الكهف ، وقالت : ربما لتذكرك أنك تجاوزت الخامسة عشرة ربيعاً ، وأن عليك أن تخرج للصيد مثل رياح . ونهض صخر ، ومضى إلى الخارج ، وهو يقول : افرحي، سيعود بعد قليل ، ومعه ذكر مأموث . وضحكت نسمة ثانية ، وقالت : سأفرح حتى لو عاد ومعه ذكر أرنب . وما إن خرج صخر من الكهف ، حتى أسرع جوجو إليه ، لكنه توقف على بعد منه ، ونبح متذللاً : عو عو عو . وتوقف صخر ، ونهره قائلاً : إليك عني ، إنني لم أفطر بعد . ورفع أبوه رأسه ، وكان جالساً تحت الشجرة ،يشد حربة صوان إلى عمود خشبي ، بشرائط من جلد الغزال ، وقال بشيء من اللوم : أخوك ذهب إلى الصيد . وهمّ صخر أن يعود ، حين أقبلت أمه ، تحمل إناء طافحاً بالحليب ، وقالت : لقد حلبت العنزة الآن . وواصلت سيرها بإناء الحليب ، متجهة نحو الكهف . ونهض الأب ملوحاً بالرمح أمام صخر ، وقال : أنظر ، ما أروعه ، سيكون لك ، بعد أن أدربك على إطلاقه نحو هدف بعيد . ومدّ صخر يده إلى الرمح ، وقال : أعطني إياه الآن يا أبي، وسترى كيف أطلقه نحو تلك الشجرة . ومضى الأب بالرمح ، وركنه قرب مدخل الكهف ، وقال : لا تتعجل ، عليّ أولاً أن أدربك . والتفت صخر ، وقال : إنني لست رياح لأحتاج إلى تدريب . وتطلع بعينين مسحورتين إلى جبل الوعول ، الذي يشمخ بقممه الحادة وراء التلال ، وقال : سأذهب يوماً ما ، إلى جبل الوعول ذاك ، وأصطاد وعلاً . وتوقف الأب محدقاً فيه ، ثم قال : إياك أن تذهب إلى ذلك الجبل ، حتى بعد أن تكبر . وأطرق صخر رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، ولاذ الأب بالصمت لحظة ، ثم مضى منحدراً صوب النهر ، وهو يقول : سأذهب إلى النهر ، لعلي أصطاد سمكة ، نتغدى بها مع ما قد يصطاده رياح . ولم يكد الأب يبتعد ، حتى تقدم صخر من الرمح ، المركون قرب مدخل الكهف ، وأطبق عليه بيده .ونادته أمه من داخل الكهف : صخر ، الطعام جاهز ، تعال أفطر. لكن صخر لم يلتفت إلها ، ورفع الرمح ، وسدده نحو الشجرة ، وبكلّ قوته ، أطلق الرمح ، فمضى يئز كالريح، وإنغرز نصله بقوة في ساق الشجرة . وتقافز جوجو ينبح مبتهجاً : عو عو عو . والتفت صخر إايه ، وقال: يبدو أن أحداً لا يعترف بي هنا إلا أنت ، اذهب عني وإلا .. وأرخى جوجو ذنبه ، ومضى مبتعداً ، وهو ينهنه بصوت منكسر . ودخل صخر إلى الكهف ، وتناول فطوره على عجل ، ثم مضى يتجول فوق التلال ، يتبعه جوجو عن كثب ، دون أن يقترب منه ، أو يشعر بوجوده . وعند منتصف النهار ، عاد صخر من جولته ، ورأته نسمة قادماً ،فهتفت به : جئت في الوقت الناسب ، تعال الطعام جاهز . ودمدم صخر ، وهو يدخل الكهف : ما الغداء ؟ لحم مأموث؟ وهزت أمه رأسها ، وإبتسم أبوه ، وردّ رياح قائلاً : تعال الآن كل لحم سمك ولحم أرنب ، ومن يدري ، فقد تأكل قريباً لحم مأموث .
" 2 "
فوجىء صخر ، بعد استيقاظه صباحاً ، بغياب أبيه وأخيه رياح . وكاد ينفجر غيظاً ، عندما علم بأنهما ذهبا إلى الصيد ، دون علمه . وحاول طول النهار ، أن ينفس عن غيظه ، دون جدوى .فضرب جوجو ، حين مرّبه ،لأنه قال : عو عو عو . وضربه ثانية ، حين مر به بعد قليل ، لأنه لم يقل : عوعوعو. وطارد العنزة ، في طول الباحة وعرضها ، حتى أنهكها ، وكادت تتهاوى على الأرض . ولم تنهره أمه رغم حرصها على سلامة العنزة ، فهي تعرف سبب غيظه وغضبه ، بل وتتعاطف معه ، لكن ماذا تفعل ، وأبوه مازال يرى ، أنه صغير على مثل هذا الصيد ؟ الذي خرجا اليوم من أجله ؟ وقبيل منتصف النهار ، نادته أمه : صخر . لم يرد عليها ، فنادته ثانية : صخر . ورد صخر هذه المرة ، ولكن بشيء من الغضب : نعم . ورفعت أمه إناء ، وقالت : تعال جئني بشيء من الماء ، من النهر . وبدل أن يأخذ صخر الإناء ، جلس تحت الشجرة ، وقال : هذا عمل نسمة ، وليس عملي ، إنني ولد . والتفتت الأم إلى نسمة ، وكانت تلهو إلى جانبها ، وقالت : نسمة ، إذهبي أنت ، وجيئيني بالماء . ونهضت نسمة قائلة : نعم ماما . وأخذت الإناء ، ومضت إلى النهر ، ودمدمت الأم ، وهي ترمق صخر بنظرة خاطفة : ستغرق نسمة إذا سقطت في النهر . وتململ صخر متضايقاً ، حين تذكر أن نسمة لا تجيد مثله السباحة ، وتراءت له تسقط في النهر ، وتوشك على الغرق ، وتستغيث بأعلى صوتها : النجدة ، صخر ، سأغرق . وحاولت الأم أن تكتم ابتسامتها ، عندما نظرت إليه خلسة، ورأته ينهض من تحت الشجرة ، وينسل في إثر نسمة . وظل صخر ، يتابع نسمة من بعيد ، دون أن تنتبه إليه ، حتى انحدرت إلى النهر ، وملأت الإناء ماء ، ثم قفلت عائدة إلى الكهف . وعند الغروب ، دخلت الأم ونسمة إلى الكهف ، ووقف صخر ، قرب المدخل ، ينتظر ساهماً ، حتى غربت الشمس . ونادته أمه ، من داخل الكهف ، قائلة : تعال يا صخر ، الجو بدأ يبرد . ولم يلتفت صخر إليها ، وظل جامداً في مكانه ، واقتربت الأم منه ، وخاطبته بصوت رقيق : صخر . ورد صخر ، دون أن يلتفت : لقد غربت الشمس ، ولم يعودا . وبنفس الصوت الرقيق ، قالت الأم : لن يعودا اليوم . والتفت صخر إليها مذهولاً ، فأضافت قائلة : لقد ذهبا ، مع رجال المنطقة ، إلى الوادي الكبير ، لاصطياد مأموث . وأطرق صخر رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فربتت الأم على ظهره بيدها الرقيقة ، وقالت : لا عليك يا بني ، سيأخذك أبوك حتماً ، في المرة القادمة . وغادر صخر مكانه ، داخلاً إلى الكهف ، ورقد في فراشه، ونادته بصوت رقيق : صخر . لم يردّ عليها ، فنادته ثانية : بنيّ ، تعال وتناول عشاءك . وأغمض صخر عينيه ، وقال: لست جائعاً ، سأنام . وقبل أن يغفو ، سمع نسمة تقول : لقد مللت السمك ، لو أن بابا ورياح هنا ، لذهبا إلى جبل الوعول ، واصطادا لنا منه وعلاً .
" 3 "
تسلل صخر من الكهف ، قبل شروق الشمس ، حاملاً الرمح ، الذي سيقدمه أبوه له ، بعد أن يدربه على إطلاقه نحو هدف بعيد . وعلى مقربة من الشجرة ، لحقت نسمة به ، وهتفت بصوت ملتاع : صخر . وتوقف صخر محدقاً فيها ، ثم قال في نبرة ثابتة : سآتيك بوعل . وشهقت نسمة ، وأمسكت بالرمح ، وقالت : لا ، إنني أخاف عليك . ورد صخر قائلاً : لا تخافي ، إن رياح ليس أمهر مني في الصيد . وتندت عينا نسمة بالدموع ، وقالت : أنت ما تزال صغيرا يا صخر . وحدق صخر فيها ، وقال : قلتها قبل أيام ، لقد تجاوزت الخامسة عشرة ربيعاً . وسحب الرمح من يدها برفق ، وقال : سأذهب ، سأذهب وأصطاد وعلاً . ومضى صخر حاملاً رمحه ، فهتفت نسمة به ، بصوت دامع : صخر . وتوقف صخر لحظة ، دون أن يلتفت ، وسرعان ما استأنف سيره ، لا يلوي على شيء . ووقفت نسمة تتابعه بعينيها الغارقتين بالدموع ، حتى غاب وراء التلال . وعادت إلى الكهف ، دون أن تنتبه إلى جوجو ، الذي كان يراقبهما من وراء الشجرة ، ينسل بهدوء ، ثم ينطلق في إثر صخر . وسار صخر بخطوات فتية ثابتة ، عبر التلال والمرتفعات الصخرية ، ولم يعرف ، وهو يحث خطاه ، أن جوجو يتبعه على حذر ، من بعيد . وقبل منتصف النهار ، وصل جبل الوعول ، وتوقف يتأمل ما حوله . وعلى أحد السفوح ، رأى وعلاً فتياً ، يرعى بهدوء واطمئنان ، فتسلل نحوه ، ويده تشد بقوة على الرمح . ورفع الوعل رأسه ، وأنصت ملياً ، ثم سار مبتعداً عن السفح . وأطل جوجو بحذر ، من وراء إحدى الصخور ، مبصبصاً بذنبه ، وعيناه تتابعان باهتمام ما يدور حوله . وتبع صخر الوعل ، محاكياً أباه في التخفي والتربص، وصعد الوعل بخفة مرتفعاً صخرياً ، فتسلق صخر المرتفع في إثره ، وراح يقترب منه ، ورمحه في يده . وتلفت الوعل حوله ، ثم سار بثبات على حافة ضيقة ، تطل على واد شديد الانحدار ، وانسل صخر وراءه ، وتوارى خلف صخرة ضخمة . ولم ينتبه الوعل ، ولا صخر ، وكذلك جوجو ،إلى شخصين ، أحدهما كبير والآخر فتي ، كانا يكمنان في الطرف الآخر من المنحدر . وتطلع الرجل إلى صخر ، وقال: بني رعد ، أنظر ، هذا الصياد الفتي ليس منّا . ونظر رعد مدققاً في صخر ،ثم قال : أنت محق يا أبي . ثم أضاف غاضباً : هذه منطقة صيدنا . ولعل الأب أراد تهدئته ، فقال : لابد أن هذا الأحمق يجهل ذلك . ونهض رعد ، ورمحه في يده ، وقال : ليدفع إذن ثمن جهله . واعترضه أبوه قائلاً : مهلاً يا بني . ثم أشار إلى صخر ، وقال : هذا المجنون ، لا يعرف خطورة ما هو مقدم عليه . وفي تلك اللحظة ، كان صخر قد خرج من وراء الصخرة الضخمة ، وتقدم من الوعل ، رافعاً يده بالرمح .وتراجع الوعل ، فتبعه صخر ، وكاد يطلق الرمح نحوه ، عندما قفز الوعل إلى الحافة المقابلة ، فتهاوى صخر ورمحه إلى الوادي . وشهق جوجو ، وكاد ينبح مستغيثاً ، لكنه تمالك نفسه ، وانطلق متوجهاً صوب الوادي ، الذي تهاوى صخر إليه. وأرخى رعد يده عن رمحه ، وقال : هذا أفضل ، لقد عاقبه جبل الوعول نيابة عنا . ولاذ الأب بالصمت ، فسار رعد ، وقال : هيا يا أبي ، نتأثر الوعل ، لعلنا نصطاده , لكن الأب ظل واقفاً في مكانه ، وقال : مهلاً يا بني ّ . وتوقف رعد ، وقد تملكته الدهشة ، ولم ينطق بكلمة واحدة.وأسرع جوجو إلى صخر ، ورآه منطرحاً على الأرض ، فاقد الوعي ، فدار حوله ، يتشممه منهنهاً ، ثم رفع رأسه ، وسرعان ما انطلق بأقصى سرعته ، عائداً صوب الكهف .
" 4 "
لاحظت الأم ، حالما استيقظت ، أن صخر لم يكن في فراشه . وخرجت دون أن تلتفت إلى نسمة ، وحلبت العنزة ، وأعدت طعام الفطور ، وجاءت به إلى الكهف ، ثم وقفت في المدخل ، وهتفت : صخر . لم يرد صخر ، وكيف يرد ، وهو أصلاً غير موجود ؟ وتطلعت نسمة إليها ، دون أن تنبس بكلمة ، فهتفت الأم بصوت أعلى : صخر .. صخر . وبدل صخر ، ردت نسمة قائلة : لن يسمعك صخر يا ماما. والتفتت الأم ، فقالت نسمة : لقد ذهب إلى الصيد . وحدقت الأم فيها ، فتابعت بصوت تخنقه الدموع : ذهب إلى جبل الوعول . ولاذت الأم بالصمت ، ثم مضت إلى الخارج ، وهي تقول : تناولي فطورك ، ورتبي الكهف . وحاولت نسمة أن تتشاغل بترتيب الكهف ، دون أن يخطر في بالها ، أن تتناول طعام الفطور ، وخرجت بعد حين ، ورأت أمها ، تقف تحت الشجرة ، وعيناها شاخصتان نحو جبل الوعول . فاقتربت منها ، وقالت بصوت مختنق : ماما. وإذ لم ترد الأم تابعت نسمة قائلة : ليلة البارحة سمعني صخر أقول لك ، لو أن بابا ورياح هنا ، لذهبا إلى جبل الوعول ، واصطادا لنا منه وعلاً . ولاذت الأم بالصمت ، فتراجعت نسمة ، ثم أسرعت إلى الكهف . وارتمت باكية فوق فراشها ، وسرعان ما استغرقت في النوم . وفزت بعد حين ، على صوت جوجو ، يأتي نابحاً من بعيد : عو عو عو . وهبت من فراشها ، ومضت مسرعة إلى الخارج . وما إن رأتها أمها ، حتى صاحت منفعلة : نسمة ، تعالي ، هذا جوجو ، لا بد أن صخر سيأتي في إثره . وأقبل جوجو لاهثاً ، وراح يدور حول الأم ونسمة ، وهو ينبح : عو عو عو . وتلفتت نسمة متسائلة : أين صخر ؟ وردت الأم بصوت مرتعش : لعله في مأزق ، وقد جاء جوجو ليقودنا إليه . وراح ، جوجو ، يركض بإتجاه الجبل ، ثم يتوقف ، وينظر إليها نابحاً ، كأنه يدعوهما إلى اللحاق به ، وحثت الأم خطاها في إثره ، وقالت : لنتبعه ، هيا يا نسمة ، هيا. ومضى جوجو يركض ، والأم ونسمة تهرولان وراءه ، دون أن تنبس إحداهما بكلمة واحدة . وقادهما عبر التلال والمرتفعات الصخرية ، إلى واد عميق ضيق ، تحيط به الصخور من جميع الجهات . وتوقف عند منحدر بين الصخور ، وراح يدور حائراً ، وينبح بصوت مذبوح : عو عو عو . وشهقت الأم حين لمحت على الأرض ، مزقة ملوثة بالدم، فرفعتها بيد مرتعشة ، وحدقت فيها ، ثم صاحت بصوت باك : يا ويلي ، هذه مزقة من ملابس صخر . وتوقفت نسمة ، تحملق مصدومة بين الصخور ، ثم صاحت منهنهة : ماما ، تعالي . وأسرعت الأم ، ونظرت حيث تنظر نسمة ، وإذا رمح صخر ، الذي أعده له أبوه ، ملقى بين الصخور . ومدت نسمة يدها ، وتناولت الرمح ، وحدقت فيه ، ثم قالت : هذا رمحه . ثم نظرت إلى أمها ، وتساءلت بصوت باك : أين هو ؟ أين صخر ؟ ورفعت الأم رأسها ، وصاحت بصوت ملتاع : صخر . ولم يجبها ، في ذلك الوادي الضيق العميق ، غير الصدى : صخر .. صخر .. صخر .
" 5 "
بقدر ما كانت الأم ، تعاني من اختفاء صخر ، وعدم عثورها على أثر له ، فأنها كانت تعاني من كيفية مواجهة الأب بالحقيقة ، عند عودته من الصيد . ولعل الأمل ، أو الهروب ، كان يدفعها إلى الخروج ، صباح كل يوم ، والجلوس فوق مرتفع ، يطل على الطريق، المؤدي إلى جبل الوعول ، ولا تعود إلى الكهف ، حتى غروب الشمس . وفي هذا اليوم ، خرجت الأم مبكرة ، من دون أن تتناول طعام الفطور ، الذي غدت نسمة تعده فجر كل صباح . ولحقت نسمة بها ، خارج الكهف ، وهتفت : ماما . وردت الأم ، من غير أن تتوقف : تعرفين أين تجديني ، إذا جاء أبوك . وواصلت نسمة ملاحقتها ، وقالت : أنت حتى لم تتناولي طعام الفطور . وحثت الأم خطاها قائلة : ولن أتناول طعام الغداء ، هيا عودي . وتوقفت نسمة ، لكنها ظلت تتابع أمها ، حتى توارت ، وقفلت عائدة إلى الكهف ، فأقبل جوجو راكضاً ، وهمّ أن يتبعها ، فنهرته قائلة : ابق هنا . ودخلت نسمة إلى الكهف ، وبقي جوجو عند المدخل ، يراقب بحذر كل ما يجري حوله . وعند منصف النهار ، جلست نسمة تخيط ثوباً ، تحت الشجرة . وحانت منها نظرة ، وإذا أبوها ورياح يلوحان من بعيد ، فتركت الثوب ونهضت واقفة ، تنظر إليهما دون حراك . وعجب رياح ، لأن نسمة ، على غير عادتها ، لم تسرع إليهما فرحة ، وقد غابا في الصيد ، عدة أيام . وحالما وصلا ، اتجه الأب إلى الكهف ، وهو يقول : اصطدنا مأموث ، وسنجتمع مساء اليوم ونقيم وليمة لكل العوائل . واقترب رياح من نسمة ، وقال : أراك قلقة حزينة ، ما الأمر ؟ واختنقت نسمة بدموعها ، ولم تجب ، وخرج الأب من الكهف ، ونظر إلى بسمة ، وقال متسائلاً : أين أمك ؟ وبدل أن تجيبه نسمة ، انخرطت في البكاء . فقطب الأب حاجبيه ، وتساءل مرة أخرى : ما الأمر ؟ أخبريني . وتمتمت نسمة من بين دموعها : صخر . وشهق رياح : صخر ! ماذا أصابه ؟ وتابعت نسمة قائلة : ذهب إلى جبل الوعول ، منذ أيام ، ليصطاد وعلاً ، ولم يعد حتى الآن . وعلى الفور ، شدّ الأب يده على رمحه ، ومضى على الطريق المؤدي إلى جبل الوعول ، وقال : رياح ، إتبعني. وتبعه رياح ، دون أن ينبس بكلمة . ولحقت بهما نسمة ، وهي تقول : خذاني معكما ، أنا أعرف الطريق . ومضى الأب ، مواصلاً طريقه ، وقال : لا بأس ، تعالي. ووقف جوجو ، يبصبص بذنبه حائراً ، ثم حزم أمره ، وأنطلق مسرعاً في إثرهم . ومن فوق المرتفع ، رأتهم الأم يمضون نحو جبل الوعول . وتابعتهم بعينين تغرقهما الدموع ، حتى غابوا تماما ً . وظلت في مكانها يراودها أمل ، أن يحقق زوجها وابنها رياح ، ما لم تستطع تحقيقه ،هي وابنتها بسمة . كن أملها تلاشى ، عندما رأتهم يعودون مع الغروب ، يجرون خطاهم متعبين ، محبطين ، وجوجو يهرول وراءهم لاهثاً، وقد تهدل ذيله . وغربت الشمس ، وحل الليل ، والأم في مكانها مطرقة حزينة ، متداعية ، حد الانهيار . وتناهى إليها من الظلام وقع أقدام ، هذا زوجها ، إنها تعرف وقع أقدامه ، ورفعت رأسها ، دون أن تلتفت ، وأخذت تبكي ، عندما توقف على مقربة منها ، وقال : بحثنا عن صخر ، في كلّ مكان ، لكننا لم نعثر له على أثر . وعلا بكاء الأم ، فتابع الأب قائلاً : لقد حدثتني نسمة عما جرى ، الخطأ ليس خطأك لكن .. وصمت لحظة ، ثم مضى بخطى واهنة ، وهو يقول : لنعد إلى الكهف ، هيا ، الجو هنا بارد .
" 6 "
هووووو، يا للويل ، ما هذا ؟أهي ريح عاصفة ، أم تنين بحجم جبل الوعول ، يهدر كالرعد ؟ وشيئاً فشيئاً راح الصوت يخفت ، حتى تلاشى تماماً ، وساد الهدوء كل شيء . وفتح صخر عينيه للحظة ، ولاح في الظلام وجه غائم ، تحيط به هالة من الشعر الكث ، أهي أمه أم أخته أم .. ؟ وتناهى إليه من بعيد صوت بعذوبة صوت أمه : بنيّ . وحاول صخر أن يفتح عينيه ، دون جدوى ، وقبل أن يغرق في الظلام ثانية ، جاءه الصوت العذب نفسه : اطمئن ، أنت معنا ، في أمان . ونهضت المرأة ، وتسللت من الكهف ، وانتابها القلق ، حين رأت رعد ، يقف في المدخل ، ورمحه في يده ، فبادرته قائلة : بنيّ ، اذهب وساعد أباك . وتجاهل رعد ما قالته أمه ، وتساءل بحنق : أفاق ؟ وردت أمه قائلة : سيفيق . وهز رعد رأسه ، وقال : هذا مستحيل ، كان على أبي أن يتركه لمصيره حيث تهاوى . واحتجت أمه قائلة : لكنه إنسان . ومن بين أسنانه ، قال رعد : عدوّ . ودفعته أمه برفق ، وقالت : اذهب من هنا ، اذهب . وذهب رعد قاصداً أباه ، ورمحه في يده ، ومرّ بنجمة ، وكانت تحاول إشعال النار ، بضرب حجرة بحجرة أخرى، فقال دون ، يتوقف : لن تشعلي النار مهما حاولت. ورفعت نجمة عينيها إليه ، وقالت : رأيت في المنام أنك أنقذت امرأة من الغرق . وتوقف رعد ، وقال : هذا ما فعله جدي ، وندم عليه . ونهضت نجمة ، وقالت متباهية بنفسها : لو رأيت واحدة مثلي لأنقذتها . ومضى رعد مبتعداً ، وهو يقول : رأيت البارحة واحدة مثلك في الغابة ، وهربت منها . ولاذت نجمة بالصمت مفكرة ، هذا اللعين ، لعله يقصد الدبة ، كلا ، ليس في الغابة دبة بل دب .وفي الكهف ، وخلال ساعات الليل والنهار المتعاقبة ، أفاق صخر مرات، تناهت إليه خلالها ، كلمات غائمة ، رجالية ونسائية ، ليس بينها كلمت أمه أو أبيه أو أخيه أو أخته نسمة . وأفاق مرة ، ربما نهاراً ، ورأى وجهين يطلان عليه . وعلى العكس مما توقع ، لم ير في عيونهما ما يبعث على الخوف والقلق . ومال الرجل عليه ، وقال : أنت الآن أفضل، يمكنك أن تعتدل ، وتتناول شيئاً من الطعام . وابتسمت المرأة له ، وقالت : هيا ، اعتدل ، لقد أعددت لك حساء لذيذاً . وحاول صخر أن يعتدل ، وشعر بألم شديد في ساقه، فشهق متوجعاً : آه . ومالت المرأة عليه ، وقد غامت ابتسامتها، وقالت : لا عليك يا بني ّ ، ستكون بخير . ومدّ الرجل يده إلى صخر ، ومسح العرق عن جبينه : أنت محظوظ ، لقد نجوت من موت محقق . وأطرق صخر رأسه ، وتراءت له مطاردته للوعل ، وسقوطه في الوادي الضيق العميق ، فتأوه متمتماً : الوعل. ونظر الرجل إليه ، وقال : لقد أصبت في ساقك ، كما أصبت بالكثير من الرضوض والكدمات ، في أنحاء مختلفة من جسمك . وتأوه صخر متألماً ، فقالت الأم : اطمئن ، ستشفى . ومالت عليه متسائلة : ما اسمك ؟ فأجابها صخر قائلاً : صخر . ونظر إليه ، ثم قال : أمي في عمرك تقريباً . وتندت عينا المرأة بالدموع ، فقال الرجل : لابد أن صخر جائع ، اذهبي وجيئيه بالحساء . وذهبت المرأة مسرعة ، وهي تمسح دموعها . وجاءت بالحساء ، وقدمته لصخر ، وقالت : كل يا بنيّ ، كل وأشف ، ستعود إلى أمك وذويك ، ستعود إليهم حتماً .
" 7 "
يوماً بعد يوم ، أخذت صحة صخر تتحسن ، فخفت رضوضه ، وزالت الكثير من كدماته ، لكنه ظل ـ بسبب ساقه ـ عاجزاً عن السير . وجاءته المرأة بالطعام ، ذات مساء ، وجلست إلى جانبه ، وقالت : تفضل ، أرجو أن يكون طعامي قد أعجبك . وأخذ صخر يأكل ، وهو يقول : وكيف لا يعجبني ، أنت طباخة ماهرة ، وطعامك لذيذ جداً . وابتسمت المرأة ، وقالت : لكن طعام أمك ، بلا شك ، ألذ . وابتسم صخر ، دون أن يرد ، فتابعت المرأة قائلة : هذا أمر طبيعي يا صخر ، فلا ألذ من طعام الأم . وانتهى صخر من طعامه ، فأخذت المرأة الإناء ، وقالت : الجدة الحكيمة التي تعالج ساقك ، ستعودك صباح الغد . وأقبلت الجدة الحكيمة ، صباح الغد ، وفي يدها صرة صغيرة ، وتقدمتها المرأة ، وقالت : صخر ، الجدة الحكيمة. واعتدل صخر ، وقال مرحباً : أهلاً ومرحباً . ووضعت الجدة الحكيمة الصرة جانباً ، وهي تنظر إلى صخر ، ومالت المرأة عليها ، وقالت : لقد بقي في فراشه، طوال هذه المدة ، كما أوصيت . وجلست الجدة الحكيمة على مقربة من صخر ، وقالت : ارفع الدثار . ورفع صخر الدثار ، ونظر إلى الجدة الحكيمة والمرأة بشيء من الخوف . ومدت الجدة الحكيمة يدها ، وحلت الأربطة ، ثم تحسست موضع الكسر . وحاول صخر ، أن يكتم ألمه ، دون جدوى . ومالت عليه المرأة ، وقالت : تحمل ، أنت رجل . ثم التفتت إلى الجدة الحكيمة ، وتساءلت : ها ، كيف هو الآن ؟ وأخذت الجدة الحكيمة الصرة ، وأخذت تعد لبيخة بأصابعها الخبيرة ، وهي تقول : الكسر كان كبيراً ، والتئامه يحتاج إلى بعض الوقت . ومالت المرأة ثانية عل صخر ، وقالت : أرأيت يا بنيّ ، اصبر قليلاً ، وستتحسن بالتأكيد . ووضعت الجدة اللبيخة ، على موضع الكسر ، وشدت اللفافة فوقها بقوة ، ثم نهضت ، وقالت : إياك أن تسير عليها ، حتى أراها ثانية ، بعد حين . ومرت أيام وأسابيع ، لا يعرف صخر عددها ، فهو قلما يخرج من الكهف . وطوال هذه المدة ، لم تفارقه أمه وأبوه و أخوه رياح وأخته نسمة . ورغم معاناته ، كان مرتاحاً إلى المرأة والرجل ، فقد كانا يعاملانه ، وكأنه ولد من أولادهما . كانت المرأة تقدم له ما يحتاجه من طعام وشراب ورعاية . أما الرجل فقد كان يزوره دوماً ، ويتبسط معه في الحديث ، وخاصة بعد عودته مظفراً من الصيد . وقد حدثته المرأة ، وكذلك الرجل ، أكثر من مرة عن ابنهما رعد . ورغم حبهما له ، كانا لا يرتاحان لنوبات غضبه ، وبعض تسلكاته الخشنة . وخلال النهار ، كانت تتناهى إليه أحياناً ، أحاديث فتاة ، وكركراتها الفرحة . لكنه لم يعرف من هي تلك الفتاة ، لم يسأل أحد عمن تكون . وقد لمحها غير مرة ، تخطف من أمام باب الكهف ، دون أن يراها جيداً . وذات يوم جاءته المرأة بإناء طافح بالحساء ، وقالت له مبتسمة : تذوق هذا الحساء . وتابعته بعينين متلهفتين ، وهو يتذوق الحساء ، ثم سألته : ها ، ما رأيك ؟ ونظر صخر إليها ، وقال : جيد ، نعم جيد . وابتسمت المرأة فرحة ، وقالت : هذا الحساء ليس من إعدادي ، وإنما من إعداد ابنتي نجمة ، نجمة الصباح . وسكتت لحظة ، ثم قالت مغالبة ضحكتها : لقد طلبت منها، أن تأتيك بالحساء ، لكنها رفضت ، يا للحماقة ، إنها تخجل من مقابلتك ، رغم أنها ما زالت صغيرة .
" 8 "
جاءته المرأة ، قبل حلول الظلام ، بعشائه . وقدمته له قائلة : تفضل ، هذا الطعام يعجبك ، لحم غزال . وأخذ صخر الإناء ، وقال دون أن يمدّ يده إلى لحم الغزال : أشكرك . وجلست المرأة إلى جانبه ، وقالت بنبرة عتاب : بنيّ . فنظر صخر إليها ، وقال : سآكل فيما بعد . وتابعت المرأة قائلة : أعرف أنك متعب ، وأعرف ما يتعبك ، لكن لا خيار ، اصبر يا بنيّ ، اصبر قليلاً . وأطرق صخر رأسه ، فقالت المرأة : صحتك تتحسن ، وستعود إلى ذويك عاجلاً أو آجلاً . وصمتت المرأة قليلاً ، ثم قالت : الجدة الحكيمة ستأتي غدا، وربما ستسمح لك بالسير على عكازة . لم يرفع صخر رأسه ، فنهضت المرأة متأهبة للخروج ، وقالت : كل لحم الغزال هذا ، ونم جيداً ، وسترى العالم غداً بعينين أفضل . وتوقفت عند مدخل الكهف ، والتفتت إليه ، وقالت : يبدو أن رعد قد انتهى من إعداد الرمح لك . لقد افتقد رمحه منذ البداية ، وقد سأل عنه ، فأخبره أبو رعد، بأنه لم يجد رمحاً ، حيث وجده أسفل الوادي ،ووعده أن يعد له رعد ، رمحاً بدل رمحه ، وسيكون هدية منهم إليه . وأتت الجدة الحكيمة ، في اليوم التالي ، وفكت الرباط عن ساق صخر ، وتحسست موضع الكسر .وكتم صخر ألمه ، فنظرت الجدة إليه ،وقالت : الكسر بدأ يلتئم . ثم وضعت لبخة جديدة فوق ساقه ، وشدت عليها الرباط بقوة ، وقالت : جئتك بعكاز ، يمكنك السير عليه منذ الغد ، لكن لفترة قصيرة . وبعد أن تناول صخر فطوره ، صباح اليوم التالي ، جاءته المرأة بالعكاز ، وقالت مبتسمة : هذا هو العكاز ، الذي جاءتك به الجدة الحكيمة يوم أمس . ورمى صخر الدثار جانباً ، وهم بالنهوض . فأسرعت المرأة إليه قائلة : مهلاً يا بني ، دعني أساعدك . وانحنت قليلاً ، وقالت : اتكئ عليّ . واتكأ صخر عليها ، فنهضت برفق ، وهي تقول : انتبه إلى ساقك ، إياك أن تقف عليها . ووقف صخر ، رافعاً ساقه المكسورة . فقدمت المرأة له العكاز ، وقالت مبتسمة : خذ العكاز ، واستند عليه ، إنه ساقك الجديد ، أرجو أن لا يرافقك مدة طويلة وأخذ صخر العكاز ، واستند عليه ، ثم نظر إلى المرأة ، وقال : حقاً إنه ساق ، وأي ساق . وتراجعت المرأة باتجاه مدخل الكهف ، مشيرة بيديها ، كما لو أن صخر طفل صغير ، وقالت : هيا يا بنيّ .. امش بهدوء .. امش .. امش . وابتسم صخر ، وهو يحاول أن يمشي ، وقال : مهلاً ، مهلاً ، يبدو أنني عدت إلى مرحلة الطفولة الأولى . وضحكت المرأة قائلة : ليتني أعود إلى هذه المرحلة ، لكن بدون عكاز . وأشارت له ثانية بيديها ، وقالت : هيا يا بنيّ ، امش .. امش . ومشى صخر متمايلاً ، كأنه طفل يمشي للمرة الأولى . وخرجت المرأة من الكهف ، وتوقفت قريباً من المدخل ، وقالت : الجو رائع اليوم ، تعال يا صخر ، وأنظر . وخرج صخر من الكهف ، ووقف مبهوراً ، ينظر إلى ما حوله ، سهول .. تلال .. جبال .. وشمس تسطع في سماء شديدة الزرقة . وفجأة انطلق رمح من مسافة قريبة ، وأزّ في الريح ، ثم انغرز بقوة أمام صخر ، فصاحت المرأة في غضب : رعد. وتقدم رعد من صخر ، وحدق فيه بعينين ملتهبتين ، ثم قال : هذا الرمح لك ، خذه فستحتاج إليه ، حين تغادر ديارنا ، وتعود إلى دياركم .
" 9 "
وقف صخر ، عند مدخل الكهف ، يحملق في قرص الشمس ، وهو ينحدر شيئاً فشيئاً نحو الأفق . لقد لبث في هذا المكان ، دون حراك ، منذ أن عاد إلى الكهف ، ويده تشد على الرمح ، الذي قدمه له رعد بطريقته الخاصة . وتملكه شعور بالأسى ، فقد حاولت المرأة أن تواسيه ، بعد أن عنفت رعد على فعلته ، لكنه التفت كاتماً انفعاله ، وعاد إلى الكهف . وغاب قرص الشمس وراء التلال ، تاركاً ألقه المتلاشي ، فوق ذرى التلال . وتنهد صخر ، وانسحب إلى الداخل ، متوكئاً على عكازه . وتناهى إليه ، من داخل الكهف ، وقع أقدام ، فتوقف منصتاً . أهي المرأة أم رعد ؟ ومن غيرها ؟ لابد أنها جاءت بالعشاء ، ومن يدري ، لعلها تريد أن تواسيه ثانية ، بسبب ما واجهه على يدي رعد . وجاءه صوت ، طالما سمعه يزقزق أو يكركر ، خارج الكهف : مساء الخير . وجمد لحظة ، ثم التفت ، وإذا هو أمام فتاة شابة ، أكبر من أخته نسمة بقليل ، فرد قائلاً : مساء النور . وابتسمت الفتاة ، فتساءل صخر : نجمة ! واتسعت ابتسامتها ، وقالت : نعم ، نجمة ، نجمة الصباح . ورفعت إناء فيه قطعة لحم مشوية ، وقالت : جئتك بطعام العشاء . وسكتت لحظة ، ثم قالت : أنا طلبت من أمي ، أن آتيك بطعام العشاء هذه المرة . ومدت يدها بالإناء ، فأخذه صخر منها ، وقال : أشكرك. وابتسمت نجمة ثانية ، وقالت : سبق أن أعددت لك حساء، جاءتك به أمي . وابتسم صخر ، وقال : آه ذكرني بحساء أعدته لي مرة أختي نسمة . وهمهمت نجمة مغالبة ابتسامتها : همممم، لابد أن أختك بسمة مثلي ، أعدت الحساء للمرة الأولى . وهز صخر رأسه ، فقالت نجمة : تذوق شواء الغزال هذا، لعله ينسيك طعم الحساء . ولاحت على قسمات صخر ابتسامة حزينة ، فاقتربت نجمة منه وقالت : صخر . ونظر صخر إليها ، فتابعت قائلة : لقد أخبرتني أمي ، بما فعله أخي رعد . وأرخى رعد نظره عنها ، وقال : لعله على حق ، سأذهب حالما أشفى . وقالت نجمة ، وقد بدا التأثر عليها : أنت لا تعرف رعد ،إنه طيب القلب رغم انفعاليته . ونظر صخر إليها ، وقال : مهما يكن ، فمن الواضح أنه لا يحبني . وابتسمت نجمة ، وقالت : وسوف لا يحبك أكثر ، إذا علم بأني زرتك . ورد صخر قائلا ً : بصراحة إنني لا أريد أن لا يحبني أكثر . وعبست نجمة متظاهرة بالتأثر ، وقالت : أنت ترى إذن ، أن عليّ أن لا أزورك . ونظر صخر إليها صامتاً ، فاقتربت منه ، وأخذت قطعة من الشواء ، ووضعتها في فمه ، وقالت : تذوقها . ومضغ صخر قطعة الشواء متلذذاً ، فتساءلت نجمة : ها ، ما رأيك ؟ فرد صخر قائلاً : ألذ شواء تذوقته في حياتي . وابتسمت نجمة فرحة ، وقالت : هذا يجعلني أغامر ، بأن أجعل أخي رعد ، لا يحبك أكثر ، وإن كنت أتمنى أن يحبك. وتراجعت باتجاه مدخل الكهف ، وهي تقول : عليّ الآن أن أذهب ، عمت مساء . وتوقف صخر عن مضغ قطعة الشواء ، وقال: عمت مساء.
" 10 "
غابت نجمة أياماً ، لم تلح فيها مرة واحدة ، حتى عبر مدخل الكهف . وفكر صخر ، أنها ربما تخشى أخاها رعد ، أو أن أمها ، لسبب أو لآخر ، لا تسمح لها بالتردد عليه . وقد تفهم صقر هذا الأمر ، وأعطى لنجمة الحق في ذلك ، وإن تمنى لو يراها ، ويتحدث إليها ، ويسمع زقزقتها وكركرتها الطفولية العذبة . وهمّ غير مرة، أن يسأل عنها أمها ، لكنه تردد ، ربما خجلاً ، وفضل الانتظار . وبقدر ما كان صخر ، يرتاح لأبي رعد وأم رعد ونجمة ، فإن قلبه كان ينقبض ، كلما سمع صوت رعد ، أو عرف بوجوده قريباً من الكهف . وطالما حاول أن لا يواجهه ،أو يصطدم به ، حتى يشفى تماماً ، ويرحل بسلام إلى ذويه . وفوجىء صخر ، ذات يوم ، بنجمة تدخل عليه الكهف ، عند منتصف النهار ، حاملة إناء من الحساء ، فهب من مكانه، يستقبلها قائلاً :أهلاً نجمة . وابتسمت نجمة فرحة ، وقد داخلها شعور بأنه كان متلهفاً لزيارتها ، فاقتربت منه ، وقالت : جئتك بحساء .
ونظر صخر إلى الحساء ، فقالت نجمة : لقد أعددته هذه المرة ، حتى أحسن سمعتي ، بعد حسائي الأول . وأخذ صخر الإناء ، وتذوق الحساء ، فتساءلت نجمة : ها، ما رأيك هذه المرة ؟ فرد صخر قائلاً : ليتك تعطين أختي نسمة ، درساً في إعداد الحساء . وضحكت نجمة ، وقالت : لا عليك ، سأزورها الليلة في المنام ، وأعطيها الدرس . وضحك صخر بدوره ، وقال : خذيني معك ، فأنني مشتاق لرويتها . وارتفع ضحك نجمة ، وهي تقول : نم إذن مبكراً ، لعل حلماً واحداً ، يأخذنا الليلة إليها ، حيثما تكون . وفجأة كف صخر عن الضحك ، وتسمرت عيناه في مدخل الكهف . وسكتت نجمة بدورها ، وقلبها يخفق بشدة، وقد خمنت السبب، وتمنت بينها وبين نفسها ، أن تكون مخطئة ، لكنها حين التفتت ، تأكد لها أن تخمينها كان في محله ، فقد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع أخيها رعد . وتململت نجمة محرجة ، وقالت : كانت أمي مشغولة ، فجئت بدلها بالحساء لـ ِ .. . وقاطعها رعد بحزم : أخرجي . ونظرت نجمة إليه مترددة ، وقالت : أمي تعرف بوجودي هنا . وبحزم أشد ، قال رعد :قلت لك أخرجي . وأشاحت نجمة بوجهها منزعجة ، ثم مضت مسرعة ، وخرجت من الكهف . وحدق رعد في صخر ، ثم قال : منذ فترة ، وأنا أبحث عن عذر لأقتلك . وصمت لحظة ، ثم قال بنبرة تهديد : إذا رأيتك مع نجمة ، هنا أو في أي مكان ، فسيكون هذا هو العذر . لم ينطق صخر بكلمة ، فأشاح رعد عنه بوجهه ، ثم غادر الكهف .
" 11 "
تجنب صخر اللقاء برعد ، كما تجنب الاقتراب من نجمة ، وإن كانت هي أيضاً على ما يبدو . تجنبت زيارته ، أو اللقاء به . ولاشك أن أبا رعد ، لم يعرف بما جرى ، بين صخر وابنه رعد . فقد استمر على زيارته اليومية لصخر ، والحديث معه حول ما يدور في المنطقة والمناطق المجاورة . أما أم رعد ، التي عرفت بما جرى ، فقد التزمت الصمت، وإن كانت محرجة ، فهي لا تريد الدفاع عن رعد ، وتحرص على أن لا يعرف أبو رعد بالأمر . وذات يوم ، تناهى لصخر ، صوت أم رعد ، تناديه من الخارج : صخر . ونهض صخر ، متوكئاً على عكازه ، وقال : نعم ، تفضلي . ودخلت أم رعد ، ونظرت إليه مبتسمة ، وقالت : ألاحظ أن ساقك قد تحسنت كثيراً . و ابتسم صخر بدوره ، وقال : والفضل يعود لكم ، وخاصة لكِ أنت . وهزت أم رعد رأسها ، وقالت : عفواً ، هذا واجب ، وأنت بمثابة ولد من أولادي . وبدا التأثر على صخر ، وقال : أشكرك . ونظرت أم رعد إليه ، وقالت : بني ، الجدة الحكيمة ستأتي غداً . فقال صخر : أظنها ستقول ، هذه المرة ، إنني شفيت . ورغم عدم تأكدها مما يرمي إليه ، فقد قالت أم رعد : هذا ما أرجوه . وقال صخر بنبرة حزن : وعندئذ أستطيع أن أغادركم ، واذهب إلى دياري . لم ترتح أم رعد لنبرته ، فسارعت إلى القول : بني ، لا أريدك أن تتصور ، إنني أحب أن تذهب . وأقترب صخر منها ، وقال : عفواً ، إنني أعرف ما تحبين، لكن الأفضل أن أذهب . وبنبرة صادقة ، قالت أم رعد : حتى لو قالت الجدة الحكيمة، أنك شفيت تماماً ، فلن أدعك تذهب ، حتى ترتاح. ونظر صخر إليها ، وقال : إنني مرتاح ، وأريد لكم الراحة. ولاذت أم رعد بالصمت ، ثم قالت : عليّ أن أذهب الآن ، الطعام على النار . وفي اليوم التالي ، قبيل منتصف النهار ، جاءت الجدة الحكيمة ، ترافقها أم رعد . وحلت الأربطة عن ساق صخر، ثم ضغطت بأصابعها على موضع الكسر ، وتساءلت : تؤلمك ؟ فرد صخر قائلاً : قليلاً . ورمت الجدة الحكيمة الأربطة جانباً ، وقالت : هذا أمر طبيعي . ثم نهضت ، وأضافت قائلة : أنت الآن بقوة الوعل وخفته، لكني أنصحك أن تبقي العكاز رفيقاً لك بعض الوقت . ونظر صخر إلى الجدة الحكيمة ، وقال : أشكرك ، لقد أتعبتك معي لفترة طويلة ، ليتني أستطيع يوماً مكافأتك . فردت الجدة الحكيمة قائلة : إذا شفيت تماماً ، وسرت كما في الماضي ، فقد كافأتني . وسكتت لحظة ، ثم قالت : ربما لن تراني ثانية ، لكن إذا احتجت إليّ ، فأنت تعرف أين تجدني . ومضت إلى الخارج ،فلحقت أم رعد بها ، وهي تقول : تغدي معنا اليوم ، لدينا طعام يعجبك ، لحم غزال . وردت الجدة قائلة ، دون أن تتوقف : آه ما ألذ لحم الغزال، لكن هنالك طفلة في الغابة ، بحاجة إليّ ، لقد كسرت يدها، وعليّ أن أسرع لمعالجتها . وتوقفت أم رعد ، وقالت : صحبتك السلامة ، حيثما تكونين .
" 12 "
راح صخر ، يتخلى عن عكازه ، شيئاً فشيئاً . ويستعيض عنه بالرمح ، الذي أهداه له أبو رعد . فيستند إليه كلما آلمه ساقه أو غلبه التعب ، وهو يتجول ، فوق التلال ، أو بين أشجار الغابة . وطالما وقف على تل من التلال ، ينظر عبر المرتفعات والوديان ، إلى الدروب الطويلة الوعرة ، التي تقوده إلى أهله ودياره . وقد داخله شعور ، بأن اليوم الذي سيسلك فيه درباً من هذه الدروب ، لم يعد بعيداً . وامتلأت نفسه مرارة، فهذا الدرب الذي سيقوده إلى أهله ، سيبعده عن أبي رعد وأم رعد ونجمة .. آه نجمة . ويتنهد صخر متحسراً ، كلما تراءت له نجمة ، فقد غابت عنه تماماً ، منذ وارتها غيوم غضب أخيها رعد ، وتهديداته القاسية . و أخيراً حان موعد الرحيل ، ورأى أن من الضروري ، أن يخطر أم رعد بهذا الموعد . وذات يوم ، عند الضحى ، انتهز صخر فرصة غياب الآخرين ، وبقاء أم رعد وحدها ، فتوجه إليها ، وكانت منهمكة في إطعام عنزتها . وأحست أم رعد باقترابه ، فرفعت رأسها إليه ، وقالت : أهلاً صخر . ونظرت إلى الرمح ، الذي في يده ، وقالت : يبدو أنك ذاهب إلى الغابة . وهز صخر رأسه ، فقالت : لا داعي لأن تتعب نفسك ، لدينا طعام كثير . ولاذ صخر بالصمت ، فتطلعت أم رعد إليه ، ثم تساءلت : ما الأمر ؟ ونظر صخر إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فمدت أم رعد يدها ، وأخذت يده ، وقالت : منذ أيام ، وأنا أشعر ، أنك تريد أن تقول لي شيئاً . وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : متى ؟ فأجاب صخر بصعوبة : غداً . وتركت أم رعد يده متأثرة ، وقالت : هذا حقك ، وستبقى ابني حيثما تذهب . ودمعت عيناه ، ولم يعد يقوى على مغالبة عواطفه ، فمضى مبتعداً ، وهو يتمتم : أشكرك ، أشكرك يا أمي . وتجول صخر ، طول النهار ، على غير هدى ، فوق التلال ، وفي الوديان ، وبين أشجار الغابة ، وعاد إلى الكهف ، قبيل غروب الشمس ، دون أن يصطاد شيئاً . ولم يكد يضع رمحه جانباً ، حتى دخل عليه أبو رعد ، يحمل إناء فيه طعام . فأسرع صخر إليه قائلاً : عفوا ً يا أبا رعد ، أنت تخجلني بكرمك هذا . ووضع أبو رعد إناء الطعام قرب الفراش ، وجلس قائلاً : تعال أجلس قبالتي . وجلس صخر قبالته صامتاً ، فقال أبو صخر : هذا عشاؤنا الأخير إذن . فهز صخر رأسه متأثراً ، دون أن يستطيع التفوه بكلمة ، فقال أبو رعد : لو تعرف يا صخر كم تمنيت لو أنك ابني. وقال صخر بصوت مختنق : إنني ابنك . فقال أبو رعد : نم ، أنت ابني ، حيثما تكون . ثم ابتسم ، ومدّ يده إلى الطعام ، وقال : هيا نأكل ، فالطعام يفقد الكثير من لذته ، عندما يبرد .
" 13 "
استيقظ صخر مبكراً ، في اليوم التالي ، وتناول فطوره على عجل . وغادر الكهف ، ومعه رمحه ، الذي أهداه له أبو رعد . ولمحته أم رعد ، عبر مدخل الكهف الثاني ، يسير مسرعاً، والرمح في يده ، وخمنت أنه ماض إلى الغابة . وهمت أن تناديه ، أو تلحق به ، لكن ابنها رعد تململ في فراشه ، فلاذت بالصمت . وتوغل صخر في الغابة ، وسار متلفتاً بين الأشجار والشجيرات الكثيفة ، لعل عيناه تقعان على غزال أو خشف ، فيطلق رمحه نحوه ، محاولاً اصطياده . وتوقف منصتاً ، وسط أشجار كثيفة الأغصان ، حين ندت حركة من مكان قريب ، وفكر .. لعلها غزالة .. أو خشف .. أو .. ، والتمعت عيناه ، أهذا ممكن ؟ نجمة ؟ من يدري، تفعلها هذه ال .. فهي .. هي نجمة . وبيد تأمل الفرح ، أزاح صخر بهدوء أحد الأغصان ، وإذا هو يرى بدل نجمة ، أو الغزالة أو الخشف ، دباً فتياً ، يسير صامتاً ، عبر شجيرات كثيفة ، دون أدنى صوت. ومضى صخر ، يجوس بين أشجار الغابة ، والرمح مشرع في يده ، حتى حقق ما كان يصبو إليه ، نعم ، اصطاد غزالة ، وحملها على كتفه ، ومضى بها فرحاً ، إلى كوخ الجدة الحكيمة . وفوجئت الجدة ، وهي تعد بعض الأدوية ، داخل كوخها ، بصخر يناديها من الخارج : أيتها الجدة . ورفعت الجدة رأسها ، وردت قائلة : صخر ، تعال ، إنني هنا في الداخل . ودفع صخر الباب ، ودخل حاملاً الغزالة ، فنهضت الجدة مبتسمة ، وقالت : ما هذا ؟ غزالة ! ورفع صخر الغزالة عن كتفه ، ووضعها أمام الجدة ، وقال : في المرة الأخيرة ، التي عدتني فيها ، عرفت أنك تحبين أكل لحم الغزال . فزمت الجدة شفتيها ، وقالت مازحة : لكن الجميع يعرفون، أنني لا أتقاضى مكافأة لقاء عملي . ورد صخر بما يشبه الاعتذار : هذه ليست مكافأة ، وإنما هدية ، وهي أول وآخر هدية أقدمها لك . وتطلعت الجدة إليه ، ثم تساءلت : ستذهب ؟ وهزّ صخر رأسه ، وقال : اليوم . وللحظة التمع التأثر في عيني الجدة ، لكنها كالعادة تمالكت نقسها ، وقالت : مهما يكن ، فهذا أمر لابد منه ، سيفرح أهلك ، بقدر ما سيحزن الآخرون . ونظرت إليه ملياً ، ثم قالت : ساقك الآن شفيت تماماً ، لكن حاول أن لا تتعبها كثيراً ، والآن اذهب ، صحبتك السلامة .
" 14 "
أقبل صخر ، قبل منتصف النهار ، ورمحه في يده . واستقبلته أم رعد باشة ، وقالت : أهلاً صخر . وتوقف صخر قبالتها ، وقال : جئت أودعك . وهزت أم رعد رأسها ، وقالت : لن تذهب قبل أن تتناول طعام الغداء . ولاذ صخر بالصمت حائراً ، فقالت أم رعد : سيعود أبو رعد بالصيد ، وسأعده للغداء على جناح السرعة . ثم ابتسمت وقالت : وستتناول معه فطراً لذيذاً ، لقد ذهبت نجمة إلى الغابة ، وستأتي بالفطر . وتراءى الدب لصخر ، فصاح بصورة لا إرادية : ماذا ! ذهبت إلى الغابة ؟ فردت أم رعد حائرة : لا عليك ، لن تتأخر ، إنها تعرف جيداً أماكن نمو الفطر . وفوجئت أم رعد بصخر ، ينطلق مهرولاً نحو الغابة ، والرمح في يده ، فصاحت بنبرة تحذير : رعد أيضاًً في الغابة ، لقد ذهب وحده ، منذ الصباح ، ليصطاد . وأبطأ صخر لحظة ، حتى كاد يتوقف ، لكنه سرعان ما واصل هرولته ، لا يلوي على شيء . واندفع صخر يركض متلفتاً ، بين أشجار وشجيرات الغابة، وتراءى له الدب ، وخشي أن يصادف نجمة في مكان ما ، ويهاجمها و .. فصاح بأعلى صوته : نجمة . وتوقفت نجمة ، وسط فسحة بين الأشجار ، ورفعت رأسها مصغية ، وهي تحمل سلة مليئة بالفطر . وتناهى إليها ثانية ، صوت صخر يرتفع من بعيد : نجمة .. نجمة . وتلفتت نجمة خائفة ، فهي تعرف أن أخاها رعد ، يتجول هو الآخر في الغابة ، ورمحه في يده، فتمتمت قائلة : المجنون ، سيسمعه رعد ، ويقضي عليه هذه المرة . وعلى الفور ، انطلقت نحو مصدر الصوت ، وهي تقول : فلأسرع وإلا سبقني رعد إليه ، وأقدم على ما لا تحمد عقباه . وارتفع صوت صخر مرة أخرى ، يصيح : نجمة .. نجمة .. نجمة . وهنا توقف رعد ، وقد كفّ عن مطاردة غزال ، أوشك أن يصطاده ، وقال غاضباً : هذا صخر ، الويل له ، لقد حذرته . وإنطاق هو الآخر ، نحو مصدر الصوت ، وهو يقول متوعداً : فلينتظر . وأسرعت نجمة ، مندفعة عبر مجموعة من الشجيرات الكثيفة ، وإذا هي تشهق مرعوبة ، فقد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الدب ، وتوقفت مستغيثة بأعلى صوتها : صخر. وكأن استغاثتها استفزت الدب ، فقد أسرع نحوها هائجاً ، مكشراً عن أنيبه ، وجمدت نجمة ، وقد شلها الخوف .وهنا أقبل صخر مسرعاً من بين الأشجار ، ورأى الدب ينقض على نجمة ، ويكاد يفتك بها ، فرفع رمحه ، وبكل ما يملك من قوة ، أطلقه نحو الدب . وتوقف الدب على بعد خطوات من نجمة ، مطلقاً صرخة رهيبة متوجعة ، وقد اخترق الرمح ظهره ، وترنح يميناً ويساراً ، ثم هوى على الأرض جثة هامدة . وفي تلك اللحظة ،أقبل رعد من الجهة المقابلة ،ورمحه في يده ، ورأى نجمة ، والدب أمامها ، وقد اخترق الرمح ظهره ، ورفع عينيه إلى صخر ، ووقف حائراً ، لا يدري ماذا يفعل . وتقدم صخر ، وأطبق يده على الرمح ، وسحبه بقوة من ظهر الدب . وقبل أن يمضي مبتعداً ، قال : إنني راحل ، تحياتي للجميع .
" 15 "
لم يفكر صخر ، في العودة إلى الكهف ، رغم أن أم رعد ، كانت تنتظره على الغداء . وخمن أنها ستفهم موقفه، وتسامحه ، بعد أن تعرف ما جرى في الغابة . والتف في سيره ، مبتعداً عن منطقة الكهوف ، ثم مضى قدماً ، ورمحه في يده ، يحث السير على الطريق المؤدي إلى دياره . وتراءت له مرات أم رعد ونجمة ، آه من نجمة ، بل وحتى رعد . وكم تمنى لو استطاع البقاء معهم على الغداء، وتوديعهم واحداً واحداً ، ومن يدري ، لعل رعد نفسه ، في لحظة الوداع ، ينسى غضبه وجنونه ، ويودعه بعاطفة أخوية صادقة . وتناهى إليه ، غير مرة ، وقع أقدام متلصصة ، لكنه كلما التفت ، لم يجد أحداً يتأثره . وهزّ رأسه ، عجباً ، أهذا وهم؟ وحث خطاه مبتعداً عن المنطقة ، التي عاش فيها أشهراً عديدة . وتوقف عند نبع ، ينبثق من بين الصخور ، مكوناً بركة صغيرة ، ماؤها صاف كالمرآة ، وركن رمحه قرب صخرة ضخمة مرتفعة ، ونزل بحذر إلى البركة . فشرب حتى ارتوى ، ثم غسل وجهه ويديه وساقيه . وخرج من البركة ، وقد أنعشه ماؤها البارد . وقرر أن يستأنف السير، لعله يصل إلى مكان آمن ، قبل حلول الليل . وتوقف مذهولاً ، أمام الصخرة الضخمة ، حين اكتشف اختفاء رمحه . وتلفت حوله متوجساً ، متأهباً لكل طارئ . وانتبه إلى حصاة صغيرة ، تتدحرج من الأعلى . فرفع رأسه ، وإذا نجمة تجلس فوق الصخرة ، والرمح في يدها . فهتف مذهولاً : نجمة ! ونزلت نجمة من أعلى الصخرة ، وقالت : على المقاتل أن لا يغفل عن رمحه . وقدمت له الرمح ، وأضافت قائلة : تفضل ، هذا رمحك . واخذ صخر الرمح ، وقال : هذا مكان منقطع ، ما كان عليك أن تأتي إلى هنا . ونظرت نجمة إليه ، وقالت : جئت أذكرك بحقك . وتمتم صخر : حقي ! وتساءلت نجمة قائلة : ألم تنس شيئاً ؟ وفكر صخر ، ثم قال : لا ، لم أنس . وقالت نجمة : بل نسيت . وصمتت لحظة ، ثم قالت معاتبة : لقد نسيتني . ونظر صخر إليها متأثراً ، وقال : هذا مستحيل ، لم أنسك ، ولن أنساك . وهزت نجمة رأسها ، وقالت : كان عليك أن تأخذني ، فأنا ملك لك . ومد صخر يديه نحوها ، وكاد يضمها إليه ، وإذا رعد يبرز فجأة ، ورمحه في يده ، فجمد في مكانه هاتفاً : رعد! وتوقف رعد قبالتها ، وعيناه تتقادحان ، وقال : نعم ، رعد، وقد جئت لأرى بنفسي ما أنت مقدم عليه . ولاذ صخر بالصمت حائراً ، فتساءل رعد : أخبرني ، هل ستأخذها معك ؟ ونظر صخر إلى نجمة ، فتابع رعد قائلاً : نعم ، أعني أختي ، نجمة . وتقدم صخر خطوة ، والرمح في يده ، وكأنه يحمي نجمة ، وقال : نعم ، سآخذها . وكم كانت دهشة صخر عظيمة ، حين أقترب رعد منه ، وقال : كن على ثقة ، لو قلت ، لن أخذها ، لقتلتك في الحال . ونظر صخر مذهولاً إلى نجمة ، فابتسمت وقالت : لقد أنقذتني من الدب ، ومن عادتنا ، أن من ينقذ فتاة ، تصبح ملكاً له . ومد رعد يديه ، وعانق صخر ، وهو يقول : أنت شجاع ، وقد أحببتك ، حين واجهت الدب ، وقتلته . وعانق نجمة ، وقال : نجمتي العزيزة ، نجمتي . ودمعت عينا نجمة ، فقال رعد مغالباً انفعاله : والآن اذهبا، اذهبا . وذهبا يداً بيد ، ووقف رعد يتابعهما بعينيه المحبتين ، حتى غابا في منعطف الطريق .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
-
مسرحية مونودراما الرعب والمطر
-
مسرحية من فصل واحد الصحراء
-
مسرحية من فصل واحد الشجرة
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|