أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض ممدوح جمال - بعد فوات الاوان مسرحية مونودراما















المزيد.....


بعد فوات الاوان مسرحية مونودراما


رياض ممدوح جمال

الحوار المتمدن-العدد: 7428 - 2022 / 11 / 10 - 10:53
المحور: الادب والفن
    


عن قصة للكاتب العراقي انور عبد العزيز.
المنــظر ( غرفة عادية قديمة توحي بالعزلة والكآبة، تحتل مساحة المسرح
كلها، على يمين المسرح كرسي هزّاز قديم ومنضدة صغيرة، امام موقد
كلاسيكي مبني داخل الجدار، فيه نار هادئة، يستقر فوقـــه مذياع يبث
موسيقى هادئة طيلة العرض. وفرشة ارضـية اكـــل الدهر عليها وشرب
صور قديمة معلقة على الجدار لأشخاص لا تبـــدو ملامحــــهــم لقدمها
وبالــلون الابيـض والاسود، صــورة رجــــل بملابس عسكرية وامرأة
مسنّة. على اليسار شباك مطلّ على زقاق، تغطيه ستارة شفافة. تعتيم
للإضاءة. وباب في عمق المسرح، تدخـــل منه امــرأة مــــُسنة تجاوزت
السبعين من عمرها ترتدي دشداشة ظـــاهرة تحت روب منزلي على
راسها قبعة منزلية من الصوف، ، تبدو بجسدها النحــــيف اصغر من
سنها، وفي قدميها نعل خفيف. تحمل بيدها قدحا من الشاي، وتجــلس
على كرسي ـهزاز أمام النار. تضع القدح على المنضدة. وهي متكئة
الراس الى الخلف ).
المرأة : آه من الايام آه. ايّ عمر هذا الذي مضى؟ ياه!
( تزفر. فتــــــــرة صمت قصيرة). من عمــق الذكـــــرى وضباب
السنين صحوتُ على طفولة هادئة ساكنة انيسة معـــزولة عن لعب
الصغار وضجيج جنونهم ونزقهم الطفولي الذي لم تتسع لمدى حركته
كل ساعات النهار وحتى لجزء من امسيات القيظ الساخن الكـــاوية
ووخامته الخانقة، أو تجلّد الارض والماء والهواء ببرد قاس لا انساني في
الثلجية عواصــفه ورعــــونته المجــمّدة للجلد والآذان والعيون وفروات
الرؤوس والرقاب والاصابع، ذلك الحــــر اللئيم وهجـــمات البعوض
الشره وشراسة بعض الصغار وانفلات هيــجانه وعدوانيتهم وبـــروح
من شـرور كريهة واكاذيب استغرب الآن كيــــف كـــانت تفرقعها
نفوسهم وعــقولهم على صــغرها ومحــدوديّة تجاربهم الضئيلة ضحالة
تفاعلهم مع الحياة.
(يمكن للمخرج ان يُظهر صور او لقطات افلام لأطفال فقراء يلعبون في
زقاق او حافة مستنقع).
(فترة صمت).
ذلـــــك ما عزلنـــي عـــــنهم؛ وذــلك مـا جــعــــلني احـــلـــم بالــــبديل
في الارانـب والحمــام العصافير والقطـــــط وحتـــّى لبعض الكــلاب
الصغيرة والوادعة المسالمة
( تنظر بنظرة خليط من الحنان والاسى الى صورة امها المعلّقة على
الحائط)
وذلك ايضاً ما جعلـــني أنكـــفئ لحـــنان أمــي وسـحر قصصها
وحكاياتها التي كانت كل واحــدة منها ومن أثارتها وتشويقها وابهارها
ما يعادل بال مكر الشياطين، حكايات مدثّرة بدفء البيت بعــيداً عن
بياض الارض وأشواكها التي يلعبون عليها.
( تنهض وتسير بمحاذات صورة امها، فيُسلّط عليها وعلى الصورة
بقعة ضوء واحدة تجمعهما، وتعتيم باقي المسرح).
صار البيت، ومع حـــكايات امـــي وحنانها، مـــأوى آمــــناً لذيذاً ابعدني
عن كل ما يخدش سلام روحي واطمئنانها، لكنني لم انس أو أهدأ عن
رغبتي بتملّك بلبل يغني لي، رغم محبة امي وأحاطـــــتها بكل رغباتي
كجناح طائر حنون، فأنها ما استساغت حكاية البلبل، الأرنب والغزلان
والحمائم والقطط وجــراء الكلاب تسرح في غرفة طويلة عريضة
مرتفعة الســـقف الطـــيني المـــــمــتد بـــبواري القصـب والأعشاش
والمنحنيات التي تمنح الحمائم والعصافير حرية مطلقة في الدوران
والحركة صعوداً وهبوطا والتصاقا ً بالسقف والجدران وحفرها
والمناورة، حتى مع الخفافيش، وكأنها في سماء الخارج، ثم ان الغـرفة
كانت منفتحة على ارض خلاء عشبية مشبكة بجدار دائري من خشب
واعواد وأسلاك مما يدفع أي تهمة انها حبيسة ومخنوقة ومقيدة، لكن امر
البلبل شيء آخر طال في ذهن أمـــي. كــــنتُ أشعر أنها غير مرتاحة بل
ومشمئزّة من هذا الطلب والرغبة التي اشتعلت في روحي لإيواء بلبل،
البلبل لن يكون كالديكة والخفافيش والعصافير، لابد من قفص، وعند ذكر
هذا القفص كان يبدو الكدر على وجه أمي والضجر من الحاحي بجلب هذا
المغنّي، أمي الصافية النقيّة الهادئة كنسيم، صاروجهها يتعكّر وعيناها
تتقلبان كلما عاودّتُ وبإلحاح سمج طلبي بتحقيق رغبتي المدفونة، ما الذي
تغيّر؟
( تُسلّط بقعة الض وء على صورة الأم وصوتها تتكلم من خلال مسجّل
الصوت).
صوت الأم : تأكدي يا ابنتي انني سأقلع باب الدار أذا لم يتّسع لدخول بعير فيل
وحتى كركدن أن تحسست بك هوى لها، لكنني ومع هذا الطائر
الصغير وان يحبس في قفص ,فلا، والف لا .
المرأة : قاومتـني بعناد. وأيّدها أبــــي وأخــوتي في ذلك، كنتُ تلك الصغيرة
التي شعرت بظلم فادح أليم وثقيل، أيقنتُ ان كل الدنيا وقفت ضدّي، لم
استوعب رفضها الحاد الخشن لرغبتي ببلبل.
(تلتفتُ يائسة ومحبطةً، وتتّجه الى الكرسي وترمي نفسها عليه، وتتغير
الإضاءة فتختفي بقعة الضوء وتعود الاضاءة الخـافتة على المكان كله
وترفع المرأة قدح الشاي وترتشف منه، وتعود الى جلستها الاولى متّكئةً).
وعندما استنجدتُ بخـالي، وكان يحبني وأحبه، غير متزوج وقد تجاوز
الخمسين، قصير قوي الجــــــــــــــسد كقرمة جوز، سبّاح ككوسج وصائد
فاع وعقارب عاطل عن العمل، وحــــــــيد وأخ لخمس نساء أكبرهن امي,
رغم انه كــــــان عاطلاً تائهاً مناحراً الشطوط، فقد كان محبوباً من الناس
فلا ملاحـــظة رديئة مشوّهة لأي احد على سلوكـــه. معزول عاشق للماء
كتمساح معاشرا للأنهار والمستنقعات. صــفاته واوصــافه كثـيرة. وابرز
عناوينها ”صـــــائد الافــــاعي”. ما الذي كــان يفعله خالي عندما تضيق
يده بآخــر فلس وعندما تنكمش جيوبه وتتـهدّل خــاوية عــاوية؟ يختار
اول اخت وغالـــبا ما تـكون امي، يـــــطرق الباب بسفاهة لـــص هارب،
وعنــدما يصبح في الداخــل تنهمر نكـــــاته فلم يـــعرف من هذه الدنيا غير
السخرية والضحك، وعندما كان يجابه بصـمود امي وشتائمها المغايرة
اللاطمة لنكاته- وهو رغم كل حماقاته- كان لا يندفع ويتورط معها اكثر،
فهي اخته الكبيرة، وعندما يبدأ– ترميزا- بالإعلان والكشف عن افلاسه
وحاجته للنقود، كان صوتها يعلو وغضبها يحتد اكثر، عندها يلجـأ لكيسه
فاتحاً فمه لتبرز منه رأس قرعاء صلعاء لأفعى سوداء بعينين جاحظتين
مخيفتين ولسان مشقوق، بأسنان او بغير آسنان فقد كان خبيراً في التعامل
مع اسنانها ومع سرعة اندلاق للسان وبصبصة العيــنين والشدق المفتوح
بأسنان السم تكون امي قـد استكانت وهدأ غضبها وانخفض صوتها الذي
استحالت كلماته الى عبارات خـذلان وتوسل ان يترك هذا يترك هذا المزاح
لئلا يخيفني- وكانت هي المتجمدة الخائفة المذعورة عندها تبدأالمساومةعلى
الرقــــم المرتفع للدراهم التي ينوي الاستحواذ عليها، وكما في كل مرة، فلم
يغادر الّا والدراهم التي طلبها- ومنذ البداية- قد استقرت مطمئنة في قعر الجيب العميق
لسروال الصياد، ولن تكون هذه هي المرة الاخيرة، ولن تنجو امي ولخالاتي
الاخريات من شبح تهديد تلك الافاعي منكمشة الملتفّة المخنوقة من غلاصمها
بقوة وثقل اصابعه السميكة المطبقة عليها كخانق، رغم انزعاج امي وشتائمها
واستنكارها لتهديداته، فإنها كانت تشتاق بلهفة لوجوده ان طالت غيبته وتتمنى
حضوره رغم خسارة النقود. هذا الخال صار لي املاً ان يجلب بلبلاً يغني لي،
هو خالي ويحبني واحبه وعدني بالبلبل، طال الوعد، مضت اشهر، جاء عرفناه
من طرقات الباب المفرقعة بيديه الحجريتين، ومع اول أهلالة لوجهه وعيـــنيه
الــــــلامعتين الفرحتين، فتــــح الحاوي وخُرجه، كنت احلم بالقفص، وكان
خُرجاً شبه فارغ، ومع فتــــحة العــــــنق الضــيق للخُرج ارتفع راس مثلث لا
فعى مخيفة، هذا هو بلبل خالي، كان فرحا بهديته قال انها اتعبته حتى استطاع
ان يلتقطها ويأسرها بعــــــد ان فلّها من حزمة قصب في مستنقع آسن بعيد في
عمق الغابة المائية، وقال لأمي انه ولأول مرة بانه شعر معها بالخوف وكادت
اصبعه الفولاذية المرتجفة ان تخذله لولا انه تذكّر انها الهدية لابنة اخته ولابد
ان يظفر بها .. أهكذا ايها الخال؟! أردتُ بلبلا اين هو البلبل؟! لم اتلقـــى رداً
فقد كان يشكو الجـوع ويشكو لأمي ان هذه الافعى الشيـــطانية اللعينة – هدية
ابنتها – حرمته من الراحة في ترقّبها وملاحقتها وحتى دقائق النوم القليلة
التي حظي بها فقد هرست جلده ورقبته ووجهه سيل من بعــــــوض خشن
سام يساكن الافـــــاعي في عـــــمق مغاورها وحفرها وقد غطّى وجهه
المستنقع حتى بدأ اسود كالسخام .. عندما يئست من وعود خالي التي لم ار
منها غير الافاعي وتلك العقرب المكورة الكبيرة والتي قال انها عمـياء
وتتخبّط في حركتـــها ولا تـــــعرف طريقــاً مستقيماً، يكفي من تلك
العقرب ابرتها السامة المعـقوفة المرتفعة للأعلى والمتأهّبة للقتال والتي
هرسها ابي بحذائه العسكري دون ان يمنح خالي فرصـــة وصفها والتفــاخر
باصطيادها، عندها عرفتُ أي مراوغ وماكر الخال. التجأت لأعمــامي،
وبدأت بأكـــــــبرهم، ذلك الذي يجاور متجره سوق الطـــيور وهو قد
استغرب هوايتـــي ولعن تربية امي وهو ظلّ يردد بحــــقد وكراهــــية:
(صوت العم خلال التسجيل)
صوت العــم : نـــعرف انها تريـد ان تــشغلها عن دروسها ومستقبلها ولتنشا ضعيفة
عاجزة، الكسالى و المتبطرون فقـط هم من ينشغلون بعشق الطيور، ثم أي طير تريد،
بلبل! أي امرأة ستكون هـذه وقد حصرت كل حلمها بطائر تافه صغير محصور في
قفص يلهث كالمجنون طيلة النهار ولا يستر قلقـــــه واضطرابه غير سكون الليل
وعتمته. انتبهي إلى دروسك، فليس للفتاة إلا دروسها ومستقبلها حين تكون في بيت
أهلها. وحين تكبر ليس لها الا بيتها وزوجها واولادها. وليس هناك مجال للاهتمام
ببلبل.
المرأة : خاب ظني في الاعـــمام ايضا. واذا كنت قد غفرتُ لأمي رفضها وعنادها
فقد ادركتُ بعد سنين، ان امي ربما منعـــــتها صَلاتها من تحقيق حلمي، فهي كانت
تخشى الحبس، ثم خشيت اكثران اضجر منه بعد أيـــام فاهمـل اطعامه أو اغفل عن
مائه فيموت فتلقى هي أو انا او نحن معــــاً عــــذاب الله. غفرتُ لأمي بعد تلك السنين
وحزنت لذكراها ولم اغفر لخالي واعمامي، وحتى ابي، وقد ترددت ان افاتحه في
حلمي، فقد كان عسكرياً صارماً متجهماً غاضباً عابساً اكثر ايامه وساعاته، وانا
لن انسى تلك السخرية وما نالني من ذل وقسوة الرفض بقوله لي:
صوت الأب: كنتُ اتمنى من ابنــــتي ان تطلب كتب واثواب واطعمة، لأتيت بها
ووضعتها بعد يوم او ساعة في حضـــنها. امــــا هذا البلبل ما الذي تستفيد منه؟!
الغناء! الا تكفيك كل هذه الموسيقى والاغـــــــاني وهذا الحشد من مغني الاذاعة
و الغرامافون لتنتظري ساعات تـــــغريده قــد ينفخ بها أو يبخل وقد تركــت كتبك
ودراستك لتنشغلي بطعامه ومائه وتنظـــيف وساخته، اهجري هذا الحلم السخيف
فهو لن ينفعك بشيء.
المرأة : و مرت سنين، ماتت امي، لم ينتظر ابي ولم يصـــــبر. اصابته كآبة،
وبعد شهرين هرول ثم طار خلفها طامعاً في جنــــــتها... و مرت سنوات اخرى،
مات الاعمام وذلك الخــــــال الشريد التائه. وعندما تزوجتُ قلت عسى ان يتقبّل
الزوج حلمي، لكن الامر بدا عسيرا معه ايضــــا، وهو قد ذكرني عندما اصطف
اصطف بأقواله مع حجج امي وابي واعمـــامي وخالي الصياد، وحتى الاولاد،
كنت المح اشارات ولغـــــة مرموزه تظهر على ملامحهم وتكشف عن سخرية ان
تحلم امرأة وقورة وقد تجاوزت سنون كثيرة بقفص صغير وبلبل يغني لها، و كثيراً
ما اقترحوا عليّ السفر لأستمتع بجمال الدنيا بدل انشغالي بهذه الصغائر... امام هذا
الرفض الجماعي المعاند قمعت رغبتي وحلـــــمي، اندثرت سنون واعمار اخرى
اخرى، مات الزوج، كبر الاولاد، تفرقوا في مدن واحياء خارجية بعيدة وانا بقيت
في دار العمر، والزقاق في المدينة القديمة والجيرة المؤنسة، بقيت وحيدة، صمت
الدار ووحشته وسكون النفس دغدغت وحركت منابت الحلم القديم الذي لم ينطفئ
رغم مرور سنين كثيرة، انا الان وحيدة معزولة حرة في اتخاذ أي قرار وتحقيق
كل الاحلام، وحلمي ما أسهله فالبلابل كثيرة والاقفاص اكثر وانا وحدي، لي سيغرد
يغنّي، يتفنّن في الغناء، يفـرد جناحيه ويترنم، سأختار له اكبر الاقفاص واحلاها
لوناً واكثرها ترفاً ونظافة في مواضع الاكل والماء، سأفرد له زاوية كعش طبيعي
دافئ يقيه ضراوة البرد واجعله مواجها لمبردة الهواء في الحر الساخن و بفضاء
قفصه الكبير، ستكون حاله كحالي، لن اغـفل عنه لحظة لأعاقب بما كانت تخشاه
امي، انيس الوحـشة والانتظار .. وكما رغبتُ فقد تطوع الجيران بشرائه قلت لهم:
لا تهمني النقود، المهم ترانيم البلبل ويقظة الصباح، يكفي ان يغني لي في الصباح
فقط، لم احو ديكاً رغم كل النصائح واكره الديكة المغرورة الحمقاء البلهاء التي كثيراً
ما تخطيء فتصيح وتُعلن الفجر والليل في منتصفه، ويحصل انها بعد ان تنام ساعة
بعد المساء المبكر، تستيقظ واهمة ان الفجر قد حل فتصفق بأجنحتها ويتعالى
ضجيجها مربكاً ومحـيراً الجيران وخادعاً عمال الفجر، الأهم ألا يكون وحشياً
واخرس، يقول بعض الناس: لا يوجد بلبل اخرس، فما دام بلبل فهو قرين بالتغريد،
لكن العارفين يقولون: لا ان بعضها وحشية خرساء وهي كثيرة الحركة بلا فعل،
ترقبها، تراها لا تهجع لحظة، مضطربة مرتبكة منكوشة منفوشة الريش في مقدمة
رأسها، وهي ان انتظرتها دهراً فلن تسمع منها نأمة لتغريد.. جاء البلبل، فرحتُ به،
آنسني وجوده، فهو كان جميلاً بريشه الرمادي وعنقه الابيض مزيناً بذيل طويل
اصفر في بدايته، ما لاحظته – وقد احزنني– ان بلـــبلي بـــــدأ شبه مجنون في شدة
حركته و قفزاته وتخبطه ودورانه الهائج رغم سعة القفص ثم اصطدامه المتكرر
بآنية الماء والاكل وبأعواد القفـــص العـــلوية والجانبية حتى خشيت عليه من
الجروح التي قد يسببها ارتطامه القوي مرات ومرات، وحتى خشيت عليه من
الموت، ظللت مؤملة ان يهدأ وان يُسمعني ما انتظرته دهراً وان يبدأ الغناء، لكن
شيئا من املي لم يصـل وشككت ان هذا البلبل اخرس اضافة لجنونه وهيجانه، لم
آبه للجنون غير ان مسألة الخرس احبطت ونكّلت بحلمي.. انتـظرتُ اياماً واسابيع،
ذلك الانتظار الطويل المر للبلبل والذي اكل مني عــمراً، استحال الى انتظار اقسى
ياساً ومرارة، لم يقنعني قول عامل النظافة – وطالما سكن للراحة قرب شباك
غرفتي المواجه للزقاق – انه لم يسمع نغماً حلواً مثلما يفعل هذا البلبل الساحر،
اضاف عامل النظافة : هذا البلبل لا يتعب حتى لو غنّى النهار كله، صمتُ لمقولة
صاحب المكنسة وكانت عاليــة النبرة، وحرتُ في تفسيرها، اعتقدتُ انه يجاملني
حباً واشفاقاً، أو انه يكذب ليبرر بقائه ساعات في كسله قرب الناـفذة، انتظرتُ اياماً
اخرى، لم اسمع شيئا، وفي غمرة ضجري وخيبتي مع كل سنين الانتــــــــظار، فقد
بارك لي جاري المعلم – وهذا ما حيّرني – حلاوة صوت بلبلي و رنينه وتلوينه
للنغمات مع علوها لتطرق اذني المعلم وبمبعدة امتار. و كنت من وقت حضوره قد
سميته (نشاط) لحركته المستمرة كرقاص وبعد ان احببتُ فيـــه تلك الحركة النشيطة
لطائر صغير... اضطربتُ حيرةً فهذا الشخص الثاني يقول ان بلبلي غرّيد، وانا
بقيتُ لا اسمع شيئا، اما جارتي الاخرى فقد ذكرت لي ان صوتاً صافياً مستمراً كهذا
لابد ان يكون من فعل طعام وماء تُعِدّه الملائكة لترخيم صوته ولا يُعقل ان بضع
تمرات و تينات وحزوز خيـار تجيء بكل هذا الطرب، عندما اخــبرتني تلك الجارة
ان هذا البلبل كنز ثمـين وعليّ ان اعرف كيف احافظ عليه من عـــيون الغيرة
وحـسد الاشرار، ازددت يقيناً ان ثمة خللاً في شكوكي ولعناتي التي اصبها
واهدرها على حظّي ببلبل صامت اخرس لا اجد عنده غير جنون الحركة والهياج
الدائم و تلك الريشات المنفوشة المتوترة في قمة رأسه، وعندما ايقنـتُ ان ساعي
البريد يُطيل وقوفه مدّعياً انه مسحور بلذة الرنين العالي لصوت المغني، فساعي
البريد رجــــل عابر ولا مصلحة له في ثناء خادع، وبقيت ابحث – مستنجدة
بذاكرتي– عن خلل وألّا يظل بلبلي معلقاً بين سحر التغريد وتهمة الخرس الابدي
وكلّما تذـكرت واسترجعت طريقة تكلم الاخرين معي، صرتُ اشك باذني تذكرت
كل الوجوه والافواه، استعدت صــــــورة افواههم واحداقهم المفتوحة وهي تلتصق
باذني بل تكاد تدخل فيها، استعـدت ان بعضاً من هؤلاء السفهاء، كانوا – بلا حياء
– يصرخون في صيوان اذني كأبواق. بعد ان جاهرني الجمـــيع باني محـظوظة
بالبلبل الصـدّاح، عرفتُ – دون ان انتبه وأعي من قبل – ان عزلة صماء
مظلمة قد حجبتني وعزلتني عن العالم واني صــــماء، فلم استــــــطع ان التقط حتى
الصراخ والضجيج وان أذني لم تعد تستطيع التجاوب الّا مع الصــــــوت الداخلي
لطنين حاد متواصل في عمق الراس والاذنين .... عندما سئمت ويئست من الانتظار
اللا مجدي، كان القفص عارياً فارغاً مشرّع الباب عن اخره على فضاءات وافاق
واسعة ممتدة.
(ُعتّم المسرح، وبدى فضاء القفص الخاوي المهجور معها نقطة شاحبة ضئيلة).

ســــــــــــــــــــــــــــتار



#رياض_ممدوح_جمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض ممدوح جمال - بعد فوات الاوان مسرحية مونودراما