|
يشدّ الحزن من الأذنين
إيمان سبخاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7424 - 2022 / 11 / 6 - 10:00
المحور:
الادب والفن
علّمني جـدّي آية كان يحبها جدا "لن تنالوا من البرّ حتى تنفقوا مما تحبــون" جلت بنظري في الجدران المتشققة حولي و سرواله الـــرّمادي المرقّع، عندما كبرت علمت أنه لم يكن يحب غير المهابل و لم يملك غير سائله المنوي و قد أنفق منه ما يكــفي لإعمار قــــرية... أسرّت لي صديقة تمزّق حذاؤها و نحن نــذرع المسافة لـــزيارة معــرض الكتاب، يا الله ليس الآن.. قد يتمزّق قلب الفــقير و لا يتمزّق حذاؤه، كان لي إثــنين، الثاني للشيطان... منحتها حذائي و لبست حذاء الشيطان. تقاسمت مع "أم هاني" الملح و الزاد و الوقــت... تقــاسمنا بـعـــدها كل شيء، كــنت أفــصد عــروقها بترياق الكلمات على غــرار: الصبر مفتاح الفــرج... الصمت حكمة... دعــوة الخير... مولى النية يسلك على خير... بينما الآخرون يمتصوننا كالعلق. عــدا قلبك الأخضر لا أحب أن أتقاسمه مع أحــد، رمتْ الرجل الذي خذلها كـفـــردة حذاء متهالك، وقــتــها أيضا كانت النساء العابرات يقــتـتــــن على نطافه. شـــرب الكل من مائه عــدا هي، ما كان ينبغي لنخلة أن تنحي لتشــرب، علمتُها كيف تتشــقــق جـفـــافــا كطاجين الطين و تحلم بالمطر كأرض إليـــوت اليباب. استرسلت "هي": كل الثياب التي ضاقت علينا كانت ديونا تتسع في جيب أبي... لم يكن أبي يبكي كما يجدر برجل و أوصى أخي "الصالح" أن ملّــس من طينك امرأة تصلح لبــرد الشتاء. أمي كان قلبها نايا بثـقـوب تفـوق عــدد أصابعه، لما انهمــرت روحها كالمـزاريب، أعطــاها قلبه و مضى للمقبرة دون أن تبكي، كما يجدر بأمي. روحه التي عادت في هيأة حذاء، تقف عند عتبة الباب أخبــرته أن لا تزرني، لا شيء يتعب القبور كما وقع أقدام نعجـــز عن عناق أصحابها. أما أنا فبقيت متشبثة بعباة أمي و هي تشــدّ بإحكام على يدي، بأصابعها المكتنزة.. بيدها غائرة العروق. ربطوا العنزة المنذورة لاستخــراج الجني الذي تلبّسها و أخــذ صوتها و دموعـــها، طلبــوا منها تخطّيــها سبع مرات و البصاق في فمها سبع مرات، ذبحوا تلك العنــزة التي لا تعــرف ماذا يدور حولها. بقي وريــد تلك الذبيحة يشخب في ذاكــرتي بعينها الذاهلة المفتوحة، ساعات معدودة انتشرت قصاع الطعام باللّحم، الكل ينهش لحم "النُّـــشـــرة" بنهم، و يمتخــر العـــظم، ثم جمعوها كلّها و ردموها في حفــرة، الشفاء يقتضي جمع العظام كاملة غير منقوصة. و حدي متلبّطة في أمر هذا "الخوني" الذي ملأوا جيبه بالنقـــود ليخرج الجنّي المرابض على لسان أمي كالمقصلة، كمنفذ حكم إعدام للكلمة... لما باءت كل المحاولات في استعادة أمي على تجــاوز حــزنها، اكتشف الطبيب أن امتناعها عن الكلام حالة نفسية قد تكون مــرتبطة بالتهاب حاد في أذنيها و أن الأمر قد تفاقم، عمدت العجوز "زوينة" إلى الفلفل الأحمر الحار الصغير المسمى بفلفل قناوة أو الفلفل التونسي و في مناطق أخرى يسمى بقلب السردوك. و ضعته يغلي في الـــزيت بعــــد طحنه كتـــوابلها الحـــرّيــفـــة و وضعت لها منه قطــرات في أذنيها فقدت معه طبلتها و سمعها بالكامل. كانت تــركّز بكلتا حــدقتيها في رحى أسنانها التي تدور على الكلام لتخرجه مطحونا، فكــل كلمة كانت تعني لها فما جــديــدا، حبة زيتون ناضجة عليها أن تعصرها لتـــفهم "أم هاني" التي تكرر سرد حكايتها، عبارة... عبارة... بصوتها اللّجــوج. عندما تــفهم أمها الحــديث، تبتسم "أم هاني" و تفعل أيضا أمها و تنزل حواجــبها المــرفــوعة دومــا المتأهبة لــرؤيــة الكلمــات، كيف أقــدّم اعتذاري لعينيك اللتين تدوران بلا تعب في رأسي؟ تــصلّي إذاما رأتنا نصلي، يبدأ الحــزن من الأذنين عندما يتكسّــر صوت نداءات المآذن بعدما يدور في الردهات عند عتبة باب طبلتها. لا شيء يحثّ روحها لقيام الصلاة غير ارتفاع مؤخّـــرة " أم هاني" أثناء السجود و الركوع. آخر إخوتي تــرك قــدمه ندبة صغيرة على بطنها كحبة إيجاص معــقوفة، ظلّ يـــركلها ليلة كاملة.. لكنها لم تسـتــــفــق. كــان ابنها العاق الذي يدعس جنته بقـــدميه، عـــاش طوال عمره بحزن مبهم بملامح غاضبة من بقائه على قيد الحياة. انثال صوتها و هي تروي الحكاية محتشدا في بكائها، بدت لي و هي تتجشأ الكلــمات كأن فمها طافحا بالقــروح... هكذا هو الحــزن الذي نحاول إخفاءه طويلا يخرج لزجا و يفضحنا. وحدها أم "أم هاني" "لعجالية" تقرأ تعابير ملامح ابنتها بقلبها، لا وجه يستطيع الكـــذب على أم صمّــــاء... تسترسل: ركـــلنــاها جميعا كي تستــفيق، كــلما يكبر أحــدنا تبعده عــنها و تضع مكانه الأصغر بشكل زاوية قائمة على بطنها ليستمر في تنبيهه بأقدامه كي تخرج ثــديها و تــرضعه... كانت تغــطينا جميعا بحنبل مخطط بالأحمر و الأبيض المنسوج بصوف الأغنام. كانت تضعه بثقله علينا فلا نستـفيق إلا على صوت القطرات الأولى من القهوة في قاع الإبريق و رائحة الشيح. وحده أخي الصغير "عــامــر" كان يمــدّ رجليه و يسحبهما بقــوة كــمــن يعين امــرأة أعسرت في الــولادة. لا أدري من حشى رأسه بفكرة أنه تسبب في موتها؟ في قلب الحــكــاية التي كــانت ترويها "أم هــاني" حضــرت صورة أمي التي كانت تكشط الثــلج عن سطح القرميد و تكسر القرون الجليدية المدببة التي تتــشكـــل من قطــرات المطــر المتجــمّــــدة مخافة أن تسقط على رؤوسنا، هي أعظم الصور في ذاكــرتي التي كــلّــما ذابت صقــلها الصـقــيــع. أحيانا تلسعنا الذاكــرة بصــور بعيدة مزدحمة بعد أعوام. كأنها تــأخــذ بثــأرها من النسيان، تجعلك تــدلــف إلى صور اعتقدت أنك تخلّــصت منها، تــدخل أبوابك المتهالــكـــة من الشــوارع الجــانبيــة... تردف قائلة: كانت تــقتــلني أمي " لعجالية " و هي تقــبس الكــلمة من فمي كــأنــها ستفضّــه. بكت "أم هاني" و لا أدري لما بكيت... يقاسمك شطر قلبه من يقاسمك الحكــاية، و انتقل حملها إلى كتفي، لم يكـــن بإمكاني أن أضيف شيئا لتعبها بعدما استفرغت كل ذلك الألم الجاثم على صدرها كطز كبيرة... من يومها و أشباح الكلمات التي ترسمها "أم هاني" بلغــة الإشارة تخرج من بطنها و تنتهي عند الأذنين... من يومها و أنا لا أتكلم إلا لأضحكها، كأنني أسعد امرأة على الأرض، شفقة عليها و رأفة بها... و كتبت ( أمنا الصّماء، كانت تضع أرجلنا على بطنها إذا ما جــاع طفل يحــرّك قدميه كي تستفيق؛ لما فحص الأطباء قلبها وجــدوا لــه جيبا مثل الكنغــر.) آه يا أمي، بمسحة من يدك القـــديمة تتعــافى أحـــزاني الطـــرية... الجــرح عميق يا أمي، بهائل عطفك لن تستطيعين الوصــول إليه. "لأم هاني ســرّ آخــــر إذا أفشيتــه سأنساه. "
#إيمان_سبخاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة: ابتسامة تصلح لنهاية الطريق...
-
القصة الأولى من مجموعة: أنتِ أولى بنبضك...
-
كلمات آبقة
-
قصة قصيرة العايب
-
الفصامي عن الفيلم القصير اثنان ناقص واحد ل-أشرف النجاد- و -
...
-
قراءة في مجموعة قصصية طفلان ضائعان للقاص و الروائي -سلام إ
...
-
قصة قصيرة: كمّامة عزلة
-
قصة قصيرة: الرّدية
-
قصة قصيرة: عاثر حظ
-
قصة قصيرة: أرواح معلّبة
-
قصة قصيرة: حورية خلاسية
-
قصة قصيرة: ما في وسعك من جنون
-
قصة قصيرة عنوانها: مكيرد
-
قصة قصيرة: أزرار مفتوحة
-
قصة قصيرة
-
قصص قصيرة جدا
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|