|
أساطير الأولين
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 7423 - 2022 / 11 / 5 - 22:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الأساطير جزء من كل ثقافة في العالم تساعد في تفسير الظواهر الطبيعية، من أين جاء القوم وكيف نشأت حضارتهم، ولماذا تجري أحوال الناس وسنن الكون كما هي جارية. الأساطير بطبيعتها تبعث الطمأنينة، عبر إضفاء شعوراً بالنظام والمعنى على عالم تسوده الفوضى أحياناً.
يُعنى علم الأسطورة (’أُفعولة‘ والجمع ’أَفَاعيل‘ من الثلاثي ’سَطَرَ‘ على وزن (فَعَلَ) ومعناه ’نَظَمَ‘ شيئاً أو فكرةً ما في صورة أو ترتيب معين بوسائل الرسم أو النقش أو النحت أو الكتابة أو خلافه، وصيغة المبالغة للإشارة إلى الإفراط وبالتالي الاصطناع وعدم الأهلية للتصديق.) بدراسة وتفسير الروايات أو الخرافات المقدسة غالباً لدى ثقافة ما والمسماة أساطير أو مجموعة من القصص من هذا القبيل تتطرق لشتى جوانب الحالة الإنسانية: الخير والشر؛ معنى المعاناة؛ أصول البشر؛ أصل أسماء الأماكن والحيوانات والقيم الثقافية والعادات والتقاليد؛ معنى الحياة والموت؛ الحياة الآخرة؛ والقصص السماوية حول الآلهة المتعددة أو الإله الواحد. باختصار، الأساطير تعبر عن المعتقدات والقيم السائدة لدى ثقافة معينة حول هذه المواضيع.
تحكي الأساطير القصص حول السلف الصالح وأصل البشر والعالم، والآلهة، والكائنات فوق الطبيعية (الملائكة والجان والحور العين) والأبطال ذوي القدرات فوق البشرية، في العادة كهبة إلهية (كما في حالة الأسطورة اليونانية عن هيراكليس أو بيرسيوس). وتصف الأساطير أيضاً منابع العادات والتقاليد المتوارثة منذ أزمنة بعيدة أو أسباب التباين فيما بينها أو تفسر حوادث طبيعية مثل الشروق والغروب، ودورة القمر والفصول، أو العواصف الرعدية والبرق. يعرف الباحثان ماريا ليتش وجيروم فرايد الأساطير على النحو التالي:
"[الأسطورة هي] قصة تُعرض كما لو كانت أحداثها قد وقعت بالفعل في عصر سابق، تفسر السنن الكونية والتقاليد فوق الطبيعية لقوم، وآلهتهم وأبطالهم وسماتهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية الخ. يقول السير جي إل غوم إن الغرض من الأسطورة هو التفسير، لأن الأساطير تفسر الأمور في صورة "علم العصر ما قبل العلمي." وهكذا تحكي الأساطير عن خلق الإنسان والحيوانات والتضاريس؛ تحكي لماذا اختص حيوان معين بخصائصه (مثلاً، لماذا الخفاش أعمى أو يطير ليلاً فقط)، لماذا أو كيف ظهرت إلى الوجود ظواهر طبيعية معينة (مثلاً، لماذا يظهر قوس قزح أو كيف تشكلت كوكبة الجبار (الجوزاء) في السماء)، أو كيف ولماذا بدأت الطقوس والمراسم ولماذا هي مستمرة."
لقد لعبت الأساطير جزءاً محورياً في كل حضارة معلومة حول العالم. سنجد الرسومات على جدران الكهوف والنقوش على الأحجار والمقابر والآثار من حقبة ما قبل التاريخ كلها تشير إلى أن البشر كانوا قبل زمن طويل من تدوين أساطيرهم بالكلمات قد طوروا بالفعل منظومة من المعتقدات معادلة لتعريف ’الأسطورة‘ كما أورده ليتش وفرايد. وكما قال عالم النفس كارل يونغ في القرن الماضي، تشكل الأسطورة جانباً لا غنى عنه للنفس البشرية التي تنشد دوماً المعنى والنظام في عالم يكشف عن نفسه غالباً في صورة فوضوية وبلا معنى. ويكتب يونغ:
"النفس، كانعكاس للعالم والإنسان، هي شيء على قدر من التعقيد اللامحدود بما لا يمكن معه ملاحظتها ودراستها إلا من زوايا عديدة لا حصر لها. وهي تواجهنا بالمشكلة نفسها التي يطرحها علينا العالم: لأن الدراسة المنظمة للعالم تقع خارج قدراتنا، لذا علينا أن نرتضي بمجرد القواعد البديهية وبالأوجه ذات الفائدة الخاصة لنا. كل منا يصنع لنفسه شرنقته الخاصة به من العالم وينسج لنفسه منظومته الخاصة، غالباً ذات مقصورات محكمة الغلق، لذلك بمضي الزمن يُهيئ له أنه قد استوعب معنى وبنيان الكل. لكن المحدود لن يقدر أبداً على أن يستوعب اللامحدود."
اللامحدود الذي يشير إليه يونغ هو الصفة الروحية للغيب والمقدس والقادر التي توفر الإغراء الكامن في المرويات والموضوعات الأسطورية لأنها تُضفي على الوجود البشري المعنى والغاية. فتصور شيئاً ما أكبر وأكثر قدرة من ذات المرء يعطي المرء أمل الإرشاد والحماية والخلاص في عالم متقلب. وفقاً إلى ليتش وفرايد، يمثل الغيب والقدوس والقادر "تصوراً في ذهن البشر من قديم الزمان: رد فعل نفساني تجاه الكون والبيئة ترتكز عليه كل الأديان."
ولا ننسى أن ما نسميها اليوم "أساطير" كانت هي نفسها أديان الماضي القديم. إذ كانت القصص المؤلف منها التراث الأسطوري القديم تخدم نفس الغرض لأقوام ذلك الزمان مثل قصص الكتب المقدسة لشعوب هذا الزمان: كانت تفسر لهم وتطمئنهم وتوجههم، ومدتهم كذلك بحس الوحدة والتماسك والحماية والعزة لجماعة المؤمنين بها.
أنواع الأسطورة يذكر الباحث جوزيف كامبل، الذي اشتهر عنه الدعوة لدراسة الأساطير، كيف تشكل الأساطير الطبقة التحتية الصلبة لكل حضارة والأساس العميق للوعي لدى كل فرد. في مؤلفه الريادي، "بطل بألف وجه"، يناقش ما أسماها "رحلة البطل"، حيث التشابهات في الموضوع والشخصيات والغرض والتطوير السردي للأساطير من الثقافات المختلفة، في أزمنة مختلفة، حول العالم وطوال التاريخ. يكتب كامبل:
"ما سر الرؤيا الخالدة؟ من أين تفتقت من أعماق المخيلة؟ لماذا الأساطير في كل مكان واحدة، لكن بأسماء وأزياء مختلفة؟ وماذا تعلمنا؟"
وفي الختام يجيب كامبل بأن الأساطير تعلمنا المعنى. الأساطير تفسر للمؤمن سر حياته وتزيده قوة وتمنحه إحساساً بالاستقرار وترتقي به من وجوده الدنيوي إلى آخر مشبع بالمعنى الأبدي والخالد. الأسطورة، بطبيعتها، تفسر الظواهر أو العادات أو أسماء الأماكن أو التكوينات الجيولوجية لكنها تستطيع أيضاً الارتقاء بحدث ماضي إلى ملحمة وحتى إلى دلالة فوق طبيعية وتوفر، وهو الأكثر أهمية، نماذج قدوة يحتذى بها لرحلة كل فرد منا عبر الحياة.
هناك العديد من أنواع الأساطير المختلفة لكننا، مبدئياً، نستطيع تجميعها في ثلاثة:
* الأساطير السببية * الأساطير التاريخية * الأساطير النفسية
الأساطير السببية تفسر لماذا يكون شيئاً معيناً بالطريقة التي هو كائن عليها وكيف ظهر إلى الوجود. وعادةً يُعرف هذا النوع من الأسطورة باسم قصة المنشأ. على سبيل المثال، تبدو شجرة الجميز في الأساطير المصرية بالطريقة التي هي كائنة عليها لأنها سكن لسيدة الجميز، الإلهة حتحور. وفي الأساطير الإسكندنافية، يولد الرعد من انطلاق عجلة ثور الأسطورية المدوي عبر السماوات. الأساطير السببية تعطي إجابات للأسئلة حول الطريقة الكائن عليها العالم- كما في قصة الأساطير اليونانية عن صندوق باندورا التي تشرح كيف انتشر الشر والشقاء في العالم- أو كيف ظهرت مؤسسة معينة إلى الوجود- كما في الأسطورة الصينية عن الإلهة نوا التي ظلت تخلق البشر المرة تلو المرة تلو الأخرى حتى أنهكها التعب لتؤسس ممارسة الزواج لكي يستطيع البشر التكاثر بأنفسهم. وسواء كانت الأساطير تفسر الزواج أو مهمة ملحمية أو معركة مصيرية، سنجد شخصياتها دائماً تخدم غاية محددة.
الأساطير التاريخية تعيد سرد حدث من الماضي لكنها ترتقي به عبر إكسابه معناً أكبر من الحدث الفعلي (إذا كان وقع أصلاً). من أمثلة ذلك القصة حول معركة كوروكشترا كما وردت في الملحمة الهندية ماهابهاراتا حيث يرمز الأخوان باندافا لقيم مختلفة ويقدمان نماذج قدوة يحتذى بها، حتى لو وقعا في الإثم أحياناً. ثم يرد ذكر كوروكشترا بإيجاز في البهاغافاد غيتا حيث يلتقي أحد الأخوين باندافا، يدعى أرجونا، في أرض المعركة بالإله كريشنا، الذي يجسد صورة إله الحماية الهندي فيشنو، لكي يلقنه غاية المرء في الحياة. سنلاحظ مدى ما تتركه هاتان القصتان من أثر قوى في نفوس المتلقين على المستوى الأسطوري وبصرف النظر عن وقوع معركة كوروكشترا حقيقة من عدمه. ويمكن الادعاء بالشيء نفسه بخصوص الأساطير الدينية في القصص الإبراهيمي كما وردت بالكتاب المقدس أو حصار طروادة وسقوطها كما جاء في إلياذة هومر أو رحلة أوديسيوس عائداً إلى الديار في الأوديسة أو مغامرات اينيس في مؤلفات فيرجيل.
الأساطير النفسية تعرض قصة رحلة من المعلوم إلى المجهول والتي تمثل، وفقاً لكل من يونغ وكامبل، حاجة نفسية لإحداث توازن بين العالم الخارجي وبين وعي المرء الداخلي به. وبصرف النظر عن طريقة تحقيق ذلك، تنطوي قصة الأسطورة ذاتها في العادة على بطل أو بطلة في رحلة يكتشفان خلالها شخصيتهما الحقيقية أو قدرهما، وبفعلهما ذلك يجتازان أزمة وفي الوقت نفسه يسديان المتلقي قيمة ثقافية هامة ما.
ربما أفضل الأساطير الكلاسيكية المعلومة من هذا النوع هي أسطورة الأمير أوديب الذي، في سعيه للهرب من نبوءة رأى فيها المنجمون أنه عندما يكبر سيقتل أباه، يترك حياته وراءه ويرحل لمنطقة بعيدة حيث ينتهي به المآل من دون علم منه إلى قتل الرجل الذي كان أباه الحقيقي والذي كان قد هجره عند ولادته في محاولة منه هو كذلك للإفلات من النبوءة ذاتها.
كانت حكاية أوديب تبرهن لجمهور يوناني قديم عُقم مساعي المرء للهرب من قدره أو تغييره بعدما رسمته له الآلهة وكانت تذكي بداخلهم مشاعر الخوف والرهبة والإجلال تجاه هؤلاء الآلهة، ومن ثم مزيد من ترسيخ قيمة ثقافية مرغوبة. وعلى المستوى الشخصي، كان باستطاعة هذه القصة أيضاً مواساة السامع للرضا بما قد يعتريه من محن واختبارات في ذلك الزمان حين يرى أن حتى شخصية ملكية مثل أوديب لم تسلم من ويلات المعاناة، وأن أياً ما كانت المشقة والمحنة التي يمر بها المرؤ لن تكون من السوء بقدر أن يقتل المرؤ أباه ويتزوج المرؤ عن غير قصد من أمه. ،،،،،يتبع،،،،،،،،،، ______________ ترجمة: عبد المجيد الشهاوي رابط المقال الأصلي: https://member.worldhistory.org/mythology/
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحيا جمهورية مصر العربية
-
رعايا في مملكة الملك
-
حرب بوتين في أوكرانيا قد تضيع منه روسيا
-
التمثيل النسبي للإرادة العامة
-
ديكتاتورية العامة- الجمهورية
-
ديكتاتورية القلة/الكادر واغتصاب الإرادة العامة
-
الديكتاتورية الأفلاطونية
-
توحيد وقومية
-
الفيل في المنديل- شيطنة الفضول
-
إلهٌ بحجم الجيب
-
الكتالوج الرباني
-
مسلمون بحالة المصنع
-
ماذا تعني ’التعبئة الجزئية‘ الروسية؟ 2
-
ماذا تعني ’التعبئة الجزئية‘ الروسية؟
-
آلهة وبشر في علاقة تبادلية
-
ثلاث سيناريوهات لنهاية حرب بوتين 2
-
ثلاث سيناريوهات لنهاية حرب بوتين
-
البيض الأمارة - نظرة ثقافية
-
الدين في العالم القديم 4
-
الدين في العالم القديم 3
المزيد.....
-
هاني شاكر لأول مرة في أوبرا دبي ولقاء مع سعد لمجرد
-
الجامعة العربية تحذر إيران من -تأجيج الفتن ونشر الفوضى- في س
...
-
شاهد حجم الدمار الذي خلفته غارات إسرائيلية على اليمن
-
بوتين يشكل مجلس الخبراء العلمي التابع لمجلس الأمن الروسي برئ
...
-
-موقف المترقب-: متى تقبل مصر بإدارة سوريا الجديدة؟
-
روسيا تعلن تحييد خلية لتنظيم -داعش- كانت تخطط للهجوم على مرك
...
-
مصادر لـ-أكسيوس-: فرص التوصل لاتفاق بين إسرائيل وحماس قبل ت
...
-
إسرائيل تنتقد السفير الألماني بعد منشور عن -وفاة رضع في غزة-
...
-
هيئة الطيران الروسية تتحدث عن ملابسات تحطم الطائرة الأذربيجا
...
-
-بوليتيكو-: بولندا والمفوضية الأوروبية تعتزمان تسريع فرض عقو
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|