|
أكتب لكم من الجنوب ( 5 )
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7421 - 2022 / 11 / 3 - 09:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما زلت أخاطبكم من الجنوب . لأخبركم ، هذه المرة ، بأنّني مازلت ، و عشيرتي ، على قيد الحركة . مازلنا نبصر بأعيننا العمشاء ، كل صباح شروق الشمس ، و نشهد طلوع النهار بمزيد من الجوع . نحاول التحايل على الموت بشبه رمق من الحياة ، نحول أن نبتعد عن مدن الموت بشتى الوسائل . مازلنا نحلم بأنّ اعمارنا مازالت فيها مساحات صالحة للحياة . عندما غادرتم بلادنا مكرهين ، اعتقدنا أنّنا أحرار . سنشبع من خبز أرضنا و فاكهة بساتينها المثمرة ، و سنرتوي من ينابيعها و أنهارها و آبارها . لكنّ أحلامنا اختطفها أيادي الاستبداد ، و تاهت في ظلمات لا أول لها و لا آخر . كنّا ضحايا للاحتلال ، ثم وقعنا ضحايا للاستبداد . أتعلمون لماذا ؟ لأنّكم خرجتم من الحقول ، و لمّا تخرجوا من بعض العقول التي تسوسنا بالمطرقة و السندان . لقد نفد الغذاء و بقاياه منذ شهر تقريبا ، و نفد الدواء ، المنتهي الصلاحيّة ، منذ ثلاثة شهور ، أي بعد أربعة أشهر من حربكم القذرة بين الروس و أوكرانيّا . لم يبق لنا شيء نأكله . قضمنا كلّ شيء ، حتى البذور التي زرعنها في انتظار غيث السماء ، أعدنا نبشها حبّة حبّة ، و ابتلعناها ، و انتقلنا إلى سدّ الأرماق بكلّ ما هو متحرّك من حيوانات و حشرات و زواحف ، و قد يدفعنا نيرون الجوع إلى أكل أجساد بعضنا البعض . لا تأخذكم الدهشة و لا يدهشكم العجب ، إن اضطررنا إلى أكل لحومنا الجافة . تأكدوا أنّنا سائرون نحو الانقراض ، كما انقرضت سلالات سالفة و أجناس من الكائنات . أليس الإرهاب و الجوع و الأمراض ، من أنجع وسائل الانقراض ؟ يومها لن تجدوا لنا رائحة في الوجود . وحدها العظام تبقى شاهدة على موتنا . و ها نحن اليوم ، قد فقدنا أمل وصول شحنات من القمح أو الذرة أو الشعير ، بعدما احتجزت الأيدي الغليظة والقلوب السوداء بواخرها في عرض البحر الأسود ، مُنعت من مغادرة مياه البحر نحونا . و ليكن في علمكم ، يا سادتي في الشمال ، أنّه كلّما تأخّر عنّا الغذاء مترا ، تقدّم الموت منّا مائة متر أو يزيد . و كلّما نفق الدواء ساعة ، اشتدّت علينا غارات الموت كالنار في الهشيم . إنّنا ، يا سادتي الكرام ، نتوسّل إليكم ، أن تخمدوا نيران هذه الحرب المجنونة . فالحرب كائن غير إنساني . شيطانة رجيمة ، لا تلد سوى الموت و الخراب و الأيتام و الثكالى . كما نتوسل إليكم ن باسم أطفال كييف و خاركيف و دينيبرو دونيتسك و أوديسا و زاباروجيا ، و أطفال فلسطين و اليمن و مخيّمات اللاجئين في سوريا و بنغلادش و الصومال ، و في بقعة من كوكبنا الأرضي ، ولد فيها طفل ، و لم يجد حليبا و لا كساء و لا أمنا ، نتوسل إليكم أن تغلقوا مصانع الأسلحة و الطائرات الحربيّة و الصواريخ و القنابل النووية و الجرثومية و الهيدروجينيّة . و أن تحوّلوها إلى معامل لحليب الأطفال ، و غذائهم و كسوتهم و ألعابهم . دعوا الأطفال يبتسمون ، و يلعبون في حدائق الأمن و السلام . دعوهم يخرجون إلى الساحات ليطعموا أسراب الحمام . يا سادتي الكرام ، في الشمال .. قبل ساعة من كتابتي إليكم هذا الخطاب . مات عندنا ، و في عشيرتنا فقط ، عشرة أطفال ؛ ستّة بنات و أربعة بنين ، لا تزيد أعمارهم عن اثني عشر شهرا . افترسهم القحط . أجل ، ماتوا من عذاب الجوع . دفناهم عريا ، إلاّ بعض أوراق الشجر الحيّ ، التي سترت سوآتهم . لم نجد لهم اكفانا . وسدناهم الثرى من تحتهم و من فوقهم . آه ، لقد ماتوا موتا بشعا . أتعلمون لماذا قضوا جوعى و عراة و حفاة ؟ لأنّهم ليسوا منكم . و أنتم منشغلون بالحرب و تفاصيلها . تلك الحرب التي لن تجنوا منها إلا الرماد و رائحة الجثث المحروقة ، و نقع الدبابات و القنابل . أرأيتم ، يا سادتي الكرام ، هل سمعتم بهم . هل بلّغتكم وكالات الأنباء عن هلاكهم الفظيع ؟ طبعا ، كلاّ . لم تسمعوا لهم ظلّ خبر . أتعلمون لماذا ، لم تبلغ مأساتهم أسماعكم ( الموقرة ) ؟ بكل بساطة ، و دون فلسفة أفلاطونيّة ، لأنّ التفلسف في البديهيّات ضرب من الجنون النيروني ، و مضيعة للزمن . و أسألكم ، أتعلمون لماذا ؟ . لأنّكم عقولكم مفقودة ، و قلوبكم موءودة و آذانكم غارقة في أوحال الحرب . بكت الأمهات بدموع حمراء ، و أعولت بحناجر منهكة ، و ناحت بأصوات مبحوحة ، ذابلة ، فاقعة اللون ، صفراء ، على مواليدها . و لم تجد من تشكو إليه مصائبها و مآسيها ، غير خالق السموات و الأرض و ربّها و مدبّر سيرورتها و صيرورتها ، و باعث الناس يوم النشور .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكتب لكم من الجنوب ( 4 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 3 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 2 )
-
أكتب لكم من الجنوب
-
ليلة إلقاء فاطمة بيدار في نهر السين
-
حديث عن أم ريفيّة ( 5 )
-
موسم الهجرة نحو الجنوب
-
متى تعتذر فرنسا عن تاريخها الأسود في الجزائر ؟
-
جوع في الجنوب و حرب في الشمال
-
ظاهرة العنوسة في المجتمعات العربيّة ... تلك القنبلة الموقوتة
...
-
حديث عن أم ريفيّة ( 4 )
-
حديث عن أم ريفيّة ( 3 )
-
العقل قبل كل شيء
-
حديث عن أم ريفيّة ( 2 )
-
حديث عن أم ريفيّة
-
الكتاب الورقيّ في عصر الرقمنة.. ما محلّه من الإعراب ؟
-
الحرب النظيفة و الحرب القذرة
-
أزمة الذكورة و الأنوثة في المجتمع العربي ؟ أين الخلل ؟
-
تثقيف السياسة
-
هل سيندلع الشتاء الأوربي ؟
المزيد.....
-
مرشحة لعضوية مجلس الشيوخ: الأمريكيون قلقون من استمرار إمداد
...
-
السيارة -الخنفساء- تواصل رحلة حياتها في المكسيك حيث تحظى بشع
...
-
بحرٌ من التهديدات: حزب الله يشتبه في مساعدة قبرص لإسرائيل
-
طائرة أميركية مسيّرة وجهت الصواريخ التي أُطلقت من أوكرانيا إ
...
-
آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.06.2024/
...
-
خطوات بسيطة أثناء التسوّق -تمنع- زيادة الوزن
-
أطعمة ومشروبات ينصح مضيفو الطيران بتجنبها خلال الرحلات الجوي
...
-
روسيا.. نشر كاتالوج فريد من نوعه لخنافس جبال الأورال وسيبيري
...
-
ناسا تستعد لاستقبال -مسافر إضافي- داخل أنابيب عينات صخور الم
...
-
-حماس-: الإفراج عن المواطنين الروسيين أولوية بالنسبة لنا في
...
المزيد.....
-
تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1
...
/ نصار يحيى
-
الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت
...
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
هواجس ثقافية 188
/ آرام كربيت
-
قبو الثلاثين
/ السماح عبد الله
-
والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور
/ وليد الخشاب
-
ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول
/ بشير الحامدي
-
ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول
/ بشير الحامدي
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
المزيد.....
|