أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شريف حتاتة - أدراج الحياة المنسية















المزيد.....


أدراج الحياة المنسية


شريف حتاتة

الحوار المتمدن-العدد: 7419 - 2022 / 11 / 1 - 11:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


--------------------------------
خلال السنوات الثلاث الماضـية كتبـت ثـلاث روایات ، نشرت واحدة منها في يوليـو سـنة ٢٠٠٦ ، بعنوان "عطر البرتقال الأخضر". لكن مازالتا الروايتان الباقيتان تعانيان من عمليات الجذب والطرد السائدة في مجال النشر، والتي يواجهها أغلب الُكتاب، ماعدا تلـك القلة التـي رسـخت أقـدامـها فـي أرض العلاقـات الإجتماعية، أو المؤسسية العليا القـادرة علـى فـتـح أبواب النشر، وفي كثير من الأحيـان علـى " تصـوير الفسيخ على أنه شربات لذيذ الطعم".
المهم أننى سعيد بالجهد الذى بذلته، ساعات طويلة من التفكير والتأمل والتخيل وسط الكلمات , وفى كل سطر كتبته . فأنا ممنْ يكتبون ببطئ .
منذ أن كنت في السنة النهائية لكلية الطب قصر العينى ، إندمجت في حركة الطلبة والعمال ، فخشيت من الرسوب فى الامتحان النهائى ، بعدأن تعودت على قراءة اسمي على رأس قائمة النجاح المعلقـة علـى لوحة الحوش. وجعلنى هذا الخوف أن أعبر التخرج بتفوق ، مع الميدالية الذهبية .
أكملت العمل السياسى ، وتم اعتقالى 13 سنة ، ثلاث سنوات متقطعة أيام الملكية فى عهد فاروق ، ثم عشر سنوات متواصلة فى عهد عبد الناصر . وخرجت من السجن عام 1964 ، واستطعت بدء رحلة الكتابة الروائية ، والكتب الثقافية والسياسية . وأنجزت هذه الرحلة الطويلة فى زمن قياسى ، لظروفى الخاصة .
تساءلت بعد نشر رواية " عطر البرتقال الأخضر " ، وبعد اقترابى من الانتهاء من روايتين أخرتين ، ترى لماذا هذه الطفرة المفاجئة التـي حملتني فوق أمواجها ، هل هي إنتفاضة عند الجزء الأخير من العمر ، أم أنني أخيرا وصلت إلى قدر من النضوج بعد أربعـة وثمانين سنة من الحياة في مصر ؟؟.
بعد أن انتهيت من هذا الجهد وجدت نفسي مواجها بسؤال آخر ، ما الذي يمكن أن أفعله الآن؟ . فمع مرور الزمن ، قلت المؤلفات التي أستمتع بقراءتها. ربما العيب فيَ، أو في الأوضاع الثقافية التي نعيشها، أو في الأثنين معا. ليست لي شـلة أستطيع أن أتسامر معها ، صديقى المقرب رحل ، ولا أشارك في جلسات المقاهي، أو كافتيريـات النجوم الخمس. لا أحضر الندوات التـي يتكرر إنعقادهـا أو المؤتمرات أو الإجتماعات السياسية . أصبحت بالنسـبة إلـيَ كالتمثيليات ، التي يلوكون فيها كلاما سمعته من قبـل، وأرى شخصيات سئمت من رؤيتها.
إذا حركني شيء ، أكتب مقالاً . وغالباً ما ترفض الصحف أن تنشره ، بعـقـل بـارد يجيـد الحسابات.
أنا رجل رومانسي، "دونكيشوتي " إلى حد ما ، وهذا لا يوائم زمن الخصخصة والسوق الحرة والدولار وصور السيوف المرسومة على زجاج السيارات . عندما تطورعصرالتكنولوجيا،والحداثة،والبورصات ، لم أتدرب علـى الكلمـات الخاطفة الذكية، أو مسايرة تيارات الإعلام التي تخفي ما يجب إبرازه من حقائق وأفكار ، في طوفان الأصوات الزاعقة.
قلت لنفسي مكانك وسط الغيطان، مع الجلاليب والـدواب. ربما تجد ضالتك في المساحات الخضراء. فقدت سيارتي فـي الصباح الباكر على الطريق الزراعي سـائرا نحـو الشـمـال. توقفت في الطريق بعد كوبري "بنها" عنـد أحـد المقاصـف. تناولت إفطارا من الفطير " المشلتت" و"المش" والشاي ، ضـاربا عرض الحائط بنصائح الأطباء. وعند الساعة التاسعة ، صـعدت السلالم إلى باب البيت الذي أقمته منذ عشرين سنة بعد عودتي من "الهند".
في وقت من الأوقات كنت أواظب على المجيء إلى بلدتي " القضابة "، ففيها كتبت عددا من الأعمال. لكن فـي السـنين الأخيرة قلت زياراتي إليها. تمر الشهور دون أن أقطع مسـافة المائة وثلاثين كيلو مترا التي تفصل بينها وبين العمارة التـي أسكنها أمام جزيرة "الوراق ". لم أعد أقضي بعض الأيام في " الدَوار " ، وهو الإسم الذي يطلقه على بيتي حارسها مـن بـاب المجاز. لم أعد أطل على الترعة ساعة الغروب، أو على صف الأشجار التي أشرفت على زراعتها عنـد الشاطيء، علـت رؤوسها، وتشابكت أغصانها لتصنع مساحة من "الطراوة" في أشهر القيظ، أو على النيل يتعرج بين حقول الذرة والبرسيم. لم أعد أسير على " مدك" من "المدكات" الترابيـة إلـى جـوارمجرى المياه الهادئ ، تظللها أشجار الصفصاف التى تشعرنى بسلام داخلى عميق .
ترتب على ذلك ، أنه في الشهور الأخيرة إنتهز بعض سكان القرية غيابي الطويل فأقاموا عششا للطيور، وزرائب للدواب، وأدوات لصنع المراكب، ووضعوا أكواما من ألـواح الخشب على شاطيء الترعة الممتد أمام " الـدَوار". فـي وقـت مـن الأوقات كان هذا الشاطيء يستخدم "ملقفا" للزبالة، فتلقى عليه كل فضلات القرية وتتراكم عليه تلال من القاذورات ترتفع منها الروائح الكريهة، وتطن حولها سحب الذباب السوداء، وتزحف منها جيوش من الصراصير، والخنافس والجرذان.
إزاء هذا قمت أنا بمعاونة شريكتي في الحيـاة " نـوال "، وبمساعدة بعض شباب القرية بتنظيف الشاطيء. بذلنا في هذا جهدا مضنيا، ثم زرعنا الأشجار ليتحول الشارع إلـى منتـزه ومكان يغسل فيه النساء الآواني، والملابس، والحصر، وأحيانا خزينهن من القمح.
لما وجهت بما حدث أخيراً بحثت عن الإجراء الذي يمكنني إتخاذه، فاتضح لي أنه وفقا للقوانين والأعـراف فـإن حـق الإنتفاع بشاطيء الترعة ، هو من نصيب أصحاب البيت المقـام أمامها، أي من حقي أنا دون غيري من الناس. وأنه لا يجوز لأحد أن يحل محلي ، خصوصا وأنني قمت بتنظيـف الشـاطيء وزراعة الأشجار عليه منذ عشرين سنة.
بناء على هذا في الصباح التالي لوصولي ، توجهـت إلـى الغرفة التي خصصناها للكتابة، وفتحت أدراج مكتبي بحثا عن رزمة من الورق الأبيض وضعتها في إحداها، حتى أقوم بكتابة شكوى لأولي الأمر ، وفقا لنصائح أهل الخبرة في حل المعضلات التي دأب سكان القرية على إبتداعها كلما تغيبت عنها.
وأناأبحث فى الأدراج ، وقعت على أشياء لم أكن أدرك وجودها . أولها رسومات للمنزل سطرت على مناديـل ورقية كبيرة ، فأعادت إليَ جلسة مع " نوال " ، في مطعـم على طريق العودة من زيارة قمنا بها إلى ضريح " التاج محل " يبعد عن " نيودلهي" عاصمة الهند مسافة مائة وثلاثين كيلـو متر.
تذكرت أنه في ذلك اليوم مـن شـهر سبتمبر ١٩٧٤ ، تناولنا وجبة من العدس الهندي الحريف يسمونه "دال" ، ومـن السبانخ بمكعبات الجبن الأبيض يسمونه "بالاك بانير"، وأننـا تحدثنا عن فكرة بناء منزل في القرية نكتب فيه، ونقضي فيـه بعض الأجازات، فأتي إلينا النادل بمناديل من الورق أخـذنا نرسم عليها تصميما للبيت. لكن أثناء النقاش كما يحدث أحياناً ، إختلفنا ودخلنـا فـي نـقـاش حـاد حـول توزيـع الغـرف وإستخداماتها، وقد غاب عنا أن المسافة التـي تفصـلنـا عـن مصر سبعة آلاف كيلو متر، وأن هذا المشروع لن يتحقق إلا بعد سنوات، فأمامنا وقت طويل لإستئناف النقاش الحاد. وفجأة إنفجرنا بالضحك عندما أدركنا أننا كنا كالأطفال إنغمسـنـا فـي عالم من صنع الخيال.
في الدرج وجدت أيضاً خطابات مكتوبة علـى الكـومبيتر وجهها ابني "عاطف" إلى محـافظ الغربيـة، ومدير الأمـن، ومأمور مركز "بسيون" يخبرهم فيها أنه سيقوم بالتصوير" في قريتي " القضابة" و"صالحجر"، مركز "بسيون" ، وهذا في إطـار إخراج فيلمه "عروسة النيل" الذي حصل فيما بعد على جائزة أحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن سيناريو فـي مهرجـان "مونبلييه". كان هذا الفيلم ثاني عمل له في مشواره الشـاق عبر عالم السينما وانتهى من التصوير عام ١٩٩٣.
تحت هذه الأوراق ، وجدت صورة لأمى فى سن الشباب ، شعرها الغزيرالكستنائى يلتف حول رأسها ، وفى عينيها النظرة الجميلة والصارمة التى اعتدتها ،وكأنها تسألني : وأنت،ماذاستفعل بحياتك يابني ؟.
في الدرج الثاني وجدت أوراق بخط يدي ، هي أجزاء مـن الكتب التي قمت بتأليفها، وقرارا صادرا من وزير الصحة سنة ۱۹۷۱، بنقل " د/ نوال السعداوي" من القاهرة إلـى "أسـوان" . ثم تذكرت نفسى خارجا من مطار "القاهرة " القديم بعد رحلة عمل إلى "آسيا". على الرصيف الخارجي ، كانت واقفة تنتظرني وعلى وجهها ابتسامة مشرقة. احتضنتني ثم قالت في صوت ينبض بشيء كالتحدي الممتزج بالفرحة : " مش وزير الصحة نقلني "أسوان" !! ". أسقط قلبي ضربتين ثم واصل وقعـه المنتظم. قلت : " أسوان " ؟! لماذا يا "نوال" ؟ . قالت : "عشان كتاب "المرأة والجنس". الأزهر ضغط عليه عشان اللي كتبتـه عـن خـتـان الإناث وعن حاجات تانية".
جلست أتأمل ما عثرت عليه، ثم قربت مقعدي من المكتب وكتبت :
"السيد مدير إدارة الضرائب العقارية بطنطا"
مقدمه لسيادتكم الدكتور "شريف يوسف فتح الله محمـد حتاتة " وعنوانه شارع الجلاء، قرية القضابة، مركز بسيون، الغربية ثم توقفت.
بدا لي أن حياتي ليست سوى خيال.
من كتاب " يوميات روائى رحَال " 2008
-------------------------------------------------------------



#شريف_حتاتة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرضا بالمقسوم .. حوار مع سائق تاكسى اسمه - ممدوح -
- آفة الفكر الأحادى فى النقد الأدبى
- - مارادونا - خواطر غير كروية
- رجل مثل شجرة الجميز
- - عطر - قصة حياة قاتل
- شقة الى جوار الكنيسة
- هل انطفأت الشعلة الأدبية فى مصر ؟؟
- أحلام الطفولة
- اللورد - كرومر - يعود الى مصر
- قرصنة فى ثوب جديد
- على مقعد الحلاّق
- - ماكياج -
- لن نفترق
- عالم بلا جدران
- تأملات غير قانونية فى القانون
- رحلة فى قلب القارة السوداء
- الطيور الملونة وهرم خوفو
- عن الطفولة الموؤدة فينا
- عن الثقافة ومؤتمر المثقفين فى مصر
- بائعة مناديل الورق


المزيد.....




- عملية مشتركة.. -سرايا القدس- تعرض مشاهد من قصف مقر قيادة وحد ...
- عاجل: نيابة أمن الدولة العليا تستدعي حسام بهجت مدير المبادرة ...
- نصائح مجدي يعقوب لصحة القلب
- ناجون من حادث غرق قارب سياحي مصري يتهمون السلطات بالتغطية عل ...
- الطيران الإسرائيلي يستهدف رتلا لإدارة العمليات العسكرية في ا ...
- الحلم السويدي بات أصعب.. ستوكهولم تفرض شروطا جديدة للحصول عل ...
- سفير إيران في روسيا: تحالف طهران مع موسكو وبكين يشكل تحديا خ ...
- الناتو يقرر نشر سفن وطائرات ومسيّرات في بحر البلطيق، ما الهد ...
- وفاة راكب خلال رحلة على متن طائرة فرنسية والسلطات الأميركية ...
- قناة إسرائيلية تتحدث عن تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ...


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شريف حتاتة - أدراج الحياة المنسية