|
رجل مثل شجرة الجميز
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7408 - 2022 / 10 / 21 - 23:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
---------------------------- في سيرتي الذاتية يوجد فصل عنوانـه "أشـياء فكرت فيها بعد فوات الأوان". كتبت هذا الفصـل عـن أمي، وعن كيف عاشت دون أن أعطيهـا مـا كـانـت تستحقه. تذكرت هذا وأنا سائر في شارع "يوسف الجندي" باحثا عن العمارة رقم 5. ظننت أن هذا الرقم قـرب شارع "هدى شعراوي" . لكن بعد السـؤال اكتشفت أن الأرقام في هذا الشارع الضيق الطويل تبدأ عند الطرف الآخر، فسرت على المهل فوق الرصيف النحيل المليء بالفجوات، والحواجز التي خشيت أن أقع فوقها. منذ ما يقرب من ستين سنة انضممت الى تنظيم يساري. بعد أن مر وقت قليل ، قيل لي إن هناك تنظيمات اخرى غيـر التنظيم الذي أصبحت فيه، وإنها جميعا منحرفة، انتهازية يجب أن أشك فيها. ولأننى كنت صاحب خبرة قليلـة، مياَلا الـي الأحكام القاطعة والأفكار الأصولية ، اعتقدت أن كل مـنْ لـيـس منضماً الى التنظيم الذي أنتمي اليه، يجب أن أضع بيني وبينـه مسافة، ألا أسعى الى التعرف اليه، وفهم وجهـة نظـره فـي الأمور. مرت عشرات السنين ، وفي يوم من الأيام قام أحد مراكز البحوث العربية بتنظيم سلسلة من الاجتماعات والورش ، كـان هدفها تسجيل آراء عدد من اليساريين واليساريات في مختلف القضايا المتعلقة بتطور الحركة اليسارية المصرية. في إحـدى هذه الاجتماعات التقيت برجل طويل القامة أشيب الشعر، يستند الى عكاز أثناء السير. كان في الأصل مـن المنضمين الـى منظمة تدعى "طليعة العمال". أما أنا فظللت عضوا في "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" المعروفة باسم "حدتو " ، الى أن حلت نفسها سنة 1964. اكتشفت أثناء المناقشات التي دارت في هذا اليوم وبعده ، أننا أقرب في نظرتنا الى تاريخ اليسار، بل وفي أمور تتعلـق بالمجتمع، والحياة من أشخاص ، آخرين كانوا ينتمـون الـى التنظيم الذي كنت أنا عضوا فيه. كان الرجل الذي أتحدث عنه قليل الكلام، يعبر عن نفسه بهدوء، وتواضع الواثق من نفسه، وفي الوقت نفسه بحيويـة منْ لم يفقد إيمانه بالقضايا التي ارتبط بها، ومـا زال، وعلـى استعداد لبذل الجهود في سبيلها. لم أنس هذا اللقاء. بين الحين والآخـر كنـت أتـذكره، وأشعر أنه لا بد من أن أسعى للقاء به مرة ثانية. لكـن حـالت الظروف دون أن أخطو هذه الخطوة. لكن جاء اليوم الذي تركت الانشغال بأمور كثيرة، بعضها ربما كان ينبغي ألا أهتم بها، ورفعت سماعة التليفون واتصلت به. جاءني صوته ذو النبرة المتوترة قليلا، الحادة قليلا ، وهو يتفق معى على موعد. هكذا وجدت نفسي متجها إلى العمارة التي يسكن فيها.وجدتها مثله عالية، متينة البناء، المساحات فيهـا واسـعة ونظيفة رغم القدم البادي عليها. توحي بالبراج الذي أصبحنا تفتقده، بأصالة الإنسان الذي استقبلني به وجهـه مشـرقا ، رغـم المرض والشحوب الظاهران عليه ، ورغم هزال الجسـم الجـالس على المقعد. حدثني عن أربعة وتسعين سنة من العمر، عـن دراسـته القانونية في فرنسا، عن لقائه برجل ألماني هرب من النازيـة فتتلمذ عليه في تعلم الماركسية، عن عودتـه الـى مصـر وارتباطاته كمحام مع النقابات العمالية، عن نضاله الطويل في الحركة اليسارية، وتعاونه مع الطلائع الوفدية، عن جيل مـن أعضاء حزب الوفد آمنوا بالمواطنة، والديمقراطيـة، وحريـة العقيدة، والعدالة الاجتماعية والنضال ضـد الاستعمار، عـن "محمد مندور"، و"عزيز فهمي"، و"مصطفى مشهور" والكثيرين غيرهم، عن "أحمد رشدی صالح" و"أبـو سـيف يوسـف"، و"صادق سعد" ودراساتهم للمجتمع المصرى والثقافة المصرية . حدثني عن القيـادات العماليـة مـثـل "محمـود العسكري". أفاض في الكلام عن القرأئيين اليهود الذين كـان منهم قبل أن يسلم فى عام 1947 . كيف عاشوا في مصر، عـن أسمائهم العربية، وصلواتهم التي تشبه صلوات المسلمين ، وركعـاتهم، وطقوسهم في العبادة ، عن جذوره الضاربة في أرض مصـر بعمق، عن أحلام له تم وأدها ، وأحلام ما زالت كمـا هـي حيـة. أهداني بعض كتاباته، وشرائط للفيديو سجلت فيهـا أحاديثه التليفزيونية، وسقاني قهوته المحوجة فأنعشتني. وأنا عائد الى بيتنا في شبرا ، جاءتني صورة شجرة الجميز في عزبة "الكوادي". كنت أقف في ظلها، وأكل من ثمارها وأنا صبي صغير، تلك الشجرة التي أراها حتى اليوم عندما أعـود الى بلدتي، ما زالت تعلو مكانها، ويجلس النسوة في ظلهـا لتغسلن الأواني في المياه التي تجرى تحتها . قلت لنفسى هـذا الرجل مثل شجرة الجميز. عاش واقفا وسيموت واقفا. ومنذ أيام علمت أنه رحل. اسمه "يوسف درويش" . من كتاب : " يوميات روائى رحَال " 2008 ----------------------------------------------------------------
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- عطر - قصة حياة قاتل
-
شقة الى جوار الكنيسة
-
هل انطفأت الشعلة الأدبية فى مصر ؟؟
-
أحلام الطفولة
-
اللورد - كرومر - يعود الى مصر
-
قرصنة فى ثوب جديد
-
على مقعد الحلاّق
-
- ماكياج -
-
لن نفترق
-
عالم بلا جدران
-
تأملات غير قانونية فى القانون
-
رحلة فى قلب القارة السوداء
-
الطيور الملونة وهرم خوفو
-
عن الطفولة الموؤدة فينا
-
عن الثقافة ومؤتمر المثقفين فى مصر
-
بائعة مناديل الورق
-
نوال السعداوى وفتح الأبواب المغلقة
-
فى القطار الى المنيا
-
يا سعادة المندوب السامى !
-
مدينة روائى رحّال
المزيد.....
-
عملية مشتركة.. -سرايا القدس- تعرض مشاهد من قصف مقر قيادة وحد
...
-
عاجل: نيابة أمن الدولة العليا تستدعي حسام بهجت مدير المبادرة
...
-
نصائح مجدي يعقوب لصحة القلب
-
ناجون من حادث غرق قارب سياحي مصري يتهمون السلطات بالتغطية عل
...
-
الطيران الإسرائيلي يستهدف رتلا لإدارة العمليات العسكرية في ا
...
-
الحلم السويدي بات أصعب.. ستوكهولم تفرض شروطا جديدة للحصول عل
...
-
سفير إيران في روسيا: تحالف طهران مع موسكو وبكين يشكل تحديا خ
...
-
الناتو يقرر نشر سفن وطائرات ومسيّرات في بحر البلطيق، ما الهد
...
-
وفاة راكب خلال رحلة على متن طائرة فرنسية والسلطات الأميركية
...
-
قناة إسرائيلية تتحدث عن تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|