|
إيقاد الشموع
مهتدي مهدي
روائي
(Muhtady Mahdi)
الحوار المتمدن-العدد: 7406 - 2022 / 10 / 19 - 10:02
المحور:
الادب والفن
كم كان صعباً على داوود وهو يحمل صندوق الشّموع، وينزل به إلى هناك، على ضفاف أحد الأفرع الصّغيرة لنهر الفرات في كربلاء، المسمى بنهر العلقمي. حيث تتجمع أعداد غفيرة من الزائرين، طمعاً بقضاء الحوائج. لكنه بعد حين وجد نفسه قد تعود على هذه المهنة. كان يشعل في كل طبق من أطباق الطعام الصغيرة الجاهزة، المصنوعة من مادة الفلين. يشعل شمعة، ويقلبها رأسا على عقب بزاوية مائلة قليلاً، ليتسنى له تثبيتها في منتصف الطّبق. على ذلك الشّمع الذي كان يسيل منها. ثم يدفع بها إلى النهر ويقول: « تمنَّ ابني.. تمنّي ابنتي..» لقد أمضى فترة طويلة في هذا العمل، وهنا تحديداً على ضفاف هذا النهر. بداية. تعاطف معه الشباب وهم يرونه شيخاً كبيراً بالسن، يقتات على هذه الشموع التي يوقدها لهم بنية صادقة. ولكن بعد أن تأكد لدى كثير منهم، بأن أمنياته الصادقة لهم كانت تتحقق. ذاع صيته، وأصبح الكثير من الناس يجلّونه، ويتبرّكون بشموعه المشعولة لهم، وهي تتهادى بكل دعة وطمأنينة على مياه النهر. وأخذ كل طالبي قضاء الحوائج، من المرضى والمعوزين، ومن الذين لم يرزقوا بأبناء بعد، ينتظرونه قبل أن يأتي ليبدأ بإشعال شموعهم التي يخرجها من جعبته، ويطلب منهم أن يدفعوها بعد إيقادها لهم، إلى ماء النهر الجاري برفق مع التمنّي. إلّا أن بعضهم بدا ساخراً، وهو يوجه له ذلك السؤال المحرج : « لماذا لا تشعل لنفسك شمعة. وتتمنى جاهاً، أو عملاً أفضل من عملك هذا؟» فكان يجيبهم بيقين « أن توقد شمعة خيرٌ من أن تلعن الظّلام» وأنه مستمر على إيقاد شموع الفرح والترح! شمعة تلو أخرى، شاء ذلك أم أبى. ومرة تكلم معه أحد الشباب الغر، الذي جاء بصحبة أحد أصدقائه، أمام جمع من الفتيات: «أريدك أن تشعل لي شمعة، وتتمنى لي أن أصبح مليونيرا فوراً. هكذا بين يوم وليلة. ولكن إذا لم أصبح ثرياً، تخسر لي بدل الشّمعة، أربع شموع؟! موافق؟» كان يتحدث معه ويحرك بيديه، مفصلاً كلامه مع ابتسامة ماكرة تطفو على ملامحه. كأنه يغازل بهذا الكلام، الفتيات الجالسات على ضفاف النّهر طمعاً بالتّمني. وعلى العكس من ذلك كانت الفتيات، قد أبدين تعاطفاً كبيراً. وبدلاً من أن تنفرج أساريرهن بالابتسامة أو الضحك. صارت ملامحهن أكثر عبوساً، تضامناً مع العم داوود، الذي صرف النّظر عنه، وراح يلبي طلباتهن بإيقاد المزيد من الشّموع. وبعد أن يئس هؤلاء من إثارته، أو محاولة السّخرية منه. جاءه رجل كهل يوم أشعل به آخر شمعة من شموع زبائنه. وكانت لزوجين شابين لم يرزقا بأطفال بعد. بدا له مثل بقّال وهو يعقد رأسه بكوفيته، التي بدت غير منتظمة. ويحمل صندوقاً متوسط الحجم في كلتا يديه. حيّاه بصوت غليظ، وثمة سيجارة تستقر على طرف شفاهه. ثم سأله وكانت سيجارته تتحرك صعوداً ونزولاً أثناء السّؤال. «ما سر هذه الأفراح التي تحملها على ملامح وجهك؟» «أفراح؟!» أجابه العم داوود. «أجل إشعال الشموع. أولست تحتفل يومياً بإشعال عشرات الشّموع للناس من أجل الفرح، وتتمنى لهم حظاً طيباً؟!» قال الرجل ذو الصوت الغليظ. «صحيح. حتى إنها أخذت تنفد مني. أخشى من اليوم الذي أطل به عليهم، دون أية شمعة.» «لكنها كثيرة لديك» قال الرجل الذي بدا لداوود منهمكاً بإخراج شيء من الصندوق الذي معه. اتضح بعدها أنه كان مليئاً بالشّموع. وما أخرجه لم يكن سوى شمعة، أخرجها وهو يسحب نفساً عميقاً من سيجارته التي صار يحصر عقبها بين إصبعيه، ليطلب من داوود أن يشعلها له مع التمني. فالجميع يبحث عن حظّه في شمعة تحترق. حتى صاحب الصوت الغليظ الذي جرب عشرات المهن. دون جدوى. أمسى كحامل شموع يجوب نهر الأمنيات، يبحث عن شمعة مشتعلة من حامل شموع آخر. ليبارك بها شموعه، التي سوف يوقدها للآخرين من أجل البركة.. قدمها له مثل تلميذ، وكله أمل أن تكون شموعه من هذه الساعة، مشروعاً لأمنيات تتحقق. ثم أشار إلى الصندوق الذي كان لا يزال يحتوي على المزيد من الشّموع، وتردد في سؤال أراد أن يطرحه. في نفس الوقت الذي كان به داوود، يعد له شمعته. يشعلها، ويلصقها بطبق الفلين. ثم بلطف يدفعها إلى الماء مع التمنّي له بحظ وافر. وقبل أن يقفل ذلك الرجل عائداً من حيث أتى. أشار إلى الصندوق مجدداً وقال «أراها تبدو كثيرة لديك. ألا تشعل لنفسك واحدة منها وتتمنى؟!» نظر داوود لقرينه، وهو يفكر بتلك الشّموع التي ذهبت ولن تعود وقال: «بالأمس انطفأت شمعتي السّبعون. ولم أعد آبه كم شمعة بقيت لدي تحترق لكي تنطفئ!»
#مهتدي_مهدي (هاشتاغ)
Muhtady_Mahdi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فتاة المتنزه
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|