أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - حين تستفيء الذاكرة بظلِ قطار














المزيد.....

حين تستفيء الذاكرة بظلِ قطار


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 7404 - 2022 / 10 / 17 - 22:34
المحور: الادب والفن
    


أثناء عبوري نحو تضاريس ذاكرة قرية قديمة ونائية لدى تخوم إحدى غابات (فكتوريا )في استراليا، إستوقفني حينها قطار هرم عاطل عن السفر بعد أن صمتت صافرته، وتقاعدت عجلاته الصدئة، وهجرته أرصفة المحطات منذ سنوات طوال
نام القطار ملتحفاً حكايات الماضي، ومستلقياً في سكونه الأبدي بين أحضان الغابة بعد أن تحول الى متحف للسواح وللعابرين ،وهو يختزل ذكريات المسافرين الذين تركوا حقائبهم فوق رفوف القطار وأرتحلوا نحو محطات بعيدة
صعدت من إحدى بواباب عربات القطار وتجولت بين المقاعد المهترئة، متأملاً زجاج النوافذ التي ما زالت تحتفظ برائحة غبار الأزمنة العابرة وأحلام، ونعاس، وانتظار المسافرين!!
كثيرة هي الحكايات والأسرار التي مرت على العربات والمحطات التي توقف خلالها القطار، ما بين أحزان ودموع الفراق التي ذرفت في المحطات وسط تلويحات الوداع، وكم من محطات لقاء وعناق وكذلك عودة للأحبة الغائبين شهدتها تلك الارصفة.
أعاد بيّ قطار فكتوريا.. صدى الذاكرة نحو القطار النازل ليلاً من بغداد حين يتوقف في محطة قطار الناصرية فيستريح على الرصيف لساعة من الزمن ، بعد أن يشرع أبوابه لصعود الركاب، ثم تزعق صافرته مودعاً أضوية المدينة الناعسة وبساتينها الغارقة في ظلام السكينة فيأفل جنوباً في لجة الظلام ، حتى يتوقف في آخر محطة له في منطقة (المعقل) حيث مدينة البصرة.
وفي المساء الآخر ينطلق القطار الصاعد من المعقل ويزحف شمالاً.. ثم يتوقف مرةً أخرى في محطة الناصرية ليلاً ليحمل المسافرين نحو (المحطة العالمية) في العاصمة ، وقبل أن يصل الى محطته الأخيرة يتوقف في محطة (مفرق أور) حيث (المگير) التي استلهم منها الشاعر (مظفر النواب) قصيدته (الريل وحمد) بعد لقاءه بالفتاة الريفية العاشقة المكلومة، وكذلك قصيدة (مشيت وياه للمگير) للشاعر (زامل سعيد فتاح) ثم يبرح القطار ببطىء ويتلاشى صدى نحيبه في آفاق المگير حتى تخوم نخيل السماوة التي فززها جعير الريل ثم يمر بعدها بمحطات كثيرة تمر في الديوانية والحلة حتى يصل الى أرصفة المحطة العالمية.
آخر رحلة لي كانت في القطار النازل من المحطة العالمية في بغداد نحو الناصرية عام 1983 بعد أن أكملت الاختبارات النظرية والعلمية قبل قبولي في أكاديمية الفنون الجميلة
كان القطار مكتظاً بالمسافرين والجنود الملتحقين الى وحداتهم العسكرية نحو قواطع المعارك وحجابات الموت جنوباً أثناء الحرب العراقية الايرانية.
ينام الجنود باحلامهم فوق أرضية القطار بين المقاعد المكتظة بالجالسين بعضهم يتوسد بساطيله ويغط في نوم عميق والبعض يخفي في جيوب قمصلته العسكرية زجاجة عرق (الزحلاوي) فيحتضنها بحذر مستغلاً نوم المسافرين واطفاء أضوية مصابيح عربات القطار فيأخذ منها رشفة على عجل ثم يغلق سدادة الزجاجة ويخفيها مرة أخرى في الجيب الداخلي للقمصلة، بينما القمر وعواء الذئاب في البراري الجرداء لم يلبثوا من مطاردة صفير القطار الهارب وسط الظلام.
يمر قطار العمر في المساءات الموحشة فيتوقف بنا ما بين رحلة هنا وأخرى هناك في محطات نصعد منها وأخرى نترجل اليها فوق أرصفة الغربة.. ونحن نبحث عن حقائبنا الملقاة فوق رفوف الذاكرة
فتتجلى الأمنيات المعتقة بالحسرات وهي تبوح:
يا ليت الزمن المسافر بحقائبه الكثيرة حين يمر بمحطات خاطئة وأرصفة دون عناوين .. أن يعود الى المحطة الأولى كي يبدأ برحلة أخرى وبقطار آخر
وياليت أن يرجع سهم لعبة الروليت الى الوراء ولو لمرةٍ واحدة
واحدة فقط لا غير!!
لراهنت على رقمٍ آخر وعلى حظ آخر وعلى طاولة قمار أخرى
فعسى أن تُستبدل الخسارات بارباحٍ وهمية أو أن أغير عراب اللعبة والقدر بسمسارٍ آخر!!
كنت أعد بخساراتي وخيباتي الكثيرة على أطراف الأصابع.. وبعد أن أنهيت عد الأصابع أتذكر إني بحاجة الى أصابعٍ أضافية أخرى
كثيراً ما كنت أخاتل الجرح وأمضغ الترياق كي أنسى وجع النزيف
أو أرتق ثقوب الذاكرة حتى يكون للنسيان غفوة بين وسادة وسرير
وحين أيقظتنيّ الوحشة في جفلة الفجر، كنت أحلم في (التي تي) مفتش القطار بملابسه الداكنة وهو يوقظني من نومي متسائلاً عن تذكرة السفر نحو بغداد!!
فتحسست قلبي الذي كان مختبئاً في معطف الضباب، تطلعت من وراء النافذة المثقلة بالنعاس
شاهدت الاشجار ما زالت نائمة والأرصفة دون عابري
تمنيت أن يكون ذلك الوطن البعيد المتواري خلف البحار نائماً دون أحزان مثل طفل يغفو في مهده الدافئ المبتسم
ما أوحش الامكنة حين تمر بها قوافل الازمنة تاركةَ تضاريس الذكرى توشم الجدران بينما الابواب كانت تصفق بها الريح.



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زيارة مقبرة وادي السلام
- العزلة في يلوا/ الجزء الثاني
- العزلة في يلوا / الجزء الاول
- تجليات الأبواب
- القبر المنسي في أنقرة
- رحلة الموت وفجيعة البحر/ الجزء الثاني
- رحلة الموت وفجيعة البحر
- أبوذية الغناء وصوفية العشق
- إحفيظ ومملكة الاساطير والخوف/ الجزء الاول
- تجليات الالوان والرموز في مقامات السجاد
- مقامات هجرة السنونو
- تجليات سادن العرفان
- مقامات الغربة والاسفار
- فراديس الاهوار / الجزء الثالث
- فراديس الأهوار / الجزء الثاني
- فراديس الاهوار
- أوريكة
- مقامات المدن والموسيقى
- مقامات الموسيقى والمدن
- مدينة الرياح وأساطير البحر


المزيد.....




- ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية ...
- حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
- عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار ...
- قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح ...
- الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه ...
- تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
- مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة ...
- دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
- وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما
- وفاة صاحبة إحدى أشهر الصور في تاريخ الحرب العالمية الثانية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - حين تستفيء الذاكرة بظلِ قطار