|
عن رواية -الباشا وفيصل والزعيم-
محمد الأحمد
الحوار المتمدن-العدد: 7404 - 2022 / 10 / 17 - 08:22
المحور:
الادب والفن
للمبدع باسم عبد الحميد حمودي لعلني أستطيع الجزم بان اغلب الروائيين العراقيين لم يكتبوا رواية تستحق ان نسمّيها "رواية" كجنس، حيث يسعون الى تمطيط قصة ويتابعون من خلالها حدثا عابراً، وغالبا ما يكون قليل التفرّع، وضيق التوسّع يحوي على شخصيات غير مترابطة في تاريخ مشترك. حيث الرواية الحقّة تتطلب من الذي يكتبها ان يكون عارفا ما على الرواية كعلم حديث حتى نستطيع ان نجنّس له عمله، فالرواية تدخل الى التاريخ كالفاتحين، وتناقش اهم خيبات ابطاله، وتحاكمهم بمعرفية محايدة. والمبدع فيها لا يميل لجهة معينة حتى ينصرها على الجهة التي تناقضها. الرواية علم سردي يتطلب من كاتبه ان يكون ملمّا بمعارف وعلوم عصره. الرواية وثيقة التاريخ، ويصح القول أيضا ان التاريخ وثيقة الرواية. ولعل رواية "الباشا وفيصل والزعيم" للكاتب "باسم عبد الحميد حمودي" برغم قصرها وقفت أمام نقطة مفصلية من تاريخ العراق الحديث وراحت تفككها بموضوعية وتجعلها امام محاكمة موضوعية للتاريخ، محاكمة الشاهد العراف بما كان يجري، وهو المثقف النبيه الذي يفرز الأمور من بعد نضج وحكمة؛ لكن لا اعرف لم سحبني شكلها الفني (كأنما وقع الحافر على الحافر) الى رواية "أمام العرش" للكاتب العظيم "نجيب محفوظ" والتي سبقتها بخمس وثلاثين عاماً على إصدارهاـ كان يومها مغامرا عبقريا جمع فيها جميع الملوك والزعماء والرؤساء وجعل يحاكمهم واحدا بعد الآخر (بدون استثناء). كلهم ماتوا واستحضرهم من ذلك الرقاد الابدي بعد أن نفض عنهم غبار الأيام، ورتبهم وفق نسقهم التاريخي المتسلسل.. وكأنه جاء بهم متحف من الشمع (مجازا) واصفا كل منهم على شاكلته التي كان بها- هكذا الكاتب العظيم اجاد وصفهم واحدا واحد وقد جمعهم ليناقشوا ومن ثم يحاكمهم وفق ما قدموه لمصر وما الذي جعلهم يقصرون فيه ما بين نصر وهزيمة.. لقد كانت تلك الرواية من بين الروايات الاستثنائية التي كتبها "نجيب محفوظ". وغلب على شكلها الحوار المختزل بديلا عن السرد كعادة "محفوظ" في اغلب اعماله الأخيرة، وقد ذكرّنا الشكل المختزل برواية "الباشا وفيصل والزعيم"، ولكن بمحتوى مختلف تماما من حيث المكان أو الزمان، حيث جاء عن محنة العراق حسب رواية الأستاذ " باسم عبد الحميد حمودي" الذي استحضر الى احدى القاعات (وتارة شارع الرشيد) مجموعة من الحكام الذين توالوا على سدة حكم العراق، وما آل اليه من مصير، اغلبهم سفح دمه رفيقه بانقلاب دموي عنيف، أطاح بنظامه، من بعد اتهام بالخيانة العظمى والعمالة والتبعية وما الى ذلك من تهم غايتها التشويه، والتحريض على كراهيته بعضهم البعض وهم أموات. لقد استخدم الروائي الانتقال السريع والكلام المقتضب حتى يكتب لنا وفق آلية سردية روائية متميزة بعد أن اختارها غريبة لا تشبه الآليات السردية التي عهدناه في الروايات العراقية، ألفناها مختلفة عنما جاء به الروائيين العراقيين السابقين، وبذلك جرت مهمة ربط هذه الشخصيات واستحضارها وجعلهما في مواجهة بعضهم البعض في مكان واحد ليواصل إعادة كتابة التاريخ وفق ما كان يراه المؤلف كشاهد "اطال الله عمره لأنه قد شهد المرحلة بكلها وليومنا هذا بذاكرة حديدية" اذ رسم بهذه المجموعة من الشخصيات التي تعاتب بعضها بعضا وتجادل بعضها بعضا الفترة المفصلية من تاريخ العراق الحديث، ليؤشر تاريخيا ما كان غامضا برغم مرور عقود عديدة على تلك الثورة الأولى التي وقعت في 14 تموز 1958، وحدث ذلك النفق التاريخي العميق الذي مرّ به العراق بعد تأسيس المملكة التي وضعت له شكلها "بريطانيا" الدولة العظمى المتحكمة في صنع القرارات السياسية الكبرى على كوكب الأرض الى يومنا هذا، وما جرى من نزاعات شرسة متوالية، انقلاب بعد انقلاب، ولم يثبت الحال حتى تمزقت فيها البلاد وسحقت بسببها أبناء العباد.. وكل ما جاء من صراعات ايدولوجية اثقلت كاهل العقول، وكلها تنادي بتلك الوطنية الزائفة من بعد أن ظهرت تلك الوطنيات لم تكن سوى مناهج واغلال أيدولوجية غايتها الاستحواذ الكامل على البلد وعقول أهله وثرواته وحتى تأريخه. نجد هذه الرواية تُصنّف ك "نوفيلا" صغيرة ليس لأنها تقع في 102 صفحة ولكنها اتسمت بعدم وجود شخصية محورية واحدة يتمحور حولها السرد. على الرغم من استحضار الرواية لشخصيات عديدة الا انها تمرّ سريعا وفق موقف واحد او اثنين مثل "الملك فيصل الثاني" ورئيس الوزراء العتيد نوري السعيد"، و"الوصي عبد الاله"، و"الملكة عالية"، و"الملكة نفيسة" و"عبدالكريم قاسم"، و"عبد السلام عارف"، و"السفير البريطاني المتنفذ في بغداد" ، والمصري "صلاح سالم"، كذلك استحضر من المؤرخين الشهيرين منهم و"عبد الرزاق الحسني" والفلسطيني "حنا بطاطو" والكاتب العراقي "فؤاد التكرلي" عندما كان يعمل قاضيا قبل ان يتفرغ للكتابة، و"عبدالملك نوري لان والده احد الضباط المشاركين في انقلاب بكر صدقي" وكذلك "عيسى مهدي الصقر" والفنان عباس جميل المعروف باسم عباس قمري، الذي كان مصورا في القوة الجوية العراقية قبل ان يفتح له محلا للتصوير الفوتوغرافي امام وزارة الدفاع"، وغيرهم من جاء الا انه جاء وحسب. بالرغم ان المكان لم يكن واضحا.. المهم اجتمعوا كلهم في مكان افتراضي هو صفحات هذا النص المثير للجدل والاهتمام، والمؤكد انه عراقي بامتياز. ان المحايدة في الرواية بشكل عام هي التي تجعلها رسالة عالمية تعبر كل الحدود وتخترق كل الحواجز وتترجم الى كل اللغات، وكانت ميّزة او تقانة إبداعية سجلت لصالح رواية "امام العرش" التي حيث جرى توازن خفيّ ولم يبيّن "نجيب محفوظ" انحيازه لجهة ما او لقائد او حبه لزعيم. بينما في رواية "الباشا" تقدمه وكأنه لم يكن أحد من البريطانيين يساند "نوري السعيد"، وان اللعبة السياسية دائما تلعب باقتدار وتدار من قبل هيئات كبرى وان كانت من داخل بريطانيا الا انها تحرك اصابعها وتعبث بكل متحرك سياسي انها خلف الصورة وأشار "باسم عبد الحميد حمودي" الى تحالفات لم تكن واضحة للعيان يومها للعامة وللشهود، ولكنها بدت واضحة من خلال ارشيفات المخابرات العالمية المسربّة ان "جمال عبد الناصر" كان يقف خلف التي قام به "عبد السلام عارف" بتحالفاته مع "الطبقجلي". الروايتان ان اقتربت بالشكل فقد اختلفتا بفارقة استحضار "للمؤرخين" اذ جاءت بفائدة ان التاريخ حيّ ومتحرك ولا يمكن ان يموت حتى وان كتب مرة واحدة فانه سوف يعاد محاكمته، والكتابة فيه مجددا، لأنه مدرسة الدروس. لا يسعنا القول -هنا الا- ان الروايتان تشابهتا بالشكل الفني، ولكنهما اختلفتا في رسالتيهما المستقلتين، وان التاريخ سيكون أولا وآخرا البطل الشاهد الحي الوحيد على ابطال هذه الحياة المسردة. 14-10-2022م
#محمد_الأحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن رواية الاحتلال للفرنسية آني ارنو
-
العجائبية في رواية -زمن للقتل- للكاتب -إينيو فلايانو-
-
ايزابيل رواية أنطونيو تابوكي المذهلة
-
عن رواية أيام الطالبية – ل عادل سعد
-
البصري محمد خضير
-
غياب التقانة الروائية في مسرات سود
-
عن رواية قيامة الحشاشين
-
عن امواج عبد الله ابراهيم
-
مفاهيمي الخاصة في التجنيس الأدبي
-
التأريخ وعاطفة المنبر
-
التواضع والكاتب
-
ملاحقة التأريخ
-
اللغة الحس
-
في ذكرى الموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب
-
تضع كفها على قلبي حمامات بيض تنزل، فلا اموت
-
الفصل /3/ ليلى والحاج
-
عن الرواية عامة
-
نصوص التواصل الأجتماعي
-
اسرار القراءة في رواية دمه
-
عن -أمير الحلاج- ايضاً
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|