|
قطار آخن 15
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 7399 - 2022 / 10 / 12 - 13:15
المحور:
الادب والفن
ـ دعونا نجلس في غرفة الصالون نستمع للموسيقى ونتفرج على صور العائلة بدلاً من قعدتنا في المطبخ.
الاستذكار فعل مُربك، فعل عودة إلى ميناء يخص الروح، الاستذكار ارتحال معاكس من موانئ بطيئة الحركة إلى بحار مرهقة ومثيرة للصراخ.
دخلوا إلى الصالون من بابه الخشبي العريض، باب درفتين حُفرت فيه أشكال وزخرفات ورموز، بدت كأنها يهودية أو فارسية الطابع، وقعت عينا إبراهيم على طاولة أنيقة فوقها مُجسَّم خشبي لآلة المنجنيق بلون بني غامق ورائحة عطر قادم من الماضي، مُجسَّم طوله حوالي ثمانين سنتيمتر وارتفاعه حوالي تسعين سنتيمتر، ذراعه الساكن ينتهي بكفة معدنية، نصفها الأيمن مملوء بمسحوق أبيض ونصفها الأيسر بمسحوق أسود، الأبيض والأسود، الكوكايين والأفيون، أزهار الكوكا وأزهار الخشخاش، في الجهة المقابلة لكفة المنجنيق ثمّة تمثال خشبي لرجل أسمر شاحب كأنه قادم من بوليفيا، يُحرِضُ فيك الرغبة بشّمه، رجل يفتح فمه ويمد ذراعيه إلى الأعلى وينتظر إعطاء الأمر لتحرير الذراع المثبت تحت ضغط قوة فتل الحبال لرمي المسحوق، منتظراً وصول القذيفة البيضاء أو السوداء لا فرق. على الحائط فوق المنجنيق عُلقت لوحة نحاسية مستطيلة الشكل حُفِرَت عليها بالفارسية كلمات "ما أجودني".
وصله صوت سابينه: ـ ما الذي حدث لك؟ تقف أمام هذه التحفة كمن يؤدي دوراً في حفل تأبين.
تنبّه لشروده، نظر يساره، يمينه، إلى الأعلى، مسح غرفة الصالون الكبيرة بعيونه الليزرية الغائمة، للصالون الدافئ جداً رائحة السجائر والعطور الغريبة، رائحة غارغويل تعبق في جوّه، توقظ الحياة فيما مضى من أحداث، شعر بنفسه كأنه في متحف أو صالة عرض، شعر بوجوده، "أنا أشّم، إذاً أنا موجود"، أحست المرأتان بقلقه ورغبته بالاستكشاف، تركتاه حائراً كطفل يستكشف عطر محيطه، بعد أن علّمته الرائحة منذ الأيام الأولى لولادته كيف يتعرف إلى ثدي أمه ويعتاده، صدق نيتشه إذا كان هو من قال "في الأنف تكمن العبقرية".
على الحائط، في الجهة اليمنى من طاولة المنجنيق لوحة أنامورفوسيس خلّابة، في الصورة هناك ما يشبه ثقب الباب إلى العالم، نافذة جاسوس في جدار قلعة، لعلها قلعة "أمان الله"، وعابر سبيل سائح، بقميص مخطط بالأبيض والأسود، يمشي في حقل عباد الشمس، ويلمح من خلال النافذة حُوذِيّاً شاباً محنيّ الظهر بملامح أفغانية، يقود عربة حصانية بدواليب صفراء وزخرفة معدنية ملوكيّة، عربة أمريكية المنشأ، فيلبينية الاستعمال، الحصان الساحب شاحب وعجوز، اختفى رأسه خلف جدار عتيق رطب، ليظل كما العادة بعيداً عن الأنظار.
في الجهة اليسرى من طاولة المنجنيق عُلّقت سجادة حرير تبريزية مزركشة بنقوش آذربايجانية هندسية الشكل، بألوان حمراء وزرقاء وصفراء وخضراء قاتمة، وإذْ تُمعن النظر فيها، يُخيل لك وكأنها مُلاحقة بتهمة الكآبة، ترى فيها مهرجاناً مهيباً، ألعاباً نارية ليلكية، جمهوراً بلون الحشائش الخضراء، رجالاً ونساءً وأطفالاً بلون إضاءة مصابيح الشوارع، في ليلٍ صيفي شرقي، يهتفون للسلام.
كلمات أغنية "ملك العفاريت" للشاعر الألماني غوته القادمة من مكبرات الصوت المتكاملة في حيطان الصالون بأضوائه الخافتة، أضفت على الجو المتحفي شيئاً من الهلع والهيبة، نظر يبحث عن مصدر الصوت، وجده قادماً من السقف، من الأرضية، من الجدران، من اللوحات، من المنجنيق ومن جسدي المرأتين اللتين بانتظاره، نظر باتجاههن، جلستا متقابلتين متباعدتين، كل واحدة على أريكة عريضة بنية تتسع لثلاثة أشخاص، وبقيت الأريكة الثالثة فارغة بانتظاره، فوقها استقرت لوحة "رجل وامرأتين" للرسام النمساوي "بيتر فيندي"، فوق الأريكة اليسرى لوحة "العارية المستلقية" للفنان الإيطالي "أميديو موديلياني"، وفوق الأريكة اليمنى عُلقت لوحة "نساء الجزائر" من الفن التكعيبي للإسباني "بابلو بيكاسو"، تصوير نابض بالحياة لأربع نساء عاريات الصدر. على الحائط البعيد والمقابل للأريكة الفارغة ثمة نافذة عريضة وعلى يسارها ترى "أوديسيوس" في رحلته البحرية، ترك بحارته يوثقونه إلى صارية السفينة بعد أن سد آذانهم، تراه سجيناً للسيرينات ولصوتهن الإغوائي.
ـ إبراهيم، هل أنهيت جولتك البصرية؟ ما زلنا بانتظارك!
هكذا وصله صوت إحداهن. نظر إلى المصدر، لمح امرأتين متشابهتين بملابس الحب، الأولى بقميص ليل أسود وسيقان بيضاء ممدودة على الطاولة الواطئة والأخرى بقميص ليل أحمر وسيقان بيضاء مرمية تحت الطاولة الواطئة. **
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطار آخن 14
-
قطار آخن 13
-
قطار آخن 12
-
قطار آخن 11
-
قطار آخن 10
-
قطار آخن 9
-
قطار آخن 8
-
قطار آخن 7
-
قطار آخن 6
-
قطار آخن 5
-
قطار آخن 4
-
قطار آخن 3
-
قطار آخن 2
-
قطار آخن 1
-
خواطر قارئ تحت ظلال رواية (المُكْتَوي)
-
سِباق التعرُّج 11
-
سِباق التعرُّج 10
-
سِباق التعرُّج 9
-
سِباق التعرُّج 8
-
سِباق التعرُّج 7
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|