|
حديث عن أم ريفيّة ( 3 )
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7392 - 2022 / 10 / 5 - 00:15
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
حديث عن أمّ ريفيّة ( 3 )
و لم يشأ صديقي الريفيّ المولد ، إنهاء حديثه عن أمّه ، شهرزاد الريف ، كما كان يكنّيها ، رغبة منه في تدليلها . قال صديقي الريفيّ : رغم تجاوزي العقد السادس من عمري ، بقيت طفلا رضيعا في عينيّ أمي . لم أكبر ، كما شعرت و زعمت . كنت ألمح في نظرات عينيها ، كلّما زرتها ، شوقا عارما إلى لقائي . و كلّما دأقبلت عليها ، وجدتها ، وجدتها محتبيّة في مرح الكوخ ( فناء الكوخ ) . ممسكة بين أصابعها سبحة رماديّة اللون ، جلبتها لها إحدى الجارات من مكّة ، كما تؤكّد دائما . و أردف صديقي الريفي ، يقول : كنت أسلّم عليها ، و أقبّل قمّة رأسها – كعادة الريفييّن – فتهمّ بالقيام ، و هي تقول لي : اجلس في مكاني ، ، لا بد أنّ الطريق أتعبتك ، و أنّك عطشان و جائع ، سأجلب لك الماء و الكسرة و حلاّبا ( صحن من الطين ) من اللبن . لقد مخضته قبل قليل فقط . ، أعرف أنّك لم تتغدّ ، يا كبدي . و أعلم أنّ أكل المدينة ، في هذه الأيام ، لا يغني من جوع ، و لا يقي من مرض . و لا يحفظ صحّة . لا جدوى منه ، غير ملء البطون ، كالتبن تماما . و بعد هنيهات من الزمن ، أبصر أمّي مقبلة ، و هي تجرّ قدميها بإلكاد ، مّما يلهب إشفاقي عليها من وطأة الدهر ، و ثقل السنين ، فأنهض كالبرق لأضع عن يديها المرتجفين ، ما كانت تحمله من كسرة و حلاّب اللبن . و عندما أهمّ بالانصراف ، تضع لي ، في قفّة من الدوم ، كسرة و بيضا عربيّا ( تقليديا ) من بنات دجاجاتها ، و ثوما ، و لبنا ، و دهانا ( زبدة تقليديّة ) و عسلا ، و زيت زيتون ، و هي تردّد مبتسمة : هذا ما جمعته لك ، و خبأته . هذا حقّك و حقّ كنّتي و أحفادي ، مثل إخوتك و أخواتك . لحظتها أقول لها ، و قد لا أكاد أوفي حقّها من التبجيل و البرور : - يكفيك يا أمّي ، ما ضحيت به من أجلي . و من أجل إخوتي و أخواتي . عانيت من أوجاع حملنا جميعا ( مائة و ثمانية اشهر) ، و من ثديك ، و قمت بتقميطنا ، و شقيت في تربيتنا ، حتى بلغنا أشدّنا . - لا عليك ، يا بني . لو احتجت إلى الرضاعة ، الآن لأرضعتك . أتظنّ أنّك كبرت . كلا ، أنت في نظري ، مازلت صبيّا ، لم تبلغ الفطام بعد . ، و أودّعها ، و تودّعني ، و هي توصيني : - احذر من وعكة الطريق ، سق جيّدا لا تتعجّل ، ة لا تسرع . أبناؤك في انتظارك .
و لمّا عرضنا عليها ، الانتقال للعيش معنا في جوّ المدينة - و كنّا نحن ( الدزينة ) من الأبناء قد تزوجنا ، و استقررنا في مدن و قرى غير بعيدة ، بحكم طبيعة العمل بالنسبة للذكور و السكن بالنسبة للإناث – و عرضنا عليها – بلطف – بناء بيت من الحجر و الخرسانة و الطوب الأحمر ، و هدم الكوخ الموروث عن الأجداد ، و الذي شاخ و نبت على سطحه الربيع ، غضبت ، و رفضت ، و انتفخت أوداجها ، و لم يبق أمامها سوى الانهيال ضربا على رؤوسنا ، نظير ما بدر منّا - في نظرها - من جرأة و وقاحة .. قالت لنا بنبرة حادة : - لن أبدل كوخي ، و لو بقصر أنيق . هذا الكوخ ، يا أبنائي ، تسكنه روح الأسلاف ، و روح أبيكم – رحمه الله - ، و هو مأوى روحي في كل يوم . لحظتها ، شعرنا بالذنب تجاهها ، و أفصحنا عن حسن نوايانا ، و عظيم حبّنا لها ، و برّنا بها ، و التمسنا منها العفو و الصفح عمّا بدر منّا . رفضت أمّي فكرة النزوح إلى المدينة رفضا جازما . رغم حثّي لها و ترغيبها فيها عندما استقرّ بي المقام فيها . و قالت لي بصريح العبارة ، و دون استعارة ، انّها لا تستطيع مفارقة حياة الريف ، فهي جنتها ، و أنّ عقلها و قدميها و يديها و قلبها ، بل و جسدها كلّه مغروس في الريف إلى الأبد ، و قد اعتادت رائحة الطين و منظر التراب ، و اعتاد سمعها على صقيع الديكة ، عند الفجر و الظهر و العصر ، و على زقاء الدجاج و قرقرته و نهيق الحمير و صهيل الخيل و ثغاء الشياه ، و منظر الرعاة الغادين صباحا ، و العائدين مساء من المراعي و زقزقة العصافير و هديل الحمام و خوار البقر و رائحة دخان الكوشة ( فرن تقليدي من الطين ) ، و قعدة النافخ ( مجمر طيني ) ، و جلسة حصير الدوم ( نبات جبلي لصنع السجاد و القفف و غيرها ) . فكانت تقول لي أمي الريفيّة ، مفاخرة بشجرة تين عتيقة من النوع المسمّى ( عنق الحمام ) ، أنّ التقييل تحت شجرتها تلك - التي يزيد عمرها عن قرن - أفضل ، عندها من قصر في المدينة . و كنت أشعر أنّ أمّي الريفيّة ، كانت تفصح عن مشاعرها تلك ، بنبرة صدق و طمأنينة و قناعة . قلت لرفيقي الريفيّ واثقا ، و دون مجاملة : - أمّك الريفيّة ( الشهرزاديّة ) ، يا صديقي ، مدرسة في الحبّ و الوفاء و الجود . فابتسم صديقي الريفيّ ، و قال باقتضاب و تبسّم : - ما زال في جعبتي الكثير من ملاحمها ..
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقل قبل كل شيء
-
حديث عن أم ريفيّة ( 2 )
-
حديث عن أم ريفيّة
-
الكتاب الورقيّ في عصر الرقمنة.. ما محلّه من الإعراب ؟
-
الحرب النظيفة و الحرب القذرة
-
أزمة الذكورة و الأنوثة في المجتمع العربي ؟ أين الخلل ؟
-
تثقيف السياسة
-
هل سيندلع الشتاء الأوربي ؟
-
الفلسفة و الحرب و السلم
-
قوارب بلا تأشيرة
-
على هامش الصيف
-
ماذا بعد الحرب الروسية الأوكرانيّة ؟
-
وجهة العالم المعاصر . إلى أين ؟
-
لماذا الحرب أيّها العقلاء ؟
المزيد.....
-
أستراليا: أمطار غزيرة تسببت في فيضانات ومقتل امرأة في ولاية
...
-
احتجاجات في الأرجنتين بسبب تصريحات الرئيس ضد المرأة والمتحول
...
-
غادة عبدالرازق على خطا تحية كاريوكا.. -شباب امرأة- في رمضان
...
-
المرأة العراقية خلف المقود: بين حق القيادة وسخرية المجتمع-
-
الصدر بشأن الإعراض عن الزواج: قد يكون ابتعادا عن الشرع وأحكا
...
-
في العراق.. العنف الأسري يهدد الطفولة
-
أحلام التميمي: أول امرأة حملت السلاح بوجه العدو تواجه خطر ال
...
-
حسناء وملكة جمال.. من -وسيطة- ترامب في الشرق الأوسط؟
-
مصادر سورية:مقتل 14 امرأة ورجل واصابة 15 امرأة بانفجار سيارة
...
-
جميعهم من النساء.. قتلى وجرحى بتفجير سيارة في منبج شرقي حلب
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|