|
بين الوحي والتنزيل
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7387 - 2022 / 9 / 30 - 06:33
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لضرورة مراجعة الفهم ألتسليمي للكثير من الأفكار والمفاهيم والعقائد التي وصلتنا جاهزة من سلف الأمة (مؤرخين ورواة ومفسرين وواضعين ومدلسين وكذابين) أهمية كبرى لإعادة رسم واقعنا الفكري والديني كما يجب أن يكون لا كما يجب أن يبقى ، وهذه المسالة الحساسة والمثيرة في ذات الوقت تتطلب منا شجاعة في الاعتراف أن إرثنا المتراكم يزكم الأنوف برائحة العفن الفكري وتخلف النظرة فيه للإنسان بأعتباره هدف الفكر ومصدره وقوته المميزة التي تفرق به عن كل الكائنات الوجودية، كما يتطلب منا شجاعة بقبول نتائج النقد والتمحيص التي قد لا ترضي انتماءاتنا الحالية، ولا تتوافق مع مسلماتنا والثوابت التي نؤمن بها ونحافظ عليها وكأنها أمانة الرب لدينا، إذا لا طريق غير النقد العلمي ووفق منهجية منطقية تتبع الفكرة أو الحادثة أو القول ومحاولة مطابقتها بالمصادر الأصلية والمنطقية، ستوصلنا للكثير من المفاجآت الغير متوقعة سواء في التخريجات أو في آلية التوصيل التي أستخدمها البعض لكي يصب أفكارنا بقوالب مجهزة ومقننة، كي تؤدي أغراضا بعيدة عن أصل الحدث أو الرواية أو حتى الفكرة الدينية كما أرادها الناص الناقل أو الناص الشارع . من الأفكار التي وصلت لنا ونعتبرها اليوم جزء من تعبداتنا قضية الوحي والإيحاء وما يرتبط بالقضيتين في تأصيل لفكرة ألوهية النص أو إنسانيته، وما يجرنا أيضا للتفريق بين ما أوحي إلى وما أوحينا له، الإيحاء علميا من خلال دراسات علم النفس واحدا من الطرق التي تربط بين مستقبل ومرسل بشكل غير مباشر عبر وسيط ربما له وجود أو تأثير من العقل اللا واعي القديم أو المدرب، فهو فعل ذهني تصوري بين مؤثر ومستأثر قد لا يشترط التواصل المادي أو المباشرة فيه لكنه يصبح حقيقيا في التكرار والأستمرارية في عمله، والإيحاء أيضا من جانب علمي تفسيري هو الملكات الطبيعية التي تودع في التكيف والتركيب الأولي للكائن سواء في ذاكرة الجنس المخصص أو في الجينات الوراثية التي تنتقل من السلف للخلف حاملة معها تصرفا أو طبعا مميزا في قضية ما. من هذه الإيحاءات الطبيعية الوراثية وكمثال ورد في النص الديني فقد أوحى ربك للنحل أن ..... ، فهو أودع ملكة في أول رأس جيل مخلوق من النحل وبدويا تسير عليه كل الأجيال والسلالات حتى تحول هذا الإيحاء إلى نمط سلوكي متأصل، مرتبط بالوجود ولا ينفك رغم تبدل الأحوال والأزمان والمكان، وهذا لا يعني مطلقا أن الله قد أرسل لكل نحلة أو لكل مجموعة من النحل وحيا أو حاملا للوحي يعلمها ما تفعل أو ما يريد، فالإيحاء جزء من الجعل الخلقي الذي يكون عليه مل صنف أو جنس من الكائنات يتعلق أولا بطبيعة تكوينه والغابة من التكوين وعلة الإيحاء تفسر كيفية بقاء الكائن الحي في الوجود محافظا على نظامه وطبيعة وجوده الخاص. الوحي الأخر ما يعرف نفسيا بالإلهاء الروحي أو العقلي أو التنبؤ النفسي الذي يبتكره الإنسان نتيجة تظافر أسباب وعلل تؤدي إلى البحث عن حل، ربما يكون لعوامل الأطمئنان النفسي وحتى الإيمان الديني دورا مساعدا في أجتراح هذا الإلهام الذي هو إيحاء غير مباشر للعقل من عوامل داخلية ذات أرتباطات بخارج غير معلوم ربما وغير محدد، هذا الإلهام الإيحائي وراد كثيرا في الحياة العامة عند الإنسان ومنه مثلا كما أوحى لأم موسى في نص أخر، هنا كان الوحي انفراديا ذاتيا لمعالجة حالة منفردة لا تتكرر ومرتبط بظرف وعلة مبررة، ولكن ليس بموجب وحي مادي وإنما تفتق ذهني تهيأت له أسباب تتصل بالقرب من العقل في لحظة صفاء . بينما نأت لدراسة نص أخر متعلقا بالوحي بالمفهوم الديني أكثر مباشرة وأقرب للواقعية في نقل المراد الرباني "الوحي والتنزيل" حينما يقول (وما ينطق عن الهوى)، هذا التأكيد الحاسم على المصدرية ينفي أيضا علاقة الذات الناقلة بالنص من حيث التكوين الإصالة والمراد الأساسي (إن هو إلا وحي يوحى)، حسم النص أن ما يتلقاه المتلقي ليس من عنديات الناطق المجاهر أو الرسول الناقل، بل من خلال طريق وحي من مؤثر ومريد وأمر وقادر لوصول الرسالة إلى حيث يجب أن تصل دون زيادة أو تقصير أو تدخل، ولكن حتى في هذا النص لا نجد طريقا مباشرا بين صاحب الوحي والموحى إليه، مما يشكل هذا الحال بابا يثير ويعيد السؤال في حقيقة أن الوحي كان من مصدره المعلوم انا حتما، ونحن كمؤمنين بحقيقة أن المرادات الكبرى والطبائع الأساسية للوجود كله مرسومه في التكوين الأول، وهي جزء مما أوحي إلينا سواء بالفطرة أو من خلال دلالات وملكات العقل المطبوع أو المصنوع ، أو من خلال قوى النفس الثالثة والرابعة المتصلة بقلب المؤمن وخياراته الواقعية . إذا الوحي هنا يعد وفقا للمفاهيم العامة طريق طبيعي للتواصل بين الله صاحب الإيحاء أو الموحي عبر الوحي الذي هو أداة نقل إلى الموحى إليه يتضمن كما ظهر من النصوص أمرا ما دائر بين التلقي والتنفيذ بدون خيار أخر، يقول النص {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} هذا النص خاص بمن هم في محل التواصل بين إرادة السماء عبر أدواتها المختلفة، وبين المتلقي الذي يجب أن يؤمن أولا أن ما وصله هو عين ما أراد الله، ولا نقاش شك أو أحتمال في إنسانية النص أو تعديله أو تبديله، ولو افتراضا نجد أن إمكانية التبديل موجودة ولكن تحتاج لوحي أو إيحاء حسب النص الجلي الواضح {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} فحسب دلالات النص هذا نجد أن التغيير والتبديل مرتبط بنفس منظومة وآلية الإيحاء الأول، وبالتالي الحكم يعود لما سيثبت لنا من قضية الوحي والإيحاء النهائي سواء كان ما جرى تعديله كليا أو جزئيا، لكن يشير بدلالة واضحة أن هناك مجال ممكن أن يتدخل الموحى له أن يعيد ترتيب الفكرة ولكن عليه أن يستجيب لشرطها الأول، وأيضا تكشف من حيث البعد المعنوي أن الفكرة التي يراد تعديلها فيها شيء من إنسانية ولو بالتعبير اللفظي أو النقل المتناسب بين حالة الوحي وحالة المتلقي النهائي. كل النصوص التي بين أيدينا تشير إلى حقيقة أن ما يوحى للأنبياء هي أوامر سريعة يتلقاها بشكل خارج عن الإطار الناموسي الذي يتلقاها عادة الإنسان في المعتاد والطبيعي من حلال ما شرحنا سابقا، فهو بالتأكيد ليس إلهاما ولا خيالا وأهتداء تأملي وأخيرا ليس إيحاء جينيا يتكون في الفطرة، عملية الإيحاء اللا مباشر التي نرى تطبيقاتها الكثيرة لا تنتمي لقضية الوحي الرباني بواسطة مباشرة، هذه العملية تنحصر في رؤية مناميه وهنا لا يمكن أن يكون النص الذي ينقله النائم هو نص مطابق لكلام الوحي أو لفظه، أو إلهام وإشعار فوقي خارج الحواس وينطبق عليه القول السابق وتخريجه، أو حتى من خلال ما نقل عن رؤية الملك أو الإحساس المادي به {و قال العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي في مسألة نزول القرآن على قلب الرسول (ص) القرآن النازل عليه، وأنّ الذي كان يتلقاه من الروح هي نفسه الكريمة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة التي هي أدوات لإدراكات جزئيّة خارجيّة.. فكان (ص) يرى شخص الملَك ويسمع صوت الوحي، ولكن لا بهذه يسمع أو يبصر هو دون غيره، فكان يأخذه برحاء الوحي ،وهو بين الناس فيوحي إليه ولا يشعر الآخرون الحاضرون. لم يفرق الدارسون لمفهوم الوحي بين مصطلحين مهمين وردا في كتاب الله يشتركان ظاهريا بالدلالة على عملية التواصل بين الرب أو الله وبين الإنسان أو أي كائن تم الإشارة له بمعنى الموحى إليه، المفهوم الأول هو الوحي والإيحاء وهو أمر مرادي يتم إيصاله للمتلقي من خلال نظام استشعاري متعدد الأنماط، يتلخص بتحديد المقصد والشكل المرادي وكيفية تطبيقه وقد تكلمنا تفصيلا عنه، وخلاصته يتولى الرسول مخلصا بما منح من معصومية في نقل الوحي الموحى إليه عن طريق جبرائيل مثلا مع النبي محمد وترجمته ثم تبليغه للناس كنص، يعبر بصدق وكلية عن أمر الله، وهذا لا إشكال فيه إلا أنه في جزء منه يعد عند البعض من أهل الفقه والعقائد عبارة عن "جزء" من النظام البنائي اللفظي، أي هو مجرد أجتهاد عالي لنقل ما وصله كاملا وليس بالضرورة نفس النص اللفظي الذي تكلم به الوحي معه، ويبقى هذا رأي وليس نتيجة كاملة متفق عليها بشكل عام، المتفق عليه هو الروح والمعنى والمقصد بالتأكيد هو من الله شكلا وروحا. في النص التالي نجد كلمة أو لفظ الإلقاء وهو إيصال ما يريده الله إلى من يريد أما بالقلب أو في جزء معلوم ليحقق غاية (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ )، فهذا الإلقاء شبيه بالطريقة التي يتم فيها الإيحاء فهو من الله وأيضا بواسطة رسول أو مكلف بالإلقاء (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، هذا المفهوم الثاني وهو تنزيل أمر من الله في قضية معينة يشابه من جهة ويختلف من جهة عن الوحي الذي تكلمنا عنه، فهو لا يضمن إلا قضية واحدة أو أمر واحد فقط (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)، فليس كل إلقاء وحي ولكن كل وحي بالتأكيد إلقاء متعدد ومتواصل حتى بلوغ أمر الله وتمامه. إذا الإلقاء والذي ورد في مواضع كثيرة يفسر لنا كيفية وألية النزول والفرق بين الوحي والنزول أيضا هو فرق بين الكيفية وبين الوسيلة، عملية النزول يعني أن ما أوحي به صار مكتملا ومحفوظا وجاهزا وأخذا طريقه لمحدد هو القلب والعقل، وهو بالتأكيد طريقا أخر وإن كان عبر الوحي إلا أنه دلالاته بشكل عام تعني أكتمال عملية الإيحاء أو الأنتهاء من تمامية عملية النقل المطلوبة، وإلا لو كان الأمران يعنيان شيئا واحدا لم يفرق الله أصلا بين الوحي والإلقاء ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ و﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بناءأطر القيادة والعمل التنظيمي
-
استقالة الحلبوسي مغامرة سياسية أم لعبة قانونية... ح2
-
استقالة الحلبوسي مغامرة سياسية أم لعبة قانونية...
-
نفي العبثية وعبثية النفي
-
الوجود الواحد ووحداية الوجود
-
صناعة الحرام والتحريم
-
أسطرة النص الديني تحريف للقضية أم تقريب للصورة؟
-
التناقض الفكري في منظومة الفكر التعبدي
-
الحقيقة وفلسفة السؤال ح3
-
الحقيقة وفلسفة السؤال ح2
-
الحقيقة وفلسفة السؤال
-
العروج إلى الله دراسة في المعنى اللغوي ح1
-
سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح2
-
ديني .. دين الذرة
-
سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح1
-
-يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ-
-
قصاصات الكهنة وشعار -مت أيها الإنسان-
-
ممالك وأمارات تحكمنا سقف الله وباسمه .
-
حروب المعبد الفاشي
-
المزاج العراقي وتوظيفه الديني.. الحسين ع إنموذجا
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|