سعيد موسى
الحوار المتمدن-العدد: 1689 - 2006 / 9 / 30 - 06:41
المحور:
القضية الفلسطينية
((مابين السطور))
من أمام بنك فلسطين مشهد يندى له الجبين استل قلمي المتمرد الساخط من غمده لأرسم هذا المشهد الذي يتكرر دون رحمة, تتوافد جحافل من الشباب والشيبة من كل حدب وصوب يتكدسون ككوة دبابير, ولا يستطيع احد وصف المشهد بالطوابير, يتمسمرون في الأرض كل يأخذ موقعة, والأنظار شاخصة صوب ركن الصراف اللعين, الأعصاب مشدودة والقلوب راجفة خشية نفاذ الخزين, وخشية عطلة الآلة الجهنمية التي لم تصنع من اجل عشرات ألاف البشر المتوافدين عليها كجحافل الجراد يستهدفون غلتها, وإنما صنعت من اجل بعض الأشخاص ممن يفتقدون للسيولة في ما بعد ساعات دوام البنوك, من هناك اكتب هذه(( الدراماتسولية ))من رصيف الجندي المجهول رقم 1, صوت النفير والصراخ والتكبير والتهليل, هذا التكبير والنفير ليس صوب الركن اليماني المبارك للتدافع من اجل لمس الحجر المبارك, إنما هو تدافع وتكبير وتهليل من اجل الوصول إلى لمس الآلة اللعينة ابتغاء عصيدتها وحصادها, وما التكبير والنفير والتهليل إلا سخط ولعنات اقلها لعنة الحكومة والرئاسة..حدث لا حرج,تزاحم يزداد وركل بالأكتاف وشجار بالكلام من اجل الظفر بخطوة للامام صوب الآلة اللعينة وهكذا تبارك الله.
فهل تم اعتماد هذا الشعب بعد كل سني النضال والعطاء والذود عن حياض الوطن بالمال والنفس رخيصة, كي يعتمدوا على بند التسول, لو وجد مصطلح أقسى من هذا لوصفت به المشهد الحزين, وقد توارد إلى ذهني الطوابير التي كانت تتزاحم على عتبات الرئيس ياسر عرفات, فكانت طوابير نساء تتوافد لاستلام المعونات والعيديات, وطوابير أخرى آلاف من الشخصيات المحترمة وغير المحترمة للسلام على الزعيم, فمنهم المناضل الذي أقصى طموحاته لمس يد القائد الرمز واخذ صورة تذكارية معه والسلام, ومنهم اللصوص الكبار يجددون عهد الولاء ونيل الرضا ومن يتغيب يوضع على القوائم السوداء, أما الموظفين فكانت أحوالهم بأحسن حال لا حاجة لهم بطوابير أو زحام ولم يبيعوا القدس ولم يتنصلوا من حق العودة!!!
ذكرني هذا المشهد بنفير وتكبير وتهليل الانتخابات الرئاسية والتشريعية لانتخاب رئيسهم وحكومتهم ولم يتأخر شاب ولاشيخ ولا عجوز ولا مريض ولامعاق فالجميع استنفر الهمم من اجل حياة كريمة يديرها من ارتئوا انه الأفضل, وقد اختاروا انعم وأكرم الصفوة الوطنية لإدارة الدفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, فهل كتب على هؤلاء التزاحم والنفير من المهد إلى اللحد, وهل ثمن اختيارهم الدوس على كرامتهم وجعلهم من فئة المتسولين بهذا الشكل المهين؟؟؟والى متى تبقى هذه الحشود والجموع الغفيرة قدرها أن تلهث صوب الآلة اللعينة, ما ذنب هؤلاء ليدفعون ثمن عجز وإخفاق هذا وذاك ويسقطون على أرصفة التسول ضحية عراك الأجندات السياسية؟؟؟ليدفعون ضريبة اختيارهم وقد تساوى الجميع أمام آلة الصراف مثلما يتساوى الأموات في المقابر, فلافرق بين جندي وعميد, لافرق بين وزير وحقير, هذا باستثناء جوقة الحكومة وجوقة الرئاسة فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون, واستثناء كبار مردة الجن البشري الذين نهشوا مقدرات الشعب الفلسطيني, فرغم تغير الأحوال السياسية وانقلاب الطاولة على رؤوسهم, فذهبت هيبة كراسيهم وبقيت هيبة أموالهم, فلا حاجة لكل هؤلاء بطوابير التسول ومعاناة البرولتاريا, إنها طوابير ذل كما يصفها جميع(المتطوبرين), فلم يخلق الشعب الفلسطيني الذي ما بخل بأرواح أبنائه وأحبائه كي يتم التحكم بمصائرهم بهذا الشكل المخزي المقيت, ومن لم يعلم ما يدور خارج قصورهم الوزارية والرئاسية وأوكار شركات البزنس والمال فعليهم معرفة ذلك قبل أن يحدث الطوفان كتحصيل حاصل لهذا الوضع المزري المهان!!!
ترى وجوه الحجيج المالي الرخيص مكفهرة, وكأنهم جاءوا من أقاصي الأرض ومغاربها للعنة الصراف الآلي(الشيطان)لكنهم سرعان ما يتحولون إلى شخصيات وديعة عند الوصول إلى المظلة الفضية ركن الشيطان, فيتمتمون ويلمسون عتباته ويبايعون كل برمزه السري فَيَمن عليهم ببعض الأوراق النقدية ثمنا لتحمل مشاق النفير والانتظار الطويل كأعمدة الكهرباء في الطوابير, وفور الانتهاء من زيارة الركن اللعين ينقلب حالهم ويتنفسون الصعداء وقد رسمت الابتسامة الحزينة على وجوههم وكأنهم يندمون على هذا الكفر والمبايعة السوداء والزيارة النكراء التي أوصلتهم إلى هذا الحال المهين المتردي,
يتقدم الآن شاب للتو خرج من مضلة الشيطان وبيده بعض الأوراق النقدية ويجلس على مقدمة سيارتي التي تتلظى هي الأخرى عطشا وتتمنى لو خلقت بشرا مهانا ليتسول تلك الزيارة اللعينة, ذلك الشاب لماذا لم ببارح المكان بعد نيل أوراق الأمان, أرى أن أسارير وجهه قد انفردت وجرت الدماء في عروقه المحتبسة, أكاد اجزم انه لم يبلغ العشرون ربيعا, لكن ملامح هموم وجهه تصنفه بعمر يناهز سن اليأس, هاهو أمامي واتابع كل تفاصيله خلسة من حيث اكتب داخل السيارة, فقد غاب ذهن ذلك الشاب عن زمجرة التهليل والتكبير وكأنه صم واخذ يعد باصابعة الضخمة اوراق الذل النقدية التي لا تحتاج إلى عدد(وحده قايمه ووحده نايمه) واخذ يتحرك خطوتين للامام وخطوتين للوراء وهو أشبه بالإنسان الثمل وقد نسي نفسه وفقد توازنه فانزلقت احد قدماه عن حافة الرصيف ثم تمالك نفسه واستمر في عملية العد التي هي أشبه بالحالة الهستيرية وأتضح لي من خلال ملاحظتي الدقيقة ومتابعتي الحزينة انه لا يعد لأنه يعد كل ثلاث قطع ثم يتوقف ويستمر بالعد قطعتين ويتوقف, فواضح انه يوزع الغنيمة المغمسة بالذل ويسرح بنظره إلى المجهول, وبين تلك التوقفات العددية تخرج من بين ملامح وجهه في ثانية عابرة ابتسامة ساخرة, يليها على الفور تكشيرة غاضبة وتجده بحركات عصبية يشيح بوجهه ورقبته لذات اليمين واليسار, ويلتفت تارة أخرى صوب الآلة اللعينة لا ادري هو يناجيها ويتمنى عطاءها مرة أخرى أم يلعن اليوم الذي تعرف عليها, ولا اشك أن تعبيراته هي تعبيرات حيرة ولعنة أشبه بالضياع وتنتهي رحلة العد ثم يرفع رأسه حائرا إلى أين المفر, إلى المنزل؟ربما لا فهناك ينتظره بفارغ الصبر مناديب الجباية والتحصيل بدء بحانوت البقال ومرورا بمتجول الغاز وانتهاء بالصيدلية وبين هؤلاء الكثير الكثير, هم مصاريف الأولاد ومصاريف التعليم والمواصلات وكل الحاجات الأساسية, فكل يريد حصة الأسد من هذه الهبرة اللعينة وكأن أبو زيد غزى, وباريت يابو زيد ما غزيت ولا بالغنائم أتيت, ناهيك عن فاتورة الكهرباء والماء التي تصلك بإشعار التهديد والوعيد إذا لم تدفع ستقطع عنك الكهرباء والماء لتعيش في ظلمة وجفاف, فهل يوجد أكثر من هذا الحال ظلمة وجفاف؟؟؟!!!
فتجد الشباب والمعيلين على حد سواء يلعنون هذا اليوم رغم الهبة المهينة الرخيصة والعطاء ويتمنون لو لم يأتي لأنهم بعد ثواني سيصبحون على الحديدة ولكن في هذا التمني ظلم لكل أصحاب الديون الذين لولاهم لحدث الانفجار الموعود, لان الموظفين يسحبون على المكشوف وتحدث لدى أصحاب رؤوس الأموال مشكلة الدورة التجارية فالخارج عشرات أضعاف الداخل وقد بدء بعضهم إعلان الإفلاس والتوقف عن إعطاء الموظفين على المكشوف أي الشراء الآجل إلى اجل غير معلوم يتعلق برحمة من الأرض تمن بها الرئاسة على الحكومة على العباد, واليوم لم يصرف راتب كما وعدت الرئاسة والحكومة وسقطت المصداقية بل صرف 15 عشر ورقة من فئة مائة شيكل برسم التسول وليتها بقيت هكذا فهناك البنوك الدائنة لكل الموظفين نهشت منها الخمسمائة وبقيت العشرة أوراق اللعينة التي لا تستحق كل هذا العناء والذل, وقيل إنها هبة من الرئاسة وتارة أخرى هبة من الحكومة فلابارك الله في هباتكم اللعينة!!!!
وأمام هذا الزحام والتزاحم فكرت أن أتجول بين عدة أرصفة أخرى, إنني الان أمام رصيف التسول رقم 2(بنك فلسطين فرع السرايا)تحركت ليس لأني لا أريد أن احصل على تلك الهبة اللعينة ولكن من يصل مثلي للصراف الآلي الساعة التاسعة مساءً فسينتظر حتى مطلع الفجر أو حتى شروق الشمس, وهناك تجد من هم اشطر من غيرهم السباقين إلى حيث لا يتوقع الاخرون من زوايا الصراف اللعين البعيدة عن الزحام, وهناك تسربت مئات الشباب والشيبة, لكن المكان أكثر هدوءا وأكثر سكينة فقرآن التراويح يمنع المتكدسين من الكفر بالحياة اللعينة والسباب البغيض.
وبين هذا الرصيف الفرعي وذلك الرصيف المركزي تسمع استفتاء حقيقي حيث يلعن الجميع دون استثناء الحكومة والرئاسة وصراع الأجندات, وأتخير من بين أقاويلهم الأتي:
*تبكون الآن وتتصايحون وبالأمس انتخبتم حماسا فتحملوا.
*أموال الرئاسة للرئاسة وأموال الحكومة للحكومة وعليكم بانتظار رحمة هذا وذاك.
*كنا قبل ثمانية اشهر عايشين ومكيفين ياخساره على تلك الأيام.
* ماله أبو عمار كان في عهده الرواتب والعمليات الفدائية ومافيه مشاكل ولا معاناة.
*الرئاسة تلوي ذراع الحكومة حتى تخرج مخزونها وتفلس.
*لعن الله الحكومة والرئاسة إلي تسببوا في إذلالنا وهدر كرامتنا.
*ليعود الاحتلال ونقاتل اليهود ونرضى بالزعتر والدقة اشرف من حكومة ورئاسة دون جدوى.
* لولا أننا حرقنا شوارع غزة واقفلنا كل الطرق ماحصلتوا على مليم.
* بالرصيف رقم 3 بالنصر ألقيت القنابل في شجار على دور الصراف.
هذه بعض المقتطفات التي يمكن كتابتها وغيرها الكثير لا يقال, وبين هذا الرصيف وذاك وذاك وجدت إنني صوت من بين ألاف الأصوات تقول سحقا لحكومة ورئاسة ترتضي للشعب هذا المظهر من الذل والتسول وأكاد اصدق احد المتحدثين الذين شاركوا في إشعال النيران وقفل الطرق بان ما حدث من غضب محدود هو سبب هذا الذل والجود من الموجود!!! وليس رحمة بالعباد التي وصلوا إلى حد الحاجة الحقيقية والكفاف, فقد اقترب الانفجار طالما أصبح الزاد والزواد هدر للكرامة وإذلال, فعلى المفوضين من الشعب حكومة ورئاسة الخروج من عنق الزجاجة قبل أن يحدث طوفان لا محالة يحرق الأخضر واليابس ولن يسلم منه إلا من رحم ربي.
فرحمة بالشعب المرابط, ليس هكذا تورد الإبل يا قادة البشر!!!
#سعيد_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟