|
آلية السرنمة بدل الإيقاظ
ماجد ع محمد
الحوار المتمدن-العدد: 7379 - 2022 / 9 / 22 - 02:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"اتبع ما يقول لك قلبك ولكن خذ عقلك معك" قد يتصور البعضُ منا بأن تتبع العثرات والتلويح بها على الدوام فضيلة، وأن اقتفاء أثر السقطات من غير الاهتمام بالحسنات مزيّة، وأن اكتشاف الزلات مفخرة تضاف إلى خصال صاحبها، وأن الإكثار من المآخذ على كل ما يصادف الشخص برهانٌ على أن ذلك المتنطِع فهيم ومن ممتلكي الصفات الدالة على المكانة العلمية المهمة: كالحصافة والفطنة والرزانة، وأن النقد المتواصل لأيَّ مشهدٍ يبصره أو أيَّ منتجٍ يصادفه هو دلالة على أنه ذا رؤية ثاقبة وشخص ذكي يلتقط الأشياء كالخطاف بلمح البصر، وقادر على أن يميز بنظرةٍ واحدة بين السيئ والرديء، بينما وفق دراسات كل من الغباء العاطفي والذكاء العاطفي، نستشف بأن المنتقد الدائم في الصعود والطلوع كبندول الساعة يكون مقامه وموضعه في أوّل بند من علامات الغباء العاطفي وليس العكس وكما يرى صاحبه ذاته. وإذا ما عرفنا بأن صفات الشخص الذي يمتلك الذكاء العاطفي وفق موقع "لورنينغ مايند" الأميركي هي: القدرة على فهم وتحديد العواطف، القدرة على فهم مشاعر الآخرين، وجعل المحيطين به يشعرون بالسعادة، والقدرة على إدارة الأفكار، وفي الأخير تقدير كل ما هو جيد؛ فما هو الغباء العاطفي إذاً ليعرف المرء إلى أي جهةٍ يميل في تصرفاته؟ فوفق المهتمين بدراسات سلوكيات الأغبياء عاطفياً، هو: عدم القدرة على التحكم في الانفعالات، فالموصوف بالغبي عاطفياً ها هنا هو ليس الذي يتبع مشاعره الصادقة التي تنبع من القلب مباشرة كالنبع الزلال الذي لم يخالطه شيء من أدران المجتمع، إنما ذلك التابع الذي حُقن لبه بأحمال الأيديولوجيا ممن فقد أناهُ وصفاء قلبه، وغدا كائن معبأ بديناميت الآخرين، ومساق من قِبل مشاعرٍ تتغذى من مصل الأدلجة، فيمضي كما يُطلب منه دون القدرة على إعمال العقل والمنطق، وهو: ما يسبب له الكثير من المشاكل مع محيطه الأسري الضيق أو الاجتماعي ككل، ومن علامات الغباء العاطفي: النقد المستمر، التهكم والسخرية من الطرف الآخر أمام الناس، التنافس على السلبية، عدم الإصغاء، عدم التعلم من الأخطاء، عدم التحكم في الانفعالات، رد الإساءة بإساءة، بذاءة اللسان، النسف، عدم التسامح، الأنانية المفرطة أو الإيثار المفرط وأخيراً عدم الاعتراف بالخطأ. وبما أننا وفق الدراسات العلمية أدركنا بأن ليس كل شخص فطن في اختصاصه، ذكي في مجاله العلمي، حذق في صنعته، متوقد الذكاء في حرفته، بارع في مهنته، وماهر في وظيفته هو من ممتلكي خصلة الذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي، ولكن مع ذلك قد يخطر على بال أحدهم السؤال التالي ألا هو: يا ترى هل ثمة علاقة مباشرة للغباء العاطفي لدى الفرد الواحد بنشاطات وميكانيزمات عمل الحركات السياسية أو الدينية؟ ليكون الجواب عندئذٍ بأن العلاقة كامنةً في منهجية اعتماد تلك الحركات على جمهورٍ لا يتمتع بالذكاء العاطفي، بل إن تلك التنظيمات مخزونها الرئيسي من الذين يتسمون بالغباء العاطفي، ولأنهم كذلك فيسهل تجريفهم أو دفعهم في الاتجاه المطلوب، بما أن آخر آلية لديهم في محاكمة الأشياء والحوادث والمعضلات الحياتية التي تصادفهم هي آلية العقل والمنطق، بما أنهم يتكلون كلياً على العاطفة وأوامرها وينصتون إلى ما يصدر عن قادتهم من إشارات، ومن ثم يُنفذون ما يصدر عن هوى القيادي أو هواهم الشخصي من قرارات. وصحيح أن المجتمعات التي يسود فيها الجهل والتخلف بحاجة ماسة إلى مرشدين وأدلاء وظيفتهم إشعال فتيل النور لإضاءة العقول المظلمة، وتمهيد الطريق أمام مَن لا قدرة له على المضي قدماً بدون الذي يشق الدرب أمامه؛ ولكن مصيبة ذلك المجتمع هو أن يكون الدليل مستسيغ حالة الجهل والعتمة العقلية في مجتمعه، لذا فبدلاً من أن يحثهم على التفكير بمشاكلهم على ضوء الحقيقة والواقع، يعمل على تخديرهم من خلال كلامه الذي يعمل على سرنمتهم بدلاً من إيقاظهم، ومن هؤلاء الخطرين على المجتمع مَن تسنموا مواقع المتكلمين وتسلموا فوقها مواقع القيادة، مَن لهم القدرة على الجمع والتحشيد والتفريق في آنٍ واحد بفضل ملكة الخطابة، يقابله الخضوع الكلي مِن قِبل جمعٍ بشريٍّ ما في مكانٍ ما لكلام الخطيب المفوّه الذي تبوأ مقام الإرشاد والقيادة حتى وإن كان صاحبها مصدراً رئيسياً للكذب والنفاق والخداع، وفق ما يشير إليه الشاعر الراحل محمود درويش في (أثر الفراشة) أي أن الخطابة: "هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب"، وحيث يضيف درويش بأن "في الخطابة يكون الصدق هو زلة لسان". إذ أن الخطيب المحتال الذي يود تلهيب الجماهير أو تحريكها بالاتجاه الذي يريد، يزرع فيهم آراء تناسبه أو تناسب مَن يتكلم عنهم أو باسمهم ذلك الخطيب، ويعمل جاهداً على مخاطبة العواطف فقط، بل وقد يثير غرائزهم ويحرضهم على العنف والعدوان إبان الصراعات، وقليلاً ما يعطي للعقل أهمية، وغالباً لا يعطي الجمهور الملتهب مساحة من التفكير ليراجع ما يُقال له، أو ليقارن المقول بالواقع أو بغيره مما يُقال ويسمع، فهو يحصرهم في مضائق التحشيد والتجييش لأن الناس إذا اجتمعوا لسببٍ ما كان قد استفز حماسهم فقدوا فضيلة التفكير حينها، ونسوا من الجيشان مع الجمعِ الغفيرِ نعمة تفحص الأشياء في الذهن ومراجعتها، عندئذٍ أي بعد بلوغ الرعية مرحلة الانسياق التام: "ينزلون من سماء العقل والمنطق إلى حضيض العواطف والشعور فتحركهم اللفظة المبهرجة وتستفزهم المعاني التافهة المنمقة" وفق تعبير الكاتب المصري الراحل سلامة موسى. من باب التذكير في ختام المقالة فقد عملتُ بخلاف العادة على عدم ذكر اسم أي حزب أو تنظيم فالح في الاعتماد على آلية الغباء العاطفي مع أنصاره ومريديه، مع أن القائمة القصيرة التي خطرت ببالي أوان كتابة المقالة تضم على أقل تقدير سبع تنظيمات سياسية صرفة أو تنظيمات سيادينية، وتركتُ مسألة ملئ الفراغات طوع بنان ومخيال قارئ هذه المادة، لتصوري بأنني إذا ما دفعتُ القارئ إلى استحضار أسماء التنظيمات التي خطرت بباله ويراها تعتمد على آليات الجهل والتخلف والتبعية القطيعية العمياء أكون قد توفقت في إبلاغ الرسالة، ويكون القارئ أيضاً قد خرج بما يفيده ولم يُغادر المادة التي بين يديه وهو خالي الوفاض.
#ماجد_ع_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماتت دون رؤية بيتها واسم ابنها في غينيس
-
من فضاءات الحرية إلى المأوى
-
نموذج من بيدر المغالطات في وسائل التواصل
-
من محتوى الهرم إلى إطار القدم
-
الحشد البشري وجيراننا الزواحف
-
العبث بالأمن غاية العدوِ والحاسِد
-
الفاسد بين المحاربة والحماية
-
تقارير السجن الكبير
-
كل سني إخواني وكل كردي PKK
-
مخططات البُلهاء
-
باقة من قصائد الشاعر روخاش زيفار
-
النظام في المحرَّر
-
مَنَاقِص القُفة في سورية
-
سورية وسطوة الهَمَج
-
انتصار الحبّ في -أرواح تحت الصفر-
-
الدكتور محمود والسيّد كلسي
-
طلابُ سلطة أم طلابُ حرية؟
-
التخلص من الرَّهط إنقاذاً للجماعة
-
ضريبة التعبير عن الرأي
-
زبانية المحرَّر حرقوا نسخة من القرآن بخط اليد عمرها 130 سنة
المزيد.....
-
التحقيق بسبب اندلاع حرائق لوس أنجلوس.. مسؤول يكشف لـCNN ما ي
...
-
تحدته أمام الجميع وأحرجته.. مرشح ترامب لمنصب وزير الدفاع يفش
...
-
مهرجان فيفشاني الشتوي في مقدونيا الشمالية: احتفال بتقاليد عم
...
-
أستراليا تطالب روسيا بتوضيح حول مصير أسترالي أسر في أوكرانيا
...
-
-انتزعوا كل شيء حتى الغسالة-.. تفاصيل فضيحة أسقطت حكومة بكام
...
-
الأردن.. توقيف شخصين وتوجيه الاتهام إلى 5 آخرين في حادثة -حر
...
-
عراقجي حول مفاوضات النووي: نشعر بجدية الجانب الآخر
-
بري عن استشارات تشكيل الحكومة: الأمور ليست سلبية للغاية
-
صحيفة: -الناتو- يؤسس بنية تحتية في البلطيق استعدادا لحرب مع
...
-
مرشح ترامب للخارجية: الصين غشت لتصبح قوة عظمى
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|