|
المعارضة الشعرية بين أحمد رفيق مهدي وأحمد شوقي
محمد جبرين صالح
الحوار المتمدن-العدد: 7375 - 2022 / 9 / 18 - 22:57
المحور:
الادب والفن
. المعارضة الشعرية بين أحمد رفيق مهدي وأحمد شوقي يعتبر احمد رفيق المهدوي أحد شعراء العرب الذين ساهموا في النهضة العربية الحديثة، بفضل غزارة إنتاجه وتنوع موضوعاته وميوله نحو التجديد في القصيدة العربية، وهو أحد الشعراء الذين اختاروا طريق المباراة والمحاذاة والمجاراة للشعراء الأقدمين، حيث نسجوا على منوالهم ،قصائد تشبه قصائدهم وهو ما عرف في اصطلاح النقد العربي ( بالمعارضة الشعرية ) . وقد كانت للمعارضات الشعرية إسهاما كبيرا في النهضة الأدبية الحديثة وان كانت على الأسإلىب الشعرية القديمة حيث رجع الشعراء المعاصرون إلى عصور الأدب العربي الذهبية واستقوا منها موضوعاتهم محاولة منهم للاستفادة مما حققه أسلافهم من شهرة ومكانة اجتماعية . وقد وقع اختيار الشاعر رفيق لقصيدة أمير الشعراء احمد شوقي في وصف الربيع ونسج على منوالها وفصية شوقي هذه ممزوجة بشيء من التاريخ ، ألفاظها عذبة ، وفي سردها نغمة محبوبة ، والمناظر موصوفة وصفا للربيع ، فلا التباس بينها وبين مناظر الصيف والشتاء وتشبيهاتها مألوفة ـ لا تجد فيها أي تكلف . بينما قصيدة رفيق إلى جانب محاكاتها لقصيدة شوقي في النسج ، مليئة بالصور الباهتة والبديعيات المكلفة . وتظل للمعارضات الشعرية فوائدها في مجال الأدب العربي الواسع حيث أنها ساهمت في تطور هذا الأدب على مر العصور وفي جميع نواحيه ، فعندما يعجب شاعر متأخرا بقصيدة شعرية في غرض من الأغراض و في مناسبة من المناسبات فانه يعيد إلى الأذهان المناسبة التي قيلت فيها القصيدة الأولى ، ويحاول جاهدا تجديد ذكراها بما يصوغ من كلمات وعبارات فبذلك يعكس صورة مشرقة للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لتلك الفترة ، كما يبعث على الأمل والحيوية ، ويجدد المفردات اللغوية والأدبية ، لاسيما عندما ضمن الشاعر المعارض شيئاً من تعبيرات أو كلمات الشاعر السابق ، فبذلك يشد الحاضر والماضي ويربط اللغة بعضها ببعض ، وهذا ما فعله رفيق ، حيث تضمنت قصيدته هذه حوإلى اثنين وعشرين كلمة مشتركة، و سوف أتناول هذا الموضوع من خلال النقاط التإلىة : أولاً : مفهوم المعارضة في الشعر العربي وتطورها ثانياً : معارضة رفيق لشوقي في وصف الربيع ثالثاً : الصور البيانية للقصيدتين . الخلاصة -:أولاً : مفهوم المعارضة في الشعر العربي اعتاد النقاد ودارسوا ألدب في العصر الحديث على ربط كلمة المعارضة بفن الشعر حتى شاع مصطلح المعارضة والتصق بالشعر فيقال (معارضة شعرية) وأصبح يشير إلى فن قائم بذاته انتشر في فترات مختلفة في العصور ألأدبية وكان مجالًا للتنافس بين الشعراء لإظهار قدراتهم الإبداعية في محاكاة بعض القصائد المشهورة التي انتشرت بين الناس . بسبب جودتها وتميزها . لكن النقاد والأدباء القدامى استعملوا الكلمة في مجال الشعر والنثر على حدٍ سواء قبل أن تكتسب معناها كمصطلح شعري معروف ويرجع السبب في ذلك إلى تعدد مفهوم المعارضة في اللغة، و المتتبع لهذه المفاهيم يجد اتفاقاً في بعضها، كما يجد تبايناً .واضحاً في معانيها . فعلماء اللغة يقولون عارض الشيء بالشيء معارضة أي قابله . وعارضت كتابي بكتابه ، أي قابلته . وفلان يعارضني ، أي يباريني1 )ابن منظور: لسان ألعرب،ج 9 ، :مادة عرض وفي الحديث الشريف : ( إن جبريل عليه السلم كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة، وانه يعارض العام مرتين ، قال ابن الأثير أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن 2( : عبدالله محمد بن إسماعيل صحيح البخاري،ج ،2007 3،ص) 227 والعروض يعني المكان الذي يعارضك إذا سرت ، لذا يقال :هذه المسألة عروضي هذه ، أي نظيرتها3( المنجد في اللغة والإعلام ،ص) 498مادة عرض: ( وأعراض الكلام معارضة ومعارضيه كلام يشبه بعضه بعضاً: في المعاني كالرجل نسأله : هل رأيت فلانا ؟ فيكره أن يكذب وقد رأه ، فيقول إن فلاناً: ليرى وبهذا المعني قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : ما أحب بمعارض الكلام حمر النعم وعارضته في الرأي إذا خالفته وناقضته ، ومنها جانبته وعدلت عنه ، وقريب عن هذا قولنا عارضته بمثل صنيعة ، أي فعلت مثل فعله واتيت إلىه بمثل ما أتي به ويتضح من هذه الدلالة الأخيرة معاني ألمحاكاة والتقليد لشيء سابق إذاً فالمعارضة بوجه عام قد تكون أثراً أدبيا أو فنياً أو موسيقياً يحاكي فيه صاحبه أسلوب أثر سابق . مما سبق نستخلص أن المعني ّاللغوي للكلمة يدل على1المباراة والمحاذاة والمجاراة للشيء بشيء يشبهه لعلاقة بينهما، وهذا كله مرتبط إلى حد كبير بالمعني الاصطلاحي الذي سيأتي تناوله. أما المعني الاصطلاحي للكلمة و هو الذي أركّز عليه في هذه الدراسة ٌفهو يعني : (أن يقول شاعر متأخر عن شاعر متقدم في الزمان قصيدة مشابهة لقصيدته في الغرض والموضوع مع الالتزام بالوزن والقافية وحركة حروف الروي ، وعندها تكون المعارضة تامة وإنما يكون ذلك نتيجة إعجاب الشاعر المتأخر بتلك القصيدة ولا فرق في ذلك أن يكون الزمان قصيراً بين . الشاعرين و قد لا يتعدي لحظات . وقد أشار إلى ذلك الدكتور محمود رزق بقوله : ( والمعارضة أن ينظم للشاعر قصيدة على نمط قصيدة لشاعر آخر ، يتفق معه في بحرها و وزنها وموضوعها سواءً أكان الشاعران معاصرين أم غير معاصرين. (محمد قاسم نوفل تاريخ المعارضة في الأدب العربي ، ص 13) واستناداً لهذا القول فإن المعارضة من هذا النوع تكون تامة و وافية و قد يكون في الموضوع اختلاف وانحراف بسيط أو كثير بين القصيدتين ، مع اختلاف الغرض أيضاً ، وهذا أيضا نوع من المعارضة كذلك ولكنها معارضة ناقصة ، وموضوع النقص أن تكون من اختلاف الأغراض أو اختلاف حركة حرف الروي . ولم تكن المعارضة الشعرية وليدة فترة زمنية متأخرة ، كما لم تكن وقفا علي عصر دون غيره فمن الثابت تماما أن لها جذوراً . تمتد إلى العصر الجاهلي ، فإذا ما نظرنا إلى حادثة الاحتكام إلى أم جندب زوج امرئ القيس والتي كانت بين زوجها وعلقمة الفحل فإننا نلمس بُعْد هذا الفن وعمقه في الأدب العربي وفي الشعر بالذات . وقد روى هذه الحكاية ابن قتيبة وهي تفيد أنه لما تحاكم امرؤ القيس وعلقمة إلى أم جندب في أيهما أشعر ، قالت لهما قولا شعراً: تصفان فيه فرسيكما على روي واحد وقافية واحدة ، فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها: خليلي مرا على أم جندب ** لنقضي حاجات الفؤاد المعذب إلى أن وصل إلى قوله: فللسوط ألهوب وللساق درة *** وللزجر منه وقع أهوج متعب -: ثم انشد علقمة قصيدته التي افتتحها بقوله: ذهبت من الهجران في كل مذهب *** ولم يك حقا كل هنا التجنب إلى أن وصل إلى قوله: فأدركهن ثانياً من عنانه*** يمر كمر الريح المتحلب -: فقالت لامرئ القيس بعد أن سمعت منهما علقمة اشعر منك فقال : وكيف ذلك ؟ فقالت: ..... (القصة ( هذه الحادثة تفيد بأن المعارضة الشعرية كانت بعيدة الجذور مسايرة للشعر منذ أيامه الأولي، ونلمس المقومات الأساسية في شعر المعارضات ، وذلك من خلال ما قالته أم جندب لزوجها و لعلقمة، حين قالت لهما ) قولا شعراً تصفان فيه فرسيكما على روي واحد وقافية واحدة . (فنفهم من هذا وجوب وجود وحدة الموضوع والوزن والقافية وحركة الروي وبذلك تكون المعارضة صحيحة وتامة ومن خلال هذا الحكم النقدي الذي أصدرته أم جندب على القصيدتين نلاحظ أن حكمها كان مبيناً علي المعني فقط . ومثل هذا يمكن أن يكون كثيراً في مجال الشعر العربي على اختلاف عصوره وشعرائه ، ومن أمثلة ذلك ما يلي : ما جاء في معلقتي امرئ القيس وطرفة بن العبد ، فامرئ القيس يقول في معرض وقوفه على الطلال ومناجاة الحبة ، وفي البكاء على الآثار: وقوفاً بها صحبي ّعلي مطيهم *** يقولون لا تهلك ًأسى وتجمل1 ينظر ديوان امرؤ القيس: ونجد طرفة يقول بهذا المعني وفي الموقف نفسه وقوفاً ًبها صحبي على مطيهم *** يقولون لا تهلك أسى وتجلد 2) ينظر ديوان طرفة) فالمعارضة بهذا المعنى ظاهرة تماماً بين الشاعرين ، إلى درجة تكاد تكون الكلمات مكررة عندهما ، ولعجب في ذلك عند كثير من الشعراء والأدباء بصفة عامة لأنه بعيد عن السرقات الشعرية ، بل هو توارد خواطر اقتضاها مقام المعارضة . إذن فالمعارضة هي فن من فنون الشعر العربي القديم ، فلم يخل عصر من عصور الأدب العربي من هذا الفن ، ففيه يبدع الشعراء ، ويشدون ملكاتهم ، ثم يتعلق بها المتأخر ، ويحاكي من سبقه ويتابعه لكي ينال شرف النظم ، وأًحياناً يتفوق على المتقدم إن استطاع إلى ذلك سبيلا .( محمد سعيد بن حسين المعارضة في الشعر العربي ، ص 35( ثانيا : معارضة رفيق لشوقي في وصف الربيع قبل الحديث عن معارضة رفيق لشوقي في حائيته ينبغي أن نعطي تعريفاً موجزاً وفي سطور قلائل لكل من رفيق وشوقي فرفيق هو أحمد رفيق المهدوي المولود عام1898 م في الجبل. الغربي بليبيا، درس في المدراس الليبية ثم المصرية، وفي عام1920م التحق بالوظيفة العامة وشغل سكرتيراً ببلدية بنغازي و ذلك عام 1934م ، ثم عزل وهاجر إلى تركيا)1 (عبالله مليطان ، معجم الدباء والكتاب الليبيين المعاصرين ، طرابلس دار أصداء للطباعة والنشر والتوزيع ،: 1999 ج 1 , ص ثم عاد إلى ليبيا فطرده الايطإلىون نتيجة مواقفه الوطنية فاضطر للعودة إلى تركيا َواستقر بها ، ثم عاد إلى وطنه عام 1946م، وقد تفجرت ملكته أو موهبته الشعرية وهو في سن العشرين ، وقد أكثر من الشعر الوطني ، وعندما عاد عودته الخيرة إلى وطنه ، كان عمره ثمانية وأربعين عاما ، أي انه قضي الجزء الثري من حياته خارج الوطن ، الجزء الذي كان يجب أن تحمل ذكريات الوطن الساذجة منها والجادة ، الجزء الذي كان يجب أن يحمل الثراء العاطفي ، الجزء الذي كان يجب أن يحمل الخلفية التراثية عن العادات والتقإلىد وشكل المعيشة ، الجزء الذي كان يحمل المحك الخطير عن حياة المجتمع الليبي داخل وطنه في تلك المرحلة العصيبة من التاريخ ، ورغم أن رفيق لم ينغمس في هذا كله ، إلا أن الوطن كان الهاجس وكان ُالمنى ، وكان القيمة العظمى في نفسه ، فلا غرو إذا سميتها الوطنية المفرطة، بالرغم من أن رفيق لم يطله ما طال المواطن العادي من قهر وتعسف وإظلم بفعل الطليان (خليفة محمد التليسي رفيق شاعر الوطن ص 35) أما شوقي فهو أحمد بن علي بن أحمد شوقي عاش في الفترة ما بين)1868م – 1932 ( م فقد ولد بالقاهرة وتعلم فيها ، ودرس الحقوق بفرنسا وما لبث أن رحل إلى انجلترا واسبانيا. وله ديوان شعر يسمي بالشوقيات وعدة مسرحيات ، ويعتبر من أشهر شعراء العصر الحديث ، وقد لقب بأمير الشعراء) ( وقد نشأ في ظل بيت الملك بمصر ، وعالج أكثر فنون الشعر مديحاً وغزلاً ووصفاً ، ثم ارتفع محلقاً فتناول ألإحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم السلمي وهو أول من أوجد القصص الشعري في الشعر العربي وقد تأثر بالبيئة الاجتماعية والسياسية آنذاك ، وخصوصا الصراع حول مصر بين تركية والانجليز ، وكانت أكثر تأثيراً فيه لقربها من المسرح الذي تشتبك فيه أصول هذه العوامل وأسبابها ، وتضطرب فيه اضطرابا يخيفه ما تقتض ي به حياة القصور ، ثم تصدر الحياة بعد أن تكون قد نظمت وهذبت ، وشوقي خلق شاعراً ، والشاعر يتأثر أضعاف ما يتأثر سائر الناس لذلك كان لكل هذه العوامل اثر بادِ في شعره وفي حياته)1 ( الشوقيات القاهرة مكتبة مصر) : : 1993, ص 5) ومع أن شوقي في مصر ثم أتم دراسته في أوربا ، وتأثر بالوسط الروبي و بالحياة الأوربية والشعر الأوربي تأثراً كبيراً، فقد ظل تأثره بالبيئة المصرية ظاهراً في حياته وفي شعره ، كما ظل تأثره بالبيئة الأوربية ظاهراً فيها كذلك والقصيدتان اللتان نحن بصدد تبيان أوجه المعارضة بينهما كلهما في وصف الربيع فرفيق يقول في مطلع قصيدته : جاء الربيع فقم بنا يا صاح ** نلق الزمان يمر بالأفراح في موكب لبس الزمان شبابه ** واحتال منه بميعة ومراح غرس زحت فيه الطبيعة فاكتست *** حلل النبات البارض الفواح ( ديوان رفيق شاعر الوطن ، ص 161) -: أما شوقي فقد استهل قصيدته بقوله : آذار اقبل قم بنا يا صاح *** حي الربيع حديقة الارواح واجمع ندامى الظرف تحت لوائه *** وانشر بساحته بساط الراح صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها *** فالصفو ليس على المدى بمتاح الشوقيات ، ص 22 . فرفيق يدعو صاحبه لان يشارك الناس فرحتهم بقدوم الربيع ،و يرى أن الطبيعة قد تحوّلت إلى شباب بقدوم فصل الربيع في إشارة إلى تفتح الزهور ، واخضرار الأشجار والراحة النفسية للناس بفضل النسيم وهنا صورة خيإلىة خادعة ، حيث استنارت الطبيعة وأصبحت زاهية وجميلة كالفردوس ، فقد اكتست باللون الاخضر بفضل النبات التي نبتت من الأرض لأول مرة و رائحة الزهور العطرة الفوّاحة فقد جعل الطبيعة كالح الحسان بعد أن كساها بلونه الأخضر ، فأصبحت كالعروس ليلة زفافها ، ومع ذلك يذكرنا . الشاعر ّبأن هذا المنظر وهذا الجو ليسُ متاحاً كل يوم . أما شوقي فيستهلها بقدوم شهر آذار مارس وهو الشعر الثالث حسب التقويم الإغريقي ، هو شهر قدوم فصل الربيع ويدعو صاحبه للاستعداد لتحية هذا الفصل الجميل ، فأقبل هذا الشهر المحبب للنفوس بما يبثه فيها من فرحة وسرور، كما يطالب صاحبه بأن يدعو النّدماء حوله وان ينشر بساحته بساط الراح ، ويطلب منه كذلك أن يأخذ نصيبه من هذه الطبيعة الخلابة بالشرب والمرح ، لان هذا المنظر ليس ٌمتاح دائماً و بالعودة إلى رفيق ففي بعض أبياته يقول مخاطبا صديقه أيامه حول حسان أقبلت *** تهدي عروس الراح للأرواح فانهض لها ودع الخمول وهاتها *** صهباء تحكي نكهة التفاح مثلوجة جاءت تفور كأنها *** لهب أديب ففاض في الأقداح جاشت بنشوتها كذلك فعلها *** في النفس حين تجيش بالأفراح خفت فكادت أن تطير بكأسها *** وكذا الجسوم تخف بالأرواح )1. ( ديوان رفيق شاعر الوطن ، ص 161) فبأسلوب المر الذي يخرج عن غرضه إلى الالتماس يطالب صديقه أن يترك الكسل ويأتي بالخمر البيضاء الذي يخالط بياضها الحمرة ، المصنوعة من التفاح ، أو التي تنبعث منها رائحة التفاح ، يقول مخاطبا صديقه آتنا الخمر التي تتحقق فيها هذه المواصفات ، وهي تتحرك في إنائها ،كأنها قطعة حديد وضعت في لهيب فذابت فتحولت إلى ماء ، ففاض هذا الماء في الأقداح التي جلبوها لهذا الغرض ، ثم يقول من شرب من هذا القدح ينتابه شعور بالنشوة والخفة ، ويصبح فرحا مسروراً، ثم يصف هذا الخمر، وينعتها بالخفة ، فمن شدة خفتها تكاد ُتطير من الإناء الذي وضعت فيه ، وأي إنسان شرب منها يصير خفيفا مثلها فقد شبه الشاعر هنا خفة الخمر وهي في الكأس باردة ، بخفة جسم شاربها ، فيكون مرحا مسروراً، وتختفي لديه كل مظاهر الحزن . وبألم نوال نفسه ينسج شوقي وصف الخمر مخاطبا صاحبه واجل بضاحكة الرياض مصفقا *** لتجاوب الأوتار والأقداح وأستأنس من السقاة برفقة *** غر ، كأمثال النجوم صباح رقت كندمان الملوك خلالهم*** وتجملوا بمروءة وسماح : الشوقيات مصدر سابق ، ج 2, ص 22) يطلب الشاعر من صديقه بأن يختار لنفسه مكاناً خاصاً من الروضة ، ويصفق فرحاً، بعد أن يمتزج الغناء مع الشراب ، وبالتإلى تطمئن النفس وتذهب وحشتها بوجود السقاة الذين يوزعون الشراب ، ويملئون كل كأس احتسي صاحبها ما بها من شراب ، ثم يصف حالة هؤلاء السقاة أن وجوههم مشرقة ، مع جمال المنظر وخلالهم رقيقة كندمان الملوك يتعاملون بلطف . مع كل نديم ، ويمتازون كذلك بالمروءة والسماحة،. ويضيف شوقي ناصحا صديقة وواصفا الخمر وشاربها بقوله واجعل صبوحك في البكور سليلة *** للمنجبين الكرم والتفاح مهما فضضت دنانها فاستضحكت *** ملئ المكان سنىي وطيب نقاح تطفي ، فان ذكرت كريم أصولها *** خلعت على النشوان حلية صاحي1( الشوقيات ج 3 ,ص 22)
فالخمر البكر وشربها في الصباح الباكر هي أغلى أماني الندماء، لذلك ينصح الشاعر صديقه بالاحتفاظ او الاستمرار على هذه العادة ، وان يختار النوع المصنوع من الكرم والتفاح لحلوة مذاق الخمر المصنوع منهما ، فعندما توضع في الإناء وهي تتحرك داخله تخالها شخصا مبتسما ويشع وجهه نور ، فيملأ المكان ضياءا وتنتشر رائحته الطيبة فتغطي المكان ، فإذا ذكرت كريم أصولها خلعت على الشاربة في أول الأمر حيلة صاحي ،( أي تجعل من النائم صاحيا) : أما رفيق فيقول في الخمر وشاربها روح السرور اذا سرت نفحاتها *** في الروح زالت غسة الأتراح لا ذهب بل الحلب الذي *** في يوم عرس من حدود ملاح إني على الإفلاس لا اختار عن*** خد المليح وثغرة الوضاح فاشرب على وجه الربيع فقد رنا *** متبسما عن رجس وأقاح والورد ينشر في الصباح ورائحا *** صاحت توجد فالق الصباح1( ) ديوان رفيق شاعر الوطن ، ص 161 فهو يرى أن شرب الخمر يدخل في نفس شاربها السرور، وتنسيه كل شيء يعكر صفو حياته واحتفاله بالربيع ، وفي صورة بلاغية رائعة ينصح الشاعر صاحبه بان يشربها في الصباح حين تتفتح الزهور وتفوح منها الرواح الطيبة التي تتفتح في الصباح . وكأنها تصبح خالقها . أما شوقي فيقول في وصف شاربها فرعون خبأها ليوم فتوحه *** واحد منها قربه لفتاح ما بين شاد في المجالس أيكه *** ومحجبات الأيك في الأدواح غرد على أوتاره يوحي إني *** غرد على أغصانه صداح بيض القلانس في سواد جلابيب *** حلين بالأطواق والوضاح رتلن أوراقهن ملا حناً*** كالراهبات صبيحة الإصباح يخطرن بين أرائك ومنابر **** في هيكل من سندس فياح1( ) ديوان رفيق شعر الوطن ، ص 162 وبأسلوب أدبي مستمد من التاريخ يقول شوقي أن فرعون مصر حيا الخمر لأيام فتوحه ، وجهز منها قربة ليقدمها لأحد . الإلهة في مصر القديمة : ويضيف أننا نجد في مكان الشراب ، المغني الذي اتخذ من ظل الأشجار الملتفة مجلسا له ، كما نجد محجبات الأيك ، وهي نوع من الطيور سوداء اللون، نجدها في الأشجار الكثيفة الملتفة ، ذات الفروع المتشابكة الممتدة ، يسمع في هذا المكان الصوت المرتفع بالغناء والتغريد والطرب من المغنيين ، وهناك أصوات أخرى ترتفع بالغناء والطرب صادرة عن أغصان الأشجار ، انه صوت الطيور وهي تغرد طربا وفرحا بقدوم فصل الربيع ، ثم يصف هذه الطيور بان رأسها مغطي ، ويختلف أنواع الغطاء وإشكاله ، فمنه الأبيض ، ومنه غير ذلك ، والجلابيب سوداء ، محلاة بالطوق والوضاح ، تصدر منها تراتيلا وملاحناً، وهي بين الشجار والأوراق تخال للناظر إلىها من بعيد كأنها راهبات يستعدن للصلاة في الكنيسة في عيد الفسح ، يتجولن بين الأشجار الملتفة الكثيفة ، وبين منابر الصلاة في هيكل من رقيق الديباج ذو رائحة طيبة في إشارة الى ألوان الطيور المغردة ذات ألوان الأسود والرأس الأبيض -: أما رفيق فيقول الفل فتح في المساء ثقوره *** تبلو بديع لطائف الفتاح وكأن إزهار المروج تناهبت *** قوس القمام كحلية ووشاح جمعت من الألوان حين تفرقت *** من كل غصن أزهر لماح وعلى ألتلال مطارف من سندس *** خضر ترف على النهار الضاحي. ( ديوان رفيق شاعر الوطن ، ص 162) يرى رفيق أن الفل عندما يتفتح في المساء ، والورد عندما يبتسم في الصباح ، يظهر لنا قدرة الله وبديع صنعه في خلقة -: ثالثاً : الصور البيانية والموسيقى في القصيدتين استعان شوقي بالصور البيانية كالتشبيهات والاستعارات والكنايات ليضفي على قصيدته طعماً ّخاصاً وجمالا و قد تبعه في ذلك المهدوي ، ونلمس ذلك من خلال قول رفيق : في موكب لبس الزمان شبابه *** واختال منه بميعة ومراح حيث شبه (الزمان ) بالإنسان فحذف الثاني و هو الإنسان و أتى بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية ، وفي قوله : مايلت أفنانها فكأنها *** طربت لشدو البلبل الصداح تشبيه ، حيث شبه تمايل الأفنان عندما تحركها الرياح بالإنسان الذي يرقص عندما يسمع صوت الموسيقى فالأغصان تتمايل و تتحرك و كأنها ترقص على أنغام صوت البلبل تماماً كالإنسان الذي يتمايل و يطرب على وقع صوت الموسيقى وهو على . سبيل التشبيه التمثيلي . أما الموسيقى الخارجية في القصيدتين فهي من البحر الكامل متفاعلن متفاعلن متفاعلن*** متفاعلن متفاعلن متفاعلن وقد دخلت عليها بعض الزحافات كالإضمار والكف أما الموسيقى الداخلية التي تتحقق نتيجة التناغم الحاصل بين الوحدات اللغوية ، متجاوزة المفردات العروضية إلى تشكيلة : صوتية ، فقد استعان لها الشاعران ومنها : نجد عند رفيق الطباق في قوله ما بين شاد في المجالس أيكه *** ومحجبات الأيك في الأرواح والجناس التام في قوله غرد على أوتاره يوحي إلى *** غرد على أغصانه الوضاح والازدواج في قوله صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها *** فالصفو ليس على المدى بمتاح وكذلك نجد هذه الموسيقى عند شوقي ، فنجد الطباق في قوله : هتك الردى من حسنه وبهائه *** بالليل ما نسجت يد الإصباح وفي قوله : . ينبيك مصرعه وكل زائل *** ان الحياة كغدوة ورواح إذن الوزن والقافية ليسا هما الإيقاع كله ، ( بل وراءه إيقاع ينبع من اختيار الشاعر للكلمات والحروف تكون علي صلة بالتجربة الذاتية ، حتى تكون هناك تشكيلات جرسية تترجم المعنى الشعري في أدق دفقاته وانفعالاته ، فالمعني في القصيدة إنما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر مما يثير بناء الكلمات كمعان ، و على هذا الأساس يكون بمقدور الشاعر أن يُوَّحد بين مشاعره وبين البناء الإيقاعي توحداً مطلقا إيحاء قبل أن يكون تعبيراً 1. : رشيد الخضيري المعنى الشعري ، الشارقة وزارة التربية والثقافة والإعلام ، سبتمبر 2016، ص:75 . الخلاصة : مما سبق نستنتج ما يلي : إن فائدة المعارضة تتمثل في إظهار البراعة والقدرة على تناول الموضوع من حيث الصياغة الفنية والموسيقى والحقيقة انه وبالرغم من أن قصيدة شوقي في وصف الربيع هي ذاتها قد نسجت علي غرار ما نسج الأقدمون في تناول الموضوع الطبيعة ، وفي توضيح مشاهدها ومعالمها عبر الصور البيانية ، والمحسنات اللفظية والمعنوية إل أن موازنة قصيدة رفيق بقصيدة شوقي ذات أهمية خاصة في (( اكتشاف الملامح الأسلوبية بين الشاعرين ، إذ أنها تدل على تلمذة واضحة ،وخضوع لتأثير شوقي في هذه المرحلة من تكوينه الفني ، وتظل قصيدة شوقي في (وصف الربيع ) أكثر تنغيما وأعذب لحناً ، وأجمل سبكاًوبراءة في الأداء. ففي القصيدة من سمو الأداء اللفظي ، والانسياب الموسيقي ما تجدر الذهن ، ويملك النفس ، ويذهل الإنسان عن طريقتها التقليدية في الوصف و التصوير تلك هي آية شوقي الخالدة في تجويد الصناعة وأحكام النسج وما من شك في أن قصيدة رفيق لا ترتفع إلى هذا المستوى من المتانة وإشراق الديباجة وأحكام الصناعة وسلامة اللفظ وعذوبة الموسيقي1(خليفة محمد التليسي رفيق شاعر الوطن ، ص 160( ومع ذلك ستظل قصيدة رفيق في وصف الربيع لها مكانتها في الأدب العربي ، ففيها سرد اًو نغمة محبوبة ، وفيها من الوصاف التي تؤدي إلى المتعة الحسية والراحة الجسدية كما أنها استنطقت الطبيعة الناطقة ، وفيها من الصور البيانية والمحسنات البديعة التي ترتقي بها مصاف القصائد القيّمة .
المصادر والمراجع - أولا : المصادر - بن منظور لسان العرب ، ج ،مادة عارض المنجد في اللغة والعلم ، ص 98 : عبد الله محمد بن إسماعيل صحيح البخاري ، ج 3 ثانياً : المرجع - الشوقيات القاهرة ج 3 ، مكتبة مصر1993 - خليفة محمد التليسي رفيق شاعر الوطن ، ص 35 - رشيد الخديري المعنى الشعري ، الشارقة وزارة الثقافة والعلم ، سبتمبر 2016،ص 75 - عبد الله سالم المليطان معجم الأدباء والكتاب الليبيين - المعاصرين ، طرابلس دار أصداء للطباعة والنشر والتوزيع 1999 - محمد سعيد بن حسين المعارضة في الشعر العربي،ص 35 - محمود محمد قاسم نوفل تاريخ المعارضة في الدب العربي،ص 13 ديوان امرؤ القيس ديوان طرفة بن العبد
#محمد_جبرين_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأدب الأندلسي أبو البقاء الرندي أنموذجا
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|