|
إشرقات البعد الفني و تجليات الإبداع في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي “جرح.. هاجع خلف الشغاف”
محمد المحسن
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 7367 - 2022 / 9 / 10 - 22:33
المحور:
الادب والفن
· إشرقات البعد الفني و تجليات الإبداع في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي “جرح.. هاجع خلف الشغاف”
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن أهمية العمل الفني بعامة،والأدبي بخاصة تكمن في ما يحمله من مرجعيات وإحالات فكرية وثقافية وفلسفية،فالقصيدة العابرة للزمن هي التي تحمل إلى جانب بنيتها الجمالية همًا فكريًا،بعبارة ثانية:هي القصيدة المحملة بالثقافة المتماهية مع جماليتها،بحيث لا تتحول إلى تنظير خارج لُغة الشعر الرقيقة. وإن علاقة الشعر والفكر تبدو للوهلة الأُولى متناقضة،فالأول يتعامل مع الحدس أما الثاني فميدانه العقل،ولكن النظرة العميقة تأبى ذلك،فالشاعر الحقيقي هو مفكر أو فيلسوف بشكل ما، يُثير مشكلات الحياة الكُبرى كالموت والغيب،يتأمل الوجود وما وراءه،ويعيد صياغة أحداث التاريخ بإعطائها أبعادًا في الحياة المعاصرة،ومفهومي هذا تُجاه الشعر لا يقتصر على الشعر المعاصر أو العربي فحسب،بل يشمل الشعر في معظم آداب العالم ومنها الشعر العربي قديمًا وحديثًا. ويُعتبر الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي من أهم الشعراء المعاصرين الذين تتجلى في قصائدهم سمات الشعر العظيم،وهو شاعر استطاع في جل قصائدة التي اطلعت عليها أن بقول قول ما لا يمكن قوله في زمن يزدحم بالشعراء والمبدعين على إمتداد الوطن العربي الفسيح،ورغم كل ما احتوته (القصائد ) من رؤى فكرية ومرجعيات ثقافية تراثية حافظت على شاعريتها،أما الصور في قصائده فكانت على قدر عال من الفنية رُغم وضوحها إلى حد ما،فلم تكن موغلة في الرمز،وجاءت الموسيقى مناسبة للحالة العامة للقصيدة وفيها نوع من التمرد والجدة،فلم يقد دفة الإيقاع سوى الشعور. وإذن؟ اللغة إذا،هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين،غير أنها تتعدَّى وظيفتها الاجتماعية المحدودةَ هذه،فتشكِّل الأساس في عملية بناء القصيدة؛إذ تمثِّل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقِّي،فتؤدي بذلك وظيفةً أخرى،تتمثَّل في إيجاد روابطَ انفعالية بينهما،فتتَجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير،وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس،والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر،ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي. يختار الشاعر الألمعي د-طاهر مشي من اللغة وإيحاءاتها،ويولّد منها ما قدر على التوليد،لا ليأتي بمعانٍ يجهلها الناس تمامًا،ولكن ليصوّر الواقع كما يراه من زوايا متفردةٍ تدهش المتلقي وتجعله يعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي،وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ،إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني،فتُضيف إليها أبعادًا جديدة،وبذاك تتجدد وتحيا،وبغير ذلك تذبل وتموت،إذ نجد ألفاظها تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ.ومن هنا: تعد العملية الإبداعية في حقيقتها نفاذا إلى واقع متخيل،أين يستطيع الشاعر تحويل أخيلته إلى نوع جديد من الحقائق التي تكون انعكاسات قيِّمة لواقعه الذي يمثل مسرحا لتجربته الفنية،فتكون رؤية الشاعر لهذا الواقع مختلفة تماما عما يراه الناس،فهو لا يكتفي بحدود واقعه،بل ينفذ إلى عمقه متخطيا النظرة السطحية إلى نظرة مرتبطة بالكشف والتجاوز.. و”جرح..هاجع خلف الشغاف” هي صورة نقية عن الوطن وتعبير صادق عن طين الأرض ودلالة خلاقة عن حب البلاد،وصرخة مدوية في وجوه المتخاذلين ممن خانوا أوطانهم وباعوا ضمائرهم.. نعم هكذا رأيت الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي في هذه الأبيات صورة للرجل العربي الأصيل الذي يعشق وطنه وينتصر لرموزه،وحتى وأن أخفى هذا الحب في حضرة الواقع،إلا أن الشعر الذي دائما يمثل اللهب الذي يختزن الطاقة الداعية للتغيير كشف أمره،إنه ينظر إلى العروبة التي يختزلها وطننا العربي، نظرة لا تُنظر بالبصر بقدر ما تُدرك بالبصيرة،إنه الوطن الجميل والمفعم بكل معاني الجمال،وبأثمن عبارات الصدق،إنه الجمال الكوني كله. وإذن؟ الغضب إذا يا سادة،هو عود الثقاب الذي يوقد الثورة،الغضب -يا أعزائي-هو ما يدفع البشر الى أن يقولوا لا ،هو ما يبقيك حيا،هو ما يحافظ على حياتك،وهو ما يجعلك انساناً وان كان الغضب حقا لكل شعوب الأرض المقهورة المكبوتة فإنه في حالة الإنسان العربي يصبح واجبا لا يسقط الا بسقوط مسبباته. في هذه القصيدة (جرح..هاجع خلف الشغاف) يظهر لنا الشاعرالتونسي الكبير د-طاهر مشي كما لم بظهر لنا من قبل،ولأن الأحداث العظيمة تجبرنا على الابداع،فإن قريحة -شاعرنا الفذ-قد اجترحت أفضل ما يمكن لشاعر ان يكتبه،فكتب بحبر الروح..ودم القصيدة .. وأترك للقارئات الفضليات،والقراء الكرام أحقية التفاعل والتعليق.. “جرح..هاجع خلف الشغاف..” جرحي أنا والأوطان تنزف من دمي اليوم يبلونا الطغاة ونحتفي ويلي أنا من يغسل ثوبي قد دنسته المحبرة وتمزق جنح الظلام شرخ أصاب الذاكرة كيف سأخبرهم غدا أن أثوابي تلوثت وغدت على الأرض بساطا أحمر.. كيف سأخبر بلقيس عن هذه المهزلة..؟! وماذا أقول لفرعون الذي طغى وتجبر جرحي..ينزف.. من سيكفكف نزفه..؟ من سيصفف شعر البنية التائهة..؟ وماذا سأقول للغربان الناعقة كيف سأحتمي..؟! من النار وأثوابي ملقاة بساطا..يدوسه الطاغية حتى إسفلت الطرقات قد اختفى في رأسي شرخ ولا أدري من سيرمم الذاكرة!..” إن قارئ - جرح هاجع خلف الشغاف -يخرج بانطباع قوي مفاده السؤال الآتي : هل توقف الزمن لتظل القصيدة شامخة تحكي واقع الأمة العربية وتنادي بعودة الروح اليها ؟ . إن الشاعر يهتف بصوت عال ومستمر في الزمن،معبرا عن حالة نفسية موسومة بالصدق الوجداني والفني،وعن غيرة حقيقية ورؤية شمولية لم تقف عند حدود بلد الشاعر تونس، الأرض المفعَمَة بعطر الشعر،بل تجاوز حدودها ليعانق إبداعه الوطن العربي وهذا ما تجلى في جل قصائده،ولا أتردد لأقول إن د-طاهر مشي شاعر فذ ومقتدر وشاعر الأمة العربية بامتياز. ختاما أقول : إن قصيدة -جرح هاجع خلف الشغاف-،تمثل لحظة شعرية راقية داخل المسار الإبداعي للشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي،الشاعر الذي أجاد في مناحي شعرية كثيرة وأبان عن التفوق في رسم معالم الجمال والفن من خلال الحبك والنظم وتآلف الكلمات،ولعل ما يمكن استنتاجه هو اختيار الألفاظ بعناية كبيرة للدلالة على الحزم في أفق خدمة الموضوع فإذا كان هوس الشاعر وديدنه الدعوة الى عودة الروح إلى جسد الإنسان العربي بشكل خاص والأمة العربية ككل فإن الجانب التصويري قد أدى وظيفته بامتياز ووصلت صرخاته الممزوجة بالحسرة الى كل العرب في كل الأوطان. قبعتي..يا شاعرنا الفذ..
#محمد_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأستاذ التونسي القدير مبروك العابدي-عدل منفذ- نضيئ أعمالنا
...
-
قراءة نقدية-متعجلة-في قصيدة الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي
...
-
قراءة نقدية-متعجّلة- لقصيدة (نزرع الأشجار صباحا ) للشاعر الت
...
-
جماليات الإنزياح اللغوي في قصيدة الشاعر التونسي د.طاهر مشي -
...
-
..حتى لا تكون أشعارنا راشحة بالمرارة،طافحة بالحزن ومتخَمة با
...
-
اشراقات الإبداع..وتجليات المبنى الحكائي في القصة القصيرة جدا
...
-
عمق الألم..وصدق الإحساس في قصيدة -وَداعاً مُطفّرَ النّوّاب-
...
-
معالم الرؤيا الجمالية في قصيدة -دعيني أحبّك..بملء الفم والرو
...
-
الشاعر التونسي القدير كمال العرفاوي : - قصيدة النثر التّجديد
...
-
د-الطاهر مشي-الشاعر التونسي : - الشِّعرُ يحاولُ المرورَ بينَ
...
-
عين على الحقيقة : حين -يصرخ- تابوت شيرين في وجوه جنود الإحتل
...
-
حين ينتفض-الجرح الفلسطيني-على حالة الإستنفاع السياسي والإجتم
...
-
هل أن الآوان لتخليص الخطاب الإعلامي العربي من قيود الترهّل،و
...
-
اشراقات المشاعر الوطنية في قصيدة -تبّت يد الغدر-..للشاعرة ال
...
-
ها أنا شارد..في تفاصيل الغياب-..قصيدة مثيرة للتأمل بقلم الشا
...
-
قراءة قي قصيدة -شيرينُ..يمامة توارت خلف الغيوم..- للشاعر الت
...
-
حين يقيم الشاعر التونسي الفذ د-طاهر مشي على تخوم الردهة المض
...
-
البعد الفني والإبداعي في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر
...
-
قراءة في -تمظهرات-الدلالة داخل المتن الأدبي في قصة “رحلة نحو
...
-
تجليات الصور البيانية والأجراس الموسيقية..في قصيدة الشاعر ال
...
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|