|
حركة القضاة الأخيرة فى مصر - دراسة للبنية السياسية المصرية
شريف يونس
الحوار المتمدن-العدد: 1687 - 2006 / 9 / 28 - 10:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
القضاة والانتخابات
تسيس خطاب القضاة: الأبعاد والدلائل والجذور بصرف النظر عما ينتهى إليه الصراع الحالى حول قانون السلطة القضائية والقوانين الحاكمة للإشراف على الانتخابات، فإن القضاة قد نجحوا، للمرة الأولى منذ 1954 (مذبحة مجلس الدولة)، فى تحويل قضيتهم بشأن اكتمال استقلالهم إلى قضية سياسية عامة، بمناسبة سلسلة الانتخابات التى جرت فى 2005. غير أن البيئة السياسية التى يتحرك فيها القضاة، حركة يمكن أن نقول أنها فى التحليل الأخير نقابية (وفى نفس الوقت وثيقة الصلة ببنية النظام السياسى)، حكمت إلى حد كبير خطابهم بشأن هذه القضايا. طرح القضاة منذ عام 1986 (مؤتمر العدالة الأول الذى افتتحه رئيس الجمهورية) على الأقل المطلبين البارزين فى حركتهم الأخيرة: تعديل قانون السلطة القضائية وقوانين أخرى متصلة به؛ وتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، الذى يتناول إجراءات الاقتراع بين أشياء أخرى، والقوانين الأخرى ذات الصلة، بل وقضية إنهاء حالة الطوارئ. ولكن عام 2005 شهد انتقال الحوار حول هذه المطالب من أروقة النظام (مذكرات المرفوعة لرئيس الجمهورية أو غيره من المسئولين)، وكتابات القضاة فى كتبهم ومجلة "القضاة" الصادرة عن ناديهم، لتقتحم ساحة الرأى العام. وقد دلل القضاة بنجاح على أن استقلال القضاء منقوص، وأن هذا الانتقاص يؤثر أيضا على ممارستهم لعملهم فى الإشراف على الانتخابات، على خلاف ما ورد فى الدستور( ). وكان دستور 1971 قد أدخل إيكال الإشراف على الاقتراع إلى السلطة القضائية( ). وكان التطبيق العملى معظم الوقت يقتصر على انتداب بعض أعضاء الهيئات القضائية فى اللجان العامة، بعيدا عن عمليات التزوير المباشرة. فضلا عن أنهم مجموعة محدودة من القضاة يختارها وزير الداخلية، وبالتالى يكون عملهم فى واقع الأمر عنصرا شرفيا ضمن خطة أمنية بالأساس. كما اقتصرت مهمتهم عمليا على تسلم صناديق الاقتراع من اللجان الفرعية وفرز الأصوات وإعلان النتائج. منذ ذلك الحين انشغل كثير من قادة الجماعة القضائية ورجالها بمشكلة الانتخابات. فأثيرت فى مؤتمر العدالة الأول (والأخير حتى الآن)( )، قضية تنظيم الإشراف القضائى على الانتخابات، بأن يرأس القضاة كافة اللجان الانتخابية؛ ثم صدرت توصيات عن ندوة للقضاة فى يونيو 1990 تؤكد أن الإشراف القضائى بوضعه هذا إشراف صورى يترتب عليه "مساس بهيبة القضاء والثقة العامة فيه"، وأنه يجب وضع إجراءات الانتخابات بكاملها تحت إشراف واختصاص السلطة القضائية" بدءا بتقسيم الدوائر وتنظيم جداول الناخبين وحتى إعلان النتائج. وبناء على توصيات الندوة، أعد مجلس إدارة نادى القضاة، برئاسة المستشار يحيى الرفاعى، الرمز المعاصر لقضية استقلال القضاء( )، مذكرة موجهة إلى رئيس الجمهورية( ). غير أن هذه الجهود لم تلق أية استجابة عملية. وفى عام 1991 أحيل دفع بعدم الدستورية مبنى على طعن انتخابى إلى المحكمة الدستورية العليا، فأصدرت حكمها فى يوليو 2000 بعدم دستورية الفقرة التى تقضى بـ"جواز تعيين رؤساء اللجان الفرعية من غير أعضاء الهيئات القضائية"( ). قصر الحكم إشراف القضاة على عملية الاقتراع وحدها( )، ولكنه أتاح لهم الإشراف على كافة اللجان الفرعية والعامة فى انتخابات عام 2000، وهو ما دفع بالداخلية، المسيطرة على باقى جوانب إدارة الانتخابات، إلى محاصرة المقار الانتخابية، حيث قاتلت المواطنين "المشتبه" فى انتمائهم للمعارضة، ومنعتهم من الدخول. فتحول القضاة من دور الحكم فى القضايا السياسية إلى شهود عيان، فضلا عن كونهم أضيروا بأن أصبح عليهم إما التواطؤ أو المقاومة غير المجدية وضياع هيبتهم، وأصبحوا تحت بصر الرأى العام كطرف. ثم شهد عام 2005 تحولات فى المناخ السياسى تشجع على عرض مطالب القضاة على الرأى العام، حيث شهدت البلاد صعود خطاب ديمقراطى من جانب قوى سياسية وتكتلات اجتماعية عديدة، فى ظروف دولية مواتية. فظهرت جماعات كثيرة كامنة، كانت تدافع عن مطالب معينة (مثل حركة استقلال الجامعات، والمهندسين الديمقراطيين، وغيرهم)، على سطح الحياة السياسية. كما بدأت ممارسة منتظمة للتظاهر السياسى، شملت قوى يسارية وقومية، فضلا عن الإخوان، ترفع جميعا بدرجة أو بأخرى شعارات ديمقراطية. كل ذلك على خلفية اقتراب انتهاء مدة حكم رئيس الجمهورية والفصل التشريعى لمجلس الشعب فى وقتين متقاربين، وفى ظل إعلان رئيس الجمهورية عن تعديل المادة 76 من الدستور، فى خطاب ألقاه فى فبراير 2005، الأمر الذى ترتب عليه أن أصبح على البلاد أن تشهد استفتاء على تعديل المادة المذكورة وانتخابا لرئيس الجمهورية وانتخابات مجلس الشعب، فى غضون ستة أشهر. وبالتالى أصبحت مطالب القضاة محل اهتمام عام. وسوف تتناول هذه الورقة قضية مشاركة القضاء فى الانتخابات من زاوية خطاب القضاة المعلن دفاعا عن مطالبهم بشأنها. ومن خلال ذلك ستتبين حدود هذه المطالب، والقوى المناوئة لها.. والأهم هو تبين معالم البنية السياسية التى سمحت بظهور هذا الدور المميز للقضاء فى المجال العام.
أولا: العلاقة بين مطلبى استقلال القضاء وقضية نزاهة الانتخابات: ربط القضاة بشكل مباشر بين المطلبين منذ جمعية الإسكندرية الثانية فى 15 أبريل. وقد أثبتوا بطرق مختلفة كيف يلعب تحكم السلطة التنفيذية فى القضاء من بعض النواحى دورا أساسيا فى تزوير الانتخابات (أنظر ما ورد بهذا الشأن فى تقريرى لجنتى تقصى الحقائق عن الاستفتاء والانتخابات الرئاسية فى الملحق). ويؤكد ما رصده القضاة أن تدخل السلطة التنفيذية فى شئون السلطة القضائية فاعل ومؤثر، ويهدف بالفعل، بين أشياء أخرى، إلى سيطرة السلطة التنفيذية على عملية إشرافهم على الانتخابات، وإخضاعهم لإرادتها المنصرفة إلى تشكيل مجالس منتخبة "ملائمة" سياسيا للنظام، فضلا عن إعاقة حركتهم المستقلة. كما يبين أن القضاة فى الواقع منقسمين بين أغلبية حريصة على استقلال القضاء ونزاهة إشرافها على الانتخابات، وأقلية نجحت هذه الآليات فى ضمها لصف النظام. ولكن، من جهة أخرى، قام الارتباط أصلا بين القضيتين بسبب ما ينص عليه الدستور من إشراف القضاة على الانتخابات، وخصوصا بعد صدور حكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه عام 2000. فبطبيعة الحال أصبح للنظام مصلحة قوية، فى ظل هذا الوضع، فى الضغط على القضاة أو بعضهم لإعلان نتائج "مناسبة"، وهو ما تكشف بشكل صارخ فى انتخابات تكميلية أُجريت فى 2003. وأصبح النظام فى حاجة إلى التحكم فى توزيع القضاة على اللجان العامة والفرعية، بما يعزز الخطط الأمنية للسيطرة على نتائج الانتخابات. ويمكن القول بناء على ذلك بأن إفساد بعض القضاة أصبح ضرورة ملحة للنظام، وهو ما يتحقق بالحفاظ على آليات التدخل فى سلطاتهم وبين صفوفهم أو توسيعها. ومن الطبيعى أن يخشى القضاة من امتداد أثر هذا الإفساد إلى نظر القضايا أيضا، نظرا لما يفضى إليه من تعزيز الروابط القائمة بين بعض القضاة والجهاز التنفيذى، والقائمة على الدعم المتبادل. وهكذا فإن إشراف القضاة على الانتخابات أثار بأشكال مختلفة مسألة تحكم السلطة التنفيذية فى القضاء. وقد أفضى نشر تقريرى الاستفتاء والانتخابات الرئاسية، فضلا عما ورد فى الجمعيات العمومية للقضاة، إلى تثقيف الرأى العام النشط بالعلاقة بين القضيتين، بما أفضى إلى مساندة واسعة متعددة المصادر لمطلب استقلال القضاء. أو كما قال المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادى القضاة: "مطالبكم أصبحت أمل الأمة وتتبناها الأمة، بل وتدافع عنها"، وأسفر الضغط أيضا عن تضمين جميع مرشحى الرئاسة، بما فيهم الرئيس مبارك، لمطالب القضاة فى برامجهم، والتى سبق أن وردت فى مؤتمر العدالة الأول( ). غير أن تعديل القانون جاء فى النهاية مخيبا للآمال، وتم بعد القضاء على حركة التظاهر المؤيدة لمطلب استقلال القضاء.
ثانيا: قضية تسيس مواقف القضاة: منذ بداية حركة القضاة الاحتجاجية من أجل مطالبهم، تعمدت أجهزة الإعلام الرسمية التعتيم عليها( ). ولكن نظرا لوجود صحف معارضة وإذاعات محايدة وقنوات تليفزيونية فضائية، فضلا عن متابعة القوى السياسية اللصيقة لحركة القضاة، لم تكن جهود السلطة ناجحة. واكتفى إعلام الحكومة كعادته بنشر بيان مجلس القضاء الأعلى المعادى لحركة القضاة من خلال ناديهم (أنظر الملحق)، دون الإشارة إلى سياقه، بما أدى فى الواقع للفت انتباه ضحايا الانحصار فى هذا الإعلام إلى وجود مشكلة يجرى التعتيم عليها. نظرا لفشل التعتيم، ونظرا لقوة مركز القضاة فى لحظة الانتخابات، بدأ الهجوم السياسى عليهم لتحطيم وحدتهم وإدانة مواقفهم. فتم عرض مطالب القضاة باعتبارها مطالب تعبر عن مصالحهم الخاصة، واستنكر الإعلام الرسمى أن يفضح القضاة التزوير فى الصحف، باعتباره منافيا لتقاليد القضاء واشتغالا من جانبهم بالسياسة. وقد تصدى القضاة المحتجون فى جمعياتهم العمومية لهذا الخطاب الذى يرمى إلى إدانتهم، تمهيدا لعقابهم، فرديا وجماعيا، بالقول بأن مطالب القضاة وإن كانت تخصهم، فإنها أيضا فى صالح المجتمع ككل، فقانون استقلال القضاء، فى كلمة أحمد صابر، عضو مجلس إدارة النادى "يحقق للمواطن العزة والطمأنينة"( ). ويمكن أن نلاحظ ميل خطاب نادى القضاة تدريجيا، مع اشتداد هجوم أنصار السلطة ومؤسساتها عليه، للدفاع صراحة عن حقهم فى "الكلام فى السياسة". ففى البداية طمأن رئيس النادى الحكومة بأن العبارات الحادة لبعض شباب القضاة المقصود بها هو "التصميم على الإشراف الحقيقى والفعال [على الانتخابات] وليس تخليا أو امتناعا عنه". كما أن القضاة ليست لديهم نوايا للاعتداء على السلطات القائمة، فهم "يعرفون للحكومة قدرها، مثلما هى تثق فى حكمة القضاة وحرصهم على الاستقرار ومسيرة الإصلاح". بل رفض تأييد المعارضة لاجتماع القضاة قائلا: "ليس للقضاة شأن بالسياسة وتقلباتها... والقضاة كانوا ولا يزالوا وسيظلون جزءا من سلطات الدولة، [وهم سلطة] تحرص على سلطانها واستقلالها وكرامتها بقدر حرصها على سلطان وكرامة السلطتين الأخريين"، والقضاة بالإجمال "يتطلعون إلى احترام حياد القضاة ورغبتهم فى الارتفاع فوق الخلافات السياسية"( ). وقد عبر أكثر من قاض عن أن موقفهم ينبع من الرغبة فى تحقيق الاستقرار وتوطيد الشرعية. وهو موقف يتجه إلى الحد من الصدام مع السلطة التنفيذية، مع التمسك بالمطالب، واعتبار المسألة داخلية فى النزاع بين السلطات. وفى الجمعية العمومية الثانية تقدم المستشار زكريا عبد العزيز خطوة أخرى، مقررا أن "الإصلاح القضائى هو إصلاح للدولة... [و]إصلاح نظام الانتخابات هو حجر الزاوية فى الإصلاح"، واضعا خطاب القضاة داخل خطاب الإصلاح السياسى. كما أن "مطالب القضاة هى مطالب الأمة"، و"المداولة [فى المحاكم بين القضاة قبل إصدار الأحكام]... أساس الديمقراطية"، و"وحدتنا [:القضاة] صمام أمان مصر"( )، واضعا بذلك حركة القضاة فى قلب الحركة الديمقراطية والوطنية. وردا على القول بأن القضاة يبتزون النظام، قال إن "مطلبنا ليس ابتزازا بسبب الظروف بل هو قديم. ونحن نطالب بحق ولا نطالب بمصالح شخصية أو مطالب فئوية. نحن نطالب باستقلال القضاء لا بزيادة المرتبات"( ). والواقع أنه بانقضاء الانتخابات الرئاسية، لحساسيتها التى حذر منها رئيس النادى( )، أصبحت السلطة تعتبر نفسها فى حل من الانتقال للهجوم على القضاة وناديهم (أنظر الملحق). وكان رد فعل المستشار زكريا عبد العزيز فى الجمعية العمومية الثالثة، التى تلت اعتداءات ضباط الشرطة على القضاة فى الانتخابات النيابية، الدفاع صراحة عن حق القضاة فى التدخل فى الشأن السياسى: "يتهموننا بالحديث فى السياسة، وهو ليس محظورا، وهو حق المواطنة. ولكننا تحدثنا فقط فيما يتعلق بعملنا. يريدون أن يحرمونا من التفكير فى وطننا... إنه الإرهاب إذن". كما أن ثمة فرق بين الاشتغال بالسياسة، وقد عرَّفه بأنه الانضمام إلى الأحزاب، وبين الحديث فى السياسة. كما قال، مواصلا "الحديث فى السياسة": "أين نحن من الدعوة للإصلاح التى أطلقها السيد الرئيس... كلام يُطلق فى الهواء مع الأسف الشديد". ولكنه ينتهى إلى القول: "تكفينا منصتنا العالية [:القضاء] ولا نريد هذا العمل [:الإشراف على الانتخابات]"( ). وكانت هذه الجمعية قد بدأت باعتراض البعض على دخول الفضائيات للتسجيل، ربما انعكاسا لموقف المجلس الأعلى للقضاء الذى شكك فى الجمعية العمومية الأولى وادعى أن كثيرا من حضروها لم يكونوا من القضاة. وقد انتهى الأمر بالتصويت بأغلبية كبرى لصالح حضور الفضائيات، أى الاستمرار فى مخاطبة الرأى العام، برغم بدء الهجمة المضادة. ويمثل المستشار محمود الخضيرى الجناح الأكثر تسيسا فى حركة القضاة (أو ببساطة الأكثر ميلا إلى مواجهة الصراع على حقيقته). وهكذا أخذ ينادى "الشعب" لدعم القضاة فى مطالبهم. وأكد أننا "نريد أن نعيش كبقية الشعوب الحرة بلا طوارئ ولا معتقلات". كما خاطب القضاة باسم الشعب: "الشعب يطلب منكم [:من القضاة] الاستمرار حتى يتحقق مراده وتفك أغلاله ويصبح حرا فى اختيار حكامه بلا وصاية من أحد". ولكن قوى الشعب كلها مدعوة لأن تتحرك لأن "المعركة ليست معركة القضاة وحدهم ولكنها معركة الشعب كله". ولكنها ليست على كل حال معركة ضد الرئيس جامع السلطات، فالرئيس بدوره مدعو إلى مسيرة الإصلاح وألا يدع مراكز القوى تخربها( ). وإزاء الاعتداء على القضاة، دعا القاضى إلى اعتبار الأذى الذى أصابه "وسام على صدرك تفاخر به وشرف... لأنه من أجل تحقيق حلم الشعب فى أن ينال حريته وعزته وكرامته. وإنى أطالب بإنشاء سجل فخرى" بأسماء القضاة الذين تعرضوا للاعتداءات( )، فالإصابات ليست إهانة، ولكنها فداء وتضحية وشهادة من أجل قضية الشعب، وبالتالى القضاة بمعنى ما يمثلون الشعب. فى كل الأحوال فإن إشراف القضاة على الانتخابات هو من أحد جوانبه دور سياسى. فالنظام يستخدم هذا الإشراف المنقوص والخاضع لتدخله فى إضفاء شرعية لا تقنع أحدا على انتخاباته المتتالية التى تديرها وزارة الداخلية، على حساب سمعة القضاة ومكانتهم الوثيقة الصلة بمهنتهم كما ذكروا مرارا( ). فالصراع فى الواقع ليس على قيام القضاة بدور سياسى من عدمه، بل على طبيعة هذا الدور. ويمكن القول بأن تصاعد تسيس حركة القضاة هو رد فعل لهذا التسيس الأصلى. فبناء على الارتباط الحاصل بين استخدام القضاء فى تغطية التزوير وانتقاص استقلال القضاء، أصبح كل انتقاص لهيمنة النظام على القضاة قضية سياسية، لأنه يؤدى إلى خسائر سياسية للنظام وجهود مضاعفة من جانبه. فحين جلس القضاة فى اللجان الانتخابية الفرعية وفقا لحكم المحكمة الدستورية العليا، كان على السلطة أن تستبدل هيمنة الضباط المباشرة على الموظفين المنتدبين للاقتراع بحشد قوات خارج اللجان تقاتل المواطنين علنا على مرأى ومسمع من العالم كله، فضلا عما تثيره هذه الصدامات من كراهية متزايدة لقوات الأمن. غير أن علاقة القضاة بالسياسة لا تتصل فحسب بالانتخابات. فحدود وفعاليات السلطة القضائية، بما فى ذلك المجال الذى تنظره من الدعاوى، ومدى استقلالها هى ذاتها، وأدائها لمختلف الوظائف الإضافية التى توكل إليها، مثل الإشراف على الانتخابات.. كل ذلك مسألة سياسية بالتعريف، لأن التشريع، القانونى والدستورى، فى حد ذاته، فضلا عن مكان التشريع أصلا من البنية السياسية، كل ذلك مسألة سياسية. وهى لا تفقد طابعها السياسى إلا فى وضع سياسى مستقر، تصبح فيه العلاقات بين السلطات مسلما بها. والحال أن النظام السياسى القائم لا يقوم بطبيعته إلا على توازن غير مستقر بين نمطين من الشرعية والسلطة، يطحن فئات مهنية كثيرة، منها القضاة، ويثير بشكل دائم صراعات داخل مؤسسات الدولة. وهو ما سنتناوله الآن.
ثالثا: الجذور البنيوية لحركة القضاة فى البنية السياسية: شكل القضاة منذ استقرار السلطة التى جاء بها انقلاب يوليو 1952 جيبا للشرعية القانونية داخل نظام لا يقوم على هذا النمط من الشرعية أصلا وابتداء. ذلك أن السلطة حافظت للقضاء المصرى على قدر كبير من الاستقلال، حيث اعتُبر استقلاله، فى حدود معينة، أحد مرتكزات النظام العام. فاكتفت سلطة الضباط الأحرار إلى حد كبير بالاقتطاع من سلطاته بإنشاء المحاكم السياسية والاستثنائية وتحصين بعض أعمالها من رقابة القضاء الإدارى (والأمر الأخير حد منه دستور 1971 إلى حد كبير، وإن كان القضاء ما زال يحصن بعض قرارات رئيس الجمهورية باعتبارها من أعمال السيادة)، فضلا عن السيطرة على النيابة العامة، القائمة حتى الآن. ومن ثم فإن القضاء العادى، الذى يتولى الفصل فى القضايا المدنية والجنائية، ظل بعيدا عن التدخل المباشر للسلطة فى معظم الحالات، بخلاف ما تعرض له القضاء الإدارى من قيود، حتى صدور دستور 1971، وبخلاف ما تعرضت له النيابة العامة من إلحاق، باق حتى الآن. ومن هنا ظل القضاة محتفظين بثقافة فرعية تقوم على فكرة سيادة القانون، تختلف عن إيديولوجية النظام، ويعملون وفقا لها فى النطاق الذى تُرك لهم، مدركين فى نفس الوقت للقيود التى تحيط بعملهم. (أ) ازدواجية النظام السياسى بين القانون والانقلاب: يعد قيام هذا الجيب ضرورة للنظام من جهة، ومشكلة من جهة أخرى. ويرجع ذلك إلى أن نظام الحكم الذى أقامه الضباط، وحتى الآن، يقوم على ازدواج أصلى بين نوعين من المنظمات: الأولى مؤسسات رسمية معلنة، تتولى وظائف مختلفة، مثل الوزارات والمصالح المتخصصة، والنقابات، والجمعيات الأهلية، والجامعات. وهذه المؤسسات تقوم بالضرورة على لوائح وقوانين تحكم عملها. ويعتبر القضاء العادى مؤسسة من هذا النوع، تختص بإدارة الدعاوى التى تحل النزاعات بين الأفراد، ونزاعاتهم مع موظفى الدولة، ونزاعات موظفى الدولة مع بعضهم فيما يتعلق بحقوقهم الفردية. والثانى هو أجهزة الأمن العليا: مباحث أمن الدولة، الأمن القومى والمخابرات العامة، المخابرات العسكرية. وهذه تقوم ببعض أدوار الأحزاب السياسية الحاكمة فى النظام الديمقراطى، حيث تتولى تكييف سياسات وأوضاع المؤسسات الأولى، العلنية، بما يحقق مصالح النظام. فبشكل غير معلن، تتولى هذه الأجهزة مسئولية تحديد إيقاع النظام السياسى والاجتماعى بصفة عامة، وهو ما يتطلب أن تتدخل فى حل كافة التوترات الاجتماعية والسياسية على اختلافها بوسائلها الخاصة، بدءا بالمشكلات العمالية مع القطاع العام أو رجال الأعمال، ومدى الحرية المتاحة للنشاط الاقتصادى، وحل النزاعات القبلية فى بعض المناطق، وليس انتهاء بشغل المناصب المختلفة، بل تعيين المعيدين فى الجامعات. وتنطوى وسائلهم على عرقلة قيام أفراد معينين بنشاط يعتبر مشروعا من الناحية القانونية، أو ترتيب حجج قانونية لحل هيئة ما (حزب أو جمعية)، ناهيك عن عقاب هذا الفرد أو ذاك على عدم احترامه للترتيب السرى للسلطة، بما يشيع جوا عاما من الإرهاب يعد من متطلبات سيطرتها. وهكذا فإن نشاطها لا يقتصر على قمع المعارضة، وإنما يمتد إلى ترتيب أوضاع البلاد ككل. وهكذا فإن الدور السياسى لأجهزة الأمن العليا لا يمارس بشكل قانونى، وإنما يتحقق إما بالقمع المباشر، أو إيكال إصدار القرارات إلى المؤسسات المعلنة المعنية، كل فى مجالها، من خلال توجيه رؤساء هذه المؤسسات، التى كان لها يد فى تعيينهم. وبهذا تستطيع أن تنسق بين حركة مختلف هذه الأجهزة وفق اعتبارات أمن النظام (وهكذا مثلا فإن قرار عدم تعيين معيد ما يتخذه رئيس الجامعة أو وزير التعليم العالى، برغم أنه مبنى على تعليمات أمنية، وهكذا). فى ظل هذا الوضع يتميز النظام السياسى بحالة من الاحتكاك المستمر بين متطلبات الأمن وبين متطلبات العمل المنتظم لمؤسسات الدولة، تعانى منه كافة قطاعات العاملين فيها، فضلا عن المتعاملين معها، أو يستفيد بعض هؤلاء لصلتهم بأجهزة الأمن، ولكنها فى كل الأحوال الحقيقة الأساسية التى تحكم عمل النظام. وينتج الاحتكاك من أن متطلبات الأمن الواسعة هذه يستحيل تقنينها، بالضبط لأنها بلا قواعد سوى تقديرها الخاص للمواقف المتغيرة من لحظة لأخرى، ولطبيعة التوازنات التى ترى فى لحظة معينة العمل على قيامها، أو الحيلولة دونه. ومن الناحية التاريخية، يرجع هذا الازدواج إلى أن انقلاب يوليو أتى بمجموعة معزولة من الضباط إلى السلطة، بلا ظهير سياسى، وبالتالى كان عليها أن تحكم من خلال مد جسور مع قوى ومنظمات مختلفة فى المجتمع، بشرط إلحاقها بهم ووضعهم تحت سيطرة أجهزتهم الأمنية. فقد ظلت مشكلة هذه السلطة دائما ما تولده من فراغ سياسى، يحول دون هيمنتها الإيديولوجية بالمعنى الجرامشى، أى تحولها إلى "نظام طبيعى". وقد سعت سلطة الضباط للتغلب على ذلك بخلق المزيد من المؤسسات المدنية محدودة السلطة، أطلقت على بعضها لقب سلطات، منها ما يسمى "سلطة الصحافة". وإلحاقها به، وفقا لنموذج شبه كوربوراتى. والواقع أن مختلف هذه "الأدوات" تميل دائما إلى إثارة مشكلات للقلب الأمنى للنظام، لأن تعزيز سلطاتها ضرورى، حيث تمنحها خبرتها قدرا من الحصانة يجعل الاستغناء عنها مستحيلا. فالنظام لا يستطيع أن يوكل لأجهزة الأمن القيام بالأدوار التى يقوم بها المهندسون أو المحامون أو القضاة أو أساتذة الجامعات أو الموظفون، وقصارى ما يستطيعه أن يحاول التدخل فى قراراتهم. وبالتالى تتمتع هذه الفئات فعليا بقدر من الاستقلال، وبقدر من النفوذ والسلطة يفوق بكثير أية منظمة منتخبة. وليس من قبيل الصدفة أن الاحتجاجات الأكثر تأثيرا تأتى غالبا من فئات نوعية غير منتخبة، تدين بنفوذها إلى اختصاصها. وللسيطرة على هذه الفئات ومؤسساتها، يحتفظ النظام بالقدرة على قمعها من جهة وعلى التدخل فى شئونها لتوجيهها بالشكل "المناسب"، من جهة أخرى. وهكذا فإن الجانب الآخر من طبيعة النظام هو الجانب الانقلابى: أى الحاجة إلى أن يحتفظ لنفسه دائما بالقدرة على القيام بانقلابات مصغرة على شرعيته المعلنة ومؤسساته الرسمية من حين لآخر، وبالتالى فإن حاجته إلى ثغرات القانون و"ترزيته" لا تقل عن حاجته إلى القانون نفسه، لجعل هذا الازدواج يعمل بأكبر سلاسة ممكنة. ويتطلب استمرار النظام فى العمل بهذا الشكل ألا يعيق القانون التدخل من جانب أجهزته السرية فى أنشطة مؤسساته. وبالتالى يكون القانون والدستور نفسه بعض الوسائل التى تستعملها السلطة التنفيذية وقلبها الأمنى فى تحقيق أهدافها. وبالتالى أيضا يصبح القضاء، باعتباره مؤسسة تقوم على القانون وحده، أحد أدوات النظام فى إجراء سياساته، وهو ما يتحقق بأن يتاح له التدخل بشكل أو بآخر فى أمور العدالة فى القضايا المهمة (مثلا قضية أيمن نور وقبلها سعد الدين إبراهيم، الخ). ويعكس الدستور الحالى هذا التراتب الواقعى للسلطة من خلال التركيز الهائل للسلطة فى يد رئيس الجمهورية، فهو الوحيد الذى يرأس كلا من الأجهزة الأمنية والأجهزة المدنية للدولة، بما يتيح له اتخاذ قرارات حل المنازعات بين الطرفين (ومثل التلميذة التى تعرضت لاضطهاد بسبب موضوع إنشاء يسخر من النظام الحاكم موح للغاية، فلم يكن بمقدور أحد اتخاذ قرار فيه سوى الرئيس). ذلك أن النظام الدستورى الحالى لا ينص على مبدأ فصل السلطات، كما لا يقوم عليه فعليا. حيث يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة، ويحصل على تفويضات استثنائية من مجلس الشعب. كما أنه يجمع بين صفة رئيس السلطة التنفيذية وصفة رئيس الدولة التى تجعله حكما بين السلطات (بنص المادة 73: يرعى الحدود بين السلطات لضمان تأدية دورها فى العمل الوطنى)( ). والصيغة نفسها شمولية بشكل قاطع: فالنص يفترض وجود "عمل وطنى" واحد ومحدد وشامل، تلعب السلطات المختلفة أدوارا معينة فيه تحت إشرافه، وبالتالى يقوم الدستور على فكرة تقسيم العمل بين السلطات، لا الفصل بينها. بينما مبدأ الفصل بين السلطات يقوم على فلسفة كفالة الحريات الفردية. وينيط النص برئيس الجمهورية وحده أداء السلطات لهذه الأدوار فى مشهد موحد واحد منتظم، محوره الوطن، لا المواطن. فمكان الرئيس من هذا "العمل الوطنى"، بألف لام التعريف، كمكان المخرج فى النشاط المسرحى.
(ب) حدود سلطة القضاء داخل النظام السياسى: بناء على ذلك نستطيع أن ننتقل الآن إلى وضع القضاء داخل هذا النظام السياسى. أو المشكلات التى يعانيها هذا الجيب الذى يعتنق مبدأ سيادة القانون فى ظل نظام له وجهين، أحدهما انقلابى بالضرورة. ويمكن أن نلاحظ أولا أن القانون يعكس وضع الرئيس المهيمن على السلطات على السلطة القضائية أيضا. وهكذا يجعل القانون الرئيس يباشر سلطته كرئيس للدولة إزاء القضاء من خلال السلطة التنفيذية ممثلة فى وزير العدل، الذى يتمتع بسلطات عديدة وفقا لقانون السلطة القضائية( ). وفى الواقع العملى، يخضع القضاة، مثلهم مثل باقى مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية، لضغوط المؤسسات الأمنية العليا، ويتمثل ذلك من الناحية المباشرة فى التدخل فى أعمال القضاء بشكل غير مباشر، عن طريق العمل على إحالة القضايا ذات الحساسية السياسية أو التى تهم السلطة بشكل أو بآخر لدوائر بعينها( ). وبصفة خاصة تلجأ الدولة إلى ذلك رغبة منها فى تجنب صدور حكم من محكمة استثنائية يعرضها للحرج. كما تخلق السلطة التنفيذية استثناءات وأوضاعا خاصة داخل القضاء لاستمالة بعض القضاة والتمييز بينهم حسب ولائهم (مثل تفاوت الأجور، ووضع سلاح الندب والإعارة فى يد وزير العدل وسيطرة الوزير على نظام التفتيش القضائى، بغرض خلق فئات موالية من بينهم، وعقاب المتمردين). وكانت الانتخابات نموذجا صارخا على مثل هذا الاحتكاك بين العلنى والسرى، والذى استجد فيه أن القضاة أصبحوا طرفا فيه منذ عام 2000. غير أن تدخل النظام فى القضاء يتجاوز ذلك. فبشكل غير مباشر يجد القضاة أنفسهم مطالبين بتطبيق قوانين تبدو متناقضة، أو معيبة، أو مليئة بثغرات مقصودة، لإتاحة الفرصة للتدخل الأمنى، يتولى وضعها أناس تعارفت الصحافة على تسميتهم "ترزية القوانين". وعلى سبيل المثال فإن الثغرات المعروفة تماما فى قوانين الانتخابات مقصودة لذاتها لإتاحة مجال واسع لحركة النظام عن طريق الشرطة وغيرها (مثلا نظام "التعرُّف" على الناخب بلا أوراق، والخالى من أية ضوابط مُحكمة، أو الإصرار على عدم تسليم مندوبى المرشحين نتائج رسمية لفرز الصناديق الفرعية). بل صدر كثير من القوانين مصابا بعوار دستورى، عمدا برغم تنبيه بعض أعضاء مجلس الشعب، لكسب الوقت لحين الحكم بعدم الدستورية، فتورطت السلطة بذلك فى الاستخدام الذرائعى للقضاء. وهناك القوانين التى لا توضع بغرض تنفيذها فى كل الحالات، ولكن كتهديد محتمل (مثل القيود على حريات التعبير والنشر والتظاهر). فتطبق بعض القوانين بشكل انتقائى، بحيث تحال بعض القضايا للمحاكمة، أو بالعكس، يُحفظ التحقيق فيها، أو يُفرج عن المحبوسين بأمر النيابة، أو يُمد حبسهم ثم يُفرَج عنهم، مع عدم حفظ التحقيق ليعاد فتحه وقت اللزوم. فمركزية النيابة العامة وتعيين رئيس الجمهورية للنائب العام وفصل النيابة عن القضاء يمكن السلطة التنفيذية من التحكم فى مدخلات النظام القضائى المستقل نسبيا. وتتكفل الهيمنة الفعلية لأجهزة الأمن على تنفيذ الأحكام بالتحكم فى المخرجات (ومن هنا مطلب القضاة بإقامة شرطة قضائية تابعة لهم). ومؤدى هذا التطبيق الانتقائى للقانون أن تصبح أدوات القانون عقوبات، بما يطيح بمبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه فى الدستور، والذى هو أساس فكرة القانون نفسها. كما يسود عرف مدعوم بالسلطة داخل أجهزة الأمن، يتيح لها عقاب الأفراد وحبسهم فعليا بغير سند قانونى كما يحدث فى أقسام الشرطة، ويتلقى الأمن الحماية الكافية حين يتستر على المجرمين، أو حين يستخدمهم بنفسه، كما حدث فى الاعتداء على المتظاهرين يوم الاستفتاء (25 مايو)، ناهيك عن حالة الطوارئ الدائمة التى أتاحت عمليا حبس الآلاف لسنوات تتجاوز العشرة أحيانا بلا أى اتهام قانونى، الخ. هذا كله يجعل المحاكم مجرد أداة تستعمل بشكل انتقائى فى حدود معينة، على أن تفسح المجال لغيرها من أدوات هيمنة الأمن العام والسياسى غير القانونية( ). وإذا أخذنا فى الاعتبار أن القضاة لم يقرروا أبدا ألا يشرفوا على الانتخابات، يمكن أن نقرر أن القضاة يعانون بشكل مزمن من ازدواجية النظام، ويسخطون، كباقى فئات المجتمع، على الشروط التى تفرضها السلطة الاستبدادية على ممارستهم لعملهم( )، وبالتالى فإنهم يميلون بشكل طبيعى إلى تقويض هذا الازدواج بقدر الإمكان، مستفيدين من الحصانة الخاصة التى يتمتعون بها، بسبب طبيعة عملهم ذاتها. ولعل ما استجد لنقل هذا السخط إلى العلن هو شيوع الأمل فى أن لحظة التغيير قد حانت، بعد مساع عديدة استمرت حوالى عقدين "للتفاهم" مع السلطة، حققت لهم بالفعل بعض المكاسب، منها تكوين المجلس الأعلى للقضاء ذاته الذى دخل فى نزاع معهم.
(ج) وضع القضاء داخل النظام السياسى: بين المؤسسات الملحقة بالنظام، يتميز موقع القضاء بالذات بحساسية بالغة. فقيام هذه المؤسسة بعملها يتطلب قدرا كبيرا من الاستقلال، وحصانة ذاتية لأعضائها تجعل استخدام القمع المباشر ضدهم مستحيلا، فيصبح التدخل فى سلطتهم هو الأداة الوحيدة المتاحة. وبصفة عامة فإن الازدواج البنيوى للنظام بين بنية قانونية وبنية أمنية يمنح القضاء مكانة متميزة. وبهذا الاعتبار يحتل القضاء فى الواقع مركزا وسطا بين الاستقلال والتبعية، كما رأينا. وليس من قبيل الصدفة أن نظام يوليو شهد ظهور وانتشار تعبير موفق للغاية فى التعبير عن هذه المحصلة، وهو "مرفق القضاء"، أو "مرفق العدالة"، باعتبار العدالة خدمة تؤديها السلطة التنفيذية عن طريق القضاء، الذى تمتع فى هذا الإطار بامتيازات وحصانة معينين، وبقدر من الاستقلال لا يمنع تدخل السلطة وقت "اللزوم". أضف إلى ذلك أن القضاء المصرى يشكل أحد أهم أدوات الدولة لتعزيز سلطتها ومركزيتها. وهنا من المفيد أن نتذكر أن النظام القانونى المصرى، المقتبس فى نظامه العام من النظام الفرنسى، يتسم بالمركزية ودعم سلطة الدولة ومركزيتها، بأكثر مما يستطيع التراث القانونى الإسلامى أو العرفى، وهو ما شكل فى نظر أحد الباحثين( ) مصدر جاذبية هذا النظام للصفوة المصرية التى دافعت عن فكرة استقلال القضاء. ولهذا سعى النظام فى خطابه المعلن بعد عهد عبد الناصر إلى تعزيز مكانة القضاة، بوصفهم أحد أركان النظام (كما أشار رئيس نادى القضاة كما رأينا). أضف إلى ذلك أن عمليات تحرير الاقتصاد أصبحت تتطلب بشكل متزايد قضاء مستقلا يكون بمثابة ضمانة لمختلف أطراف النزاع، وبصفة خاصة مع الحاجة الملحة لاستجلاب رؤوس أموال من الخارج. وهكذا تسعى السلطة التنفيذية باستمرار للتعبير عن "تقديرها" للقضاة من خلال المزايا العينية والمالية( )، فضلا عن حماية المجال القضائى من أى مساس فى وسائل الإعلام، بما فى ذلك حالات الفساد المحققة التى أدت لسجن بعض القضاة، حتى أنه يمكن القول بأن القضاة فى جمعياتهم العمومية هم أول من أشار علنا إلى هذا الفساد. كما استجابت الدولة لطلب القضاة بعدم حل مشكلة بطء التقاضى بزيادة أعداد القضاة (وإن كان ثمة مبرر بالفعل للتخوف من أن تستثمر السلطة ذلك للزج بالمزيد من ضباط الشرطة السابقين فى النيابة ثم القضاء)( ). ولعل هذه المكانة الخاصة هى التى تفسر الاهتمام العام بقضية إشراف القضاة على الانتخابات. فالناس فى حاجة فى مواجهة السلطة الأمنية إلى حماية فئة لها امتياز أو قوة ما، وهو ما يتوفر فى فئات قليلة على رأسها القضاة. فببساطة يستطيع ضابط أمن الدولة أن يعتدى بالسب والضرب على موظف منتدب على صندوق، بل وربما لا يحتاج إلى ذلك، حيث أن مجرد وجوده وإصدار الأوامر بالتزوير كاف لإرهاب هذا الموظف. ومن هنا حساسية وضع إشراف القضاة على الانتخابات، حيث أن إشرافهم مع حصانتهم بهذا الشكل يضعان معا حدا واضحا لحالة الإرهاب العام، قد يودى بهيبة النظام القائمة على القدرة على خرق القانون وممارسة الإرهاب. هذا كله فى حين أن وعى القضاة يقوم، كما أسلفنا، على إيديولوجيا قانونية ودستورية فرعية مختلفة كثيرا عن إيديولوجية الدولة الأمنية الكوربوراتية. ويزداد التعارض خطورة بسبب رغبة النظام فى الاستفادة من القدر الذى منحه للقضاء من استقلال فى تعزيز مكانته كنظام يدعى أنه يقوم على حكم القانون ودولة "المؤسسات" (لا الأجهزة)، بما فى ذلك إشرافهم الصورى على الانتخابات حتى عام 2000). غير أن تقديس القضاء انقلب على النظام وهو يواجه حركة القضاة.
(د) الصراع السياسى مع محاولات إدماج القضاء: تتمثل المعارك الأساسية للقضاء مع النظام فى مقاومة محاولات إدماجه بأكثر مما يحتمل فى المخططات الأمنية للسلطة. وبالنسبة للأزمة الحالية فإنها نشأت أساسا عن حكم المحكمة الدستورية العليا الذى زج بالقضاة فى عمليات الانتخابات التى تتميز تاريخيا فى ظل سلطة يوليو بالتزوير الفاضح. وهكذا وجد القضاة أنفسهم فى وضع بالغ الحرج. فمثلا، وفقا لشهادة أحمد صابر عضو مجلس إدارة نادى القضاة ورئيس المحكمة( )، أدى الصراع بين القضاة والشرطة حول تمكين الناخبين من التصويت، برغم خسارة القضاة فيه، إلى أن يهتف الناخبون للقضاة ضد الأمن. وهكذا أصبح القضاة بإشرافهم المباشر على الانتخابات واقعين بين مطلبين متعارضين، أحدهما "التعاون بين السلطات" وفقا لما يمكن أن نسميه روح دساتير يوليو، أو تطبيق القانون، وتمكين الناخبين من التعبير عن إرادتهم. غير أن هذه لم تكن المرة الأولى التى يستدرج فيها النظام القضاة لمواقف سياسية تؤدى لانقلابهم عليه. ففى الستينيات سعت السلطة بنفسها إلى إدماج القضاة فى تنظيمات الاتحاد الاشتراكى، ورأت أن ذلك لا يعد عملا سياسيا يتنافى مع استقلال القضاء. وهكذا قررت السلطة بنفسها أن القضايا الوطنية العامة لا تعد من قبيل السياسة. وقد قاوم القضاة مطلب إدماجهم فى الاتحاد الاشتراكى بإصدار بيان فى 1968، ينادى باستقلال القضاء ودولة القانون، التف حوله أغلبية القضاة فى انتخابات مجلس إدارة النادى، فرد النظام على ذلك بإصدار قرارات جمهورية ضربت الاستقلال النسبى للقضاء فيما يعرف بـ"مذبحة القضاء" عام 1969، واعتبرت مقاومتهم موقفا سياسيا "رجعيا" بمصطلحات الفترة. ويتمثل التطور الأساسى لموقف النظام من القضاء فى أن الهدف لم يعد دمج القضاء فى "حزب" النظام، لأن النظام تخلى هو ذاته عن النموذج التعبوى، وأصبح مصابا بفقر إيديولوجى جسيم، وعجز مطلق عن طرح أية رؤية إدماجية للمجتمع سوى شعارات وطنية عامة لا تفيد بحد ذاتها فى تبرير أية سياسة بعينها، بل فقط فى تبرير جزئى، محل سخط دائم، لهيمنة الأجهزة الأمنية. وهكذا أصبح المتاح أمام النظام مجرد استخدام أدواته الإدارية فى مواصلة حصار "السلطات" التى أنشأها"، وإدماجها فى مخططاته، وهذا هو جوهر ما سُمى التحول إلى "الشرعية القانونية أو الدستورية" الذى أعلنه الرئيس السادات ويتواصل حتى الآن. كما يعنى هذا الانتقال تقنين الدولة الاستبدادية نفسها بكل من النصوص المحكمة والنصوص المليئة بالثغرات. بما يعنى استخدام القانون كمهارة محورية فى تنظيم العدل، وفى الصياغة القانونية لاحتياجات النظام وإدامته، ولكن فى إطار إدارى، وهو ما يفسر التمسك الشديد بالأوضاع الحالية للسلطة القضائية. فوق هذا التسيس المبنى مؤسسيا، شهد عهد الرئيس الحالى استخداما متزايدا للقضاء فى حسم قضايا سياسية، مثل الاعتياد على رفض الأحزاب السياسية فى لجنة الأحزاب( )، بحيث قامت معظم الأحزاب الرسمية بحكم قضائى مبنى على الطعن فى قرار اللجنة، والباقى ينتظر دوره؛ والتضييق على النقابات المهنية، حين استفحلت فيها تيارات معارضة، حتى صار بعضها إلى إدارتها على يد لجان قضائية. ولعل أحد أخطر جوانب هذا الاستخدام السياسى للقضاء ما استجد فى دستور 1971 من إدخال مبدأ الإشراف القضائى على الانتخابات تحت وصاية وزير الداخلية، فتكونت بذلك نقطة احتكاك مزمنة، ومدخلا ممكنا لتسيس القضاء، ينتظر الفرصة المواتية. كما أن المعارضة بدورها لم تحجم عن هذا السلوك. ولعل أشهر الحالات الحكم بتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته، كوسيلة، كما صرح المدعى نفسه، لتكفيره، والتحكم بالتالى فى مجال الأفكار المنشورة عن طريق القضاء. كما أفصح كثيرون عن نيتهم لوقف بيع القطاع العام عن طريق رفع دعاوى قضائية. وهكذا أصبح المجال القضائى ساحة أساسية للصراع السياسى والتراشق بخطابات سياسية. وهكذا أناطت أطراف مختلفة بالقضاء أن يكون رمزا من رموز الفكر الدولتى الاستبدادى الذى يقدس المؤسسات ويضفى عليها حصانة إيديولوجية من نمط سياسى بلا أدنى شبهة.
(هـ) استنتاجات: جذور تسيس حركة القضاة: يفسر كل ما سبق ما يمكن أن نسميه وجود ميل كامن عند القضاة لدخول المجال السياسى. من زاوية معينة، وهى استكمال سلطاتهم والخروج من الحصار المفروض حول ممارسة اختصاصهم. فالقضية التى يجب أن تثار هنا ليست لماذا دخل القضاة المجال السياسى الآن، بل لماذا لا يدخلوه إلى فى لحظات معينة، مثلهم فى ذلك مثل بقية المنظمات التى لا تقوم على عضوية منتخبة (كالنقابات المهنية) والتى تدخل المجال السياسى من حين إلى آخر وتسبب مشكلات كبيرة للنظام. يتمثل التفسير الأساسى لذلك فى أن النظام، لأنه يقوم على سيادة أجهزة الأمن على المؤسسات، يستطيع فى معظم الأحيان أن يمنع منع التوتر القائم باستمرار بين المؤسسات والأجهزة الأمنية من الانتقال إلى العلن، أو التحدى السياسى. ولكنه بطبيعة الحال يعجز فى بعض الأحيان عن ذلك. وبناء عليه فإن التوازن الذى يحفظ القضاة بعيدا عن السياسة لسنوات ليس توازنا دستوريا من حيث الجوهر، وإنما التوازن الأمنى العام الحاكم للمجتمع، والذى حال لعقود دون حركة كثير من قوى المجتمع الأخرى. وباختصار فإن أوضاع القانون تغرى القضاة بشدة بدخول المجال السياسى كلما أتيحت الفرصة، لكشف عورات الوضع القانونى الحاصل، و للتحالف مع قوى المجتمع المدنى للحد منها، فضلا عن تعزيز مكانتهم كسلطة، وهو أمر مشروع تماما. وهكذا يتحرك القضاة عادة إلى المجال السياسى فى اللحظات التى تهتز فيها الشرعية الأمنية للنظام، خاصة إذا ترافق ذلك مع تكليف القضاء بمطالبات جديدة لتعزيز شرعية النظام المهتز. ففى ضوء أن القضاء محاصر بالفعل ببنية قانونية وسياسية ودستورية غير مواتية، ليس من سلطته أن يغيرها، لأنه لا يتمتع بسلطة تشريعية، بطبيعة الحال، يميل القضاء دائما إلى تشمم رياح التغيير لينشط فى المجال العام، الذى هو منبع السلطة التشريعية فى النظم الديمقراطية. حدث ذلك بعد هزيمة 1967 الفادحة، ومظاهرات الاحتجاج على الأحكام على المسئولين عن الهزيمة التى اعتبرها الجمهور مخففة، وصدور بيان 30 مارس 1968 الذى وعد بإصلاحات فى اتجاه ديمقراطى. فقد طرح هذا كله مجمل البنية السياسية الاستبدادية للتساؤل والمراجعة. وليس من قبيل الصدفة أن بيان القضاة الذى صدر آنذاك قد استشهد بخطاب النظام نفسه، فى تبرير مطالبه( )، فقد حاول أن يقول أن شعارات النظام نفسها تقتضى الآن تراجع الدولة الأمنية. وبالمثل شهدت حركة القضاة الحالية كما رأينا الاستناد إلى كل من الخطاب الإصلاحى الديمقراطى والخطاب الوطنى اللذان صدرا عن السلطة نفسها. فى ضوء الوضع الخاص للقضاء داخل النظام السياسى، يكون كل خطاب بشأن استقلال القضاء، أيا كان مصدره، خطابا سياسيا بعمق، بقدر ما أنه يمثل بشكل أو بآخر تهديدا أو تحديا لبنية النظام السياسى الأمنية، ربما بقدر أكبر من خطاب استقلال الجامعات، أو خطاب حرية تكوين النقابات. فالنظام القائم على دمج المجتمع المدنى والسيطرة عليه أمنيا يسيس كل أنواع التحرك المستقل عن "التعليمات" العلنية والشفوية والسرية أيا كانت، لأنه يضع هذه التحركات مباشرة فى مواجهة الأجهزة الأمنية، ويهدد البنية الإدماجية ذاتها. وتحرك القضاة يتميز بتمتعه بحصانة مميزة، تعد فى حد ذاتها بمثابة إهانة لنظامه الأمنى (ولعل هذا ما يفسر تعدى بعض ضباط الأمن السياسى على القضاة). وهكذا فإن "الحديث فى السياسة"، المشروع لكل مواطن فيما قال المستشار زكريا عبد العزيز، يصبح بصدوره عن تجمع كبير من القضاة أكثر سياسية من صدوره عن حزب من الأحزاب، لأن بنية النظام الحزبى ككل، برغم إمكانياتها الكامنة الكبيرة، أضعف من تجمعات المصالح غير المنتخبة التى تحتاج إليها السلطة نفسها وتعتمد عليها، مثل القضاة، لأنه بالضبط يهدد بفتح المجال السياسى، غير القائم أصلا، بظهور القوى التى يمكن أن تشكل قاعدة هذا المجال بالتحديد. فلا يمكن أن يقوم نظام سياسى تلعب فيه الأحزاب دورا رئيسيا بغير استقلال منظمات المجتمع المدنى والسلطات. وربما يجدر التنويه هنا بأن حركة القضاة عملت أيضا على هدم كثير من الجوانب الإيديولوجيا التى روجتها الدولة بشأن القضاء، ليس فقط بكشف محدودية استقلاله وأنماط التدخل فى بنيانه وقراراته، ولكن أيضا بهدم إيديولوجية تقديس القضاة، وهى فرع من تقديس النظام لنفسه ولأركانه (راجع مثلا محاولات رئيس مجلس الشعب لتحصين المجلس من النقد فى الصحافة وغيرها)، فضلا عن استخدامها بشكل مختلف ضده.
ثالثا: أزمة الشرعية بين حركة القضاة وجهود النظام: لا شك أن حركة القضاة وجدت نفسها تنغمس تدريجيا فى السياسة، بقدر ما أنها أصبحت تواجه تدخلات السلطة التنفيذية فى شئونها، وبالتالى تهديد سيطرتها على "مرفق العدالة". ولكن هذا الدخول ليس بسيطا، بل هو ملئ بالتعقيدات الدستورية والإيديولوجية. ليس فقط بسبب انعزال القضاة فى جماعة خاصة لها خطاب فرعى خاص بها، لا تؤهلهم بشكل بسيط لدخول معركة سياسية، ولكن لأن دخولهم هذا المعترك ولو من زاوية الحفاظ على استقلالهم، يجعل قضية ازدواج وجهى السلطة تعكس نفسها عليهم فى ازدواج معلن لمواقفهم.
(أ) تضارب المواقف السياسية والموقف من السياسة: ليس القضاة، بطبيعتهم المنعزلة، ميالين للدخول فى مجال الصراع السياسى. والواقع أن اضطرارهم لدخوله أدى لاضطراب كثيرين منهم. ففى الجمعيات العمومية الثلاث التى تناولتها هذه الدراسة، تحدث الجميع تقريبا مؤيدين لمطالب القضاة، ولكن برؤى مختلفة كثيرا بشأن ما يجب عمله فى هذا الصدد. فرأى المستشار محمد عفيفى أن مصر يتحرك فيها كل شىء من عند رئيس الجمهورية، ويجب بالتالى التوجه له لإقناعه بأن التاريخ سيسجل له أنه حقق استقلال القضاء، وأن القضاة فى كل الأحوال ملتزمون بالإشراف على الانتخابات، ولكنهم يأملون فى رفع الحرج عنهم خلال مباشرتهم لهذا الواجب. وقال المستشار السيد عبد الحكيم أن علينا أن "نتناصح مع حكامنا ونلتمس لهم المعاذير ونمد لهم يد العون... حتى نحقق الديمقراطية التى يرضى اللـه عنها وعنا". وهو موقف سياسى يتبنى الديمقراطية، ولكنه لا يتبنى أدواتها، مفضلا نصح الحاكم. أما المستشار رفعت السيد، فقال أننا لا نستطيع الاعتداء على السلطات الأخرى وكل ما نملكه أن نقدم الاقتراحات البناءة فيما يتعلق بكيفية الإشراف، مثلنا مثل المثقفين وغيرهم، وتتحمل السلطة التشريعية مسئوليتها( ). ولعل أبرز موقف يوضح الاضطراب الذى أصاب بعض القضاة مع دخول ناديهم الصراع السياسى تتمثل فى كلمة المستشار مدحت سعد الدين. فقد رأى أن المشاركة فى الانتخابات عطلت الفصل فى القضايا، وهو واجب القضاة الأساسى، وفى النهاية لم تظهر الانتخابات بالصورة التى أرادها الشعب، بينما تعرض القضاة لتصريحات متدنية نُشرت فى الصحف، ونُسب تزوير الانتخابات لبعض القضاة. والأهم أنه لم يقل هذا كمقدمة للدعوة للاستسلام للنظام، وإنما للقول بعدم زج القضاة لأنفسهم فى الانتخابات برمتها، بعدم المشاركة فيها بلا ضمانات حتى يتغير الدستور( ).. فالبعد عن السياسة، فى هذه النقطة، يشمل بالنسبة له البعد أيضا عن استخدام النظام للقضاء سياسيا.
(ب) القضاة بين الشرعية الديمقراطية والشرعية الإجرائية: الواقع أن مجمل نشاط نادى القضاة فى الأزمة الأخيرة يثير بحدة مسألة ازدواجية الموقف من النظام عموما. ولنبدأ بالسلطة القضائية نفسها. فقد أدت مواقف القضاة من خلال ناديهم إلى صراع متزايد الحدة مع المجلس الأعلى للقضاء، ومع لجنة الانتخابات الرئاسية المشكلة من عناصر قضائية. فللمرة الأولى يأخذ النادى على عاتقه تشكيل لجنة لتقصى الحقائق.. وبشأن الانتخابات. وهو إجراء غير منصوص عليه فى أى قانون، وليس بطبيعة الحال جزءا من إجراءات الطعن على صحة الانتخابات أو اتخاذ قرار ما بشأنها، ولا حتى إجراء داخليا فى السلطة القضائية يتعلق بالتحقق من أداء القضاة لواجباتهم على نحو سليم. حيث أن التحقيق مع القضاة بشأن أعمالهم من سلطة التفتيش القضائى. وأقصى ما يستطيع أن يفعله نادى القضاة، إذا انتهى إلى إدانة بعض القضاة، هو أن يفصل هذا البعض من عضويته، دون أن يترتب على ذلك أى مساس بوضع المفصول الوظيفى فى سلك القضاء. ومع ذلك فإن مواقف النادى، مدعومة بالنشاط السياسى السابق ذكره، ودعم كثير من مؤسسات المجتمع المدنى الديمقراطية، وفى ضوء جمعياته العمومية الأخيرة الحاشدة، يخلق ازدواجا واضحا فى السلطة الأدبية على القضاة، تطيح بمكانة prestige المؤسسات التى تعتبر أداة النظام فى السيطرة على "مرفق العدالة"، مثل مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل والنائب العام. بل وتصيب صورة النظام المهتزة بالفعل بالمزيد من الاهتراء. فمثلا إذا أدان النادى من خلال الجمعية العمومية انتخابات دائرة معينة بأنها تعرضت للتزوير، لن يترتب على ذلك سقوط العضوية، ولكنه سيضع النظام كله فى موقف حرج بالغ مع ترك التهمة موجهة مع تجاهلها. ومن ثم فإن موقف النادى من البداية للنهاية يصب فى الجدل السياسى حول شرعية النظام عموما، ونظامه القضائى الذى وصفناه خصوصا، ويهدد بعمق الازدواجية التى يقوم عليها النظام بين مؤسساته الأمنية والأخرى المدنية. وقد اتسم تصاعد كفاح القضاة من أجل مطلبيهم بمواجهة متزايدة الحدة مع مجلس القضاء الأعلى، حيث طالبوا فى تعديل قانون السلطة القضائية بأن يغلب على تشكيله العنصر المنتخب، بينما أعضاؤه حاليا معينون بالكامل بحكم مناصبهم( ). وقد أفضى هذا إلى توثيق تحالف السلطة التنفيذية مع مجلس القضاء الأعلى، بما يفسر الموقف العدائى المتزايد للمجلس من حركة القضاة. وأدى هذا العداء وتناقض المواقف إلى صراع على أحقية كل طرف فى تمثيل القضاة( ). ومن أمثلة المواقف العدائية تأجيل المجلس لإصدار الحركة القضائية للضغط على القضاة كأفراد، فى سابقة أولى من نوعها. وردا على المواقف العدائة وقف القضاة دقيقة احتجاجا( ). ويتعرض عديد من قادة القضاة فى حركتهم اليوم إلى إحالة إلى التحقيق والتأديب من جانب وزير العدل والنائب العام، بينما كرم النادى فى جمعيته غير العادية فى 17 مارس هؤلاء القضاة المحالين أنفسهم، فأبطال حركة القضاء الأخيرة هم أنفسهم مجرمى القضاء من وجهة نظر المجلس الأعلى والنائب العام والوزير. والحال أن المجلس الأعلى للقضاء هو الجهة الرسمية التى تنظم أمور القضاء، بينما تمتع النادى بأغلبية واضحة مؤيدة فى صفوف القضاة. غير أن هذا الجانب من أزمة الشرعية التى تواجه النظام وحركة القضاة معا مجرد أحد تبديات أزمة أعم. حيث أن دور مجلس القضاء الأعلى يصب لصالح استمرار قبضة النظام على القضاء، ومن هنا يتحول كل قرار يتخذه ضد نادى القضاة إلى فضيحة تناقض ادعائه بأنه ممثل القضاة الحقيقى. وهذا كله فرع من أزمة الشرعية العامة للنظام، حيث أنه نظام بجمع بين خطاب إصلاح ديمقراطى وبنية سلطة مزدوجة ذات طابع استبدادى، لا يستطيع أن يدافع عنها فى صراع إيديولوجى مفتوح. وتتمثل قوة مطالب النظام فى التمسك بالوضع الراهن، بالاستناد المعوج لمبدأ فصل السلطات المزعوم لمنع القضاة من الحركة المستقلة عن فلكه الخاص. ويتضح هذا فى الخطاب الذى هاجم حركة القضاة: فقيل أن إشراف القضاة على الانتخابات واجب دستورى وقانونى، أحرى بهم أن يحترموه بصفتهم رجال القانون، بلا قيد ولا شرط؛ وأن اشتراطهم لتعديلات معينة فى القوانين التى تتعلق بعملهم أو قانون مباشرة الحقوق السياسية ليس سوى ابتزاز ودخول فى المجال السياسى المحظور عليهم؛ وأنه يشكل اعتداء على سلطات الدولة الأخرى، حيث أن القضاء ليس منوطا به التشريع ولكن تنفيذ القوانين، وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات. وينعكس هذا الازدواج أيضا فى أزمة الشرعية التى تواجه حركة القضاة. فهم يطالبون بتطبيق مبدأ فصل السلطات بالذات، وخصوصا فيما يتعلق بالسلطة القضائية التى يوجد نص صريح فى الدستور يتعلق باستقلالها. كما يطالبون بإجراء الانتخابات بحيث تكون نزيهة وآمنة من التلاعب. وبالتالى يستعملون الخطاب الإصلاحى للسلطة، والخطاب الديمقراطى العام فى المجتمع. ولكن نظرا لطبيعة السلطة الإدماجية، فإن السلطة التشريعية القائمة تابعة للسلطة التنفيذية عمليا، وبالتالى فإن حركتهم هى فى الواقع مطالبة احتجاجية ذات صفة شبه نقابية موجهة للسلطة التنفيذية، المتحكم الوحيد فى التشريع عمليا. ومن هنا يجدون أنفسهم مضطرين، لتحقيق مطلبهم الدستورى، لتخطى حدودهم الدستورية من حيث الوسائل، لأن اكتفائهم بتطبيق القوانين كما هى يعنى المشاركة فى تسيير آلة السلطة القمعية. ولكنهم من جهة أخرى لا يستطيعون مد خطابهم الاحتجاجى على استقامته، لأنهم جزء من سلطات الدولة، يعترفون بطبيعة الحال بمشروعية النظام القائم ودستوره وقوانينه التى يطبقونها يوميا فى المحاكم. والقضاة واعون بهذا المأزق، فيقول المستشار أحمد مكى ( ): السلطة القضائية تستمد قوتها من التوازن بين هاتين السلطتين [التنفيذية والتشريعية] ومن حرص السلطة التشريعية على تقييد السلطة التنفيذية ومراقبتها. فإذا تحولت السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية [أى سيطرت عمليا على البرلمان]، إما بطريق تزييف إرادة الناخبين أو التدخل لفرض مرشحين، فإن البرلمان سيتحول إلى مصلحة تابعة للسلطة التنفيذية... وهذا التغول يُفقد القضاء قدرته على حماية حقوق المواطنين من جهتين؛ فهو من ناحية يفقد قوته لانعدام التوازن بين سلطتى التشريع والتنفيذ؛ ومن ناحية أخرى فإن استيلاء السلطة التنفيذية على مقدرات التشريع يسهل لها إصدار قوانين تعصف بحقوق المواطنين وتحد من اختصاصات القضاء وتقتر عليه لتضعفه فى مواجهتها. وخلص من ذلك إلى أن "كل علاج حقيقى لمشكلات العدالة لا بد أن يبدأ بضمان نزاهة الانتخابات باعتبارها رأس كل إصلاح". باعتبار أن الانتخابات غير المزيفة قد تحقق الفصل بين السلطتين الكبيرتين، بما يفسح مجالا لاستقلال السلطة القضائية، بأن يصدر البرلمان المستقل التشريعات الكفيلة باستقلال القضاء ومنظمات والمجتمع المدنى. ومع ذلك، يمكن القول بأن المشكلة لا تكمن أساسا فى العلاقة بين السلطتين، بقدر ما تكمن فى طبيعة القوة المسيطرة عليهما( ). والأهم أن هذا يتطلب أصلا أن تصدر قوانين تضمن انتخابات نزيهة، من برلمان تابع، أى بالضغط على النظام، خارج حدود ممارسة القضاء. فمغزى الفكرة أن تحقيق استقلال القضاء، يستلزم تغيير النظام الحاكم الحالى أو إصلاحه جذريا، بينما هم يفتقرون إلى مشروعية تمثيل الشعب، أو أحد تياراته، التى تتيح تبنى مثل هذا المطلب والنضال من أجله. وباختصار فإن الشرعية الديمقراطية العامة مع حركة القضاة وناديهم، بينما الشرعية الإجرائية البحتة تساند النظام. ويبين تقرير لجنة تفعيل قرارات الجمعية العامة المعقودة فى 13 مايو، والصادر فى أغسطس 2005 وطأة هذه المشكلة على القضاة، بما يفسر أيضا تراجعهم باستمرار إلى قبول الإشراف على الانتخابات حتى برغم عدم توافر الضمانات. كان القضاة قد اشترطوا تعديلات معينة تكفل نزاهة الانتخابات ليقبلوا الإشراف عليها (راجع الملحق)، لم يتحقق سوى بعضها. غير أن التقرير انتهى إلى ضرورة قبول الإشراف برغم عدم توافر الضمانات، وبرغم أن الانتخابات الرئاسية مبنية على استفتاء جزموا فى تقرير آخر لهم أنه مزور. فكيف تم التوصل لهذه النتيجة؟ عرض التقرير الرأى القائل بعدم الإشراف على الانتخابات على أساس أن شروط القضاة للإشراف لم تتحقق، ولأن تراجعهم عن موقفهم سيفقدهم "إعجاب الجماهير بالموقف الشجاع للقضاة"( ). رفضت أغلبية اللجنة هذا الرأى، على أساس أن "طلب رضى الناس" قد يخل بشطر من العدالة (أى سيحول القضاة إلى قيادة سياسية، لا جماعة مطلبية)، وقد يؤثر عدم الإشراف على سمعة مصر فى العالم بما يهدد أمنها ومكانتها (وهو ما يمثل قبولا ضمنيا لفكرة أن سمعة النظام هى سمعة البلاد). وربما الأهم أن التقرير يرصد أن القضاة ليسوا مجمعين على الامتناع على الإشراف، وبالتالى سوف يطيح قرار بالامتناع بوحدة موقف القضاة، الضرورية لتحقيق استقلال القضاء، ويودى برسالة النادى المتمثلة فى توثيق الروابط بين القضاة( ). فالقضاة ليسوا سلطة مستقلة لأنهم جزء من نظام غير قائم أصلا على فصل السلطات. ولكنهم جزء قلق. فكل ما يحد من سلطتهم من محاكم استثنائية وتحكم فى مجالهم الخاص نفسه إنما فرضته سلطة يقرون بشرعيتها، ويرفضون توزيعها الأساسى للسلطة فى نفس الوقت. ويقدم التقرير أيضا الأسباب التى طرحها الرافضون للامتناع عن الإشراف، وهى أن واجب القضاة تطبيق القوانين ولو كانت جائرة، وأن السبيل لمواجهتها هو السعى لتعديلها (بالتالى التراجع إلى الشرعية الإجرائية فى إطار النظام القائم). كما أن المشاركة أفضل من حيث أنها تكشف المخالفات (فى إطار الكفاح ضد سياساته). كذلك استجابت سلطات الدولة لبعض مطالب القضاة، و"احترمت غضبتهم وأخذت ببعض اجتهاداتهم". أيضا على القضاة مراعاة "مكانة وهيبة واختصاص السلطتين الأخريين.. باعتبارهم جزءا من النظام"، وأن يصبروا حتى يقتنع النظام نفسه بأن الانتخابات النزيهة هى "الوسيلة الوحيدة لمكافحة الإرهاب ومكافحة السعى لتغيير النظام بالقوة". كما أن شباب القضاة سيتحملون وطأة قرار الامتناع لأنهم يخضعون للتفتيش القضائى والسلطات الإشرافية للرؤساء. والأهم أن قرار مقاطعة الانتخابات "يضر ولا ينفع ما لم تنفذه أغلبية القضاة على الأقل، ومن ثم لا يكفى لإصداره أغلبية الحاضرين بالجمعية... وإلا تعرضت للخطر وحدة القضاء، بل هددت النادى ذاته أخطار...". وهكذا تفاوتت مبررات التراجع بين احترام حدود السلطة القضائية، فى إطار النظام، والنظرة الواقعية لحقيقة عدم إجماع القضاة وقدرة السلطة التنفيذية على إيقاع العقاب ببعضهم. ولكن دخول القضاء الصراع السياسى له أسبابه العميقة كما ذكرنا.. ومن هنا أتى التقرير أيضا بسبب سياسى: القضاء مجرد حكم بين الشعب والسلطة التنفيذية، ومن هنا نُهى القضاة عن الاشتغال بالسياسة. وإذا كان ضعف القوى الشعبية فى بلادنا، واستيلاء الحكومات على سلطة التشريع قد فرض على القضاة أن يعبروا عن أمانى أمتهم.... فإن هذا لا يعنى أن يتجاوزوا التعبير بالقول إلى أفعال من شأنها أن تجعل القضاة طرفا فى النزاعات الدائرة، فلا يصلحون للفصل فيها، ويدفع بهم إلى حمأة السياسة وتقلباتها( ). وبالتالى فإن معركة التوازن الدستورى بين السلطات وقضية الانتخابات رهن بأن يكسب الشعب نفسه أرضا أمام السلطة. وهكذا فإن القضاء حكم، نعم، ولكنه ليس حكما مطلق اليد يحكم وفق مبادئ مجردة للعدالة، ولا يحكم فى قضيته الخاصة مطيحا بالقوانين القمعية باسم مبدأ الفصل بين السلطات، وإنما يحكم وفقا لأوضاع دستورية يقبلها لأنه جزء منها، ووفقا لقوانين يحددها ميزان القوى. وهكذا يمكن قراءة هذه الفقرة على أنها تقول فعلا أن "ضعف القوى الشعبية" أمام النظام الأمنى دفع بالقضاة إلى التراجع من الشرعية الديمقراطية العامة إلى الشرعية الإجرائية بمعناها المباشر.. أى الالتزام بما يطلبه منهم الدستور، أيا كان الوضع. وباختصار تبين أن اللحظة ليست ربيع الديمقراطية، بل مجرد فجرها، المأمول فى أن يصير ربيعا يوما ما. حين طالب مجلس النواب سعد زغلول عام 1924 بالتصدى لإنذارات بريطانيا العظمى، سألهم "هل عندكم تجريدة؟"، أى قوة عسكرية تواجه بريطانيا؟ القضاة أيضا ليست عندهم تجريدة، نظرا لأن التجريدة التى تستطيع أن تدفع إلى تحقيق مطالبهم، أى الحركة الديمقراطية، ما زالت محدودة القوى للغاية. والفكر الليبرالى، أساس فكرة فصل السلطات واستقلال القضاء، ما زال منحسرا، حتى بين القوى الديمقراطية، وفى خطاب القضاة أنفسهم أيضا. ومن هنا نستطيع أن نفهم الحدود التى وضعتها حركة القضاة بقيادة مجلس إدارة النادى على نفسها. فمن حيث المطالب المتعلقة بالإطار القانونى لتحقيق فصل فعال بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وبالتالى الديمقراطية التى نادى بها القضاة.. فإن هذه القضية، حتى من الناحية التشريعية البحتة، أوسع بكثير من مسألة نزاهة الإشراف على الانتخابات، لأنها تتطلب أصلا حرية سياسية وحريات عامة واسعة قبل أية انتخابات، بما يتيح تشكيل جماعات ضغط وقوى سياسية مؤهلة أصلا لخوضها. فالقيود المفروضة على مختلف منظمات المجتمع المدنى، بدءا من قانون الأحزاب، وليس انتهاء بقانون الإدارة المحلية وقانون الجمعيات وغيرها، تعوق تشكل المجال السياسى المناوئ للنظام الاستبدادى، ناهيك عن أوضاع الدستور نفسه. ومن ناحية استقلال القضاء، بوصفه أحد ضمانات الانتخابات النزيهة، وأحد الجوانب الأساسية للفصل بين السلطات، ركز القضاة فى مطالبهم على ما يتعلق بعملهم هم فى القضاء العادى، ولم يتضمن مشروعهم ذاته لتعديل قانون السلطة القضائية إنهاء حصار النظام لمدخلات ومخرجات النظام القضائى من خلال أوضاع النيابة العامة وشرطة تنفيذ الأحكام. فتجنبوا، بنص التقرير المشار إليه حالا، "الحديث عن توحيد جهات القضاء أو إلغاء القضاء الاستثنائى أو الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق [المجموعتين فى يد النائب العام]. أو حتى إضافة اجتهادات جديدة للمشروع حول طريقة اختيار النائب العام، أو غير ذلك، حرصا على التركيز على الأهداف التى حددتها الجمعية [العمومية غير العادية فى 13 مايو]" ( ). وهو نص يدل على أن هذه الأفكار طُرحت بالفعل واستُبعدت، تركيزا على مهمة محددة، ربما لأنه رؤى أنها ممكنة التحقيق من حيث أنها لا تعصف تماما بسيطرة النظام، الذى ما زال محتفظا بقوته، على "مرفق العدالة"، وإنما تكتفى بتحرير مساحة فيه، هى القضاء العادى، وفى حدود ما يصل إليه لينظره بعد المرور بمصفاة النائب العام.
(ج) تضارب مصادر شرعية حركة القضاة: يتمثل جانب آخر من جوانب أزمة شرعية حركة القضاة فى تضارب مصادر الشرعية التى استندوا إليها فى مواقفهم وصراعهم، بل لجوئهم إلى مصدر إلهى للسلطة. واضح أن مرتكزات خطاب القضاة ليست دينية بأى حال. فمبدأ فصل السلطات مبدأ حديث، ذكره مونتسكيو فى كتابه الأشهر "روح القوانين"، المنشور عام 1748، وله إرهاصات فى فلسفة جون لوك السياسية (1632- 1704)، وشهد أول تطبيق له فى الدستور الأمريكى. ومع ذلك تحفل كتابات القضاة السياسية، وليس مذكراتهم القانونية، بالتعبيرات الدينية الإسلامية، التى وصلت إلى الذروة، وبشكل متصاعد، فى كلماتهم الشفوية فى جمعياتهم العمومية، حتى أن الجمعية العمومية الثالثة منذ بداية الأزمة، فى 16 ديسمبر، لم تبدأ إلا بعد البحث عن قاض يفتتحها بتلاوة القرآن. كما كان معظمهم يبدأ حديثه ويختمه بتلاوة الآيات والأحاديث الشريفة. غير أن الأهم من هذا الطابع الدينى العام شيوع تصور لمصدر دينى لسلطتهم ذاتها التى ينافحون عنها. فيقرر المستشار محمود الخضيرى، مثلا، أن "العدل صفة للـه يحققها رجال القضاء على الأرض"، وقال المستشار أشرف البارودى أن على القضاة الامتناع عن الإشراف على أساس "أننا لا نخاف إلا من اللـه... ويجب أن نخشى يوم الحساب"( ). واستهل المستشار زكريا عبد العزيز كلمته فى الجمعية العمومية التالية قائلا: "تحية طيبة من عند اللـه الذى اصطفاكم من خلقه لتقيموا العدل بين الناس"، وخاطب عضو آخر القضاة قائلا: "لا تنسوا يوما تُحملون فيه على الأعناق.... إياكم وتزوير الانتخابات فإنه أكبر الكبائر... عودوا إلى ربكم... كفروا عن ذنوبكم...الخ"( ). وهكذا جمعت الكلمات بين القول بأن القضاة نواب اللـه فى إقامة العدل، وأن التزامهم ضميريا بكفاحهم مصدره إيمانهم الدينى الإسلامى تحديدا (ولا نعرف موقف القضاة الأقباط من هذا النمط من الشرعية). غير أن هذا لا يعنى أن حركة القضاة حركة ملحقة بالتيار الإسلامى؛ فقادة القضاة مختلفى الميول السياسية، والأهم أن الخطاب الدينى ليس سوى مصدر واحد من مصادر المشروعية لديهم، بدءا بالديمقراطية بمفهومها الحديث، والخطاب الوطنى الذى ينادى "شعب مصر العظيم"، والشرعية الدولية متمثلة فى المعايير الدولية لنزاهة الانتخابات( )، فضلا عن الخطاب القانونى المباشر الذى يستند لمعايير سيادة القانون واتساق التشريعات. غير أن الأمر المؤكد أن القضاة لم يطرحوا خطابهم أبدا من منظور ليبرالى: حقوق الفرد أو المواطن أو الناخبين، مثلهم فى ذلك مثل معظم القوى السياسية والخطاب السائد فى المجتمع بشكل عام. فالفكرة على الصعيد العام وطنية، وعلى الصعيد الشخصى دينية أو ضميرية، تخص حرص القضاة على أن يدرأوا عن أنفسهم شبهة المشاركة فى التزوير، أو تخص كرامتهم الشخصية التى تمتهن باستخدامهم فى التستر عليه أو الاعتداء على اختصاصهم( ). هذا التضارب وغيره ناجم عن وضع الفراغ السياسى، الذى يولده النظام القائم بالضرورة، لأنه غير قادر بحكم بنيته ذاتها على تجاوزه، وهو يؤدى بالجميع إلى هذه المواقف الملتبسة.
(د) تقييم عام: نظرا لأن القضاة جزء حساس من نظام إدماجى (للسلطات والمجتمع المدنى) كوربوراتى، فإن حركتهم تشكل تهديدا للنظام، لأنها تهدد بالفعل، كما ذكرنا، الخليط المفضل الذى يستعمله من القانون والاستبداد، وواجهته القانونية الضرورية لعمله على ما هو عليه. وبهذا المعنى فإن حركة القضاة، برغم محدوديتها والتباساتها الضرورية، تقف فى طليعة القوى الديمقراطية الحية فى المجتمع. ومن هنا تلك الحفاوة البالغة التى قوبلت بها من جانب كافة القوى الديمقراطية، بما فى ذلك المحامين الذين بدأت الأحداث كلها بسبب الاشتباك معهم (راجع الملحق). انهمرت المقالات فى الصحف، والأحاديث فى الفضائيات، التى تساند القضاة بكل قوة. وكان اجتماع جمعيتهم العمومية دائما، فى العام الأخير مناسبة تحتشد لها هذه القوى. من كل أنهار ما كُتب فى الصحف اخترت الاقتباس التالى لكاتب غير سياسى: إن مستقبلنا جميعا بغير مبالغة مرهون بموقف القضاة، فلو أنهم أصروا على نضالهم النبيل من أجل الحرية والديمقراطية لن يستطيع النظام أن يستمر فى إذلال المصريين ونهبهم وقمعهم.. إن القضاة اليوم يقودون الأمة ويتحدثون باسم الشعب المصرى كله.. وواجبنا جميعا كمصريين أن نقف وراءهم ونؤازرهم بكل قوة... يا قضاة مصر العظام، مصر تنتظركم، مصر العظيمة المهانة المستباحة التى أذلها اللصوص... مصر كلها تتطلع إليكم فلا تخذلوها( ). غير أن القضاة فى واقع الأمر لن يستقلوا هم أنفسهم إلا بتطور سياسى عميق، يلغى المرجعية الأمنية للنظام، ومن نافلة القول أن ذلك يستحيل أن يحققه القضاة وحدهم، ولا من داخل الكفاح القانونى عموما.
خلاصة: وماذا بعد؟ بصفة إجمالية كانت علاقة القضاة بالانتخابات نقطة حساسة من نقاط الاحتكاك بينهم وبين السلطة التنفيذية، وقد انتهت مؤقتا الآن. ويلاحظ أن النظام لم يجر حتى الآن الانتخابات فى الدوائر التى أبطل فيها القضاة الانتخابات، وظلت مقاعد هذه الدوائر شاغرة. ويبدو أن النية قد انصرفت إلى حل أزمة احتجاج القضاة أولا. وبالفعل استخدم النظام طريقته المعروفة جيدا: ضرب من تعتبرهم متطرفين، وإرضاء المعتدلين ببعض التنازلات، مع إخلاء الساحة العامة من كل تجمعات النشطاء الاحتجاجية المؤيدة لمطلب استقلال القضاء من منطقات مختلفة. لقد صرح الرئيس وابنه وكبار المسئولين عدة مرات بأن أزمة القضاة داخلية، قائمة بين القضاة أنفسهم. بالطبع لم يكن الأمر كذلك، ولكن هذه التصريحات لم تكن مجرد تعمية، وإنما كانت إعلانا لبرنامج النظام فى مواجهة الأزمة: طرد كل الأطراف الأخرى من ساحة الكفاح من أجل استقلال القضاء؛ وضع مجلس القضاء الأعلى فى المواجهة وانسحاب وزير العدل منها؛ وأخيرا إصدار قانون يلبى بعض المطامح الفرعية للقضاة، بما يسمح ببقاء رجاله الموالين له مباشرة، أملا فى أن يعود القضاء إلى حالة التسيس المحدود الذى تفرضه الدولة. وربما يشهد العام القادم خطوة أخرى، وهى تعديل الدستور، بما يلغى إشراف القضاة على الانتخابات. ففى النهاية خسر النظام المعركة داخل صفوف القضاة أنفسهم، وتدرب آلاف القضاة على كيفية مواجهة التزوير والتشهير به علنا، بطريقة يصعب أن يتحملها النظام (نهى الزينى مثلا). غير أن هذا الأمر، برغم أنه يريح معظم القضاة المحتجين، بتنظيف ضميرهم من مهازل التزوير، وإبعادهم بالتالى عن الحلبة السياسية فى شأن الانتخابات، فإن هذا من شأنه، بالنسبة للنظام، إدخاله فى مواجهات مباشرة حول قضية مراقبة الانتخابات ونزاهتها، مع قوى الداخل والخارج، وخصوصا الداخل. وهكذا قد تفضى تهدئة المواجهة مع القضاة إلى مواجهات أصعب. خاصة أن القوى النشطة فى المجتمع أصبحت أكثر تمسكا بإشراف القضاة بسبب مواقفهم الأخيرة بالذات. وفوق ذلك لم يُعرف عن النظام الحاكم ميله إلى اتخاذ إجراءات جذرية فى ربع القرن الأخير، وخصوصا الآن، حيث يبدو كل شىء مهتزا بعمق.. ومعرضا لتفكيك تدريجى للصلة بين الأجهزة السرية للنظام ومؤسساته العلنية، بتمرد هذه الأخيرة على التبعية، بما يدفع الأجهزة الأمنية الحاكمة إلى خيارين فى غاية الصعوبة: التراجع أو اللجوء إلى العنف المباشر، خاصة فى ضوء فشل الأغطية الإيديولوجية الممكنة لقمع منظم لهذه المؤسسات العلنية باسم الوطنية، وهى مناورة جُربت بالفعل مع القضاة والجمعيات الأهلية و"كفاية" وغير ذلك من القوى المعارضة، ولم تعد تجد من الجمهور الواسع، خاصة جمهور الطبقة الوسطى الذى يعد ركيزة مهمة للنظام، سوى "الإعراض"، إذا أردنا أن نستخدم مصطلحا مخففا.
* ملحـــق تطور حركة القضاة الأخيرة بشأن قضية الإشراف على الانتخابات حتى مارس 2006
(1) بدأت أحداث الصدام بين القضاة والسلطة التنفيذية فى 2005 بشجار أخذ يتسع بين المحامين والقضاة فى محكمة جنح سيدى جابر بالإسكندرية. تمت تسوية النزاع فى النهاية، بتوسط نقابة المحامين وجهات أخرى، غير أن أحد المحامين، أو بعضهم، أثار أثناء الشجار مسألة تعرض القضاة لتعديات رجال الأمن أثناء إشرافهم على الانتخابات.. كما اعتبر القضاة أن رئيس محكمة الإسكندرية الابتدائية، الذى يعينه وزير العدل من بين مستشارى الاستئناف والنقض، لم يتخذ الإجراءات المناسبة لحماية كرامة القضاة. هكذا أثار هذا الحدث العارض قضيتين جوهريتين طالما شغلتا القضاة: عدم استكمال استقلال القضاء بسبب تدخل السلطة التنفيذية من خلال وزير العدل فى عملها، من خلال 58 اختصاصا له، نص عليها قانون السلطة القضائية؛ وطبيعة إشراف القضاة على الانتخابات، تحت هيمنة الداخلية. (2) عقد نادى قضاة الإسكندرية جمعيتين عموميتين فى 18 مارس و15 أبريل 2005. ركزت أولاهما على مطلب التحقيق فى الحادث وإنشاء جهاز للشرطة القضائية، أى تابع للمحاكم، لا للداخلية (على نمط حرس مجلسى الشعب والشورى). وأشارت ديباجة التوصيات إلى استقلال القضاء وإلى أن القضاة "قد أهمهم أن اعتداء وقع على منصتهم ولم يقابل ذلك فى حينه من المسئولين بالاكتراث الكافى". وبين سبعة مطالب انتهت بها المداولات جاء المطلب الثالث بشأن إصدار قانون السلطة القضائية والرابع عن تشكيل اللجان العليا للانتخابات من رجال القضاء بالمحاكم ومجلس الدولة، بغير تطرق إلى مجمل جوانب قضية الإشراف على الانتخابات( ). غير أن الجمعية العمومية غير العادية التالية، التى تقرر أن تنعقد لمتابعة تنفيذ توصيات الجمعية السابقة، أتت مختلفة تماما.. فأولا حضرها أكثر من ألف قاض، وحضرها مجلس إدارة نادى قضاة مصر، وأعضاء من أندية أخرى للقضاة بالأقاليم. والأهم أن صفحة الحدث المدشن لاحتجاج قضاة الإسكندرية انطوت تقريبا، وأصبحت القضية الجوهرية فى الجمعية، كما جاء فى التوصيات، هى استقلال القضاء والإشراف "الكامل والحقيقى" على الانتخابات، بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية (المنظم للانتخاب بين أشياء أخرى)، و"تشكيل اللجنة العليا للانتخابات من قضاة الحكم فقط أو إعفائهم فى حالة عدم تحقق ذلك من الإشراف على الانتخابات" وإصدار قانون السلطة القضائية وفقا لما انتهى إليه نادى القضاة فى عام 2004. كما كلفوا "مجلس إدارة نادى قضاة مصر" بالدعوة لجمعية عمومية غير عادية بالقاهرة فى 13 مايو( ). التقطت الصحافة المستقلة والحزبية والقوى السياسية المعارضة – على ضعفها – الرسالة منذ الجمعية العمومية الأولى فى مارس، وأبرزت مطالب استقلال القضاة والإشراف على الانتخابات. كما أخذ بعض قادة القضاة يصرح للصحف بأن هاتين المسألتين أصبحتا ملحتين، وفى ظروف الانتخابات المرتقبة، أصبح الاهتمام بتحركات القضاة واسع النطاق. ومن دلائل ذلك أن النائب أبو العز الحريرى (حزب التجمع، الإسكندرية) تقدم بمشروع القضاة لتعديل قانون السلطة القضائية كاقتراح بمشروع قانون( ). وهكذا احتشد المجتمع السياسى مترقبا الجمعية العمومية غير العادية التى تقرر أن تنعقد بالقاهرة لتضم كل قضاة مصر فى 13 مايو( ). (3) حاولت السلطة إيقاف عقد هذه الجمعية، وصدرت بيانات مضادة لاجتماع قضاة الإسكندرية من بعض أندية القضاة بالمحافظات، تقول بأن إشراف القضاة على الانتخابات غير مشروط، وترفض الدعوة لجمعية عمومية غير عادية بهذا الشأن. وقد ثارت نزاعات داخل بعضها، حيث أن كثيرا من القضاة رفضوا هذا الموقف من قبل مجالس إدارة أنديتهم الإقليمية. كما أعلن مجلس القضاء الأعلى أنه "المختص وحدة بشئون القضاة والمنوط به تمثيلهم"، ووجه اتهامات سياسية لنادى القضاة قائلا أن القضاة "لا يُتصور أن يكون منهم معول هدم أو باعث فرقة فى مواجهة خطر موشك، ولا يقبل أن ينسب لأحدهم أنه يستعدى الأجنبى للتدخل فى شئون البلاد أو المساس باستقلالها تحت مسميات خادعة تحركها نوايا سيئة وتيارات مشبوهة... عاش قضاؤها [:مصر] النزيه يفتديها بنفسه ولو كرهت قلة من المارقين"( ). كما حاول مجلس القضاء الأعلى أن يضفى حصانة على بيانه قائلا أنه لا يجوز للقضاة التعليق عليه. كما نُشر البيان على نطاق واسع فى وسائل إعلام الحكومة وصحفها، مما يدل، كما أشار المستشار رئيس النادى فى الجمعية العمومية فى 2 سبتمبر، على وجود صلات بين المجلس والسلطة التنفيذية( ). (4) يمثل الجانب الأول الهجوم السياسى، الذى استُكمل بمحاولة احتواء حركة القضاة. فبادر وزير العدل طالبا من مجلس إدارة نادى القضاة إبداء مقترحات القضاة فى شأن تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية. فأعد المجلس مذكرة بمقترحات أولية. ورد فيها أن يكون رؤساء اللجان الفرعية دائما من أعضاء الهيئات القضائية، سواء فى الاستفتاء أو الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية؛ وتشكيل هيئة قضائية للفصل فى المنازعات الخاصة بالانتخابات الرئاسية والاستفتاءات، حتى لا تكون قرارات لجنة الانتخابات محصنة من الطعن. وتشكيل لجنة قضائية خالصة للإشراف على الانتخابات التشريعية. كما عبرت عن أمل القضاة (لأنه مطلب لا يجد سندا صريحا فى الدستور) فى أن يكون إشرافهم على الانتخابات كاملا، من بداية القيد فى الجداول حتى إعلان النتيجة، واحترام الأحكام الصادرة بشأن إجراءات الترشيح والانتخابات أو الفصل فى الطعون. وأشارت المذكرة لدور الشرطة وبعض رؤساء المحاكم والمفتشين القضائيين فى عدم نزاهة الانتخابات، وطالبت باستخدام الحبر الفوسفورى وتوقيع الناخب أو بصمه وعدم سقوط حق الناخب فى رفع الدعوى الجنائية بالتقادم فى الجرائم الانتخابية( ). وأكدت المذكرة أن المقترحات المصاغة ستعرض على الجمعية غير العادية. وقد تجاهلت الحكومة إرسال مشروع تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية للنادى، ربما لعدم وقف عقد الجمعية العمومية غير العادية، فظل النادى يطارد الحكومة بالمذكرات( ). ونعى النادى فى أحدها على معدى القانون عدم استطلاع رأى القضاة الموكل إليهم تطبيق القانون فى عملية الاقتراع والذين يتحملون نتيجتها (أدبيا بالطبع). (5) احتشد القضاة، مع تزايد سخونة المعركة، دفاعا عن ناديهم، فحضر الجمعية العمومية فى 13 مايو أكثر من 5 آلاف قاض، وسط ترحيب واسع النطاق من الصحف المستقلة والمعارضة والقوى الديمقراطية. وقد انتهت الجمعية العمومية إلى الموافقة على الإشراف على الاستفتاء (برغم غياب الضمانات)، بما يدل على أن رغبة القضاة قد انصرفت إلى الضغط على السلطة التنفيذية لتحقيق مطالبها (عن طريق السلطة التشريعية التابعة عمليا لها)( )، لا إثارة أزمة دستورية، قد تدفع لمواجهة عنيفة يُرجَّح أن يخسرها النادى، بأن ينجح النظام فى جعل بعض القضاة يشرفون على إجراء الاستفتاء، فى اللجان العامة وحدها، مع تحميل القضاة وزر عدم إشراف القضاء. غير أن القضاة قرروا تشكيل لجنة لتقييم التجربة وتقديم تقرير عنها؛ بالإضافة لتمسكهم بمطالبهم الأساسية، واشتراط الاستجابة لها، وإلا امتنع القضاة عن الإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية( ). كما قرروا تكليف لجنة لتفعيل مطالب القضاة، على أن يُعرض تقريرها على جمعية عمومية للنادى تنعقد فى 2 سبتمبر، أى قبل الانتخابات الرئاسية بأسبوع، ربما لإفساح المجال لأطول وقت ممكن للحوار مع السلطة التنفيذية، ولتحقيق أكبر ضغط ممكن عليها لتستجيب. (6) استجابت الحكومة بالفعل لبعض مطالب القضاة، منها إسناد ندب القضاة والإشراف على عملهم فى الانتخابات النيابية إلى لجنة عليا للانتخابات، بدلا من وزير الداخلية، واستخدام الحبر الفوسفورى، وتوقيع الناخب أو بصمه عند التصويت، وتشديد العقاب على الجرائم الانتخابية وجعلها تخضع للتقادم العادى (وكانت المدة محددة قبل ذلك بستة أشهر)، ورئاسة القضاة للجان الفرعية، ووضع قواعد للتعرف على شخصية الوافدين للتصويت. ولم يستجب القانون لمطالب أخرى، منها السماح لممثلى منظمات المجتمع المدنى بدخول اللجان وتسليم صورة رسمية من محضر اللجنة الفرعية متضمنة نتيجة الفرز لمندوبى المرشحين، فضلا عن وضع قواعد عامة لكيفية اختيار القضاة المشرفين على الانتخابات وتوزيعهم على اللجان المختلفة( ). ولم يصدر قانون السلطة القضائية. أُجرى الاستفتاء فى 25 مايو، بإشراف قضائى محدود، حيث لم يرأس أعضاء الهيئات القضائية سوى 5% من العدد الإجمالى للجان الفرعية، لم يكن لها أثر فى النتيجة، التى أتت مخالفة تماما لما شهده القضاة فى اللجان القليلة التى أشرفوا عليها من قلة إقبال الناخبين، كما تبين للقضاة فى اللجان العامة، بطرق عديدة، أن اللجان الأخرى التى رأسها موظفون قد أجريت فيها عمليات تزوير فاضحة بتوجيه من ضباط الشرطة وتحت تهديدهم أحيانا( ). وطبقا لقرارات الجمعية العمومية للنادى المنعقدة فى 13 مايو، صدر فى أواخر أغسطس تقرير عن لجنة تقصى الحقائق بشأن إشراف القضاة على الاستفتاء، فضح هذا التزوير الفادح. كما رصد الضغوط الإدارية من قبل النائب العام وعناصر السلطة التنفيذية فى القضاء، وأن بعضهم قد منع قضاة اللجنة العامة من المرور على اللجان الفرعية لمراقبة العمل بها. وأشار التقرير إلى أن التفتيش القضائى، ورؤساء المحاكم الابتدائية، وكلاهما من عناصر قضائية يعينها وزير العدل، وبالتالى تتبعه، لهم "سيطرة على القضاة الذين يباشرون الإشراف على أعمال الاقتراع والفرز وإعلان النتائج"( ). كما رصد فاعلية هذه الضغوط، حيث قدََّم بعض القضاة مذكرات للجنة تقصى الحقائق بلا توقيع، وسحب آخرون مذكراتهم بعد تقديمها، فى ظل شيوع القول بأن المتعاونين مع اللجنة سيتعرضون للعقاب. كما أعطى بعض المحامين العامين (التابعين للنائب العام) تعليمات شفوية بعدم التعاون مع اللجنة، واستُدعى اثنين من وكلاء النيابة لقيامهم بجمع شهادات زملائهم ثم أُلغى الاستدعاء. ولعل الأكثر دلالة من كل ذلك أن اللجنة نفسها، وتشكيلها معلن، قررت ألا تضع فى التقرير أسماء الشهود من الزملاء أعضاء الهيئات القضائية( )، حماية لهم. كما أصدرت لجنة تفعيل قرارات الجمعية العامة تقريرا للعرض على الجمعية العمومية للنادى فى 2 سبتمبر، أشار إلى أن تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية استجاب إلى كثير من مطالب القضاة، ولم يستجب لمقترحات أخرى، وهو ما اعتبره بعض الأعضاء أمرا "ليس له من مبرر.. إلا احتمال اتجاه النية إلى التزوير"( ). وبقى قانون السلطة القضائية حبيس أدراج مجلس القضاء الأعلى. ومع ذلك انتهى التقرير إلى أن الأغلبية توصى الجمعية العامة بقبول الإشراف على الانتخابات برغم ذلك (وبرغم أنها مبنية أصلا على استفتاء مزور وفقا لشهادة القضاة). كما قدم نادى القضاة أربع مذكرات لرئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فى يونيو ويوليو وأغسطس، مؤداها الحض على إجراء الانتخابات الرئاسية فى أكثر من يوم ليتوفر الإشراف القضائى الكامل، واتخاذ إجراءات أخرى فى حالة إصرار اللجنة على إجراء الانتخاب فى يوم واحد بما يكفل الإشراف القضائى، وتشكيل اللجان العامة من قضاة الحكم، والسماح لمؤسسات المجتمع المدنى بمراقبة الانتخابات، وتسليم صور معتمدة من محاضر الفرز ومحاضر أعمال اللجنة الفرعية لممثلى المرشحين، وأن تثبت المحاضر أوجه القصور أو التجاوز الأمنى وكافة الشكاوى، ضمانا للشفافية. كما نعت المذكرات على مجلس الشعب أنه أصدر قانون الانتخابات الرئاسية خاليا من أية ضوابط وأحال الأمر برمته للجنة الانتخابات الرئاسية بما يجعل منها أحيانا خصما وحكما فى نفس الوقت، كما لم يضع أية ضوابط بشأن العقوبات المترتبة على مخالفة قرارات اللجنة، ولم يميز بينها وفقا لجسامة المخالفات، بما يعنى أنه تشريع غير منضبط من الناحية القانونية( ). أثناء ذلك كان الرئيس مبارك قد أعلن فى برنامجه الانتخابى تأييده لتعزيز استقلال القضاء، وإنهاء حالة الطوارئ، وإلغاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية ومراجعة قواعد قانون الحبس الاحتياطى من حيث سلطاته ومداه بما يتضمن تعزيز حقوق المواطن ومراجعة قواعد قانون الإجراءات الجنائية وغير ذلك من مطالب القضاة التى يعود معظمها إلى عام 1986. كما أرسل وزير العدل خطابا إلى النادى يوافق فيه على استقلال ميزانية القضاء وتبعية الإشراف القضائى، وموافقته على دخول عناصر منتخبة إلى مجلس القضاء الأعلى إذا رأت ذلك غالبية القضاة. (7) عقد القضاة جمعيتهم العامة الثانية فى 2 سبتمبر، وقرروا الإشراف على الانتخابات، مع إبداء تمسكهم بمطالبهم. وبالنسبة لتعديلات قانون الحقوق السياسية، أبرزوا بصفة خاصة مطلب تسليم صورة للمرشحين من نتائج الفرز فى اللجان الفرعية، وحضور مندوبى منظمات المجتمع المدنى، وانصب سخطهم على مجلس القضاء الأعلى لتعطيله لمشروع استقلال القضاء، ولبيانه العدائى الذى سبقت الإشارة إليه تجاه النادى. (8) وقد أشرف القضاة على انتخابات الرئاسية، وأصدروا فى نوفمبر 2005 تقرير لجنة تقصى الحقائق عن إشراف القضاة عليها، رصدوا فيه المخالفات، وانتهوا إلى أن تأثيرها لا يرقى "إلى النيل من النتيجة النهائية التى أسفرت عنها الانتخابات"( )، واستخلص التقرير من التجربة ملاحظات عامة رأى ضرورة اتباعها فى الانتخابات النيابية، معظمها سبق ذكره، ولعل أهم إضافة كانت القول بضرورة أن يمتد الإشراف القضائى خارج اللجان (لوقف ممارسات الداخلية بمنع المعارضين من دخول اللجان)، وإثبات أسماء الضباط المشرفين على الأمن خارج اللجنة فى محضر اللجنة. وأشار التقرير إلى سيطرة وزارة الداخلية على ندب القضاة للانتخابات، واستبعاد أكثر من 1700 قاض من الإشراف، مع إشاعة أنه عقاب على "الجهر بالمطالبة بالإشراف الكامل والحقيقى على الانتخابات"، كما تم استبعاد البعض بعد إدراج اسمه. وقد رفضت لجنة الانتخابات الرئاسية، المشكلة وفقا لتعديل المادة 76 من الدستور، أن يكون ندب القضاة وفقا لقواعد عامة تراعى الأقدمية والتقاليد القضائية فى توزيع القضاة على اللجان النوعية، وهو ما تكرر، ربما بشكل أفدح، فى الانتخابات النيابية( ). ثم أشرف القضاة على الانتخابات النيابية، حيث تعرض بعض أعضاء الهيئات القضائية للاعتداء اللفظى والبدنى على أيدى ضباط الأمن، وهو ما أثار ثائرة كثير من القضاة، خاصة وأن النيابة العامة تراخت فى التحقيقات، بل ذكر رئيس النادى فى اجتماع الجمعية العمومية غير العادية فى 16 ديسمبر أن "النيابة متواطئة مع الشرطة"، بمعنى أنها تتستر عليها، كما أن "أجهزة الأمن وأمن الدولة يتدخلون من خلال التفتيش القضائى [التابع لوزارة العدل] فى توزيعكم [:القضاة] على اللجان [الانتخابية]"( )، بما يعنى أن هذه الهيئة القضائية التابعة للسلطة التنفيذية تعمل تحت إشراف الأمن وبتوجيهاته. كما أن النظام المعمول به لفصل النيابة عن القضاء، وتعيين رئيس الجمهورية للنائب العام، كان من آثاره "أن النيابة العامة تراخت فى التحقيقات" فى حوادث اعتداء ضباط الأمن وأمن الدولة على القضاة( ). كما صرح المستشار حسام الغريانى بأن بعض القضاة زوروا الانتخابات، وهؤلاء "يتم حمايتهم ن طريق وزارة العدل"( ). وانتهت الجمعية إلى تقرير الإشراف المشروط على الانتخابات فى المستقبل، والتعجيل بالتحقيقات بشأن الاعتداء على القضاة، والتحقيق فى مسألة اختلاف النتائج المعلنة فى اللجان العامة عن محصلة نتائج الفرز فى اللجان الفرعية، بما يعنى أن بعض قضاة اللجان العامة زوروا النتيجة لصالح مرشحى النظام، ومطالبة الرئيس بتنفيذ برنامجه بإنهاء حالة الطوارئ، ومواصلة عرض نتائج مساعى مجلس إدارة النادى فى هذا الشأن، وفى شأن إصدار قانون السلطة القضائية، فى لقاء شهرى مفتوح بالنادى، وعقد جمعية غير عادية فى 17 مارس( ). (9) أصبح مجلس القضاء الأعلى هو رأس الحربة الموجهة ضد حركة القضاة، بينما حرصت الحكومة ممثلة فى وزير العدل على أن تبدو فى مظهر القائم بالتوفيق بين طرفين قضائيين. وهو خطاب يرجع إلى أن انتهاء الانتخابات أدى إلى زوال الخطر المباشر الذى تمثله حركة القضاة، وانفساح الوقت أمام السلطة للتعامل معها على مدى زمنى أطول، خاصة مع إلغاء انتخابات المحليات هذا العام. غير أن قادة حركة القضاة المنتخبين فى ناديهم ظلوا يرددون أن موقف مجلس القضاء الأعلى ليس بعيدا عن التوجهات الحكومية. وقد باشر مجلس القضاء هجومه بتحويل عدد متزايد من المستشارين قادة الحركة، معظمهم من نواب محكمة النقض، إلى التحقيق معهم فى شأن ما صدر عنهم بأن بعض القضاة فى اللجان العامة زور نتيجة الانتخابات، بإصدار نتيجة نهائية تتناقض مع ما أتت به الصناديق فى اللجان الفرعية. وأصبحت الأزمة ذات بعد تنظيمى واضح يتعلق بالمشروعية: هل يحق لمجلس إدارة النادى واللجان المنبثقة عنه أن يحقق مع القضاة فى شأن الانتخابات؟ ومن أين تنبع سلطتهم فى إجراء هذا التحقيق؟ وهل يجوز لمجلس القضاء الأعلى أن يحيل نواب محكمة النقض للتحقيق؟ ومن جهة أخرى عقد النادى جمعيته العمومية غير العادية الثالثة فى 17 مارس، سبقتها وقفة احتجاجية بزى القضاء الرسمى والأوسمة. سعت الجهات القضائية التابعة للسلطة التنفيذية لعرقلة عقد الجمعية، حيث أمر النائب العام (يعينه رئيس الجمهورية) كل أعضاء النيابة بالحضور إلى مقار عملهم يوم عقد الجمعية (وهو إجازة رسمية) لإنجاز المتأخر من الأعمال، فأرسل مئات منهم برقيات تأييد للقضاة المجتمعين فى النادى، مؤكدين تضامنهم. كما أن وزارة العدل أوقفت الدعم المقرر للنادى مما أدى لتوقف مشروعات تطوير خدمات النادى للقضاة. برغم ذلك حققت الحركة انتصارا كبيرا، حيث حضر اجتماع الجمعية 3000 قاض برغم الإغراءات والتهديدات. وهكذا قررت الجمعية العمومية للنادى منع المستشارين من المثول للتحقيق الذى أمر به رئيس محكمة النقض (وهو نفسه رئيس المجلس الأعلى للقضاء) وردت على ذلك بأن كرمتهم ومنحتهم هدايا تذكارية باعتبارهم "شهداء استقلال القضاء" (وقد انتهت القضية لاحقا بتحويل اثنين من المستشارين للتحقيق بالفعل، وصدور لوم فى حق المستشار البسطاويسى)؛ وأدانت الجمعية تراخى النيابة العامة فى التحقيق فى الاعتداء على القضاة، ومنع أعضاء النيابة من حضور الجمعية؛ كما قررت تشكيل لجنة للقيم من شيوخ القضاة لتقييم أفعال المعادين لحركة القضاء فى صفوف القضاة أنفسهم، واقتراح ما يتخذ ضدهم من إجراءات فى حدود سلطات النادى. وقررت أن تتابع لجنة تقصى الحقائق عملها فى التحقيق فى شأن التزوير فى الانتخابات النيابية "دفاعا عن سمعة القضاء المصرى وتثبيتا لثقة الأمة فيه"( ). ويدل هذا كله على أن المواجهة أصبحت بدرجة متزايدة تنظيمية بين القضاة كحركة مستقلة، وبين الجهات التابعة للسلطة التنفيذية بشكل أو بآخر، مثل النيابة العامة ووزير العدل. ومن جهة أخرى فإن الحركة قررت أن تعمق نضالها السياسى بأن وافقت على الوقوف ظهر يوم الخميس 25 مايو بدار القضاء العالى احتجاجا على ما جرى فى الاستفتاء على تعديل الدستور قبل عام، وأن يسمحوا للمعنيين باستقلال القضاء ونزاهة الانتخابات بمشاركة القضاة فى وقفتهم الاحتجاجية لـ"إظهار مدى التفاف الأمة حول مطالب القضاة"، بينما رفضوا عدة مرات من قبل مشاركة عناصر أخرى فى حركتهم. ومن جهة أخرى فقد أذن مجلس إدارة النادى لمنظمة هيومان رايتس واتش، أكبر منظمات حقوق الإنسان الدولية، ذات المنشأ الأمريكى، بالاجتماع معه، كاسرا بذلك حدا آخر من الحدود التى قيد بها حركته السياسية من قبل، ولكنه اضطر للتراجع، حفاظا على وحدة صف القضاة، ولكن جاء بيانه كاشفا للضغوط التى مورست على النادى، ومبرئا لمنظمة هيومان رايتس من التهم التى روجتها صحف النظام (من قبيل أنها منظمة أمريكية صهيونية)، بما جعل التراجع فى الحقيقة لا يقل إحراجا للسلطة (التى التقى ممثلوها أنفسهم بوفد المنظمة) عن الاجتماع بهم. وجاءت الكلمات فى الجمعية مفعمة بالدلالات السياسية وشملت قضايا متنوعة، الأمر الذى يبين مدى جذرية التحول فى حركة القضاة فى عام واحد (مارس 2005 إلى مارس 2006).
#شريف_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحالف -الاشتراكيين الثوريين- مع الإخوان: مأساة أم مهزلة؟
-
ماذا يفعل الديمقراطيون المصريون مع الإخوان؟
-
تعليق على ورقة -تشريح الصراع الاجتماعى والسياسى-
-
الهوية وسلطة المثقف فى عصر ما بعد الحداثة
-
اليسار الماركسى فى ظل الناصرية
-
ست دروس فى التكفير
-
حول الحركة الطلابية فى مصر فى السبعينات
-
الحلم والواقع حول أيديولوجية الحركة الطلابية الماركسية فى ال
...
-
حول كتاب جان ــ فرانسوا ليوتار : الوضع ما بعد الحداثى
-
الوداع الأخير للحرس القديم أزمة الإنتلجنسيا المصرية وأيديولو
...
-
نحو إعادة بناء لليسار
-
لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟
-
عن الفن والأدب فى ظل الناصرية: دراسة لدور المثقف فى ظل حكم ا
...
-
مأزق التنوير مابين السلطة والأصولية الإسلامية
-
مأزق القومية فى الماركسية المصرية
المزيد.....
-
-أخبرتني والدتي أنها عاشت ما يكفي، والآن جاء دوري لأعيش-
-
لماذا اعتقلت السلطات الجزائرية بوعلام صنصال، وتلاحق كمال داو
...
-
كيم جونغ أون يعرض أقوى أسلحته ويهاجم واشنطن: -لا تزال مصرة ع
...
-
-دي جي سنيك- يرفض طلب ماكرون بحذف تغريدته عن غزة ويرد: -قضية
...
-
قضية توريد الأسلحة لإسرائيل أمام القضاء الهولندي: تطور قانون
...
-
حادث مروع في بولندا: تصادم 7 مركبات مع أول تساقط للثلوج
-
بعد ضربة -أوريشنيك-.. ردع صاروخي روسي يثير ذعر الغرب
-
ولي العهد المغربي يستقبل الرئيس الصيني لدى وصوله إلى الدار ا
...
-
مدفيديف: ترامب قادر على إنهاء الصراع الأوكراني
-
أوكرانيا: أي رد فعل غربي على رسائل بوتين؟
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|