كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 7360 - 2022 / 9 / 3 - 10:56
المحور:
الادب والفن
انتقل فوج الكمندوس من منطقة الدريهمية غرب البصرة الى محافظة دهوك , وعسكر هناك في مطار بامرني الذي لا يبعد كثيرا عن الحدود التركية , وقضت الثلوج والامطار الغزيرة على الحرارة المؤبدة التي خلفتها الشمس في اجساد الجنود , على تلك الرمال القاسية في الجنوب .
قبيل وصولنا لم يتبق من تمرد الاكراد في الشمال الا جيوب لا تؤثر على استقرار كردستان , لقد انهكتهم خيبة الامل وثلجتهم لعبة المصالح الاقليمية والفتك اللا محدود الذي استخدمته القوات العراقية وهناك مثل واحد يلخص ما كان يحدث قبل الخمود , فقد وصل للشمال والحرب مستعرة جنرال يمسك بعصا واصدر اوامره بتدمير اية قرية تنطلق منها رصاصة واحدة .
العريف الكردي كان مشرفا على الطباخين , بنيته مقزمة ولكنها تفتح شهية التندر فان علمت بان الاكراد لاسباب دعائية او واقعية كانوا غذاء للتندر عند العرب فيمكنك ان تتخيل حمة ...
في الطريق الى دهوك توقف الرتل ساعات في احدى ضواحي اربيل فتمكن العريف حمة ان يضللنا جميعا, رغم تأهبنا ,ولم نتمكن من معرفة منزله الذي قصده وعاد منه متخفيا , هازما فضولنا .
كنا زمرة من الصغار نصطاد الحمام والطيور المهاجرة وننطلق من منطقة الحكيمية مسافة كيلوين ونلهو هناك قرب سياج من الطين يفصل احد المعسكرات حيث تنتفخ القمامة واكوام الزاد .. لم يكن ابو شاكر ـ كنيته في المعسكر ـ يعلم بان هذا المعسكر الذي يستقر فيه العريف حمة ضمن فوج من القوات الخاصة وانه سيكون يومااحد افراده, لم يكن يتصور ان احدا سيزيل شعره تماما ويزجه ببزة مرقطة ويكون العريف حمة مسؤولا عنه مباشرة .
كنا نذبح الخراف التي نصادر بعضها من الاكراد الهاربين الذين يطلقون عليهم , بعدما تنقلنا المروحيات الى القرى النائية .. حيث لا نرى احدا منهم الا النساء والصغار ... حتما سيستمتع الجنود بهذا الغذاء الشهي , بعدما تعبت معدهم من اللحم التركي الذي يستورد للثكنات مكفنا بقطع قماش بيضاء .
الباعة الكرد قريبا من الفوج يبيعون الكرزات باسعار منخفضة وهم يتجولون على حميرهم .. بعضنا لاول مرة يشاهد الشمال.. فتراءت القمم الجبلية تحفر رماحها الحجرية في قلب السماء الغاضبة ولاحت الربايا المنتشرة في كل مكان والازهار التي تشق لها منفذا في الصخور .. الوديان العميقة .. الغابات التي تبتلع الاثر , ويضيع فيها الانسان , البساتين المشاعة من الكروم والتفاح والتين والمشمش والليمون .. الرياح تتكفل بقطفها ووضعها بين يديك ... اشجار الجوزوالفستق في الاماكن الشاهقة ..الترع التي شقت طريقها في الحجر, نقيا يجري فيها الماء مبردا وانيقا .. التنوع الحيواني غير المحدود .الظلمات التي تشعرك ليلا بانك خارج العالم , متاهات البساتين التي تنجو من فخاخها بغاية الاجهاد ... الامطار الغزيرة التي لا تتوقف لايام او اسابيع ... العواصف الثلجية .. حتى ان آمر السرية ظهر مرة صارخا بنا ونحن نعتصم بالخيام (اخرجوا وازيلوا الثلج من على خيامكم قبل ان تنهار ).المقاهي البديعة البسيطة التي تقام تحت اشجار المشمش بمنخفضات جوارالشوارع المعبد ة.
عندما عدنا الى الجنوب بعد سنة , عسكرنا ثانية في الدريهمية في الصحراء المترامية ... فعاد للعريف حمة طبعه المزعج القديم . كنا ننزل لبيوتنا كل خميس بعد الثانية ظهرا ونعود فجر السبت , ولان حمة سيبقى وحده (لا يقبل اجازة الا كل ثلاثة اشهر ) ,فانه يحول يوم الخميس مأتما , انه رجل عنين وهو آلة عسكرية من البشر مثال لمن رموا الجمال وراء ظهورهم وتناسوا الحياة المدنية وهو يستمتع بتنفيذ الاوامر ... وكان اغلبنا لا يطيق اللون الخاكي ولا رؤية الضباط المتبخترين ... هكذا استمر حمة ينغص علينا خميساتنا .. بعد مرور ستة اشهر ابتاع الجندي ابو شاكر اقراص اسهال واتفق مع جندي مقرب للعريف حمة ان يضعه له مطحونا في الشاي الذي كان مدمنا عليه ,تصور كيف انقلبت ازمتنا الخميسية الى مرح وضحك والعريف يصرخ ويستغيث كل خميس بعد الساعة الحادية عشرة (الابريق .. الابريق املاوا لي الابريق ... بطنه ... بطنه .. ) ويضع يديه على بطنه ويهرول مثل احدب كي يقضي حاجته , كنا نقول مقهقين وهو يجري (شاي العافية ).هكذا قتلت الازمة .. وصرنا بعد القصعة نستقل المركبات العسكرية (الزيلات )..الى منازلنا .
عندما اندلعت الحرب العراقية الايرانية عسكرنا في بساتين الفاو فيما تقدم احد افواج لوائنا ليقتحم المحمرة ,
في احد الليالي , الثامة مساء .. اندلع الهرج وتحركت البرمائيات في اتجاه مركز مدينة الفاو ... انه انزال ايراني مفاجيء ...
لم يكن الانزال جنودا ولا طائرات انه سرب من الطيور .. كان شعار الفوج <بر .. بحر .. جو .. >. بعدما تحركت البرمائيات لصد الانزال الوهمي بقي الاداريون في مواقعهم واراد احدنا ان يتسلى فتقدم يطلق الرصاص بشكل عشوائي باتجاه شط العرب وتدفق الرصاص المحمّر بين النخيل كان الظلام مهيمنا فاصاب احد الجنود في الفخذ, وسمعناه يصرخ فهرعنا اليه وضمدنا جرحه وارسلناه الى المشفى العسكري ... وجمع ابو شاكر بعض الجنود من الاعاشة : (اسمعوا ان عاد الفوج قولوا تعرضنا لهجوم من ضفة الشط ... ) وهذا ما حدث .. آمر السرية امرنا ا ن نصطف نسقا ونتقدم عابرين الترع العريضة بين النخيل حتى اشرفنا على ضفة شط العرب ولكن لا عدو ...عندما تشتد الاهوال يتكهف الانسان او يقتحم او يجن او يبتكر السخرية .
قبل الحرب بشهور كان العريف حمة يتدرب ساعات استعدادا لترقيته الى رأس عرفاء , كنا نتسلى وهو يخطو خطوات عسكرية مقلصا يديه ثم يستعد ويرفع وجهه المجهد امامنا بشموخ ويؤدي التحية متخيلا نفسه ماثلا امام القائد الذي سيقلده رتبة .
في بساتين الفاو كنا نرفع مستوى الصوت لمذياع يصدح بالاغاني الوطنية , وبعد الساعة العاشرة نخفض صوت المذياع ونقترب منه لنستمع الى اذاعة الاهواز وطهران .
لم يطل مكوثنا في بساتين الفاو طويلا , وكان الايرانيون يقصفون بالمدافع والطائرات بشكل عشوائي .. كثافة النخل تمنعنا من رؤية بريق الانفجارات .وابتكر ابو شاكر لعبة جديدة , مرة ثانية ,فكان يرمي العريف حمة بحجر تزامنا مع صوت الانفجار ما يجعله يرتعد خوفا .. وفي يوم ما تمكن ابو شاكر من الهدف فاصاب العريف حمة بخوذته .. فجرى مرتعشا في بدلته الزرقاء الى آمر السرية وهوى يقبل قدميه (سيدي انا مريض انقلني الى الخلف) , وكان يبكي متوسلا ويتضرع حتى رق له قلب الامر وتم نقله الى الخلفيات في الدريهمية ..وهكذا تخلصنا من هذا العريف المسكين الجبان .
سوف لن يشهد حمة قوة الدمار الذي خلفناه في المحمرة , حيث اندلعت هناك حروب شوارع وجرت الوان من النهب ..ولم يعبر معنا نهر الكارون ويشاهد القرى التي تنهب والبقرات التي بقرنا بطونها مكتفين ببعض احشائها تاركينها على السجاد الفارسي ,ولم يدرك ان احد الجنود كتب على حمار وانثاه فاسماهما باسم قائدين ايرانيين واجبرهما على التزواج في غرفة من الطين , ربما لم يسمع عن العريف احمد الذي اكمل بناء دار من طابقين وفي يوم اجازته التي سينتقل فيها لمنزله .. قد تحول لاشلاء ولم يعلم حمة بهزيمة مرة او تقهقر قطعاتنا قبل ان نأسر وزير النفط الايراني وقد وصل خطأ لقطعاتنا في بهمشير .ولم يتمكن منا حمة ونحن نكرع الخمر على ضفة نهر صغير , ليلا ونتعشى من اللحم المعلب في منطقة الشلامجة , قبل ان نعبر الكارون .
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟