|
الدولة والاستيلاء والعنف في فلسفة جيل دولوز وفليكس غواتاري (مدخل)
وليم العوطة
(William Outa)
الحوار المتمدن-العدد: 7358 - 2022 / 9 / 1 - 02:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الدولة في الفصل الثالث من آنتي-أوديب، ومن الفصل الثاني عشر إلى الثالث عشر في ألف سطح، يطالعنا تحليلٌ للمكَنة الاجتماعية "المستبدة" وللدولة الّتي تنتمي إليها. ويبدو أنّ نظرية دولوز في "شكل الدولة" تهدف إلى توضيح وتبيان أنماط الفاعلية في الانتاج الاجتماعيّ والانتاج الراغب، وهو شكلٌ يجمع بين مكَنة للسلطةِ وموقعٍ رغبوي عابرٍ للشخصنة ونسقٍ مؤسستيّ معقد ونسقٍ آخرٍ من التذويت الجماعيّ؛ ويجري التحليل الّذي يقدّمه آنتي-أوديب فوق أرضية الجدال مع المدرسة الرايشية الّتي جمعت بين الماركسية والفرويدية، وريثة فرويد في كتابه علم نفس الجماهير وتحليل الأنا، وأيضًا في خضّم نظرية سبينوزا السياسية في كتابه الرسالة اللاهوتية-السياسية. ولكنّ هذه الإحالة إلى فرويد ورايش Reich لا تعني بأيّ حال تكريسَ تحليلٍ نفسيّ للظاهرة الدولتية وتلك السياسية بل فكّ الشيفرة التاريخية والمادية لأجهزة الدولة، وترسيم تحوّلاتها وتفكيكها ؛ وذلك في حوارٍ مع الأنظمة الاثنولوجية والآركيولوجية، مع مساءلةِ الشروط الاجتماعية-الاقتصادية.
الدولة-الشكل يعارض دولوز وغواتاري، استلهامًا لنتائج الأبحاث الانتروبولوجية الّتي قدّمها بيار كلاستر (1934-1977)، النظريات السياسية التقليدية الّتي تلجأ إلى تفسير تاريخيّ خطّي يرى الدولة وليدة تدرّج تاريخيّ له قوانينه، والّتي تفترض نشوء الدول حين يصل المجتمع إلى درجةٍ من التعقيد والنمو تستوجب ظهور شكل دولتيّ محدد، وتتبنّى الرؤية الّتي تنظر إلى المجتمعات البدائية من حيث هي متخلّفة وبسيطة ولم تؤمّن الشروط اللازمة لتأسيس دولة. وبدلاً من ذلك، يتحدّثان عن شكلِ دولةٍ لا تشترطها التبدلات الاجتماعية والاقتصاية، بل عن دولةٍ تظهرُ لمرة واحدةٍ، وبشكلٍ واحدٍ Urstaat ، تكون كالدولة الأصل originel، و هيالدولة المستبدة، ذلك النموذج "الأزلي" لما تتّجه إليه كلّ دولة وترغب به، وهي الدولة الّتي تعبّر عن نمط الانتاج الآسيوي وتشكّل حركته المتموضعة والّتي لا تختلف عنه، فهي "الشكل الاساس، الّذي يحدد أفق التاريخ [...] الدولة المستبدة الأصلية الّتي ليست قطيعةً مثل الدول الأخرى" . وفي حين سيعترفان– مع كلاستر - بوجود مجتمعات "بدائية" تفتقر إلى الدولة، سيرفضان فكرته الّتي تعتقد بخلوِّ هذه المجتمعات من الدولة تمامًا، اعتقادًا منهما بوجودِ ميولٍ داخل هذه المجتمعات إلى تشكيل دولةٍ وميول أخرى إلى منع ذلك، كما باستحالة وجود مجتمعاتٍ بدائية لم تكن على اتصال مع "دول امبراطورية، عند التخوم، أو في المناطق سيّئة التحكّم. والأمر الأهم هو الفرضية العكسية: كانت الدولة بحدّ ذاتها ودومًا على علاقةٍ مع خارجٍ، ولا يمكن التفكير فيها بعيدًا عن هذه العلاقة، " فقانون الدولة "ليس هو قانون الكلّ أو لا شيء [...] بل قانون الداخل والخارج. الدولة هي السيادة، ولكنّها لا تسود إلّا متى أمكن لها أن تستدخل، وأن تستوليَ على المستوى المحليّ" . وبدل الانطلاق من معارضة ثابتة بين مجتمعات الدولة ومجتمعات اللادولة، يحملنا التصنيف التاريخي – المكَنيّ إلى الأخذ بالاعتبار سيرورة الاقتدار الدولتية كبعدٍ فاعل في كافّة الحقل الاجتماعيّ، راهنيًا كان أم افتراضيًا، وفاعلًا في الحالّتين، أي منتِجًا للآثار المتبدّلة بحسب علاقات الهيمنة أو الإخضاع مع سيرورات اقتدارٍ أخرى لامتجانسة تتواجد في الآن عينه فوق الحقل الاجتماعي ذاته. يشكّل هذا التمفصل المعقّد لكافة سيرورات الاقتدار الموضوع العيني لمادية مكنية تاريخية تقود تحليلاً لكافة القوى الموجّهة الّتي تلتقطها في حقلٍ تاريخيّ، والّتي تعمل داخله كما تفعل التمثيلات والتصوّرات كما الممارسات والملفوظات الجماعية، والمؤسسات كما الاقتصادات، والعقلانيات السياسية وأنماط التذويت. بهذا المعنى، لا يعني مجتمعٌ بلا دولة مجتمعًا يفتقر إلى دولة، أو مجتمعًا ضدّ الدولة، بل مجتمعًا تقطعه سيرورات دولتة étatisation سيميائية، وهي سيروات الاستيلاء، الّتي إمّا تكون مترّهنة، قائمة، أو منشودة كافتراضية . من وجهة نظرٍ دولوز-غواتارية، يمكن تبرير رفض المنطلق الّذي يشترط تكوّن الدولة بتوافر ظروف اجتماعية اقتصادية محددة عبر القول بأنّ الدولة لا تُعرّف بوجود مجموعة من الزعماء والقادة، مثل حال زعماء المجتمعات البدائية، بل بالاحتفاظ بأعضاء السلطة، حيث يصبّح الاحتفاظ همّ الدولة، ويصبح من المفروغ منه القول بلزوم "وجود مؤسسات خاصة ليصبح بإمكان زعيمٍ أن يصبح رجل دولة، ولكن يجب بالقدر عينه توفّر آلية جماعية نافذة تمنعه من أن يصبح كذلك" . وإذا كانت الماركسية تكلّمت عن خمس مراحل مرّ بها المجتمع البشري (الشيوعية البدائية، المدينة القديمة، الاقطاعية، الرأسمالية، وأخيرًا الاشتراكية) وأضاف ماركس إليها ما سمّاه "نمط الانتاج الآسيوي" كنمط يتميّز عن مكوّنات هذه السلسلة، فإنّ الدولة الّتي يتحدث عنها دولوز وغواتاري ليست ضمن تشكيلات هذه السلسة فحسب، بل أيضًا ليست مرحلةً انتقالية بينها، ولكنّها كالشاهد على بُعدٍ آخرٍ، فهي "مثالية عقلية تُضاف إلى التطوّر المادي للمجتمعات، وفكرة موجِّهة أو مبدأ تفكيرٍ ينظّم بشكلٍ كلّي الأقسام والدفوق" . ويعتقد دولوز وغواتاري بوجودِ أساسٍ واحدٍ لشكل الدولة (دولة استبدادية) بالرغم من كلّ الاختلافات بين الدول المعروفة، سواء أكانت ديكتاتورية أم ديمقراطية أو غير ذلك. هذا الشكل الأوحد والأصلي هو تجريد ينتمي إلى بعدٍ آخر يبزغ من جديد ويعود في الأشكال والتشكيلات الّتي تمنحه وجودًا عينيًا؛ نستطيع التكلّم عن "دولة متحوّلة الشكل، ولكن لن يوجد سوى دولة واحدة [...] وكلّ التغيّرات تندرج تحت الفئة نفسها [...] لا يفترض الإقطاع فقط دولةً استبدادية مجرّدة يقطّعها بحسب نظام ملكيته الخاصّة واندفاع انتاجه السوقيّ، ولكنّ هذين الاخيرين يحثّان بالمقابل الوجود العيني لدولةٍ اقطاعية خالصة، حيث يعود المستبد كملكية مطلقة " ، والأمر عينه ينطبق على الدولة المعاصرة سواء أكانت رأسماليةً أم اشتراكية فهي تتقاسم السّمات عينها مع الدولة الاستبدادية الاصلية الّتي تفقد وجودها المحايث والعيني في الأشكال اللاحقة (اقطاعية ورأسمالية واشتراكية) ولكنّها الّتي تعيد انتاجها تحت صورٍ أخرى وشروطٍ مختلفة. إنطلاقًا ممّا سبق، يمكن القول بأنّه ليس من المقدّر للدولة أن تزول كما تحاجّ الاطروحات الماركسية أو الانارشية (اللاسلطوية) مثلاً، فالدولة هي الأفق التاريخي لكلّ المجتمعات حتّى تلك البدائية الّتي تميل في سيرورتها إلى منع تشكّلها. بهذا المعنى، تبدو الدولة كامنةً دومًا، وضمنيةً، وسفليةً، ودائمة الإمكان، وغير قابلة للتدمير. لهذا السبب، لا تبدو كافة أشكال الدول الّتي تحدّث دولوز عنها (المتوحشة، البربرية المستبدة، المتمدنة، والليبرالية الديموقراطية..) إلاّ أشكالًا متنوّعة للحكم (سلطة السيادة الاقطاعية، الانضباطية، الحيوية ومجتمع التحكم) ولا تهدف إلى إلغاء الدولة .
سيادة الدولة وأجهزة الاستيلاء يتحدث دولوز وغواتاري عن أجهزة الدولة كأجهزة استيلاء، تملك، برأيهما، واستلهامًا من تحليلات جورج دومزيل (1898-1986) G.Dumézil، قطبين: المستبد والمشرّع، الّذي يحصد والّذي ينظّم، وقد يتعارض هذان القطبان كما يتعارض العنيف مع الهادىء، أو السريع مع النافذ، أو المرعب مع الّذي يضبط اعصابه، ولكنّ تعارضهما نسبيّ، فهما "يعملان كزوجٍ، بالتناوب، كما لو كانا يعبّران عن انقسام الواحد أو يشكلان معًا وحدةً سياديةً [...] هما العناصر الأساسية في مكَنة الدولة الّتي تعمل بمنطق الواحد المزدوج، وتوزّع التمييزات الثنائية وتشكّل وسطًا للاستدخال. فهي تمفصلٌ يجعل من مكَنة الدولة أنضودة strate" . في السطح الثالث عشر من ألف سطح، يعود الفيلسوفان إلى دومزيل ويعتبران أنّ لسيادة الدولة السياسية رأسين هما الامبراطور المرعب والساحر من جهة، مَن يعمل عبر الاستيلاء، والربط، وعبر العُقد والشبكات؛ ومن جهة أخرى، الملك الكاهن ورجل القانون الذي يدّعي الحكم عبر العقود والاتفاقات. وينبغي هنا التكلّم عن وظيفةٍ ثانيةٍ للدولة لا تتجانس مع السيادة ولا يمكن اختزالها اليها، وهي الوظيفة الحربية . ويمكن تعريف الاستيلاء بوصفه العملية الّتي تقوم بها الدولة حين تكبّل وتسنّن (تشفّر) مكَنة الحرب عبر تحويلها إلى موضوعٍ يمكن أن يعمل لصالح الدولة من اجل تدعيم وتوسيع سيادتها. وتحيل هذه المقولة إلى خطابٍ يلائم الحركة الّتي عبرها تبدو الدولة دائمة الحضور، كما تعني العنف الخاص بالامبراطور. وجهاز الاستيلاء سيرورة خاصة بكافة المجتمعات الّتي تحكمها الدولة. وإن اطلقنا هذه التسمية "على ذلك الجوهر الداخلي أو تلك الوحدة للدولة، علينا القول إنّ مصطلحات "الاستيلاء السحري" تصف جيدًا هذه الحالة، فهي [هذه الاخيرة] تظهر وكأنّها حاضرة مسبقة وتفترض نفسها بنفسها" . ويمكن والحال هذه التكلّم عن الاستيلاء على مستويات متعددة: سياسيًا هو الاستيلاء على الثقافة البدوية واقليمها حيث تستوطن وهو الاقليم المقتلع عبر ثقافة الدولة؛ وجوديًا هو الاستيلاء على الدفوق عبر النسق والنظام؛ وزمنيًا هو استيلاء على الحدث عبر التاريخ . ويمكن لأجهزة الاستيلاء هذه أن تكون بدئيًا مسألة علامات. حين تقوم صورة الامبراطور ذي العين الواحدة بتثبيت وتقييد العلامات، بالتكامل مع الكاهن القانونيّ الّذي يشفّر هذه العلامات في الاتفاقات، والعقود والقوانين. كما يمكن للاستيلاء أن يُفهَم كتأسيس لتحكمٍ بالعلامات بالترافق مع البعد الانموذجي الآخر للدولة والّذي هو التحكّم بالأدوات . ولكنّ هذا لا يعني "أنّ الواحد منهما يمتلك حصرية العلامات، والآخرية حصرية الادوات. الامبراطور المرعب هو بالفعل سيّد الأعمال العظيمة؛ والملك الحكيم يجلب ويحوّل كلّ نظام العلامات. والتركيب علامات-أدوات يشكّل من كافة النواحي العلامة الفارقة للسيادة السياسية، ولتكاملية الدولة" . وعبر نظرية الاستيلاء، لم تعد أجهزة الدولة محددّةً وفق وظائفها الأيديولوجية كما عند ألتوسير، أو عبر نمط الإنتاج كما عند ماركس، بل عبر نمطها الاشتغالي، حيث تصبح "الملامح الأساسية لجهاز الدولة: الأقلمة، والعمل أو الأعمال العامة، والمالية" مُثبّتة عبر الديْن، والعمل الفائض والضرائبي، بحيث تعمل هذه الأخيرة كأجهزةٍ للاستيلاء تشكّل ميادين الموضوع الّذي تلائمه (الأرض، والنشاط والعمل، والتبادل). ينتج عن هذه الرؤية لأجهزة الدولة أن يصبح لكلّ ارتصاف دولاني إمكانية سيرورة تراكم بدائي مثيلة لتلك الّتي تكلّم عنها ماركس، ويفتح الباب أمام تحليلٍ لهذا التراكم الأولي الخاص بالعنف الحربيّ، أي بمعنى آخر تحليل دور الاستيلاء الّذي تقوم به الدولة على الأقاليم والأعمال والتبادلات في تأسيس ونمو القدرة العسكرية للدول .
الدولة وصورة الفكر يقول دولوز إنّ الدولة الاستبدادية "لا تشترط التاريخ الكونيّ إلاّ بشرطِ أن تكون، ليس في الخارج، بل دائمًا عند الجانب، الوحشَ البارد الّذي يمثّل الطريقة الّتي يكون بها التاريخ في الرأس، وفي الدماغ، دولةً" . والجملة هذه تنقلنا للحديث عمّا يسمّيه دولوز (وغواتاري) "فكرًا على نموذج الدولة"، ويتعلق الأمر أولاً بشكل الفكر هذا الّذي يصبح متكيّفًا ومبنيًا على نموذج مستعار من مكَنة الدولة، يحدّد له الغايات والطرق والأدوات والأعضاء، ليصبح بالنسبة إليه أورغانون. وستتوفّر صورة للفكر تغطّي كلّ الفكر، وتكون بمكانة الشكل-الدولة الّذي ينمو داخل الفكر. وتمتلك هذه الصورة رأسين يحيلان بالتحديد إلى قطبي السيادة. وهذان الرأسان، اللّذان لا ينفكّان يتصادمان، هما إمبراطورية imperium التفكير الصحيح penser-vrai، و جمهورية العقول الحرّة . تعمل امبراطورية التفكير الصحيح عبر الاستيلاء السحريّ الّذي يشكّل فعاليةً لأساسٍ (muthos)، وحيث لن يوجد إلاّ صحيحٌ le vraiواحدٌ كأساسٍ يجري تعميمه. بينما تعمل جمهورية العقول الحرّة عبر العقد أو التحالف، مشكّلةً تنظيمًا قانونيًا وشرعيًا، يجيز لعقلٍ (logos) تجري فيه مشاركة الفكر بين الذوات الحرّة المتعاقدة أو المتحالفة. وإن تصادمت الامبراطورية مع الجمهورية، فليس مردّ ذلك فقط إلى وجود حالات وسطى ومراحل انتقالية بين الاثنتين، أو لأنّ الواحدة تظهر وكأنّها تحضّر الأخرى، أو لأنها تحفظان وتخدمان بعضهما، ولكن أيضًا لأنّهما ضروريتان لبعضهما. وتتشكّل صورة الفكر على أساس هذه الامبراطورية وتلك الجمهورية، "ويبدو كأنّ الأمر ليس مجرد استعارة، كلّما تكلّمنا عن امبراطورية الصحيح وعن جمهورية لعقول. بل هو شرط تكوّنِ الفكر كمبدأ أو شكلٍ من الاستدخال، كأنضودة" . وليست الانضودات strates سوى تشكيلات تاريخية، وتجاريب empiricités ووضعيات positivités، أو طبقات مترسّبة مكوّنة من الكلمات ومن الأشياء، ومن النظر ومن الكلام، ومن المرئي ومن الملفوظ، كأمواج من المنظورية perspectivisme وحقول ومن المقروئية، فهي مضامينٌ وتعابير. ولكلّ تشكيلة تاريخية توزيعها الخاص للمرئي وللملفوظ. ومن تشكيلة إلى أخرى نلحظ اختلافًا في التوزيع هذا من حيث رؤية العالم ونظام الملفوظات فيه . ان ما سيكسبه الفكر من الدولة هو الجاذبية gravité ومركز ثقلها centre de gravité، وسيستحصل على سلطةٍ، وعلى قوّة تبرير كونيّة وكلّية. فالدولة تمنحه شكلاً من الاستبطانية أو السريرة intériorité في الوقت الّذي سيمنحها شكلاً من الكليّة universalité، في نوعٍ من المساومة؛ ذلك أنّ الفكر وحدة يظلّ قادرًا على اختلاق اسطورة دولة الحق الكونية، رافعًا ايّاها إلى كونية الحقّ. وإن كان من المثير للانتباه ان تعتمد الدولة على الفكر، فإنّها ستتمدد داخل هذا الفكر ذاته الّذي سيمنحها الحقّ بأن تدّعيَ أنّ شكلها هو الوحيد والكونيّ. وعلى الصعيد الحقوقي، ستُعرَّف الدولة بصفتها تنظيمًا عقلانيًا لجماعةٍ لها، غايته تأمين حاجات الافراد العاقلين. وسيسمح هذا التبادل بين العقل والدولة، ببزوغٍ فلسفةٍ سياسية، هيغيلية بالتحديد، سترى أنّ العقل المتحقق هو دولة الحق، ودولة الحق صيرورة العقل والمنطق؛ ما سيجيز القول أنّ الخضوع للدولة معناه الخضوع للعقل في تحققه التاريخيّ . يوجّه دولوز نقدًا إلى الفلسفة السياسية حديثة، حيث " كلّ شيء يدور حول المشرّع والذات. [و] أين يجب على الدولة أنّ تحقق التمييز بين المشرّع والذات في الشروط الشكلية بالنسبة إلى الفكر، من جهته، كي يصبح بإمكانه التفكير بهويتهما. أخضعوا دومًا، لأنهم كلّما خضعتم، كلّما اصبحتم أسيادًا، لأنكم لا تخضعون إلاّ للعقل المحض، أي لأنفسكم. ومنذ ان رُبِطَت الفلسفة بدور التأسيس، لم تكف عن مباركة السلطات القائمة، وعن إعارة عقيدتها في الملِكات إلى أعضاء الدولة " . ولقد أصبح الحس المشترك، وكلّ الملكات الّتي تشكّل مركز الكوجيتو إجماع الدولة محمولاً إلى المطلق. وبدورها، لم تعمل الكانطية سوى على نقد هذه الملِكات من أجل تأسيسٍ أقوى لهذا الخضوع والمباركة، ولم يعد غريبًا أن يصبح الفيلسوف استاذًا عامًا أو مجرد موظّف في الدولة. وامتدت صورة الفكر هذه إلى الشعر والأدب وإلى العلوم الانسانية (دوركايم* مثلاً وانموذجه للفكر العلمانيّ) وإلى الفكر القانونيّ، وحتّى إلى التحليل النفسيّ الّذي تبنّى "الكوجيتو الكونيّ" كصورة للفكر . " ونما الخطاب الفلسفيّ من الوحدة الامبريالية، عبر آلهة متجسدة avatars، وهي الآلهة نفسها الّتي قادتنا من التشكيلات الامبريالية إلى المدينة اليونانية. وحتّى في المدينة اليونانية، بقي الخطاب الفلسفيّ في علاقة أساسية مع المستبد أو مع ظلّه، ومع الامبريالية، ومع إدارة الأشياء والأشخاص [...] وكان الخطاب الفلسفي دومًا متصلاً برابطٍ أساسيّ مع القانون، والمؤسسة، والعقِد وكلّ ما يؤسس معضلة الحاكم السيّد، الّذي يخترق التاريخ المتباطىء منذ التشكيلات الاستبدادية حتى الديموقراطيات. الدال هو بالفعل الإله المستبد المتجسد الأخير للمستبد" . ويُنظَر إلى الدولةِ بوصفها التنظيم العقلاني الأعلى بالمقارنة مع باقي التنظيمات المغايرة لشكلها. ووجهة النظر هذه تتخذ من فكر الثنائيات dualismes مثل الخير/الشر، والحق/الباطل، الصحّ/الخطأ ..الخ منطلقًا ومبدأً لها، وهذا ما نجده في الفكر المقوَلب في شكل-الدولةِ حين يُسجَن ضمن ثنائيات مثل أبيض/اسود، انثى/ذكر، شرق/غرب..رافضًا التعددية والاختلاف، "متقمِّصًا" صورة الدولة الّتي تلغي أيّ خطاب مختلف او مضاد. إنّ التمثيل représentation الّذي يقوم على اعتبار المفاهيم conception تمثيلات لموضوعات موجودة في الواقع، والّذي يفترض أنّه يبدأ بالفكر بلا أيّ مصادرات، هذا التمثيل يُنظَر إليه في تاريخ الفلسفة بوصفه النموذج الصحيح للتفكير، ويُستبعَد على هذا الأساس كلّ نموذج آخر يقوم على الاختلاف والتعددية. وفي هذا الاستبعاد أثرٌ من آثارِ تعامل الدولة مع المختلف عنها هي الّتي تسعى إلى تهميش كلّ تمثيلٍ يقوم على الاختلاف، رغم أنّ الاختلاف بحسب دولوز يسبق كلّ تحديدٍ لأيّ هوية، وهو الّذي يؤسس الهوية لا الّذي يتأسس عليها. يقول دولوز في حواراته: "لا وجود لدولة لا تكون في حاجة إلى صورة للفكر ستستعملها كأكسيوماتية أو كمكَنة مجرّدة، وتعطيها مقابل ذلك قوة السير: من هنا يأتي نقص مفهوم الايديولوجيا الّذي لا يوضّح شيئًا عن هذه العلاقة. كان هذا الدور المزعج للفلسفة الكلاسيكية، كما رأينا ذلك، أي تزويد أجهزة السلطة والكنيسة أو الدولة بالمعرفة الّتي توافقهنّ. هل يمكن القول أنّ علوم الانسان قد أخذت الدور ذاته، أي تزويد مكَنة مجرّدة لأجهزة السلطة الحديثة، بواسطة وسائلها الخاصة، مع إحتمال الحصول على المرغوب به من هذه الأجهزة؟" . ولكن، وفي حين تبدو مكَنة الدولة مضادة لمكَنة الرغبة، إلاّ أنها هي نفسها رغبة "الّتي تمرّ من عقل المستبد إلى قلب الذوات، ومن القانون العقلي إلى كلّ النسق الفيزيائي الّذي يتخلص أو يتحرر منها. رغبة الدولة، المكَنة العجيبة للقمع هي أيضًا رغبة، ذاتٌ ترغب وموضوع لرغبة. الرغبة، ها هي العملية الّتي تنصّ دومًا على اعادة غرس الـ Urstaat الأصلية في الحالة الجديدة للأشياء، وعلى جعلها أكثر محايَثةً للنسق الجديد، في داخله" . ويُنظر إلى الدولة هذه كقوة مضادة لإنتاجات الرغبة: فهي تقف بمواجهة القوّة الانتاجية والابداعية للانتاج الراغب، كما للانتاج الاجتماعي بما هو سيرورة تشكّل الارتصافات الاجتماعية والشبكات الاجتماعية المقاومة لمكَنة الدولة. وفي حين يقوم الإنتاج الراغب بتوليد وتكثير الاختلافات، وتكسير الحدود عبر سيرورة الرغبة في دفوقها وقطوعها، تعمل مكَنة الدولة على تقييد وكبح دفوق الطاقة وتوسّع الاختلافات الممكنة والإبداعية للإنتاج الراغب من أجل الحفاظ على أشكال اجتماعية ثابتة. ولا تعمل الدولة الحديثة كقوّة مضادة للإنتاج الراغب إلاّ بتوسّطات مثل توسّط التحليل النفسيّ، لأنّ لهذا الاخير سلطته حتّى وإن كانت محدودةً ومضبوطة فوق ارتصافات الرغبة، وتتيح هذه السلطة للتحليل النفسيّ أن يضاعف تشفير الارتصافات كي يخضع الرغبة لسلسلة من الدلالات، وكي يُخضِع الملفوظات بحيث يجعلها تنسجم مع نظامٍ قائم. و"صحيحٌ أن كلّ تشكّل للسلطة في حاجةٍ، كما يقول فوكو، إلى معرفة لا تتوقف عليه، ولكنّها تكون هي ذاتها بدونه عديمة الفعالية ... [وصحيحٌ] أنّ نجاح التحليل النفسيّ أمرٌ مشكوكٌ فيه: فأجهزة السلطة في حاجةٍ أكثر إلى التوجّه نحو الفيزياء أو البيولوجيا أو الاعلاميات، ولكنه سيكون قد قام بما كان في استطاعته أن يقوم به: لم يعد يخدم النظام القائم بشكل شبه رسميّ، بل يقترح نظامًا خاصًا و رمزيًا، ومكَنة مجرّدةً ولغة رسمية يحاول توحيدها مع اللّسانيات بشكل عام، حتى يأخذ وضع اللامتغيّر. يهتم التحليل النفسيّ أكثر فأكثر بالفكر الخالص، وهذا ما يجعله حيًّا" . وفي ما يخص الدولة الرأسمالية، يرى دولوز (وغواتاري) هذه الدولة كقوّة فائقة تجمع معًا قوّة العمل والشروط الأولية الّتي تشكّل هذه القوّة، فاسحةً المجال لخلق القيمة الفائضة. وكنتيجة لذلك، نشهد علاقة تأسيسية متناقضة بين الدولة والعمال، بالأخص أنّ الدولة تموّن رأس المال مع نموذج تحققه، وبالتالي يمكن الحديث عن تناقضٍ إضافي بين رأس المال وقوة العمل. يتحقق رأس المال ويؤبّد نفسه عبر تنظيمٍ ذاتيّ من أجل أن يدير دفّة هذا التناقض البروليتاريّ. وتتلازم أجهزة الدول الاستيلائية مع هذا التنظيم في إنتاج القيمة الفائضة وتسهيل تراكم رأس المال. وكنتيجة، تبقى الدولة ورأس المال تحت ضغط محاولة تحييد وضبط هذا التناقض الّذي وللمفارقة سمح لها بالوجود. ويخلق هذا الارتصاف الّذي تسنده الدول ورأس المال ذاتوية جماعية تكوّن المظهر الماديّ للقوى المنتِجة الّتي تنتج القيمة الفائضة وتجعل من الانتاج والتراكم ممكنين. وبموازاة تشكّل الذاتوية الجماعية نجد العنف الذي تمتلكه الدولة والّتي عبره تكون قادرة على الاخضاع . وانطلاقًا من تحليلات فوكو لأجهزة السلطة والدولة، يشير دولوز إلى أنّ جهاز الدولة ارتصافٌ ملموس ينجز مكَنةً تُضاعف التشفير لمجتمعٍ ما، إلاّ أن هذه المكَنة ليست الدولة بذاتها بل هي "المكَنة المجردة الّتي تنظّم الملفوظات المهيمنة، والنظام القائم لمجتمعٍ ما، وتنظّم الألسنة والمعارف المهيمنة، والأفعال والاشاعير السائدة [...] و لا تتوقف هذه المكَنة على الدولة، لكنّ فاعليتها تتوقف على الدولة مثلما تتوقف على الارتصاف الّذي ينجزها داخل حقلٍ إجتماعيّ" .
مكَنة الحرب يعتقد كلاستر أنّ الحروب الداخلية في الجماعات البدائية كبَحَت تشكّل دولة، وكانت الشعائر والطقوس كما الأعراف والسُنَن كفيلة بإحتواء الآثار المدمّرة لهذه الحروب من دون أن يؤدي ذلك إلى تشكيلٍ دولة، لا بل كانت تؤدّي دورًا في الحفاظ على التجانس الداخلي للجماعة وعلى تذرر الجماعات المتحاربة، وعلى تجديد المسافة بين المجموعات الاجتماعية عبر تشفيرات كانت تضعها آوالية جماعية نافذة. وهذا ما جعل الحرب في الوقت عينه سببًا ونتيجة، وبدت وكأنها قصدية إجتماعية للمجموعات البدائية منعت في كلّ الأحوال نشوء دولةٍ لا يمكنها أن تُفرَض على جماعات كثيرة مستقلة، ومنفصلة عن بعضها. وبفعل استحالة اختزال الإوالية mécanisme الحربية إلى سلطةٍ من النوع الدولاني، ومن منطلق التعارض بين تشكيلٍ سلطة تحتكر العنف الجسدي الشرعي والإواليات البدائية في تقدير دور الحرب، كما من منطلق التشفير والتحويل الشعائري للحروب، سيأخذ دولوز (وغواتاري) الخلاصة من جهة نظرية الدولة، حيث لن تكون الصلة بين الدولة والحرب تحليلية، بل ستكون الحرب كنمط فعل للدولة نتيجةً تستوجب التفسير . وان كان كلاستر يعتقد بأنّ الحرب هي الآلية الّتي تقف بوجه تشكّل الدولة ولكنها لا تشكّلها في الوقت عينه، فإن دولوز وغواتاري سيوسّعان هذه الصيغة بتخليصها من نزعتها التطوّرية الّتي بدت عند كلاستر في كلامه عن تطوّر الحرب ضدّ الدولة من خارجها، وسيطرحان بدلاً من ذلك فهمهما الخاص لمكَنة الحرب الّتي ستواجه الدولة من الداخل أيضًا . وعلى ضوء مفهوم "مكَنة الحرب" الّذي ظهر في المسطح الثاني عشر من كتاب ألف سطح، يقترح دولوز (وغواتاري) وجودَ علاقات بين الحرب والدولة ضمن ما يشبه قطبية مكَنة الدولة - خارجيتها. وبرؤية مختصرة، تحيل مكَنة الحرب إلى التشكيلات الاجتماعية المتعددة من حيث بنيتها وأهدافها(قد تكون عصابات، أو جماعات سرية، أو روابط دينية، أو تنظيمات تجارية، أو نقابات..الخ) وتكويناته، والّتي ترتصف عبرها (سواء أكانت تقنية، أم علمية، أو فنية، أو لغوية، أو ايكولوجية، أو اقتصادية، أو دينية...إلخ) علاقةُ تخارجٍ بالنسبة إلى التنظيم الدولاني للمجتمع. تؤسسُ مجموعة ما مكَنة حرب، لا حين تضع الحرب هدفًا لها، ولكن حين تصبح في حالة من اللاتجانس مع مكَنة الدولة ومع طرائقها في إدارة الحقل الاجتماعي والتحكّم به . ويقدّم دولوز (وغواتاري) مسلّمتين من أجل الإحاطة أكثر بما تعنيه مكَنة الحرب: أوّلهما، إنّها تخرج عن أجهزة الدولة، وثانيهما إنّها من خلق البدو أو الرحّل. ليست الحرب بالتأكيد استعارة. ونفترض أنّ لمكَنة الحرب طبيعةً وأصلاً مغايران تمامًا لجهاز الدولة. يكمن أصل مكَنة الحرب في الرعاة الرحّل، وتتوجه ضد المستقرّين الامبراطوريين. إنّها تفيد تنظيمًا حسابيًا في مجالٍ مفتوحٍ حيث يتوزّع الناس والبهائم، مقابل التنظيم الهندسيّ للدولة الّتي توزّع مجالاً مغلقًا. "وحتى عندما تستند مكَنة الحرب إلى هندسةٍ ما، فهي عندئذٍ تفيد هندسةً مختلفة جدًا عن تلك الّتي تستند اليها الدولة. هي نوع من الهندسة الارخيميدية، أي هندسة "الإشكاليات" وليست هندسة "النظريات" كما هو الحال في هندسة اقليدس" . الاطروحة الّتي تفترض وجود إوالية حربية لا يمكن إختزالها إلى السيادة، ووجود إواليات يمكن لها أن تكون مستقلة بذاها في مكَنة الحرب هذه، ستقود دولوز (وغواتاري) إلى أشكَلة موضوع الحرب فوق مسطّحين. من جهة، سيطرحان مسألة انتماء الحرب من أجل البحث في كيفية تشكّل مكَنة الحرب بهدف وحيد هو إلحاقها بالدولة، ومن جهة ثانية سيجعلان من الحرب عاملاً خارجًا عن التشكيل الدولاني. إلاّ أنّ مكَنة الحرب بحد ذاتها لا تفسّر شيئًا فهي دائمًا إمّا تكون بوجه الدولة، أو تنتمي اليها . وفي الحالّتين، فإنها تحيل إلى الدولة الّتي هي إمّا حاملاً لها تدخلها في تنظيماتها المؤسساتية أو لا تكون حاملاً لها. وفي جميع الاحوال، تفرضُ فكرة مكَنة حرب مستقلة إلحاق العامل الخارجي للحرب بعواملٍ داخلية تستند إلى القبض على مكَنة الحرب وإلى تأسيس قدرة حربية للدولة. ولكن لا يمكن تحديد عاملٍ ما على أنّه داخليّ إلاّ بالرجوع إلى جوهرٍ داخليّ أو وحدةٍ داخلية للدولة، وهذه الوحدة الداخلية هي "الاستيلاء" أو "الاستيلاء السحري" . من ثمّ، فالحرب الفعلية هنا استكمالٌ للسياسة من حيث هي إحدى أشكال تحقيق العلاقات السياسية، بالضبط لأنّ فاعليتها لا تتطابق مع أفهومها وماهيتها. واقترابًا من كانط أكثر من هيغل، تجد السياسة مكانها الخاص في هذا الممرّ الضيّق الّذي لا يمكن اختزالها بين المفهوم وبين التاريخ، والّذي هو عند كلاوزفيتس فارقٌ بين الشكل المطلق للحرب وأساليبها المتغيرة الّتي تحدّد الدولة تحقيقاتها التجريبية. وبالنسبة لدولوز(وغواتاري) يقدم الفهمُ الكلاوزفيتسي نقطة بداية صالحة بشرط تنقيحها وفقًا لفرضية العلائقية بين قدرة مكَنة الحرب وسلطة الدولة . ولكن، على الضد من التصوّر الأداتي للحرب كم ظهر عند كلاوزفيتس والذي يستند إلى حتمية دولانية للسياسة كما للحرب والعنف، لا يظهر عنف الدولة عبر الحرب، فهي تستعين برجال الشرطة والسجّانين أكثر ممّا تستعين بالمحاربين، وهي لذلك لا تملك أسلحةً وليست بحاجة اليها، بل هي إمّا تعمل عبر الاستيلاء السحريّ، حيث تكبح وتقبض على كلّ شكل من القتال المسلّح، وإمّا تستخدم السلاح، ما يفترض مسبقًا دمجًا تشريعيًا وقانونيًا للحرب ولكلّ التنظيمات ذات الوظيفة العسكرية . ويساجل دولوز (وغواتاري) أنّ هناك ثابتًا تاريخيًا يفترض أنّ كلّ الدول لم تكن تملك عبر تاريخها جهازها العسكريّ، وأنّ القدرة على شنّ الحرب كانت تتحقق في أجاهيز (جمع اُجهوز) dispositifs مادية ومؤسساتية غير دولانية (كما عند القبائل البدوية). وبالتالي يجري الكلام ثانية عن علاقة تخارج بين الدولة ومكَنة الحرب كسيرورة إقتدار (phylum) توجد عبر التاريخ وفي بيئات اجتماعية متعددة، من دون أن تشنّ حربًا بالضرورة، أو تعمل على الإخضاع أو تدمير العدو. اذً، تفترض "جينيالوجيا الحرب" عند دولوز (وغواتاري) لاتمركزًا للسلطة القمعية لدولةٍ ما في الجسد المؤسساتيّ (الشرطة، والجيش)، إذ لا يظهر هذا الجسد إلاّ في سياق علاقات الصراع المتبادلة بين الدولة والقوى الّتي تعاديها أو تفلت من سيادتها. كما تفترض هذه الجينيالوجيا برنامج تحليلٍ لدينامية الصراعات، الّتي، وتحت أشكال تنظيمية وفي مراحل إنتقالية تاريخية متغيّرة، تعيد تشكيل آلاتِ حربٍ تتوجّه ضد الدولة، ضد أجهزتها وضد شكلها. ويخلص دولوز، موسّعًا أطروحة ماركس عن التراكم الأوليّ، إلى صعوبة تعيين عنف الدولة "لأنه دائم الحضور كما لو كان حاصلًا سلفًا. فلا يكفي القول أنّ العنف يحيل إلى نمط الانتاج. وقد لاحظ ماركس ذلك بالنسبة إلى الرأسمالية: يوجد عنف يمرّ بالضرورة من خلال الدولة، يسبق نمط الانتاج الرأسمالي، ويشكّل "التراكم الأوليّ"، ويجعل هذا النمط ممكنًا [...] وما شكّل العاملَ والرأسماليةَ يفلت من بين يدينا، لأنه يعمل [أيضًا] في أنماط انتاج أخرى. هو عنفٌ يُطرَح بشكل مسبق ومكتمل، رغم أنّه يُرمَّم كلّ يوم [...] تحليلات ماركس هذه يجب أن تُوسَّع؛ ذلك لأنّه ينعدم وجود تراكم أوليّ إمبراطوريّ يسبق نمط الانتاج الزراعيّ من دون أن يجريَ به؛ وكقاعدةٍ عامةٍ، يوجد تراكم أوليّ كلّما تركّب جهاز استيلاء، مع كلّ العنف الخاص جدًا الذي يخلق أو يساهم في خلق ما سيجري عليه، وبالتالي ما يفترضه [يفترض الجهاز] سلفًا" . تسمح تحليلات برودل Braudel لدولوز (وغواتاري) بربط التراكم الأولي للقدرة العسكرية بالتراكم البدائي لرأس المال، حيث سُيدرجان حركة الاستيلاء الدولانية على مكَنة الحرب في سيرورة تاريخية تصل بين نمو وتطور الرأسمالية الصناعية ونمو اقتصاد الحرب، بشكلٍ يبدو مستقلاً عن السمات المحدودة للغايات السياسية الّتي تطرحها الدول ومؤسساتها العسكرية. ويمكن لنا ضمن هذا المنظور اعتبار أنّ الجهد الحربيّ وسياسة تصدير المنتوجات العسكرية تستحث مباشرةً ثورةً صناعيةً، ولاحقًا زراعية وتجارية ومالية. كما يضع هذا الجهد وسياسات التصدير موضع التنفيذ إدارةً سكانية تهدف إلى خلق يد عاملة، ليس فقط على مستوى الحيّز العسكري (في الثكنات والمرافىء..) بل أيضًا على مستوى أدوات الانتاج في الصناعات الحربية وما يتفرّع منها. كما يدفع إلى تقليص وترشيد كلّ الهجرات الداخلية غير المرغوب بها الناتجة عن تفقير الأرياف والنمو الدموغرافي . ولا بد أن نذكر في ما يتعلّق بهذا الموضوع، أن مقولة العنف (وبالتالي الحرب كأحد تمظهراته)، وإنْ نالت موقعًا يبدو هامشيًا في فلسفة جيل دولوز، حيث لا تظهر إلاّ متناثرة بين كتاباته السياسية، فانّها أخذت حيّزا موسّعًا في ألف سطح في سياق الكلام عن "أنظمة العنف". وغني عن القول أنّ هذه المقولة تجد أصولها في التراث السبينوزي-النيتشوي لدولوز، وهي لذلك تستحضر إثباتين: أوّلهما، غياب مبدأ أخلاقي متعالٍ بإمكانه الحكم على علاقات القوى الّتي تشكّل الواقع. وثانيهما، إمكانية التمييز بين هذه العلاقات الفيزيائية بين ما هو جيّد (لاعنفي) وما هو سيّء(عنيف) يجب إدانته. وعليه، يمكن تحديد ظواهر العنف خارج الدائرة الأخلاقية للشر والخير. ومن ثمَّ، لا يمكن معالجة العنف هذه من حيث "سلبيته" المحضة، بل بالولوج إلى القلب النقدي لمشكلة الشرّ والسلبيّة، وفهم ظواهر العنف ضمن تقييمٍ اختلافيّ بحسب ما تظهر عليه في الواقع . وبالنسبة لدولوز، يسمح المفهوم النيتشوي عن الصراع combat بنقدٍ تناسبيّ للعنف الحربيّ ولمثال اللاعنف. من جهة، نجد العنف الحربيّ الوحيد القادر على إنتاج تقاطعات بين القوى المتواجدة على أرض المعركة، في حين يجري، على نحوٍ غير مباشر، تدمير قوى أخرى. ومن جهة ثانية، نجد الصراع واللاصراع، ويكو الأخير نفيًا للإرادة (كما عند بوذا والمسيح)، أو إرادة للعدم. إلاّ أنّ الشكلين يشوّهان جوهر الصراع، ويشكّلان نفيًا للحياة . وماذا عن التخارج بين الدولة ومكَنة الحرب؟ يرى دولوز (وغواتاري) أنّ الحرب ليست الهدف الخاصّ أو المباشر لمكَنة الحرب، بل تشكيل "فضاءٍ أملس"، كنمط ارتصافٍ جماعيّ للحياة. ولا يفيد المحتوى الماهوي لهذا اللاتجانس الشكلي بين مكَنة الحرب والدولة المجابهةَ العسكرية، بل اللاتجانسَ في أنماط استثمارات الفضاء والزمن بين تشكيليّ القوة هذين. ولهذا السبب، يجد الاختلاف المفاهيمي بين أجهزة الدولة ومكَنة الحرب تعبيره الصريح في أنماط الأقلمة الّتي تهيمن على التشكيلات الدولانية، وأنماط الاقتلاع الإقليميّ، أي تلك التشكيلات الّتي يسمّيها دولوز(وغواتاري) بدوية.
مصادر ومراجع 1. دولوز، جيل، مع بارني، كلير، حوارات، ترجمة عبد الحي زرقان و أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، المغرب، 1999، 195 صفحة. 2. Deleuze, Gilles, Guattari, Félix, Capitalisme et Schizophrénie2 - Milles Plateaux, les éditions de Minuits, Paris, 1980 3. ____________et Guattari, Félix, Capitalisme et schizophrénie1-L’Anti-Oedipe, Éditions de Minuit, 1973, 496 pages. 4. ____________l’Ile déserte, éditions de minuit, 2002, 417 pages. 5. ____________Foucault, éditions de minuit, 2eme édition, 2004, 144 pages. 6. Igor Krtolica et Guillaume Sibertin-Blanc, “Deleuze, une critique de la violence”, dans Deleuze et la violence, coll. Champs&contrechamps, Juin 2012. 7. Lampert, Jay, Deleuze and Guattari s Philosophy of History, Continuum publishing group, 1st edition, 2006, 178 pages. 8. Mingue, Philipe, Faire l’idiot- la politique de Deleuze, editions Germina, fevrier 2013, 102 pages. 9. Parr, Adrian, the Deleuze Dictionary -Revised Edition, Edinburgh University Press, 2010, 328 pages. 10. Sibertin-Blanc Guillaume, « État et généalogie de la guerre : l’hypothèse de la « machine de guerre » de Gilles Deleuze et Félix Guattari », Astérion [Online], 3 | 2005, Online since 09 Septembre 2005, connection on 09 January 2015. URL : http://asterion.revues.org/425. 11. Sibertin-Blanc, Guillaume, “La théorie de l Etat de Deleuze et Guattari: Matérialisme historico-machinique et schizoanalyse de la forme-Etat”, Revista de Antropologia Social dos Alunos do PPGAS-UFSCar, v.3, n.1, jan.-jun., 2011
#وليم_العوطة (هاشتاغ)
William_Outa#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميتافيزيقيا المعاناة جياني فاتيمو
-
للنقاش-ملاحظات عن الحراك الحزبيّ الشيوعي في لبنان
-
سلافوى جيجيك: تسعُ نكاتٍ
-
نظرية التعدديات عند برجسون - جيل دولوز
-
كورنيليوس كاستورياديس - مقتطف من -الردّ على ريتشارد رورتي-
-
اللاسلطوية (الأناركية)
-
العدمية بإعتبارها تحررًا - جياني فاتيمو
-
التحليل النفسي: خمس قضايا – جيل دولوز
-
نيتشه و الفكر الرحّال - جيل دولوز
-
دولوز والموسيقى الشعبيّة - إيان بيوكانن*
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|