|
أخنوش إرحل... أخنوش إبق !
المهدي بوتمزين
كاتب مغربي
(Elmahdi Boutoumzine)
الحوار المتمدن-العدد: 7356 - 2022 / 8 / 30 - 08:31
المحور:
كتابات ساخرة
انتفض المغاربة في الفضاء الرقمي ، كطفل يبطر بانتصار وهمي في لعبة البابجي ، أو كفتاة تتبجح بجمال صنعته الفلترات على سناب شات ، أو شاب تروقه مئات أو اَلاف الصداقات الوهمية مع فتيات كالسراب على حسابه في فايسبوك ، حيث ينتشي في كل لحظة بقلب أوقهقهة أو رسالة غرامية يتوصل بها ، وهو يظن أنه صار زير نساء محولا الزيف إلى حقيقة .
المغاربة أيضا ، انتفضوا بكتابة هاشتاغات تدعوا إلى رحيل رئيس الحكومة ، لأنه السبب الأول في غلاء الأسعار وانحباس المطر وعنوسة الفتيات وإنجاب الأزواج لرهط من الأطفال دون تربية أو برنامج حياة . إنها انتفاضة تاريخية ، مثل الثورة الفرنسية ، وثورة تشي جيفارا وفيديل كاسترو ، بل ترقى إلى انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين . هكذا إذن ، يكون المغاربة استثناء في الإنتفاضة والثورة ، ثورة الغناء وانتفاضة الأصابع .
إن انتفاضة الأصابع تكشف تفتق عبقرية المغربي الفكرية و سيطرة المدنية الراقية عليه في ممارسة الحق والواجب السياسي من خلال كتابة هاشتاغات تعارض الحكومة ، الحكومة فقط . هذه الهاشتاغات تذكرني بكتابات غسان كنفاني ، محمد الماغوط ،المهدي بن بركة، أحمد مطر . لا غضاضة إذن في الإعتراف أمام اليونسكو ولاهاي أن موريتانيا أرض مغربية بتصريح الريسوني ، لأن بلاد نواكشوط بحاجة إلى عِلم سي أحمد عمِّ هاجر الريسوني ، في فقه المفاسد أو المقاصد حسب العنوان المدون على موقع الإتحاد العلمائي . والحِكمة من إلحاق مويتانيا بالمغرب ، هو أنها ستعيد إحياء مليون شاعر فيها ، ليغدوا مليون كاتب لهاشتاغ "إرحل يا أخنوش" .
الريسوني الذي لم يحرر هاجر لن يحرر تندوف ، والمغربي الذي لم يحرر نفسه من ثورة الغناء لن يحرر البلد . إن انعدام الغاية يبرر الوسيلة ، فمبدئية المغربي هي لا مبدئية ، وقيمة قيمه صفرية ، وسرعان ما يلقي بالائمة على الاَخرين . حيث تجده يبرقع زوجته ويسهر في جلسات خمرية مع بائعات الهوى أو خليلاته ، يمضي الجمعة في المسجد ونهاية الأسبوع في الديسكو . هو نفسه الذي يشتم المنتخبين المحليين بسبب حفرة في الطريق لا يمر منها أبدا ، أو بسبب الترامي على الأراضي السلالية ، وهو معتد على إرث أخته أو عائلته . عين الشخصية الإنفصامية تراه يتبربر لأن مسؤولا في إدارة طلب قهوة ، كما يسميها المغاربة ، وهو لا يتوانى في شهادة الزور أمام المحكمة ، وتارة راشي وأخرى مرتشي . هذا الإضطراب يسري على جميع المغاربة بمختلف المستويات ، وزير السياحة ليس في رصيده رحلة داخلية واحدة من أجل الراحة ، وزير الصحة يتعالج في باريس ، وزير التعليم يدرس أبناءه في أميركا ، وزير الداخلية يحمل جنسية أجنبية ، وزير الأوقاف ماسوني ، الطبيب النفسي ينتحر ، طبيب العيون ضعيف البصر ، الفقراء والمتسولون والمرضى أكثر من شجر الزيتون وأسِرَّة المستشفيات.
في غرة شهر اَب من هذه السنة ، زرت رفقة صديقتي كاثرين الفرنسية ، وهي فتاة باريسية حسناء ، باحثة سوسيولوجية، العديد من مدن المغرب ، التي أعرف فيها كل أوكار الدعارة ومساجد الأحياء وزوايا الكهان وأضرحة الموتى وأماكن المخبرين . جلسنا في مقهى شعبي لتناول الفطور ، الوجبة كانت مكونة من إبريق شاي صغير ، خبزة بحجم كف اليد ، زبدة صناعية وعسل غير بحت . كاثرين تتبع رجيما خاصا ، احتست فقط قليلا من الشاي ، وهي تراقب حركة السير المستعجلة للراجلين والسائقين ، أما أنا فكانت الوجبة الضئيلة كلها مجرد لقمة أولى تنتظر رديفاتها كما أفعل في المنزل يوميا . سألتني كاثرين : هل انتهيت من الأكل ؟ أجبتها : بل الأكل من انتهى مني . ابتسمت قليلا حتى رُسمت على وجنتيها غمازات فاتنة ، فسألتني ثانية ، لماذا يُسرع المغاربة في المشي كثيرا ؟ سكت هنيهة ، فأجبتها ، نحن نسرع دائما لأننا طوال الوقت قاعدون ، إننا لا نعرف أين سنذهب لذلك نُسرع دائما ، ربما نتوهم أن الحشد يتبادر إلى كنز على رأس الجبل ، فلا نريد التأخر عن ذلك .
فطلبت من النادل ورقة الحساب ، وما لبتت أن لمحت من بعيد الثمن المكتوب عليها ، حتى تجمد جسدي بالبرد والرعشة ، فصحت بصوت خافت ، كجندي خارت قواه ،مئة درهم ؟! ربما أن هناك صفرا زائدا بالغلط ، نعم ، درست هذا في الرياضيات ، الصفر لا يساوي شيئا ، لذلك يمكن أن أدفع درهما واحدا أو عشرة في الأقصى ، فرد علي الغارسون ، أن الثمن هو نفسه المدون . انتبهت كاثرين للسجال ، فطلبتُ منها التريث لأن جميع العلوم التي تُدَرس في الجامعة لا تنفع مع المغاربة . وقفت برهة أتبصر الموقف ، فطلبت من النادل أن يدعو مسير المحل حتى نناقش هذا الغبن في الثمن ، فرد علي أنه مشغول في وظيفته كرئيس لجمعية حماية المستهلك ، فما أن تسللت صفته الجمعوية إلى سمعي حتى أدركت أنني في وكر للفساد الأخلاقي أسوء من أكبر بورديلات بانكوك .
خرجت مهرولا ، حتى أني لم أستطع أن أشرح لكاثرين حيثيات الأمر ، فطمأنتها مخبرا إياها : نحن باحثان ، انت في السوسيولوجيا وأنا في الرياضيات ، لأن معادلة المغرب كلها مجهولة ، والمنطق منعدم . أسرَّت إلي كاثرين بكلمات راقية تعرفها بالعربية توحي أني مثقف ، والحال أني في وضع كارثي وسوداوي ، ولا أحد يتمنى أن يكون مثقفا أو جامعيا في المغرب ، وحتى المثقف في اللهجة المحلية تفيد أن الشخص مصاب بسحر يقيده عن فعله أي شيئ .
وفي طريقنا وسط أزقة المدينة ، مررنا صدفة على محل لبيع الزرابي التقليدية ، بدت صديقتي الباريسية فرحة بالعمل الذي تجيده البدويات ، وعلى حين غرة ، تفوه البازركان بجملة صمَّت أسماعي ، هذه الزربية القديمة هي إرث لعائلتي من زمن يوسف بن تاشفين ، فقلت لكاثرين متحدثا فرنسية على غرار النبلاء ، هذا السيد شريف لأنه ينحدر من أسرة تاشفين ، وأنا أعتقد أنه حاج أيضا . فإذا به يجيبني بفرنسية ركيكة ، نعم ، لقد أديت فريضة الحج خمس مرات ، وأنا شريف علوي أيضا . قهقت أحشاء بطني ، لكني احتفظت بمظهري الراقي المزيف ، تماما كما يحمل هذا الكاذب تسبيحة ، و يرتدي جلبابا وطربوشا أحمرا كالصبي المختن للتو .
أملت رأسي متوجها نحو أذن كاثرين ، فهمست لها أن علينا المغادرة ، ووعدت البائع أني سأعود لأشتري كل المحل .
أمضيت الظهيرة في غرفة الفندق رفقة كاثرين ، أنستني رِقتها وعذوبتها كذب وأدواء الجميع . وتحولت اللحظات من حب عذري إلى كتابة مسودات بحث تهيئه كاثرين لنيل شهادة جامعية، ستحصل بعدها على وظيفة، وأنا على مناعة لمتابعة الحياة في المغرب بحذر شديد .
في المساء ، أخذنا دوشا ، وغيرنا ملابسنا ، ثم توجهنا لبهو الفندق ، جسلت رفقة صديقتي الباريسية في ركن منعزل لعله يحجز عنا ذبذبات كلام الحاضرين ، الذي يملأه التبجح الفارغ والمظاهر المزيفة والكذب المتبادل .
كاثرين تنتمي لعائلة فرنسية راقية ، لكنها تعتمد على نفسها في مصاريف الجيب ، وترتدي ملابسا جميلة بسعر مقبول ، ولا تتحدث بتفاخر عن أصولها العريقة أو الغنى الفاحش لعائلتها . إنها فتاة من بُعد اَخر ، بُعد أخلاقي وقيمي وليس جغرافي .
على مقربة منا ، يجلس شاب في مقتبل العمر ، تحيط به ثلاث نسوة ، تبدو الصورة كحريم السلطان ، أمامهم على الطاولة قنينات خمر غالية الثمن ، وأطباق من الدجاج ومأكولات أجهل حتى أسمائها . المشهد يثير الإنتباه ، وهذا يزيد من نشوة الشاب الذي يترنح يمنة ويسرة ، مبديا نشوة ذاتية تبرج به إلى مستويات علوية من اللذة في الظهور والمراء والإحساس بالذات .
أخبرت كاثرين أن هذا الشخص هو الذي كان يتزعم حَراكا شعبيا قبل أشهر قليلة ، من أجل المطالبة بإسقاط نظام الحكم وإصلاح الأوضاع الإقتصادية والسياسية للشعب . بحرت صديقتي بهذا القول ، فسألتني : هل تحققت بالفعل هذه المطالب ؟ أجبتها : نعم ، لقد أصلح الشاب حاله فقط . فردت علي ، وكيف ذلك ؟ أجبت : ربما مساومات مع الدولة ، أو ربما أنه كان مخبرا من الأول واندس في الحراك . أو أن النسوة رفقته فخ عسل يتصيدن تصويره في وضع مخل بالحياء ومساومته به . فسألتني ثانية ، وماذا ترجح إذن ؟ أجبت ، أرجح فشل الحَراك .
في صباح الغد ، كنا على أهبة مغادرة الفندق ، للترحال لمكان اَخر ، من أجل حفر أركيولوجي في سوسيولوجيا المجتمع المغربي ، لكن حساب ليلة واحدة في الفندق نزل علي كالمظلي الذي فقد مظلته الإحتياطية، ثلاث اَلاف درهم ؟ ثلاث اَلاف درهم ؟ انتبه الجميع إلي وأنا أندرأ بهذا الكلام ، فصحت قائلا ، هذا الثمن مناسب جدا ، أنا سعيد بذلك .وفي خاطري يجول كلام واحد : لماذا سأدافع عن المغاربة الحاضرين في الفندق وهم يقبلون بهذه الأسعار المرتفعة ؟، أنا لست محاميا عن أحد ، أنا باحث في الرياضيات ، وصديقتي باحثة في السوسيولوجيا ، نحن في مهمة فقط ، ولن أعود ولن أتردد على أماكن الفساد الأخلاقي مرة ثانية .
ونحن نهم بمغادرة الفندق ، إذا برهط قليل من الناس يتظاهر في الشارع ضد غلاء الأسعار ، يحملون يافطات مكتوب عليها "إرحل يا أخنوش" .
استفسرتني كاثرين عن الوضع ، فشرحت لها بإسهاب حقيقة الوضع في المغرب . نحن بلد يعاني من انفصام خطير ، أخنوش لا يملك البازار الذي يبيع زربية بثمن خيالي ، وليس أخنوش بسائق تاكسي يرفع من الثمن بالإحتيال في عدَّاد المسافة ، وليس أخنوش بصاحب مطعم يقدم وجبات عادية بثمن مضاعف خمس مرات ، وليس أخنوش بصاحب مقهى يبيع طاست قهوة وقنينة ماء بثمن مضاعف ثلاث مرات . هذه الزيادات يعاني منها المغربي في العطل الصيفية خاصة ، وليس أخنوش مسؤولا عن حلول الصيف ، المغاربة المحتالون هم مثل أخنوش الذي استفاد دون وجه حق من المحروقات ، عندما سيتخلى المغاربة عن الأنانية والإزدواجية والمصلحة الشخصية ، حينها سيكون الجميع ضد أخنوش واحد ، أما الاَن فكلنا متهمون وكلنا مسؤولون .
أطلعت صديقتي الباريسية أن المدن الأخرى لا يختلف وضعها عن الاوكار والشوارع التي زرناها ، لكن من أجل جدية الدراسة سنكمل البحث عن شيئ يبدو مفقودا في البلد وهو قيمة القيم .
تذكري يا كاثرين ، عندما تنهي البحث ، أن تهدي نسختك النهائية إلى صديقك ، بعبارة إلى صديقي الباحث في اللاشيئ في بلد اللاشيئ !.
#المهدي_بوتمزين (هاشتاغ)
Elmahdi_Boutoumzine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيرانوفيليا : الجمهورية الإيرانية قطب تاريخي وحضاري متميز
-
اليسار واليمين على دائرة مستديرة
-
الإنسانية المطلقة ونسبية الدين والتاريخ والعِرق
-
متلازمة الطفل ريان
-
أنا والعفريت
-
عبد الإله بنكيران رجل المطافئ في حكومة عود الثقاب
-
ٍالميركاتو الإنتخابي في المغرب... من هو صديق المخزن الجديد ؟
-
المقاربة الأمنية لإزدواجية الجنسية لدى كوادر الدولة
-
حدود و امتدادات معركة حد السيف في ضوء المواقف الأممية
-
المقاربة الأمنية ضد أساتذة أفواج الكرامة تنهي دعاية حقوق الإ
...
-
من صنعَ و ماذا يصنعُ حزب العدالة و التنمية المغربي ؟
-
الأستاذ عبد الكبير الصوصي العلوي .. و سؤال نزاهة و راهنيَّة
...
-
مدخل إلى المنطلقات الإصلاحية الوطنية الكبرى
-
«تنظيم الدولة» واستراتجية بناء القوة اللامركزية الجديدة
-
الفكر الخميني ميثاق للوحدة الدنيوية و الوحدانية الدينية
-
الأساتذة الوطنيون : الإدماج أو الطوفان
-
«القهر» كمفهوم أساسي في السياسة الداخلية للدول العربية
-
أكاديمية أبو غريب للبحوث الحيوانية
-
التطبيع مع العِبرية في اليوم العالمي للغة العربية
-
المغرب يتحدث لغة الواقع التوافقي في صفقة القرن
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|