|
صَخَبٌ وصَمت ..
يحيى علوان
الحوار المتمدن-العدد: 7355 - 2022 / 8 / 29 - 15:54
المحور:
الادب والفن
حينَ تُصابُ اللغة بالحيرة ، يغدو الصمتُ عِكّازُها !
* الكونُ يَغُطُّ في صخبٍ ، لا أستطيعُ التحرُّرَ منه .. فمصيرنا الوطني، وحتى الإنساني، يُعذِّبُ النفسَ.. ثمةَ إستبدادٌ كونيٌ ، لا يُصيبنا وحدنا! قد نشعرُ به أكثر من غيرنا ! لأننا الأضعف حالياً.. إلى جانب أزمة بتأريخنا وحاضرنا ومستقبلنا . لكن الأخطر هو أزمةُ العلاقة بالمستقبل . من هنا فالصَخبُ قويٌّ جداً ! لكن يجب الأّ نردَّ عليه بصخبٍ كتابي . لأننا لا نملكُ أدواتٍ تُصارع الصخبَ بصخبٍ لُغويٍّ ، فالصخب الماديَّ أقوى من صَخب الكتابة . لذلك يتعيَّنُ علينا أنْ نقاومَ هذا الصخب بنقيضه.. بلغةٍ هادئةٍ ، لغةٌ للتأمل ، ترتبط بالحياةِ وبتمجيد جمالياتها.. * الأنسانُ كائنٌ يتذكّر .. قلتُ في واحدة من الأفوريزمات ، التي أشتغل عليها (نصوص شحيحة)، قلتُ: [طالما أننا نتذكر وننسى، فنحنُ نحيا !] فالأنسان إذ يتذكر ، يستحضر صوراً من الماضي . بيد أنه لا يستطيع إستحضار التجربة وإستعادتها.. فعندما يتذكر يسعى إلى التحرّرِ من ضغط الحاضر. إنه يتذكر فقط لأنه يتذكر ! يتذكّر ليعرفَ مَن هو؟! وأين هو؟! ينضافُ إلى ذلك ما للذهن من قُدرةٍ على تكوين صورٍ ذهنية لأشياءَ وأحداث غابت عن متناول الحس والوعي، تُضافُ إلى ذكرى محدَّدة ، فتدخلُ في نسيجها ، كأنها جزءٌ من الأصل ، تُحاكي مفرداتُها عملَ الخيال..! فالطفولة بالنسبة للمبدع لا تُكتبُ مرةً واحدة .. إنها تخترقُ نصوصه من حينٍ إلى حين ، تستعيدُ عالماً مفقوداً ، حتى وإنْ كانت طفولةً بائسة ! ذلك أنَّ الذاكرة تُجمّلُ عناصرَ الطفولة وتشحنها بجماليات لم تكن فيها بواقع الحال .. قد تكون طفولةً بائسة ، لكن مسافة الحرمان تُجمِّل الماضي وتجعله هدفَ الأحلام ، التي نخترعها ، كي نَتَغلَّبَ على وطأة الراهن الثقيلة .. ولا نُفلِتُ بوصلةَ المستحيل .. الأنعتاق والحرية والعدالة..إلخ الذاكرةُ ، إذاً ، تستطيع أنْ تَخلُقَ وَهمَ العودة إلى الماضي . لكن طريقة عملها الغامضة ، تكشفُ مدى تعقُّد العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل في الوعي الإنساني . فالذاكرةُ الفردية ، متحف خاص ، لا يختارُ محتوياته بوعي أو إنتقائية . هي ذاكرة عفوية وتطوعية .. تحنُّ إلى أمكنتها وأزمنتها السابقة .. قد تستعيدُ ذكرى فَرَحٍ ، لم يَعُدْ يُفرِحُ ، أو ذكرى حزنٍ لم يَعُدْ يُحزن .. إنها تعمل بطريقةٍ تختلف عن الذاكرة "الرسمية". ذلك أنَّ الأخيرةَ تنتقي بوعي كامل ما تريد للجماعة أنْ تتذكره عن تأريخها ، إذ تنزعُ عن الذاكرة طابعها المُطلق ، لأن التأريخَ يحاول أنْ ينسى .. فالذاكرة الرسمية لا تُريدُ للجماعة أنْ تنسى ، بل تُحدِّدُ لها ما ينبغي تذكُّرَه . وهكذا تُخضِعُ الجماعة لسياسة صنعِ الصورة عن النفس ، صورة خالية من العيوب ، لأن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة وظيفية، براغماتية . أما الذاكرة الفردية فهي " شاعرية "! ترتبط بشكلٍ حميمٍ ، تحنُّ إلى المكان الحميم ، الذي توقظ زيارته المُتخيلة كل ما في الزمن الماضي من جمال.. ثمة سؤال مشروع : هل تستطيع الذاكرة الفردية أنْ تكونَ حرةً تماماً؟! أَلا تتأثّر بالذاكرة الجمعية ، التي هي عالم العادات والتقاليد والأهداف "المشتركة"؟! صحيحٌ أنَّ علاقة الذاكرة الفردية بالذاكرة الجمعية تحمي الفردَ من خطرِ الإقتلاع و اللا إنتماء ، لكنها تضغط أيضاً على طريقة تشكُّل شخصيته وخصوصيته . في حالتي ، المُحدَّدَة ، أزعم أنني أستطيع التمييزَ بين تَذَكُّرِ ما هو شخصيٌّ وما هو عام .. لكنني لا أستطيعُ وضعَ حدودٍ سرمديةٍ بينهما ! لأنَّ ذاكرةَ الأشياء الحميمة الشخصية ترتبط موضوعياً بذاكرة الجماعة ، التي أنتمي إليها في علاقتها بالمكان .. الحنين ! فذاتي تحتضنُ ذواتيَ الأخرى ، فيختلطُ صوت الفرد بصوت الجماعة . لكن في الوقت عينه عندما تقوم الذاكراتُ الفردية بسرد حكاياتها، فأنها تُسهمُ في تشكيلِ ذاكرةٍ جمعية ، مثلما تُسهم الذاكرةُ الجمعية في تشكيلِ الذاكرة الفردية ، وفق شروطٍ وخصائصَ تتعلَّقُ بمستوى الوعي والثقافة....إلخ قد يبدو غريباً بالنسبة للكثير من الناس عندما أقولُ أن علاقتي بالبيت / الوطن توطّدت في المنفى ! فعندما تكون في بيتكَ ، لا تُمجِّدُ البيت / الوطن.. ولا تشعر بأهميته وحميميّته . لكن عندما تفقده ، يتحوَلُ إلى صَبْوَة ، إلى مُرتجى ، كأنه الغايةَ القصوى .. بهذا المعنى عمَّقَ المنفى مفهوم البيت / الوطن ، كون المنفى نقيضاً لهما . لكنني لا أستطيعُ الآنَ تعريف المنفى بنقيضه ، ولا الوطن بنقيضه .. فقد إختلف الأمر وغدا كل منهما مُلتبساً ! لذلك أقولُ يبقى الطريق إلى البيت / الوطن أجمل ، وإنْ شئتَ الحلم بهما ، وحتى الحلم بالثورة أجمل من تحققها .. قد يكون البيت/ الوطن عادياً جداً– من دون إطناب في المديح والتوصيف – لكنك حين تفتقده، تكتشف نواحي أخرى لم تكن تراها وقت كان " مُتاحاً/ متوافراً " لديك .. فعندما كنّا "هناك" لم نشعر يوماً بأننا نحتاجُ إلى تقديمِ براهينَ عن حقّنا بالمكان ، بيتاً كان أم وطناً.. كانت علاقتنا بالمكان تلقائية وعفوية ، لا تحتاج إلى مسوّغٍ أو تبرير .. كنا مشغولين بأمرٍ آخر ، بالدفاع عن حقنا في إمتلاك مستقبل أفضل ، مع الإحتفاظ بحريتنا في أن نحلم ونعمل من أجل المستحيل !.. من أجل العدل والإنعتاق والحرية.. مشروعاً يشمل الجميع ! بأختصار ، كل الأحلام أكبر وأجمل من شكل تَحقُّقِها ! لكن للأسف لا تبدو صورةُ المستقبل القريب غير مُشِعّة ، بل قاتمة من منظور الحاضر !! وعليه فذاكرةُ المُبدعِ هي مخزونُ الصور والإنطباعات ، التي عاشها ، رآها ، قرأها أو تخيلها من خلال ثقافته وتجربته الحسية والفكرية.. من جانب آخر ، فأنَّ أزمنة الذاكرة هي الماضي البعيد أو القريب .. وأمكنتُها هي الأمكنة المفقودة والغائبة ، أو تلك التي شَهِدَت تجربةً " شخصية أو حميمة " أو شهدت " كارثةً جماعية ".. فنحنُ لا نتذكرها كي نستعيدها ، بل لنفهمَ حاضرَنا ونتهَجَّسَ طريقنا إلى المستقبل! فلا أحدَ يحنُّ إلى وَجَعٍ سابقٍ ، لكننا نحنُّ إلى أفراحٍ ، حتى صغيرةٍ وإنْ كانت تحتَ سماواتٍ مُلبّدة !! عرفناها في الماضي، ولا نجدها إلاّ في المستقبل ، كما نظن ! وعندما يتذكر الفردُ والجماعة الوجَعَ السابقَ ، فأننا نفعلُ ذلك كي لا تتَكرّر تلك التجربة المأساوية . لكن حين تصبحُ طريقُ الغدِ سالكةً ، أمامنا ، فأن شيئاً من النسيان يغدو واحداً من شروط التحرُّرِ والإنعتاق ! * * * * الآنَ حان وقت الحديث عن الصمت ، سأسمحُ لنفسي أن أُعالجه بصيغةٍ أخرى غير ما تقدَّمْ ! ولن أُخوّضَ في موضوع "صمتِ" أجزاءٍ غيرَ قليلةٍ ممن يُسمَّونَ بالنُخَب ،"أسبابها"و"مسوّغاتها"...إلخ فهذا أمرٌ قد يحتاج إلى تحبيرِ مئاتٍ من الصفحات .. لا أنا بقادرٍ عليها ، ولا تتوفَّرُ لي مادةٍ أرشيفية تُعينني على ذلك !
.أُحبُّ أنْ أَبقى مستيقظاً ، طالما الليلُ صاحٍ .. أُتابعُ المدينةَ كيف تنام ، أُفضّلُ المشي "تُوالي" الليلْ ، لمّا تستريحُ الشوارعُ والأزقة من تعبِ النهار! ما أحلى أنْ تُتابعَ العالم يهداُ رويداً .. رويدا وكيف يدخلُ الليلُ دهليزَ الصمت ! ....................... مرَّةً صادفتُ في الزقاقِ مفردةً بمفردها صامتةً ، حزينة .. لمْ أسألها ما بها .. كي لا تَحسبني أتطفَّل على حُزنها ، أو أَني أُريدُ فَضَّ صمتَها..! لكني عرضتُ عليها أن تدخل في جملتي ، حتى لا تبقى وحيدة فبردُ الليلِ ساديٌّ ! .................. ـ الصمتُ، صُراخُ الأحشاء ، حين يمتليءُ الفم رَملاً..! ـ تَصمِتُ "وحوشُنا" تحتَ قَمرٍ يُطلقُ في دَمنا نَمْلَ الحنين .. ـ هل ينتهي عَفَنُ الدنيا ، إنْ خَرَجنا نصرَخُ من الفجائعِ إلى عالمٍ مُسمَّرٍ بالصمت؟!! ـ وهل يبطُلُ مفعولُ " السحر" إنْ كَسَرنا الصمتَ ؟! .أَيكونُ بمقدورنا توصيف يَرَقَةٍ تَلصِفُ في غابةِ الليلِ؟! ـ مَنْ ينبِشُ فينا ما تَرَسَّبَ منْ صمتٍ، عَجَزْنا عن قَولِه؟! ـ سنكتبُ .. ونكتبُ لنَصيرَ للصمتِ فَماً .. فالصمتُ منبسطٌ أمامنا ، مثل بحيرةٍ بلا رمالٍ تَتَشَرَّبُه .. ـ النَبعُ يَشهَقُ بزَبَدِ كلماتٍ خَنَقَها الصمتُ .. ـ أيّ الطُرُق خارِجَ الصمتِ نَنْشدُ ؟ فللزورقِ، الذي أَعمَته ذاكرتُه ، أشرِعَةٌ في كلِّ الإتجاهات؟!! ـ بوّابةُ المستقبلِ مُقفَلَةٌ من الداخل ، كي لا نقولَ صامتة ، مثل بوابةِ حانةٍ سهرَتْ حتى الفجر.. لماذا لا تَملّ أيادينا من الطَرقِ عليها؟! ماذا تُرانا ننتظر؟!! ..................... من قَعرِ البئر ، يَنِزُّ صوتٌ : ـ " تأمَّلوا وأكتبوا ..لتخلِقُوا مَنْ نصوصكم سُلَّماً يُخرجَكم من بئرِ الصمتِ ، إلى فضاءٍ على أجنحة البَجَعِ !!"
#يحيى_علوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- الوقت الضائع -!
-
لا خيــار بين السيء والأسوأ !
-
قصاصات من المستشفى (3)
-
حذار من لُغتهم !!
-
مُتناثرٌ موصولٌ
-
هل نحن في - مرحلة تحرُّر وطني -؟!
-
ما العمل؟ مع الريح ضد التيار .. أم العكس ؟!!
-
المُجرَّد والمَلموس
-
مُنوّعات
-
دمعة .. صَرخَةُ أَخرَسٍ من أجلِ وطن !
-
إذا كانت الثقافةُ نِعمَة ، فأنَّ الجهالة نِقمَة !
-
أَما عادَ في الناسِ مَنْ يَعقِلُ هذا الأَدرَصْ ؟!
-
إعلان
-
لَوْ (2)
-
خواطر مُبعثرة
-
ومضاتٌ شَقِيَّة 3
-
ومضاتٌ شَقِيَّة 2
-
ومضاتٌ شَقِيَّة
-
تداعياتُ يــومٍ ماطـــر
-
لَـــوْ...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|