|
رهاب الرسائل المغلقة
مازن جهاد وعري
الحوار المتمدن-العدد: 7352 - 2022 / 8 / 26 - 12:03
المحور:
كتابات ساخرة
لم أعترض يوما على زيارة الأماكن المقدسة، خاصة تلك التي تتوسط جبالنا الريفية .. بل كنت ومازلت من السباقين لتهيئة الأجواء المناسبة لزيارتها..لا لمدلولها او لتاريخها الديني ..بل لما تملكه من جمال طبيعي في أماكن تواجدها..بعضها يترأس قمم الجبال.. والبعض الآخر يتوسط السهول.. بعضها بقبب بيضاء ..وبعضها رفض أن تعلو قبره قبة، بناء على "وصية شفوية" يتداولها المعمرون في القرية ..حيث يقال أنه اكتفى بشجرة قديمة بجانب المقام.. أو بسور خفيف من شجر السرو حول القبر. مع مرور الزمن .. يتغير المدلول والتأثير المعنوي لهذه "المزارات".. فمن رآها في مرحلة الطفولة ملاذا آمنا لشرب السجائر او للقاء عاطفي، بعيدا عن أعين الأهل والمدرسة، أصبحت بالنسبة إليه الان ملاذا آمنا للتضرع والتقرب من الله ..والعكس صحيح بطبيعة الحال، فمن دخلها في مرحلة المراهقة كمتسول يتسول علامة النجاح اعتقادا بقدراتها الخارقة في الامتحان مثلا، يدخلها الان كسائح غير مكترث الا بمنظرها وبرودة مياهها وكمية الخدمات المتاحة فيها.. تتحول المزارات شيئا فشيئا الى مراكز استجمام أكثر منها كمراكز للعبادة، هذا ما تتم ملاحظته من اعداد المقبلين إليها، غالبيتهم من الشباب، طقوس الاستجمام الربيعي والصيفي واضحة في جلساتهم وحواراتهم . حيث فقدت هذه المزارات رهبتها أمام التطورات التقنية والتكنولوجية التي استقرت في ذهن الفئة الشابة ..أما بالنسبة لي فما يرهبني فيها هي تلك الصور او تلك القصاصات الورقية المغلقة المليئة بالأدعية التي تتناثر على سطح القبر أو المقام كما يطلق عليه في الموروث الشعبي .. والتي سببت لي رهابا حقيقيا جعلني أنفر دائما من الرسائل المبهمة.. او المشفرة او المغلقة.. لن أنسى ذلك اليوم المشؤوم .. وانا عائد من مدرستي الإبتدائية، حين قرر أحد أصدقائي أن يشعل سيجارة قبل الدخول إلى البيت، دخلنا ذلك المزار الذي يتوسط القرية، أشعل سيجارته ببطء، أما أنا وكما هي العادة، طفت حول القبر راجيا المزار أن يتدخل لصالحي في تصحيح بعض الأوراق الامتحانية.. وأنا أقوم بالطوفان، وقع نظري على قصاصة ورقية بيضاء، مغلقة بشكل منتظم، ظننت أنها رسالة أو دعاء من أحد الأقران، فتحتها بقدر كبير من عدم الاكتراث، بدأت بقراءتها برفق، لا شيء جديد، أسماء الله الحسنى ..دعاء او اثنين بخط واضح .. وصولا الى السطر الأخير .. .. "من يقرأ هذه الرسالة عليه أن يكتبها خمسين مرة ويوزعها على أكبر عدد ممكن من المزارات وإلا فإنه سيفقد عزيزا بعد أيام أو سيبتليه الله بالعمى ".. رميت الورقة، وانا أرتجف كلص سمع للتو مشي أقدام هرولت مسرعا، خارج المقام لعنت ساعة دخولي، وساعة التدخين، والمدخنين جميعهم. قبل النوم علقت عيناي على أمي وأبي وأخوتي ..وبدأت الهواجس..ماذا لو مات أحدهم فجأة؟..ماذا لو كان الدعاء حقيقيا...؟ من كتب تلك الرسالة..؟ كيف اختارني المزار لقراءتها.. ؟ في تلك الليلة وحدها.. عرفت المعنى الحقيقي لكلمة "القلق"..! في اليوم التالي بدأت علامات عدم النوم واضحة أمام زملائي .. ليتبعه غياب عن المدرسة ليومين متتالين.. في اليوم الرابع قررت أن أفعل ما هو مطلوب مني.. كتبت الخمسين ورقة.. وزعتها بالتعاون مع صديق لي على كل مزارات القرية.. بقسمة غير عادلة .. فالمزار صاحب "السيط" الاكبر .. كانت حصته ثلاث أو اربع رسائل .. نوزعها على زوايا القبر الاربع...
بعد أعوام...وحين الانتهاء من إحدى المحاضرات الجامعية ، انتظرت مع مجموعة من الزملاء حافلة تقلني الى مكان إقامتي، دسست يدي بجيب سترتي متلمسا ما بقي معي من نقود، وإذ بورقة بيضاء مغلقة بعناية،عبقت منها رائحة عطر هادئ، إلا أن خوفي من الرسائل المغلقة قد حول رائحتها الى رائحة البخور...! ومن دون تفكير، وبلا أي التفات للخلف، رمتها يدي بكل خفة، كمن يتلمس مرجل ماء يغلي، حاولت الإبتعاد عن زملائي قليلا..إلا أن اقتربت مني إحدى الزميلات ، وفي يدها تلك الورقة، بدأت بتمزيقها وصوت الدمع في عينيها يقول بغضب: من يرمي قصاصات العشق لا يستحق قراءة المشاعر!! بعد أيام عدت الى القرية بدموع الطفولة وبرائحة البخور، التي أكلمت لعنتها قبل وصولي الى البيت حين شاهدت على باب إحدى المزارات مجموعة فيتيات يصغرنني بأعوام ، في يد أحداهن مجموعة أوراق، آلمني منظر الخوف الواضح في عينيها، ربما هي إحدى أوراقي المرمية في ذلك المزار المهجور، لا بد أنها ستبدأ بكتابة ما اقترفته يداي منذ أعوام..ولخمسين مرة أخرى ..
#مازن_جهاد_وعري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة التقارب التركي الإيراني..تراجع تركي أم سياسة المصالح؟
-
صفقة الغاز في سورية: فيتو روسي جديد
-
ملوك الرمال والممانعة
-
السيد المسيح بين الحقيقة والأسطورة
-
اليسار العربي بين فكي كماشة
-
النصر الإلهي
-
الدين -كبديل للصراع الطبقي-
-
إيران.. من تصدير -الثورة الإسلامية- إلى منع استيراد -الثورة
...
-
تمويل الثورات الملونة والبيئة المناسبة لحدوثها
-
الثورات الملونة-أداة تدخل خارجي أم استجابة لضرورات داخلية-
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|