|
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7349 - 2022 / 8 / 23 - 00:39
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
عزف على قيثارة شبعاد
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ فالح 2 ـ الدكتور ماجد 3 ـ سلوى .. ابنة الدكتور ماجد 4 ـ السكرتيرة إقبال 5 ـ الدكتورة أريج 6 ـ شيماء .. ابنة عمة الدكتورة أريج 7 ـ حامد
" 1 " ـــــــــــــــــ دُقّ جرس الهاتف ، في مكتب الدكتور ماجد ، فرفعت السكرتيرة إقبال سماعة التلفون ، وقالت بصوت آلي : ألو .. نعم .. تفضل .. أستاذ فالح ؟ أهلاً وسهلاً ، عفواً الدكتور ماجد لديه محاضرة ، حاضر ، سأخبره بأنك اتصلت ، حين يعود ، مع السلامة . ووضعت السكرتيرة إقبال سماعة التلفون في مكانها ، ثم نظرت عبر باب الغرفة ، وصاحت : حامد .. وعلى الفور دخل حامد ، من الصعب أن تعرف عمره أو عمله ، فهو رجل أنيق ، حليق الوجه ، الابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه ، وقال : نعم ست إنعام . وقالت إقبال متظاهرة بالغضب : بحّ صوتي ، وأنا أصيح منذ ساعة ، شاي .. وقال حامد وابتسامته لا تفارق شفتيه : عاقبيني ، يا ست إقبال ، إذا كان الشاي الذي سأقدمه لك ، غير طيب ، أو يوجد ما يماثله في المركز الطلابي في الجامعة أو .. ونظرت إقبال إليه ، وقاطعته قائلة : أنت تعرف أن ما يقدم في المركز الطلابي ليس شايا .. وفتح حامد عينيه الجاحظتين ، فقالت إقبال : حامد ، أنا أريد شاياً ، أسرع . وأسرع حامد بمغادرة الغرفة ، وهو يقول : حاضر . وسرعان ما عاد حامد ، ووضع " استكان " الشاي أمام السكرتيرة إقبال ، وقال : تفضلي شاي حقيقي . ونظرت إقبال إليه معاتبة ، وقالت : كالعادة نسيت .. وضرب حامد جبهته بكفه ، وقال : آه .. الماء .. وخرج من الغرفة مسرعاً ، وهو يقول : عفواً ، سآتيك بالماء حالاً . وأمسكت إقبال الملعقة الصغيرة ، وراحت تدير السكر في " استكان " الشاي ، وهي تقول : لا تستعجل ، يا حامد ، لا تستعجل . وحالاً لم يأتِ حامد ، وإنما أتى الدكتور ماجد ، والحقيبة في يده ، ونظارته الطبية كالعادة متهدلة على عينيه ، وبادر إقبال قائلاً ، وهو يمضي إلى غرفته : صباح الخير ، إقبال . ونهضت إقبال ، وردت قائلة : صباح النور دكتور . وهمت إقبال أن تلحق به ، فرمقها بنظرة سريعة ، وقال : لا تستعجلي ، اشربي شايك أولاً . لكنها لم تشرب شايها ، وإنما لحقت به إلى غرفته ، وما إن ألقى حقيبته على مكتبه ، حتى استلّ سكارة من علبة " روث مان " ، وأشعلها ، ونظر إلى إقبال عبر دخان سكارته ، فقالت له : اتصل الأستاذ فالح أكثر من مرة ، فقلت له إنك في المحاضرة ، سيأتي بعد قليل . ونفث الدكتور ماجد دخان سكارته ثانية ، وقال : أشكركِ ، اذهبي ، وأكملي شرب شايكِ . لم تذهب إقبال ، ونظرت إليه صامتة ، فقال الدكتور ماجد : مازلتِ هنا .. وقالت إقبال بصوت يوشيه الحزن : اتصل الطبيب .. فنظر الدكتور ماجد إليها صامتاً ، والسكارة في يده ، فتابعت إقبال قائلة : لقد وصلته نتائج التحاليل من المختبر ، ويطلب منك أن تزوره في عيادته . وأطرق الدكتور ماجد رأسه ، وقال : سأذهب إليه عصر اليوم ، اذهبي إلى شايك . وذهبت إقبال ، وجلست في مكانها ، وجاءها حامد ، وقد لمح الدكتور في غرفته ، فوضع قدح الماء أمامها ، وقال بصوت خافت : ست إقبال ، الماء .. فقالت إقبال بصوت حزين ، دون أن تنظر إليه : خذ الماء والشاي ، واذهب . وبدون أن يتفوه حامد بكلمة ، أخذ " استكان " الشاي ، وكوب الماء ، وخرج من الغرفة . وراحت إقبال تتشاغل بالأوراق التي أمامها ، وهي ترمق الدكتور ماجد بنظرات سريعة مهمومة ، ودقّ التلفون ، فرفت السماعة ، وقال : ألو .. حنان .. ودخل فالح ، وحقيبته في يده ، فأشارت إقبال له إلى الغرفة ، وتمتمت : الدكتور في الغرفة ، ينتظرك ، لقد جاء قبل قليل . ودخل فالح غرفة الدكتور ماجد ، فقالت إقبال في التلفون بصوت خافت : حنان ، إنني مشغولة الآن ، سأتصل بك فيما بعد . ودخل فالح غرفة الدكتور ماجد ، وحقيبته التي لا تفارقه في يده ، ونظر إلى الدكتور نظرة سريعة ، لكنها فاحصة مدققة ، وقال : صباح الخير دكتور . ونفث الدكتور دخان سكارته ، وأجاب قائلاً : صباح النور ، لقد انتهيت من محاضراتي ، إنني متفرغ لك الآن ، اجلس . وجلس فالح ، وقد وضع حقيبته في حجره ، وقال : أخشى أنك متعب ، يا دكتور . فرد الدكتور ، والسكارة بين شفتيه : كلا ، لستُ متعباً ، تفضل ، حدثني عنها .. وغالب فالح ابتسامته ، وبدا مرتبكاً ومحرجاً ، فبادره الدكتور ، وهو ينفث دخان سكارته : أنت مهموم جداً ، بهذه الملكة الجميلة ، شبعاد .. وتمتم فالح : نعم .. فهتف به الدكتور : تزوجها .. وبدت الدهشة على فالح ، وقال : ماذا ! فقال الدكتور : تزوجها ، وتخلص منها . وابتسم فالح ، ثم قال : صدقني ، يا دكتور ، إنني أعجبت بها جداً ، حين رأيت صورتها ، في كتاب التاريخ ، الذي كنا ندرسه في الصف الأول متوسط . وابتسم الدكتور ، والسكارة بين شفتيه ، وقال : ربما لو كنت أميراً من أمراء اور ، لحظيت بها ، فالأميرة شبعاد تزوجت ملك . ونظر فالح إلى الدكتور ماجد ، وقال : لا أدري أين قرأت ، أنها تعلقت بأستاذها ، وأحبته ، رغم أنه ربما كان في عمر أبيها . ولاذ الدكتور ماجد بالصمت ، بعد أن سحق بقايا سكارته في المنفضة ، ثم اعتدل في جلسته ، وقال : لقد قلت لك كلّ ما يفيدك في أطروحتك ، لكن أظنّ أن هناك من قد يضيف إليك أشياء مهمة .. وصمت الدكتور ، ونظر فالح إليه صامتاً منتظراً ، فقال الدكتور : الدكتورة أريج . وردّ فالح : لكن الدكتورة أؤيج جاءت في زيارة من لندن ، وهي لا تتردد على الكلية . واستل الدكتور ماجد ـ سكارة جديدة من علبته ، وأشعلها بأناة ، وعيناه تحدقان في اللهب ، ثمّ قال : نعم .. جاءت من لندن ، وهي هنا الآن . وتساءل فالح : أنت تذكرها بين حين وآخر . فتابع الدكتور قائلاً : وبحسب علمي ، كتبت أكثر من بحث قيم عن السومريين ، وملكتهم شبعاد ، وعن مقبرتها في اور بالذات ، وأعتقد أن لديها بحوثاً أخرى لم تنشر بعد في أي مكان . فقال فالح : لقد قرأت بعض ما كتبته ، وهو في صلب أطروحتي ، ليتني ألتقي بها فقال الدكتور ماجد : اذهب إليها في بيتها . قال فالح : دكتور ، أنت تعرفها جيداً ، لقد أشرفت على أطروحتها عن السومريين ، ليتك تتصل بها ، وتطلب منها أن تسمح لي بلقائها في بيتها . وقطب الدكتور حاجبيه ، ورفع السكارة من بين شفتيه ، ثم قال : لا ، لا ، اتصل بها أنت ، إنها إنسانة طيبة متعاونة ولن تردك . ثم وضع السكارة بين شفتيه ، وقال : رقم هاتفها وعنوان بيتها موجود عند إقبال ، خذه منها . ونهض فالح ، وقبل أن يخرج إلى إقبال ، قال له : أشكرك ، أشكرك ، يا دكتور .
" 2 " ــــــــــــــــــــ قبيل المساء ، أدار فالح رقم تلفون الدكتورة أريج ، الذي حصل عليه ، من السكرتيرة إقبال ، وتناهى إليه صوت تلفونها يدق مرات ، وأخيراً رُفعت السماعة ، وجاءه صوت امرأة هادىء : ألو .. فتساءل فالح قائلاً : الدكتورة أريج ؟ وردت الدكتورة قائلة : نعم . وحياها فالح قائلاً : مساء الخير دكتورة .. ويبدو أنها خمنت ، أن الصوت لشخص غريب ، فقالت : مساء النور ، تفضل . فقال فالح : عفواً دكتورة ، أنا فالح حمدي ، طالب دكتوراه ، أدرس موضوع ملكات عراقيات في العصور القديمة ، الملكة شبعاد بالذات .. وسكت فالح ، وجاءه صوتها تتنهد .. آه . فتابع قائلاً : قرأت بحثك عن السومريين ، الذي نشرته في مجلة متخصصة ، وقيل لي أنه ربما لديك أكثر من بحث آخر حول الموضوع . وسكت فالح ثانية ، فقالت الدكتورة أريج : نعم ، إنني مهتمة بتاريخ العراق القديم ، وخاصة السومريين ، والحقيقة إنه موضوع أطروحتي للدكتوراه . وقال فالح : نعم ، أعرف هذا ، وقد اطلعت على نسخة منها ، وهي أطروحة تستحق حقاً الامتياز مع مرتبة الشرف ، الذي حصلت عليه . وقالت الدكتورة أريج : أشكرك . وبنبرة رجاء ، قال فالح : دكتورة ، أرجو أن تسمحي لي ، أن أزورك في البيت ، وأجري معكِ حديثا عما يمكن أن يغني أطروحتي ، التي أوشك أن أنجزها . ولاذت الدكتورة أريج بالصمت ، ثم قالت : إنني في الحقيقة قلما التقي مع أحد ، بخصوص مواضيع الدراسات العليا ، لكن .. وصمتت لحظات ، فقال فالح مترجياً : من فضلكِ دكتورة ، لن آخذ الكثير من وقتك ، أرجوك .. وقالت الدكتورة أريج بصوتها الهادىء : هذا الموضوع يهمني كثيراً ، والحقيقة إنني مازلت أتابعه ، حسناً ، تعال غداً في حدود الساعة الخامسة . ولم يستطع فالح أن يكتم ارتياحه ، فقال بحماس : أشكركِ دكتورة ، أشكرك جداً . وقالت الدكتورة أريج : لحظة ، سأعطيك العنوان .. فقال فالح : أعرفه . وصمتت الدكتورة لحظة ، ثم قالت : حسناً ، انتظرك في الخامسة ، مع السلامة . وسمعها فالح تغلق التلفون ، فأعاد سماعة تلفونه إلى مكانها ، وهو يقول : مع السلامة ، دكتورة . وتنفس الصعداء ، وقد غمره الارتياح ، فقد كان يخشى ، أن تعتذر الدكتورة أريج عن مقابلته ، وتحرمه بذلك من فرصة لا تعوض ، في إغناء أطروحته . وفي اليوم التالي ، عند حوالي العصر ، ضغط فالح جرس باب الدكتورة أريج ، في حيّ عريق من أحياء مدينة الموصل . وفتحت له الباب فتاة تناهز العشرين من عمرها ، وحدقت فيه ، ثم قالت : أستاذ فالح ؟ فردّ فالح ، وهو يشد على حقيبته : نعم ، أنا فالح ، وجئت على موعد مع الدكتورة أريج . وتنحت الفتاة قليلاً ، وقالت : أهلاً وسهلاً ، تفضل . ودخل فالح متردداً ، فأغلقت الفتاة باب الدار ، ثم مشت أمامه ، وهي تقول : تفضل أستاذ فالح ، الدكتورة أريج تنتظرك في الداخل . واستقبلته الدكتورة أريج ، عند الباب الداخلي ، وقالت مرحبة ، دون أن تمدّ له يدها : أهلاً ومرحباً أستاذ فالح ، تفضل لنجلس في غرفة الضيوف . ودخل فالح ، والحقيبة في يده ، فالتفتت الدكتورة أريج إلى الفتاة ، وقالت : شيماء ، أعدي لنا فنجاني قهوة ، نحن في غرفة الضيوف . ومضت سلوى نحو المطبخ ، وهي تقول : نعم دكتورة ، سأعدهما حالاً . ودخلت الدكتورة أريج بفالح إلى غرفة الضيوف ، وقالت له : تفضل ، اجلس . وجلس فالح ، والحقيبة في حضنه ، وجلست الدكتورة قبالته ، وقالت ، وملامحها هادئة مطمئنة : أهلاً ومرحباً ، آمل أن تجد في لقائي ما يفيدك . وقال فالح : ما قرأته من كتاباتك ، دفعني للقائك ، والاستفادة من خبرتك في موضوع أطروحتي ، وهي قريبة في مادتها من أطروحتك . وصمت فالح لحظة ، ورمق الدكتورة أريج بنظرة خاطفة ، وقال : والحقيقة ، الفضل يعود للدكتور ماجد ، المشرف على أطروحتي ، فهو الذي أشار إليّ أن أتصل بكِ ، وأجري هذا اللقاء معكِ . وأطرقت الدكتورة أريج رأسها مهمهمة ، ثم نظرت إليه ، وقالت : لابد أنك تعرف إذن ، أن الدكتور ماجد كان أستاذي ، وقد أشرف بنفسه على أطروحتي . وهزّ فالح رأسه ، وقال : نعم . وطرق الباب ، فرفعت الدكتورة عينيها نحوه ، وقالت : شيماء .. ادخلي . ودُفع الباب برفق ، ودخلت شيماء حاملة صينية صغيرة ، فيها فنجانان من القهوة ، وضعت أحدهما أمام فالح ، ووضعت الآخر أمام الدكتورة أريج ، فقالت الدكتورة : شكراً شيماء . فردت شيماء قائلة بصوت خافت : عفواً دكتورة . وخرجت بهدوء ، وبهدوء أشدّ أغلقت الباب وراءها ، فقالت الدكتورة أريج لفالح : تفضل ، اشرب قهوتك قبل أن تبرد . ومدّ رافع يده ، وراح يرشف قهوته صامتاً ، ثم وضع الفنجان جانباً ، ونظر إلى الدكتورة أريج ، وقال لها : شكراً ، قهوة لذيذة . وابتسمت الدكتورة أريج ، وهي ترشف قهوتها وقالت : شيماء ، ابنة عمتي ، خبيرة في إعداد القهوة المهيلة ، وأنا لا أشرب القهوة في البيت إلا من يدها . ووضعت الدكتورة أريج فنجان قهوتها في الطبق الصغير ، ونظرت إلى فالح ، وقالت : والآن ، لنعد إلى موضوعنا ، وليتك تخبرني ، لماذا شبعاد ؟ وابتسم فالح ، وردّ قائلاً : الحقيقة ، إنني أعجبت بهذه الملكة منذ فترة طويلة ، وعندما قرأت تاريخ العراق القديم ، أحببت أن أدرس الملكات فيه ، وخاصة شبعاد ، وهذا ما أخبرت به الدكتور ماجد . وأطرقت الدكتورة أريج رأسها ، ثم نظرت إليه ، وتساءلت قائلة : كيف حاله ؟ وردّ فالح قائلاً : بخير . وقالت الدكتورة أريج : علمت أنه راجع أحد الأطباء ، وطلب منه الطبيب إجراء بعض التحليلات . ونظر فالح إليها ، وقال : نعم ، لكنه .. بخير . ولاذت الدكتورة أريج بالصمت ، ثم نهضت ، وقالت : لدي أوراق كتبتها عن شبعاد ، لم أنشرها ، وربما لن أنشرها ، سأطلعك عليها ، لعلها تفيدك . وأتته بمغلف فيه أوراق عديدة ، مكتوبة على الآلة الكاتبة ، وقدمتها له ، وهي تقول : اقرأها ، أريد رأيك فيها ، في اللقاء القادم . ونهض فالح ، وأخذ المغلف ، ووضعه في حقيبته ، ثم قال لها : أشكرك ، أرجو أن لا أكون قد أتعبتك . وسارت الدكتورة أمامه إلى الخارج ، وهي تقول : عفواً ، إنني مهتمة بموضوع أطروحتك ، وبجهدك الطيب فيها ، ويهمني أن تصل بها إلى ما تطمح إليه . وعند الباب الخارجي ، ودعته ، وقالت له : انتظر منك مكالمة ، بعد أن تقرأ أوراقي عن شبعاد ، أهلاً وسهلاً بك ، مع السلامة .
" 3 " ــــــــــــــــــــ في أول الليل ، فتح فالح المغلف ، الذي قدمته له الدكتورة أريج ، وأخرج منه الأوراق ، التي كانت مكتوبة على الآلة الكاتبة ، وبدأ يقرأها . وأدهشته مادة الأوراق ، من الأسطر الأولى ، لكنها جذبته بشدة ، وجعلته يتابعها سطراً بعد آخر ، وسطراً بعد آخر ، راح يتساءل ، أهذا بحث ما يقرأه للدكتورة أريج ؟ إنها دكتورة في تاريخ العراق القديم ، ولاسيما السومريين ، صحيح أنّ ما يقرأه ، كان عن شبعاد ، لكن هذا ليس تاريخاً ، وإنما هو أقرب إلى الرواية التاريخية ، بطلتها الملكة شبعاد ، ولابد أن الدكتورة أريج تعرف الفرق بين الرواية الخيالية والتاريخ ، وفي هذه الأوراق الكثير من الخيال . وتتحدث الدكتورة أريج ، في أوراقها ، بأسلوب سردي مشوق ، وكأنها روائية ، عن شبعاد السومرية ، وهي تتفتح في أولى سني شبابها ، تتعلم العزف على القيثارة ، على يد أستاذ متمرس ، لم يعد شاباً ، وقد كانت تحب العزف على القيثارة ، منذ أن رأته يعزف على القيثارة ، وهي مازالت طفلة . ومع الأيام ، ومع تقدمها في العزف على حبها الأول .. القيثارة ، بدأت ، وبدون أن تدري ، تميل إلى الأستاذ نفسه ، حتى اختلط عليها الأمر ، فالقيثارة هي الأستاذ ، والأستاذ هو القيثارة . ولعل الأستاذ الشاب ، آنس منها هذه المشاعر الربيعية الغامضة ، فراح يتصرف بتحفظ أحياناً ، وأحياناً بشيء من البرود الحذر ، فهو أستاذ موسيقى ، من عامة الشعب ، وهي أميرة معروفة ، ابنة ملك . وحين خطبت من أمير سومري كبير ، غامت عواطفها ، وتعكرت أنغام القيثارة في داخلها ، لكن الأستاذ الشاب تنفس الصعداء ، لكنه ولسبب لم يفهمه ، شعر وكأن نغمة قيثارة عذبة اختفت من قيثارته . وتزوجت الأميرة شبعاد ، من الأمير الذي يكبرها عمراً ، وسرعان ما صار ملكاً ، بعد أن رحل أبوه الملك ، وصارت الأميرة شبعاد ، زوجته ، ملكة أيضاً ، لكن القيثارة ظلت معها ، وظلت النغمات التي تعلمتها من أستاذها حية في داخلها ، تسمعها أحياناً حتى في منامها ، وحين حضرتها الوفاة ، طلبت أن توضع القيثارة إلى جانبها ، وبالفعل حين فتحوا قبرها ، وجدوا فيه كنوزاً لا تقدر بثمن ، كما وجدوا قرب جثمانها قيثارة جميلة ، لكن أحداً لم يعرف أسرار الأنغام ، التي تنطوي عليها هذه القيثارة ، منذ آلاف السنين . وفي اليوم التالي ، ذهب فالح إلى الكلية ، وحقيبته في يده ، وحين دخل غرفة السكرتيرة ، لاحظ أن غرفة الدكتور ماجد مغلقة ، فحيا السكرتيرة قائلاً : صباح الخير . ورفعت السكرتيرة عينيها إليه ، وردت قائلة : صباح النور ، الدكتور ماجد سأل عنك . فتساءل فالح قائلاً : كيف حاله ؟ وردت السكرتيرة قائلة : إنه في غرفته الآن . وتساءل فالح ثانية : كيف هو ؟ فنظرت السكرتيرة إليه ، وقالت : ذهب إلى الطبيب البارحة ، وبعد أن تفحص تحليلاته ، طلب منه أن يجري التحليلات مرة أخرى ، في مختبر آخر . ولاذ فالح بالصمت ، فقالت له السكرتيرة : ادخل عليه ، إنه وحده الآن ، يدخن . وطرق فالح باب الغرفة ، وجاءه صوت الدكتور مبحوحاً بعض الشيء : تفضل .. ادخل . ودفع فالح الباب بهدوء ، ودخل على الدكتور ، والحقيبة في يده ، ورحب به الدكتور ماجد ، دون أن يرفع السكارة من بين شفتيه المتيبستين ، وقال : أهلاً فالح ، تعال اجلس . وقبل أن يجلس فالح ، وحقيبته في يده ، رمق الدكتور بنظرة سريعة ، كأنما ليطمئن عليه ، حياه قائلاً : صباح الخير .. دكتور . ورفع الدكتور ماجد ، السكارة من بين شفتيه ، وأطفأها في النفاضة ، وردّ قائلاً بصوته المبحوح بعض الشيء : أهلاً ومرحباً ، صباح النور . ونظر الدكتور ماجد إليه ، وقال متسائلاً : شاي أم قهوة أم .. وقاطعه فالح مبتسماً : شأي من فضلك .. ومدّ الدكتور ماجد يده إلى علبة السكائر ، فأضاف فالح قائلاً ، وهو يبتسم : وبدون سكائر ، من فضلك . وسحب الدكتور ماجد يده مبتسماً ، وقال بصوته المبحوح بعض الشيء : بدون سكائر ، تأمر.. ونظر الدكتور ماجد ، عبر الباب المفتوح ، وصاح : حامد ، أتحفنا باستكانين من شايك . ونهضت السكرتيرة من مكانها ، فحامد كان في غرفته الصغيرة ، وبالتأكيد لم يسمع ما أراده الدكتور ماجد ، وقالت وهي تخرج من الغرفة : لحظة دكتور ، سيأتيك الشاي حالاً . ونظر الدكتور ماجد إلى فالح ، وقال له مبتسماً : حدثني عن حبيبتك الغالية .. شبعاد . ولاذ فالح بالصمت لحظة ، ثم قال : ذهبت البارحة عصراً ، إلى الدكتورة أريج في بيتها ، وجلست معها فترة ليست قصيرة .. ومدّ الدكتور ماجد يده إلى علبة السكائر ، لكنه توقف مبتسماً ، ثم سحب يده ، وقال : الدكتورة أريج متضلعة في التاريخ العراقي القديم ، وقد درّست هذا الموضوع في جامعة بلندن عدة سنوات . ونظر فالح إليه ، وقال : في الحقيقة ، لم نتحدث ما يكفي عن موضوع أطروحتي ، لكنها وعدتني خيراً ، وقبل أن أخرج ، أعطتني مغلفاً فيه أوراق مكتوبة على الآلة الكاتبة ، وطلبت مني أن أقرأها . ودخل حامد مسرعاً ، يحمل صينية صغيرة ، فيها استكانان من الشاي ، وضع أحدهما أمام فالح ، ووضع الآخر أمام الدكتور ماجد ، ووقف مبتسماً ، وقال : تأمر بشيء آخر دكتور . فردّ الدكتور قائلاً بصوته المبحوح بعض الشيء : شكراً حامد ، أغلق الباب وراءك . وخرج حامد مسرعاً ، والصينية في يده ، وأغلق الباب وراءه ، ونظر الدكتور ماجد إلى فالح ، ثم قال بصوته المبحوح بعض الشيء : تلك الأوراق لابدّ أنها بحث جديد ، قد يفيد أطروحتك . وهزّ فالح رأسه ، وقال : لم تكن بحثاً ، وإنما ما يشبه الرواية ، عن شبعاد الشابة ، كانت تدرس العزف على القيثارة ، على يد فنان تجاوز مرحلة الشباب ، وكيف أنها تعلقت به ، دون أن تصرح له بذلك .. ومدّ الدكتور يده إلى علبة السكائر ، بعد أن صمت فالح ، واستلّ منها سكارة ، فنظر فالح إليه مندهشاً ، وقال معاتباً : دكتور .. لكن الدكتور ماجد ، وضع السكارة في فمه ، وأشعلها ، ثم نظر إلى فالح عبر الدخان الكثيف ، وقال بصوت المبحوح : أعطني هذه الأوراق ، أريد أن أقرأها . وفتح فالح حقيبته ، وتناول منها المغلف ، الذي يحتوي على الأوراق التي كتبتها الدكتورة أريج ، وقدمها له ، وقال : تفضل دكتور . وأخذ الدكتور المغلف ، وحدق فيه ، ثم قال دون أن ينظر إلى فالح ، وقال وهو ينفث الدخان من سكارته : سأقرؤها اليوم ، وسأعيده لك بعد غد . وتمتم فالح قائلاً : كما تشاء دكتور . وسكت لحظة ، ثم قال : الأفضل أن أذهب الآن ، فالوقت يداهمني ، وعليّ أن أنجز أطروحتي في وقتها ، أستودعك الله دكتور . ونهض فالح ، ومضى مسرعاً ، وسمع الدكتور ماجد يقول له بصوته المبحوح : رافقتك السلامة .
" 4 " ــــــــــــــــــ بعد العشاء ، اتجه الدكتور ماجد نحو غرفته ، وهو يخاطب ابنته سلوى قائلاً : حبيبتي سلوى ، أريد استكان شاي من يدك الحلوة ، سأكون في غرفتي . وردت سلوى قائلة ، وهي ترفع الأطباق عن المائدة : الشاي على النار ، ارتح قليلاً ، وسيأتك الشاي الذي تحبه ، بيدي الحلوة . ودخل الدكتور ماجد غرفته ، وقد جعلته كلمات سلوى يبتسم فرحاً ، وبدل أن يتمدد في سريره ويرتاح ، فتح حقيبته ، وأخرج منها المغلف ، الذي أعطاه إياه فالح ، وتمدد في سريره ليقرأ ما فيه . واستل سكارة من علبة " الروث مان " ، التي أخفاها تحت فراشه ، وأشعلها بقداحته ، ومجّ نفساً منها ، ثمّ نفث دخانها الكثيف متلذذاً ، وبدت له سحابة الدخان ، وكأنها جارية من جواري ألف ليلة وليلة ، تتلوى راقصة ، ودخلت ابنته سلوى ، فاختفت الجارية ، ولم يبقَ غير الدخان ، الذي يتصاعد من السكارة . ووقفت سلوى تكتم ابتسامتها ، وفي يدها " استكان " الشاي ، يتصاعد منه البخار ، وقالت : الله .. الله .. شاي وسكارة ، ماذا قال الطبيب ، يا بابا ؟ وردّ الدكتور ماجد ، وهو ينفث دخان سكارته : الطبيب قال لي ، على ما أذكر ، قلل التدخين . واقتربت سلوى منه ، وهي تقول : هذا كان قبل خمس سنوات ، هذه المرة ، ماذا قال لك ؟ ومدّ الدكتور ماجد يده ، وأخذ منها " استكان " الشاي ، وقال : يا لذاكرتي ، لقد شاخت ، دعيني أفكر ، لعلي أتذكر ما قال الطبيب هذه المرة . ومدت سلوى يدها ، وأخذت السكارة من بين شفتيه المتيبستين ، وقالت : أنت تذكر ، وأنا أذكر ، قال لك ، التدخين ممنوع ، أنت تقامر بصحتك . وهزّ الدكتور رأسه ، وهو يرشف الشاي من " الإستكان " ، ويقطب ما بين حاجبيه ، وقال : لا طعم للشاي بدون سكارة ، لكن ماذا أفعل ، حكم القوي . وهمت سلوى بالخروج ، وقالت لأبيها : بابا ، سأذهب إلى المطبخ ، وأغسل الأطباق ، لا سكارة في غيابي ، عدني يا بابا . وتنهد الدكتور ماجد ، وقال : آه لو أن أمك على قيد الحياة .. وقالت سلوى محتجة : بابا .. فوضع الدكتور " استكان " الشاي جانباً ، وقال : حسناً ، اطمئني ، لا سكارة . وأخذت سلوى استكان الشاي الفارغ ، وغادرت الغرفة ، وهي تقول : سأعود بعد دقائق . وتناول الدكتور ماجد المغلف ، وفتحه برفق ، آه إنها الدكتورة أريج ، وأخرج الأوراق المكتوبة بالآلة الكاتبة ، وراح يتأملها ، وتراءت له الدكتورة أريج ، كما رآها آخر مرة ، قبل أن تذهب إلى لندن . وقرأ الأسطر الأولى ، وغامت الكلمات المكتوبة بالآلة الكاتبة ، أهي عن شبعاد حقاً ؟ من يدري ، لكن الأكيد أنه سيرى فيها ، ما لم يره فالح . وتراءت له أريج ، فتاة عشرينية ، من عائلة موصلية عريقة ، ومثل هذه العراقة ، لا تخطئها الحواس مطلقا ، طالبة شابة من بين سبع طلاب شباب ، يدرسون الدكتوراه ، ويحاضر لهم عن التاريخ العراقي القديم ، بكل ملوكه وملكاته وآلهته وشعوبه العظيمة . وغالباً ما كان يتساءل ، وهو يراها بين الطلبة السبعة ، ترى ما الذي تفعله هذه الحمامة الرقيقة البيضاء ، بين هذه الطيور الغريبة المتنوعة ؟ وكانت تدهشه بذكائها ، وملاحظاتها ، وبعض آرائها عن السومريين ، الذين لا يعرف أحد من أين جاءوا ، وقالت له مرة ، وقد جاءته في غرفته ، والسكرتيرة تجلس في غرفتها : لقد فكرت طويلاً في السومريين ، وأنا لا أستبعد أنهم جاءوا من كوكب نيبيرو . وابتسم الدكتور ماجد ، وسكارته مشتعلة بين شفتيه ، وقال : نعم ، هناك من يرى رأيك ، فالسومريون لا يمتون بصلة إلى أي قوم من الأقوام ، التي وفدت إلى وادي الرافدين ، واستوطنت فيه . والتمعت عيناها الربيعيتان ، وقالت : من يدري ، ربما سيكون عنوان أطروحتي ، حول موضوع من هذه المواضيع .. ونظرت إليه مبتسمة ، وتابعت قائلة وابتسامتها الربيعية تتسع وتتسع : وأطمح أن تكون أنت ، يا دكتور ، مشرفاً على هذه الأطروحة . وابتسم لها ، وقال : هذا يسرني . وأشعل الدكتور ماجد سكارة جديدة ، من سكارته المنتهية ، فقالت أريج : دكتور ، أنت قرأت جيكوف .. ولاحت ابتسامة متسائلة في عينيه ، وقال : إنني أحب جيكوف . وقالت أريج ، والابتسامة تعلو شفتيها : لابد إذن أنك قرأت قصته القصيرة " مضار التدخين " . وضحك الدكتور ماجد ، وتساءل : مضار التدخين ! فردت أريج قائلة : نعم ، مضار التدخين . وقال الدكتور ماجد ، وهو يرفع السكارة من بين شفتيه : جيكوف كان طبيباً ، وقد أصيب بالسل ، ولابد أنه يعرف جيداً مضار التدخين . ونظرت أريج إليه مبتسمة ، وقالت : وإذن ؟ ومدّ الدكتور ماجد يده ، وأخذ السكارة التي بين شفتيه المتيبستين ، وأطفأها في المنفضة ، وقال : تأمر الملك السومرية ، المعادية للتدخين ، شبعاد . ولاحظت أريج فيما بعد ، أن الدكتور لم يدخن قط ـ في حضرتها على الأقل ـ ، وقد دخلت عليه مرة ، وكان في فمه سكارة ، قد دخن حوالي نصفها ، لكنها قبل أن تجلس ، رأته يرفع السكارة من شفتيه ، ويطفئها في المنفضة . وجاءته بعد أيام ، وقالت له : دكتور ، لدي موضوع جميل ، سأكتب عنه . وابتسم الدكتور ماجد لها ، وقال : لابد أن هذا الموضوع عن كوكب نيبيرو . وغالبت أريج ابتسمتها المفعمة بالأريج ، وقالت : لا ، سأكتب عن شبعاد والقيثارة . وهمهم الدكتور ماجد ، وقال : شبعاد والقيثارة ، على ما يبدو ، صنوان ، حتى أنها أخذتها معها إلى العالم الآخر ، لتعزف لحناً جديداً من ألحانها . ولعل أريج نسيت مع الأيام ، موضوعها عن شبعاد والقيثارة ، وربما الذي أنساها ، وهذا هو الأرجح ، حدث السيارة المفجع ، الذي أودى بحياة والدها ووالدتها ، وأصبحت فجأة وحيدة ، في بيتهم الواسع القديم ، لكن عمتها الأرملة ، وابنتها الشابة الوحيدة شيماء ، جاءتا للسكن معها ، والقيام برعايتها . وتغيبت أريج عن المحاضرات عدة أيام ، فذهب الدكتور ماجد بنفسه لمواساتها ، وتقديم العزاء لها ، وحين رأته ، غرقت عيناها بالدموع ، وخيل إليه أنها سترتمي على صدره باكية ، فتراجع قليلاً ، وقال لها بصوت حزين : البقية في حياتك .. وأجهشت أريج بالبكاء ، فمدّ الدكتور ماجد يده ، وربت على كتفها ، وقال : فاتتك بعض المحاضرات ، ولا أريد أن يفوتك المزيد ، ننتظرك مع بداية الأسبوع القادم ، موعد مناقشة أطروحتك قريب جداً . ورفعت أريج عينيها الغارقتين بالدموع إليه ، وهزت رأسها ، ثم قالت بصوتها الدامع : أشكرك دكتور لحضورك ، أشكرك جدا .
" 5 " ــــــــــــــــــــ قبل مناقشة الأطروحة ، بحوالي عشرة أيام ، علمت أريج بأن زوجة الدكتور ماجد ، قد اشتدّ عليها المرض ، فذهبت صباحاً إلى الكلية ، رغم انشغالها بالاستعداد للمناقشة ، لكن الدكتور لم يكن في غرفته ، وسألت عنه السكرتيرة ، فقالت لها : الدكتور مع زوجته في المستشفى ، إنها في حالة خطرة . ورمقت أريج السكرتيرة بنظرة متسائلة ، وقالت : أريد أن أزوره ، وأطمئن على صحة زوجته . فقالت لها السكرتيرة : لا أنصحك أن تزوريه ، إنه متعب ، ومشغول جداً بحالة زوجته المتدهورة . وأطرقت أريج رأسها حزينة ، ثم تمتمت : أشكرك . وقبل أن تخرج أريج من الغرفة ، قالت لها السكرتيرة : سأتصل بك مساء ، وأنقل إليك كلّ ما يتعلق بالدكتور ماجد ، وأتمنى أن تتحسن صحة زوجته ، وتجتاز هذه المحنة الخطرة . واتصلت بها السكرتيرة قبيل المساء ، لتقول لها بصوت حزين دامع : البقية في حياتكِ .. وشهقت أريج مصدومة : ماتت زوجة الدكتور ! فقالت السكرتيرة بصوت متهدج دامع : حوالي العصر ، ليرحمها الله ، ويصبّر الدكتور . وبعد العزاء ، الذي دام ثلاثة أيام ، عاد الدكتور ماجد إلى الدوام في الكلية ، وجاءته أريج ، ورأته يجلس مقطباً وراء مكتبه ، والسجارة في فمه ، وحين رآها ، بادرها قائلاً : أهلاً أريج . ووقفت أريج أمامه ، وقالت بصوت حزين : البقية في حياتك ، يا دكتور ، ليرحمها الله . ولاحت ابتسامة شاحبة حزينة في عينيه ، وتمتم قائلاً : حياتك الباقية ، أشكرك . وأشار لها بيده ، وقال لها : تفضلي اجلسي . وجلست أريج ، ونظرت إلى الدكتور ، وقالت بصوت حزين : عندما كانتْ المرحومة في المستشفى ، أردت أن أزورها ، وأطمئن على صحتها ، لكن السكرتيرة نصحتني أن أكتفي بالاتصال التلفوني . وصمتت أريج لحظة ، ثمّ تابعت قائلة : وقد حاولت الاتصال بك ، دون جدوى .. وأطرقت رأسها ، ثمّ تابعت قائلة بصوتها الدامع الحزين : لقد حزنت جداً لرحيلها ، فليرحمها الله ، إنها على ما أعرف ليست كبيرة في العمر . وألقى الدكتور عقب سكارته في النفاضة ، ثم قال : لعلها ارتاحت رحمها الله ، فقد عانت سنين من المرض ، ولم يكن هناك أمل في شفائها . ورفع الدكتور ماجد عينيه إلى أريج ، وقال بصوت هادىء : والآن لنترك الأحزان جانباً ، أحزاني وأحزانك ، ولنتحدث عن أطروحتك . وحاولت أريج أن تبتسم ، لكن دون جدوى ، وقالت بصوت مازال فيه شيء من الحزن : لم أستطع أن أكتب شيئاً ، منذ أن عرفتُ أن زوجتك في المستشفى . وغالب الدكتور لمعة حزن بدت في عينيه ، وقال كأنما يتحدث إلى نفسه : لقد انتهى الأمر الآن ، زوجتي لم تعد في المستشفى .. ولاذت أريج بالصمت ، فقال الدكتور ماجد : أريج .. ونظرت أريج إليه صامتة ، فقال لها : الوقت يداهمك ، وليس من مصلحتك ، أن تمددي موعد تسليم الأطروحة ، اكتبي بجد ، وانتهي منها في اقرب وقت ممكن . وقالت أريج : نعم دكتور ، الأطروحة كاملة تقريباً ، وسأعكف على انجازها قبل الوقت المحدد . وعكفت أريج على انجاز أطروحتها ، وبدل أن تراجع الدكتور ماجد في الكلية ، حول بعض الإشكالات التي تواجهها ، أخذت تتصل به بالتلفون ، صباحاً في الكلية ، وليلا في البيت ، وكان لا يتأخر بالإجابة عن كلّ ما يتعلق بعملها اليومي ، حتى أنجزت الأطروحة تماماً ، وقامت بتقديمه إلى مجلس الجامعة ، وتحدد موعد لمناقشته ، وتحديد لجنة المناقشة . وناقشت أريج في الوقت المحدد ، وقد كانت إجاباتها شجاعة ودقيقة وذكية ، ودافع الدكتور ماجد عن طالبته المتميزة ـ كما أسماها ـ وأشاد بجهودها ، وبما أنجزته ، وفي النهاية ، وبعد أكثر من ثلاث ساعات من النقاش الهادىء ، حصلت أريج على شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف العليا . وانهالت التهاني على الدكتورة أريج ، من قبل زميلاتها وزملائها ، ومن الدكاترة الذين شاركوا في المناقشة ، ومن الأهل والأقارب . وانتهز الدكتور ماجد فرصة ، فاقترب من أريج ، وقد بدا كلَ شيء صامت حولهما ، وخاطبها قائلاً بصوت دافىء : دكتورة أريج .. وغمرها الفرح ، وانتفض قلبها في صدرها ، وقالت وابتسامة كبيرة تشيع في وجهها النظر كله : دكتور ماجد ، أشكر جزيل الشكر ، أنا دكتورة بفضلك أنت . وعاد الضجيج يلفهما ، عندما انقضت صديقات أريج عليها ، وأخذنها بالأحضان والقبلات ، والجميع يضحكون ويتكلمن ويفرحون . وبعد أيام ، وكان لا يمرّ يوم إلا وتتصل أريج بالدكتور ماجد ، وبدأ يخاف عليها من أريج ربيعها ، خاصة وأن والديها قد رحلا بعيداً عنها إلى الأبد . وذات ليلة ، اتصلت به ، وقالت له : دكتور ، أريد أن أزورك غداً . وربما خشي أن تقول له ، أنها تريد أن تزوره في البيت ، فقد قال لها بسرعة : أهلاً ومرحباً ، تعالي غداً في الثانية عشرة ، انتظرك في مكتبي . وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً ، جاءت الدكتورة أريج ، وحيت السكرتيرة إقبال ، التي رحبت بها بحرارة ، وقالت لها : الدكتور في غرفته . ودخلت الدكتورة أريج غرفة الدكتور ماجد ، إنها الآن دكتورة ، وليست مجرد طالبة ، ونهض الدكتور ماجد ، ورحبّ بها قائلاً : أهلاً دكتورة .. ورمقته الدكتورة بنظرة مترددة ، وقالت : مازالت الدكتوراه جديدة عليّ ، لم أتعود عليها بعد . وابتسم الدكتور ماجد ، وقال : دكتورة عن جدارة ، ونحن هنا سنرحب بك تدريسية بامتياز . وأطرقت الدكتورة أريج لحظة ، ثم نظرت إلى الدكتور ماجد ، وقالت : عمي في لندن ، وجد لي مكانة في كلية معروفة ، وأنت تعرف لندن .. وحاول الدكتور ماجد أن يتوارى قليلاً من نظرتها ذات المعاني المقلقة ، وقال : لندن ، جامعة في لندن ، هذا حلم محظوظ من يحظى به . وقالت الدكتورة أريج : لا أريد هذا الحلم ، إذا أردتني .. إنني أفضل أن أبقى هنا . وتنهد الدكتور ماجد ، ثم نظر إليها ، وقال : لا يا أريج ، أنا أريدك في لندن . ونهضت الدكتورة أريج ، وتمتمت مقطبة بصوت لا يكاد يسمع : فهمت ، شكراً دكتور . وخرجت الدكتورة أريج ، وسمعته يقول لها : رافقتك السلامة ، أتمنى لك التوفيق .
" 6 " ـــــــــــــــــــ دقّ جرس التلفون ، في مكتب الدكتور ماجد ، قبيل منتصف النهار ، لابدّ أنه فالح ، ورفع الدكتور ماجد سماعة التلفون ، وقال : ألو .. وجاءه صوت فالح قائلاً : مرحباً دكتور ، أرجو أن تكون بخير . وقال الدكتور ماجد : إنني لا أدخن الآن . وقال فالح : صحة وعافية دكتور .. وصمت لحظة ، ثم قال : أرجو أن تكون قد قرأت أوراق الدكتورة أريج . ولاذ الدكتور ماجد بالصمت لحظة ، ثم قال : نعم ، قرأتها ، إنها كما قلت ، ليست بحثاً أكاديمياً ، وإنما أقرب إلى الرواية الخيالية . وصمت الدكتور ماجد لحظة ، ثم قال : الأوراق معي الآن في الكلية ، سأودعها عند السكرتيرة ، ويمكنك أن تأخذها منها متى شئت . وحوالي الواحدة والنصف ، جاء فالح إلى مبنى العمادة ، لم يكن دكتور ماجد موجوداً ، وقالت السكرتيرة : لقد ذهب الدكتور إلى البيت قبل قليل . وسحبت من بين الأوراق التي أمامها مغلفاً ، عرفه فالح في الحال ، إنه مغلف الدكتورة أريج ، وقدمته له ، وقالت : لقد ترك الدكتور لك هذا المغلف . وأخذ فالح المغلف ، ووضعه في حقيبته ، ثم نظر إلى السكرتيرة ، وقال لها : لم أرَ الدكتور منذ يومين ، أرجو أن يكون بخير . وحاولت السكرتيرة أن تبتسم ، وهي تقول : أشعل سكارة صباح اليوم ، وأمامه فنجان قهوة ، وقال لي ، قد يمنعني الطبيب من التدخين قريباً ، فلأدخن على راحتي ، حتى ذلك الوقت . وهزت رأسها ، ثم قالت : إن حالته لا تطمئن . وقبيل المساء ، اتصل فالح بالدكتور ماجد ، وقال له في التلفون بصوت أراده أن يكون هادئاً : كيف حالك يا دكتور ، أرجو أن تكون بخير . وضحك الدكتور ماجد بشيء من المرارة ، وقال : اطمئن ، ستناقش أطروحتك في الوقت المحدد . وردّ فالح قائلاً : دكتور ما يهمني أساساً هو صحتك . وقال الدكتور : أعرف ، أشكرك ، لكن اطمئن ، سأكون بخير ، الحياة مهما كانت صعوباتها ، فيها شيء من الجمال ، وأنا أحب الجمال . وسكت الدكتور ماجد لحظة ، ثم قال : هل زرت الدكتورة أريج ؟ فردّ فالح قائلاً : سأزورها غداً فقال الدكتور ماجد : زرها ، فهي كنز . وفي اليوم التالي ، اتصل فالح بالدكتورة أريج بالتلفون ، وقال : ألو .. ويبدو أنها عرفته في الحال ، فقالت : أهلاً فالح ، أرجو أن تكون قد قرأت الأوراق التي أعطيتها لك . وردّ فالح قائلاً : قرأتها ، وأعطيتها للدكتور ماجد ، وقرأها أيضاً . ولاذت الدكتورة أريج بالصمت ، فتابع فالح قائلاً : عفواً دكتورة ، كان عليّ أن أستأذنك ، قبل أن أطلع الدكتور ماجد عليها . وقالت الدكتورة أريج : لا عليك ، الدكتور ماجد له خبرته ، ويسرني أن اطلع عليها . وقال فالح : دكتورة ، لدي أسئلة تخص أطروحتي ، أتمنى أن ألتقي بك . فردت الدكتورة أريج قائلة : تعال اليوم إذا أردت . فقال فالح : سأزورك عصراً ، ألف شكر . وعند حوالي الخامسة عصراً ، استقبلته الدكتورة أريج ، بملامح لا تفصح عن شيء ، وجلسا كالعادة في غرفة الضيوف ، ونظرت إليه ، وقالت : كيف حال الدكتور ماجد هذه الأيام ؟ وردّ فالح قائلاً ، دون أن ينظر إليها : اتصلتُ بالدكتور اليوم ، إنه بخير ، لقد تحدثت إليه بشأن أطروحتي ، نعم ، إنه بخير . ونظرت الدكتورة أريج إليه ثانية ، وقالت : سمعت أنه استلم نتيجة فحوصاته الثانية . ورمقها فالح بنظرة سريعة ، ثمّ قال : لقد طمأنه الطبيب ، وقال له ، ربما لا يحتاج الأمر إلى عملية جراحية ، فالمرض في أوله . ولاذت الدكتورة أريج بالصمت ، وفي الأثناء دخلت سلوى بفنجانين من القهوة ، قدمت أحدهما إلى فالح ، فقال لها بصوت خافت : أشكرك . وقدمت الثاني إلى الدكتورة أريج ، التي هزت لها رأسها متمتمة : أشكرك سلوى . وقبل أن ينتهي فالح من قهوته ، فتح حقيبته ، وأخرج المغلف ، ورأته الدكتورة أريج ، فقالت له : احتفظ به ، لديّ أكثر من نسخة . وأعاد فالح المغلف إلى الحقيبة ، وهو يقول للدكتورة أريج : أشكرك دكتورة ، إنها جميلة جداً ومشوقة ، وأريد أن أقرأها مرة ثانية . ثم أخرج ورقة من الحقيبة ، وقدمها للدكتورة أريج ، وقال لها : هذه هي المواضيع المتعلقة بأطروحتي ، التي أردت أن أسألك عنها . وتناولت الدكتورة أريج منه الورقة ، وراحت تقرأها بصمت ، وقال فالح : الوقت يدهمني ، عليّ أن أقدم الأطروحة خلال أسبوعين . ورفعت الدكتورة أريج رأسها ، وهي تطوي الورقة ، ثم قالت له : مواضيع مهمة ، سأنجزها هذه الليلة ، يمكنك أن تأتي عصر الغد ، وتأخذها . ونهض فالح ، والحقيبة في يده ، وقال للدكتورة أريج : أشكرك ، إنني أتعبك دكتورة . وسارت الدكتورة أريج معه إلى الخارج ، وهي تقول : عفواً ، كلنا مررنا بهذه المرحلة ، أهلاً ومرحباً بك ، أنتظرك عصر الغد . وعند الباب الخارجي ، قال فالح : أشكرك دكتورة . فقالت الدكتورة أريج له : رافقتك السلامة . وفي اليوم التالي ، قصد فالح مكتب الدكتور ماجد في الكلية ، وعندما سأل السكرتيرة عنه ، قالت بصوت حزين : الدكتور ماجد مجاز . ولاذ فالح بالصمت ، فتابعت السكرتيرة قائلة : اتصل به في البيت ، إذا كنت بحاجة إليه . وتمتم فالح كأنما يحدث نفسه : أردت أن أطمئن عليه . فقالت السكرتيرة : اتصل به . وغادر فالح المكتب ، وهو يقوا : أشكركِ . وعند العصر ، في الموعد المحدد ، كان فالح مع الدكتورة أريج ، وأخذته إلى غرفة الضيوف ، وجلسا متقابلين ، وقدمت له عدة أوراق مكتوبة بخط اليد ، وقالت له :هذا ما أردته . وتناول فالح الأوراق ، وقال : أشكرك . ودخلت سلوى ، وكالعادة قدمت لهما فنجاني قهوة ، وغادرت الغرفة ، وأغلقت الباب ، ورمقته الدكتورة بنظرة سريعة ، وقالت : لم تحدثني عن الدكتور ماجد ، كيف حاله اليوم ؟ ووضع فالح فنجان القهوة جانباً ، بعد أن رشف منه رشفة واحدة ، وقال : ذهبت اليوم إلى مكتبه ، لم أجده ، وقالت السكرتيرة إنه مجاز . وران صمت ثقيل بينهما ، ونظر فالح إلى الدكتورة أريج ، ثمّ نهض ، وقال : اسمحي لي ، عليّ أن أذهب الآن ، أشكرك جداً . ونهضت الدكتورة أريج بدورها ، وقالت : عفواً . وعند الباب الخارجي ، قالت لفالح : أرجوك ، إذا زرت الدكتور ماجد ، تمنّ له نيابة عني الصحة والعافية والعمر المديد ، رافقتك السلامة .
" 7 " ـــــــــــــــــــ أنجز فالح أطروحته " ملكات العراق القديم .. الملكة شبعاد نموذجاً " ، التي رافقها الدكتور ماجد صفحة صفحة ، رغم مرضه ومعاناته ، ورغم تحذير الطبيب له ، كما تابعتها الدكتورة أريج ، في مراحلها الأخيرة ، وتركت فيها بصمتها وروحها الطيبة . وقبل يومين من موعد المناقشة ، جاء فالح إلى مبنى الكلية ، وكان خائفاً متوجساً ، لم يكن الدكتور ماجد موجوداً ، ووقف أمام السكرتيرة صامتاً قلقاً ، فنظرت إليه ، وقالت : اطمئن ، أنت تعرف الدكتور ماجد ، سيحضر المناقشة مهما كلفه الأمر . وتساءل فالح : أهو مجاز ؟ فهزت السكرتيرة رأسها ، وعلت شفتيها ابتسامة مترددة حزينة ، وتمتمت قائلة : لابد أنه يدخر قواه ليوم المناقشة ، ليكن الله في عونه . واستدار فالح ، وهمّ بالخروج من الغرفة ، فهتفت به السكرتيرة قائلة : أستاذ فالح .. وتوقف فالح ، والتفت إليها ، وقال : نعم . فتابعت السكرتيرة قائلة : إذا أردت أن تتصل بالدكتور ماجد ، فأرى أن لا تذهب إليه في البيت ، اتصل به بالتلفون ، هذا أفضل . وعلى العكس مما نصحته به السكرتيرة ، لم يتصل فالح بالدكتور ماجد بالتلفون ، وإنما مضى إلى بيته مباشرة ، وفتحت له الباب ابنة الدكتور شيماء ، فحياها قائلاً : صباح الخير . فنظرت إليه ، وقالت : صباح النور . وقال فالح مازحاً : أرجو أن يكون الدكتور مستريحاً في سريره ، كما أوصاه الطبيب . وطفت على شفتي شيماء ابتسامة شاحبة ، وقالت : إنه يقرأ في سريره ، هذه هي استراحته . وتنحت قليلاً ، وقالت : تعال ، وأنظره . ودخل فالح ، وما إن رآه الدكتور ماجد ، وهو جالس في سريره ، حتى أبعد الكتاب عنه ، وقال : فالح ؟ جئت في وقتك ، تعال اجلس . وجلس فالح ، وهو ينظر إلى الدكتور ماجد ، الذي ابتسم له ، وقال : اطمئن ، أيها العاشق العتيق ، قلتُ لك سأناقش أطروحتك ، وسأناقشها . وقال فالح ، وهو مازال ينظر إلى إليه : أنت بخير ، يا دكتور ، أنت بخير . وابتسم الدكتور ماجد ، وقال بصوت احتفالي : وسأبقى بخير ، حتى أناقش ملكاتك القديمات ، وعلى رأسهن الملكة الجميلة شبعاد . وابتسم فالح بدوره ، وقال : بل ستكون بخير دوماً ، أنت إنسان متفائل . ولاذ الدكتور ماجد بالصمت لحظات ، ثم قال : ليت التفاؤل يكفي في هذه الحياة ، لكن على ما يبدو لا يكفي دائماً ، إن الحياة في بعض الأحيان عمياء . وربما شعر الدكتور بوقع كلماته الشديد على فالح ، فابتسم مضيفاً : لكن الإنسان لا يُغلب بسهولة ، وعليه أن لا يستسلم ، إنه إنسان . وبقي فالح صامتاً ، يصغي إلى خلجات الدكتور ماجد ، حتى دون أن يتفوه بكلمة ، فنظر الدكتور إليه ، وقال : هل قرأت كتاب ، دع القلق وابدأ الحياة ؟ وردّ فالح قائلاً : سمعت عنه الكثير . فقال الدكتور ماجد : اقرأه . وابتسم فالح ، وقال : كان عليّ أن أقرأه ، قبل أن أعيش مع ملكات العراق القديم ولاسيما .. شبعاد . ونظر الدكتور إليه ، وقال مبتسماً : شبعاد .. حب طفولتك ، ولن تتخلص منها ، ومن أنغام قيثارتها الخالدة ، حتى بحصولك على الدكتوراه فيها . وهزّ فالح رأسه ، وقال : لا أريد أن أتخلص منها ، إنها ملكتي ، إنها .. شبعاد . وتشمم الدكتور ماجد ، الروائح الصادرة من قدر في المطبخ ، وقال : فالح .. وردّ فالح : نعم .. فتابع الدكتور ماجد : تشمم .. وتساءل فالح : ماذا ؟ فنظر الدكتور ماجد إليه ، وقال : دولمة .. وابتسم فالح ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الدكتور ماجد : أنت لم تتذوق الدولمة ، التي تطبخها شيماء .. ومرة أخرى لم يتفوه فالح بكلمة ، وهو مازال يبتسم ، فقال الدكتور : ستتذوقها اليوم . وحاول فالح أن يعتذر ، فقال : دكتور .. لكن الدكتور ماجد قاطعه قائلاً بنبرة مازحة قاطعة : ستتذوقها ، صدر الأمر ، وستشرب الشاي بعدها ، ثم تنصرف إلى حيث تريد . واستسلم فالح قائلاً : مادام قد صدر الأمر ، فليكن ، سآكل الدولمة ، ثم أشرب الشاي أيضاً . وبعد تناول الدولمة ، جاءت شيماء بالشاي ، ورفع الدكتور ماجد " استكانة " الشاي ، وراح يتأملها قائلاً : آه يا شاي شيماء ، ستكون ألذّ مع سكارة ، حتى لو كانت سكارة لف أو مزبن . وهزّ فالح رأسه ، وهو يحتسي الشاي ، لكن الدكتور نظر إليه ، وقال : لا تخف ، يا فالح ، لن أدخن أي سكارة ، حتى لو سكارة روث مان ، إلا بعد أن أنتهي من مناقشة أطروحتك عن شبعاد .. آه شبعاد . وصمت الدكتور ماجد ، وقد انتهى من احتساء شايه ، ونظر فالح إليه ، وقال : دكتور .. ورفع الدكتور ماجد عينيه المتعبتين إليه ، وقال : نعم ، قل ما عندك ، يا فالح . وقال فالح بشيء من التردد : سأذهب عصر هذا اليوم إلى الدكتورة أريج .. والتمعت عينا الدكتور ماجد ، لكنه لم يتفوه بشيء ، فتابع فالح قائلاً : سأدعوها لحضور مناقشة أطروحتي ، فلها كما تعرف جهود طيبة فيها . وأطرق الدكتور ماجد رأسه لحظات ، ثمّ قال كمن يحدث نفسه : الدكتورة أريج عالمة كبيرة في هذا المجال ، وقد كانت أطروحتها عن تاريخ العراق القديم ، التي أشرفت عليها ، متميزة بكل معنى الكلمة . وبدل أن يذهب فالح إلى الدكتورة أريج ، ويلتقي بها في بيتها ، رأى أن يتصل بها بالتلفون ، وهذا ما فعله في حوالي الساعة الخامسة . وبعد أن حيّاها ، وردت على تحيته ، قال : دكتورة .. قالت الدكتورة : نعم . أضاف فالح : لي رجاء .. وتنهدت الدكتورة : آه .. فقال فالح : نعم ، أتمنى لو تحضري .. ولاذت الدكتورة بالصمت ، فقال فالح : عفواً دكتورة ، لا أريد أن أثقل عليكِ . وقالت الدكتورة : أتمنى لو أستطيع أن أحضر .. وصمتت الدكتورة لحظة ، ثم قالت : لم تحدثني عن الدكتور ماجد .. فقال : إنه بخير ، هذا ما يقوله . وقالت الدكتورة : أتمنى أن يكون بخير ، وأتمنى لك التوفيق ، أستودعك الله . فردّ فالح قائلاً : أشكرك دكتورة ، مع السلامة .
" 8 " ـــــــــــــــــ عند الصباح ، والدكتورة أريج لم تتناول طعام الإفطار بعد ، دقّ جرس التلفون ، وهمت سلوى أن تتجه نحوه ، فخاطبتها الدكتورة قائلة : لحظة ، أنا سأردّ . ورفعت الدكتورة أريج سماعة التلفون ، وقلبها يدق بسرعة ، وقالت متوجسة : ألو .. وجاءها صوت أنثويّ عرفته في الحال ، ولم ترتح له في أعماقها ، إنها سكرتيرة الدكتور ماجد ، وقالت لها : صباح الخير دكتورة .. لم تردّ الدكتورة أريج على تحيتها ، كانت خائفة وقلقة ، فقالت لها بصوت متوتر : طمئنيني ، أرجو أن يكون الدكتور ماجد بخير . فقالت السكرتيرة بصوت حزين : دخل المستشفى ليلة أمس ، وقرر طبيبه ، المشرف على علاجه ، أن تُجرى له عملية جراحية . ولاذت الدكتورة أريج بالصمت ، وقد خيم عليها الحزن ، وقلبها مازال يدق بسرعة ، ولعل السكرتيرة أحست بمعاناتها ، فقالت لها : عفواً دكتورة ، رأيتُ أن لابدّ من إخباركِ ، لكن اطمئني ، سيكون بخير . وأنّت الدكتورة أريج بألم ، وهي تضع السماعة في مكانها ، ووقفت أمام النافذة ، والدموع تتجمع في عينيها ، محدقة في الحديقة ، دون أن ترى أي شيء . وفزت بعد حين ، على جرس التلفون يدق ، لكنها لم تلتفت إليه ، واقتربت سلوى منها مترددة ، ثم قالت لها : دكتورة .. التلفون . وردت عليها الدكتورة أريج ، دون أن تلتفت إليها : ردي أنتِ ، وانظري من يكون . وأسرعت سلوى إلى التلفون ، وتحدثت فيه بصوت خافت ، ثم وضعت السماعة جانباً ، واقتربت من الدكتورة أريج ، وقالت : الدكتور فالح على التلفون . واتجهت الدكتورة أريج إلى التلفون ، وهي تقول لسلوى : اذهبي أنتِ . ورفعت سماعة التلفون ، وقالت : أهلاً دكتور فالح . وجاءها صوت فالح عبر التلفون متردداً حزيناً : عفواً دكتورة ، أردت أن أحدثك عن الدكتور ماجد .. وقالت الدكتورة أريج : عرفت أنه دخل مساء الأمس إلى المستشفى .. وصمتت لحظة ، ثم قالت : هذا ما أخبرتني به السكرتيرة ، وكانت توافيني دائماً بما يطرأ على صحته من تطور ، في الفترة الأخيرة . ولاذ الدكتور فالح بالصمت لحظة ، ثم قال : ستجرى العملية له بعد غد ، لكن اطمئني ، الطبيب قال ، العملية سهلة ، والدكتور سيكون بخير . وتنهدت الدكتورة أريج ، وقالت بصوت حزين : أتمنى له الشفاء العاجل . وصمتت الدكتورة لحظة ، ثم قالت : أشكرك . قال الدكتور فالح : عفواً . ووضعت الدكتورة أريج السماعة ، وهي تقول : في أمان الله ، مع السلامة دكتور . وبينه وبين نفسه ، تمنى الدكتور ماجد ، أن لا تعرف الدكتورة أريج بدخوله إلى المستشفى ، فهو يعرف حساسيتها ، ولا يريد لها أن تقلق حول وضعه الصحي ، والعملية التي ستُجرى له ، آه .. شبعاد . لكنه في الوقت نفسه ، تمنى في أعماقه ، أن يراها .. شبعاد هذه ، أو يسمع صوتها الأريج ، وهي تحدثه ، ولو في التلفون ، لتطمئن عليه ، وتتمنى له الشفاء . وتراءت له أريج ، وهي الربيع في أوائله ، طالبة في الكلية التي يدرّس فيها ، وهي تتحدث .. تجادل .. وتبدي آراء جريئة .. متحدية ، ثم وهي طالبة دراسات علية .. ماجستير .. ثم دكتوراه تحت إشرافه ، آه كم كانت عيناه تخاطبانه .. تناشدانه .. وبعد الدكتوراه .. ومفترق الطرق .. ثم لملمت نفسها .. وتركته أشلاء .. ومضت إلى لندن ..ليكن .. إنها ربيع جاء في خريفه .. وشاء أن يترك الربيع يعيش ربيعه .. وهذا ما حدث . وفوجىء الدكتور ماجد ، عصر اليوم التالي ، بابنته شيماء تندفع إلى غرفته في المستشفى ، وتقول له مبهورة الأنفاس : بابا .. الدكتورة أريج .. وعلى الفور ، اعتدل الدكتور ماجد ، متمتماً في دهشة : الدكتورة أريج ! فردت شيماء : نعم بابا ، إنها بالباب .. وقاطعها الدكتور ماجد قائلاً : لا تدعيها تقف بالباب ، لتدخل ، هيا أسرعي . وانطلقت شيماء إلى الخارج ، وسرعان ما عادت تتقدمه الدكتورة أريج ، وبين يديها بوكيه ورد ، فقال الدكتور ماجد مرحباً : أهلاً ومرحباً دكتورة .. وخطت الدكتورة نحوه مبتسمة ، ابتسامة مترددة شاحبة ، وقدمت له بوكيه الورد ، وهي تقول : أهلاً بك دكتور ، تفضل .. أنت تحب الورد . ومدّ الدكتور ماجد يديه ، وأخذ بوكيه الورد منها ، وقد علت شفتيه ابتسامة شاحبة ، وقال : هذا البوكيه .. سأضعه على مكتبي .. في البيت . وتلألأت الدموع في عيني الدكتورة أريج ، وقالت : ستعود ، وسنملأ بيتك بالورود . ورمق الدكتور ماجد ابنته شيماء بنظرة سريعة ، وقال : وتتغدي معي .. ومع ابنتي شيماء .. وابتسمت الدكتورة أريج من خلال دموعها ، وقالت : وسأتغدى معك ، ومع حلوتي شيماء . ونظر الدكتور ماجد إلى شيماء ، وقال : شيماء .. استعدي ، أظهري للدكتورة مهارتك في الطبخ ، وخاصة طبخ الدولمة . وابتسمت شيماء فرحة ، وهي تنظر إلى الدكتورة أريج ، وقالت : أهلاً ومرحباً بالدكتورة ، هذا وعد طبعاً . وابتسمت الدكتورة أريج ، وقالت : وسأفي بالوعد . وابتسم الدكتور ماجد فرحاً ، وأشار للدكتورة أريج إلى كرسي قريب من سريره ، وقال بصوت بدا معافى : تفضلي ، اجلسي هنا . وجلست الدكتورة على الكرسي القريب منه ، وقالت : أشكرك دكتور . ونظر الدكتور ماجد إليها ، وقال : الدكتور فالح ، أشاد بجهودك في دعمه ، عند كتابته لأطروحته عن ملكات العراق القديم ، وعن شبعاد بالذات . وابتسمت الدكتورة أريج ، وقالت : بصماتك أنت دكتور ، كانت هي الواضحة ، إضافة إلى حبه للموضوع ، وذكائه ومثابرته اللامحدودة ، ولا أنكر أنه كانت لي ملاحظاتي وإضافاتي القليلة . وران الصمت بينهما ، وقد تشاغل الدكتور ماجد بالنظر لحظة عبر النافذة ، وأطرقت الدكتورة أريج رأسها لحظات ، ثم رفعت عينيها الأريجيتين إليه ، وقالت بصوت هادىء : دكتور ماجد .. ونظر الدكتور ماجد إليها ، وقال : نعم .. فقالت الدكتورة أريج : قررتُ أن لا أعود إلى لندن .. والتمعت عينا الدكتور ماجد ، لكنه لم يفصح عن مشاعره بكلمة واحدة ، فقالت الدكتورة أريج : مكاني هنا ، في الموصل .. وابتسمت ، وهي تتطلع إليه ، وأضافت قائلة : هذا إن كان لي مكانة بينكم في جامعة الموصل . ولم يستطع الدكتور ماجد أن يكتم مشاعره ، فقال لها مبتسماً : أهلاً ومرحباً بكِ ، جامعة الموصل جامعتك ، وهي بحاجة إليك . ونهضت الدكتورة أريج ، ومدت يدها ، وشدت على يده بحنان ، وهي تقول : تعافَ ، نحن بحاجة إليك ، وأنا سأكون معكَ حتى النهاية ، استودعك الله . وتمتم الدكتور ماجد ، والدكتورة أريج تسير إلى الخارج ، ترافقها ابنة الدكتور شيماء : رافقتك السلامة .
5 / 6 / 2022
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
-
مسرحية مونودراما الرعب والمطر
-
مسرحية من فصل واحد الصحراء
-
مسرحية من فصل واحد الشجرة
-
الانتظار مسرحية من ثلاثة فصول
-
مسرحية عقارب الساعة
-
قصص للأطفال إلى الكلمة الشهيدة شيرين التي أطفأها الصهاينة ال
...
-
مسرحية من ثلاثة فصول إنسان دلمون
-
مسرحية الجدار
-
القطار
-
رجل من زمن الحصار
-
قصص قصيرة جدا
-
ثورة الإله كنكو
-
لقاء مع الشاعرة العراقية بشرى البستاني
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|