|
جماليات السرد وخلخلة التاريخ في أعمال السيد حافظ- سلسلة دراسات نقدية عن أعمال الكاتب السيد حافظ (29)
سعيدة خلف
الحوار المتمدن-العدد: 7346 - 2022 / 8 / 20 - 12:09
المحور:
الادب والفن
سلسلة دراسات نقدية عن أعمال الكاتب السيد حافظ- يعدها ويقدمها : أحمد محمد الشريف
أثارت رواية "كل من عليها خان" للكاتب / السيد حافظ, فكر العديد من الكتاب والباحثين مما دفعهم لإصدار عدد من الدراسات النقدية والرسائل الجامعية والأبحاث عنها. وإذ نعرض هنا عددا منها خدمة للقارئ, نستعرض اليوم هنا دراسة بقلم: سعيدة خلف
جماليات الســرد وخلخلة التاريخ في أعمال السيد حافظ رواية (كل من عليها خان) إن العلاقة بين الأدب والتاريخ ذات جذور عميقة منذ بدء الخليقة وتعلم وسائل الحكي، فقد أبدع السيد حافظ في سرد وقائع التاريخ بإضافة لمسات سردية جمالية إبداعية، والبحث في وقائع التاريخ أمراً ليس سهلاً فيستوجب دراية وثقافة واسعة، فقد يبدو لنا جلياً إلمام السيد حافظ بالتراث التاريخي وبتقنيات الرواية الفنية والتعمق في مضامينها مما يشكل حقلًا معرفيًا يُمتع القارئ ويجذب انتباهه.
والجدير بالذكر أن السرد التاريخي محور رواية "كل من عليها خان"، فقد استدعى الكاتب قصص تاريخية ووظف وقائع التاريخ ليصل إلى قضايا معاصرة إجتماعية وسياسية وإقتصادية يكاد ينفجر شعبًا بألمها ومراراتها بسبب سوء تدبير بعض الحكام وجشع التجار وسيطرتهم على ما يريدون مستغلين سلبية المواطن أمام كل هذا.
والحقيقة لم يكن السيد حافظ مؤرخًا، ولا يريد أن ينتحل هذه الصفة، ولكن تدفقت من داخله قدرة إبداعية في رواية "كل من عليها خان " و لعل الغاية من السرد التاريخي لها يوضح تأصيل بعض الفكر منذ القدم وإعادة سرد التاريخ لها عبر الأزمان؛ لتجنب تكرار الأخطاء واستخلاص العبر.
وتبدو جماليات السرد في رواية "كل من عليها خان" جليًا، انطلاقًا من أن السرد هو سحر الحكي وبخاصة عند السيد حافظ والمتأمل في عنوان الرواية يكشف عن إبداع الكاتب الذي ترك للقارئ حرية الاختيار لعنوان الرواية، فالعنوان هو القنطرة التي تصل بين الخيال الروائي والقارئ، فمن جماليات السرد:
المكـــان:
يحتل المكان حيزًا هامًا في رواية "كل من عليها خان"، فهو خشبة المسرح التي تجري فيها الأحداث وتتحرك عليها الأشخاص فهو"عنصر حي فعَّال في هذه الأحداث، وفي هذه الشخصيات أنه حدث وجزء من الشخصية"([1])، فالمكان هو إحدى العناصر الأساسية في الرواية"بمثابة الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية والمجال الذي يسير فيه الأحداث والتحولات على مستوى الشخصيات من أفعال وأقوال"([2]).
وإذا نظرنا إلى الرواية نجد تعدد الأمكنة فيها؛ فالحكايات متشابكة كما تعودنا من السيد حافظ ومع ذلك نجد ترابط وتناسق في نسيج الرواية وتنقسم هذه الأمكنة إلى أماكن في العصر الحديث وأخرى في الزمن القديم أيام المستنصر بالله فمن الأولى (دبي) وتنطلق منها سرد أحداث الرواية، والإسكندرية معشوقة السيد حافظ، الشام بلد سهر، وقد ذكر لنا الكاتب بعض الأماكن المحدودة في هذا الزمن ومنها نادي الجولف في دبي، بيت سهر، مكتب فتحي ، منزل فتحي رضوان وغيره.
وفيما يتعلق بالزمن القديم يذكر القاهرة أيام المستنصر بالله والتي دارت فيها الأحداث فكانت تموج بالقحط والغلاء والظلم والأستعباد مما أدى إلى مجاعة كادت تصل فيها مصر إلى حافة الهاوية فقد وصفها المقريزي قائلًا:"الغلاء الذي فحش أمره وشنع ذكره".
وقد نقل لنا السيد حافظ صورة حية عن أحياء القاهرة أيام المستنصر بالله وهي تموج بالسلبيات ومنها حي الخبازين ، حي الحسين وغيره، ثم ذكر أسوان التي هرب إليها (نيروز) و (وجد) أيام المجاعة والقحط، ومن الأماكن المحدودة التي ذكرها أو المغلقة داخل القاهرة ومنها: قصر (الزاهر)، بيت شهبندر التجار، بيت عمار والد وجد وغيره.
الشخصيات:
تعد الشخصية الروائية الركن الأساسي في السردية فهي العنصر الفعَّال التي تقوم بالأعمال الروائية وتلعب دورًا كبيرًا في الرواية بمثابة العمود الفقري للعمل الروائي فلا نتخيل سردية بدون أشخاص حيث كانت تلك الأشخاص محل أهتمام الدراسات النقدية، وتكمن أهميتها في الدور الذي حدده الكاتب لها مقتبسًا من الواقع الإجتماعي وإذا ذهبنا إلى رواية "كل من عليها خان" نجد أن الشخصيات متداخلة كثيرة بين الحاضر والماضي.
و تتمثل شخصيات الحاضر في ( شهرزاد ) و هي من الشخصيات المحورية في الرواية التي تقوم بالسرد ويتخفى وراءها الكاتب لتعبر عما في نفسه؛فهي شخصية تمتلك قوة العبارة والسيطرة على حواس المتلقي وجذب أنتباهه؛فهي تسهم في سيرورة العمل الروائي ودفعه إلى مجاراة الأحداث، فهي لم تكن روائية فقط بل تمثل الأم والصديقة والحبيبة لسهر.
(سهر) هي بطلة الرواية من الشخصيات الرئيسية التي تعشق فتحي رضوان بجنون على رغم زواجها من منقذ وتقابلها روحها (وجد) في العهد القديم ولكنها على العكس تمامًا من سهر.
(فتحي رضوان) من الشخصيات الرئيسية في الرواية، الشاب المصري صاحب المقام الأول في الحضور السردي وقد جاء إلى دبي للعمل من أجل الحصول على مستوى معيشي أرقى وأعلى وقد تبادل مع سهر العشق والغرام الذي أفتقده في وطنه.
ومن شخصيات العهد القديم الرئيسية في الرواية:
(نيروزي) الشاب الفارسي الذي وقع في حب وجد متوجًا ذلك الحب بالزواج ويعمل في تجارة العطور والبخور ويقول عنه الكاتب:" (شاب وسيم جميل القسمات وفد إلى الحي منذ شهور بشكل مفاجئ وهو الآن يعمل فى تجارة العطور والبخور)([3]).
(وجــــد) وهي من الشخصيات المحورية وتعد قلب الرواية، التي تحلم بالزواج من نيروزي وتعيش في حارة الزعفران وتتميز بعطر جسدها الذي يلهب جسد الرجال يقول عنها الكاتب:"كانت أعجوبة زمنها، فعطر جسدها دخان خفي يلهب جسد الرجال، ويشعل غيرة النساء"([4])
الشخصيات الثانوية في الرواية:
في الحاضر (منقذ) زوج سهر لم يكن له دور قوي في السرد، وكذلك (حامد صقر) زوج شهرزاد ولم يولي له أهتمامًا في الرواية (تهاني) زوجة فتحي وتجد فيها سلبية تجاه تصرفات زوجها.
وفي العهد القديم نجد شخصيات ثانوية مثل شيخ التجار (فتح الله) و(فجــر) زوجته وغيرهم.
والجدير بالذكر فقد برع قلم السيد حافظ في رسم الشخصيات الروائية بدقة في ذهن القارئ عن طريق الأفعال والأدوار التي تقوم بها وما يتناسب مع أحداث الرواية .
الــــزمـــــن:
يعد الزمن ركن من أركان السرد التي شغلت النقاد واستقطبت أهتمامهم لأرتباطه الوثيق بفنون الأدب وخاصة فن السرد، وعلى الرغم من تعدد مفاهيم الزمن واختلاف مشاربه لكل هيئة من الفلاسفة والعلماء إلا أنهم أجمعوا على أهميته في السرد ولكن بما يناسب كل كاتب.
وبالحديث عن الزمن في رواية "كل من عليها خان" نجد تنقل الكاتب بين الأحداث عبر الزمن أيام (المستنصربالله) آخر ملوك الدولة الفاطمية، ويتحدث عن عهد (بيبي الثاني) من الأسر الفرعونية، و يذكر قصة (هابيل وقابيل) منذ بدء الخليقة و بهذا يستبق الأحداث من الحاضر إلى الماضِ كما تحدث في الزمن الحاضر، وجاء بفترات زمنية محدوده في سرديته "صباحًا، نهارًا، ظهرًا، عشاءًا، ليلًا" و على الرغم من كثرة الأحداث وتشابكها وامتدادها عبر السنوات إلا أن الكاتب أبدع في التلاعب بزمن الأحداث بما يتناسب وطريقته السردية بما يجذب أنتباه القارئ واسره بطريقة سلسة خفيفة لا يشعر فيها القارئ بفجوة الانتقال عبر العصور والحقب الزمنية.
ومن جماليات السرد عند السيد حافظ أهتمامه الشديد بالقارئ الذي جعله متشوق لأكمال الرواية واختيار العنوان المناسب للرواية من العناوين السبعة التي طرحها لروايته.
والجدير بالذكر أن السيد حافظ نجح في تلاشي الحواجز بين الأجناس الأدبية ودمجها معًا في رواية "كل من عليها خان" تلك الرواية الممسرحة، جاء بسبع مسرحيات متخللة أجزاء الرواية كل مسرحية ممنهجة تمثل موقف أليم من واقع الأم العربية تحمل دلالات عميقة من إيديولوجيات سياسية وإجتماعية وفكرية، وأيضًا قسم الرواية إلى أثنى عشر فصلًا وبعد كل فصل جاء بفاصل يسرد حكاية من حكايات جيران فتحي رضوان في محرم بك، وقد مزج الكاتب بين اللغة العامية والفصحة في روايته، كما وظف الأسلوب التليفزيوني في روايته فجاء بعبارة :
"فاصل ونواصل"، واخرى لا تذهب بعيدًا عن الرواية، وبعد الأنتهاء من الفاصل يأتي بعبارة "عدنا إلى الرواية" ليشعر القارئ بمتعة العودة إلى الرواية مره اخرى.
((خــلــخــلــة الــتــاريــخ))
يبدو خلخلة التاريخ في حديث السيد حافظ عن نشأة مدينة الإسكندرية: "مدن قليلة لها هذه الروعة.. تلك التي دخلت التاريخ مثل الإسكندرية، التي أنشأها الأسكند الأكبر، وعمره كان وقتها في الخامسة والعشرين ، وجعلها عاصمة لمصر، يقال أن هوميروس كان شاعرًا ومهندسا، وهو الذي رسمها للإسكندر كما في الحلم الذي رآه الأسكندر"([5])، فإذا نظرنا إلى بناء هذه المدينة نجد أن"ركب الأسكندر النهر حتى كانوب (أبو قير) و ألتف حول ماريوتيس (مريوط) إلى الشمال وتوقف عند راكوس التي أعجبه موقعها...وقرر أن يؤسس هنا مدينة"([6])، وقد بنيت هذه المدينة سنة 332ق.م وقد بنيت فوق كتلة من الرمال ربطت القارة بجزيرة فاروس القديمة وهذه الجزيرة التي أدت عملية الردم تحويلها إلى شبه جزيرة تحمل نفس القسم القديم"([7])، واليوم تشهد مدينة الأسكندرية نهضة عقارية تشمل بناء مدينة الإسكندرية الجديدة والتي تمتد من قلب الإسكندرية إلى برج العرب وأيضًا مدينة العالمين الجديدة وبالأضافة إلى مدن بشائر الخير تلك المدينة التي نالت أهتمامًا من جانب حكامها.
يقول السيد حافظ :" أين ذهبت دولة (جزلة)؟؟ أين ذهبت دولة (أم خنور)؟؟.. دي أسماء دول على أرض مصر انتهت ورجعت ثاني بقى اسمها مصر ترى حين تفنى مصر ..مصر تنقرض وهذا ما قاله العالم الجليل "جمال حمدان" في كتاب "شخصية مصر"، وقالته الكاتبة " رضوى عاشور" في مقال بأوائل الثمانينات.. وما قلته أنا.. إن مصر تنقرض وستختفي من على الخارطة وتعود باسم جديد .."([8])، الجدير بالذكر فقد اختلفت المسميات التي أطلقت على مصر عبر العصور منذ عهد الفراعنة معبرة عن طبيعة أراضيها وموقعها الجغرافي ومنها: "كبمبيت" وتعني الأرض السوداء، وتثمير وتعني الأرض السمراء الخصبة وممقيس وهيكوبتاح وكذلك كلمة "إيجيبت" فهى مزيج بين اليونانية والهيروغليفية، أما إذا نظرنا إلى "أم خنور" قيل ياقوت الحموي : " الخِنور بالكسر الدنيا وأم خنور اسم لمصر"، أما في تاج العروس ولسان العرب " خَنور بالكسر الداهية، وأم خَنور بالفتح : مصر صانها الله تعالى : لكثرة خيرها ونعمتها.. ومنها سميت مصر أم خنور لما فيها من الخيرات التي لا توجد في غيرها"، إما عن "جزلة" يذكر المقريزي في كتابه الخطط والسلوك عن تعدد أسماء مصر" كان اسمها في الدهر الأول قبل الطوفان جزلة ثم سميت مصر"([9])، فمما سبق يتضح أنها أسماء اطلقت على مصر قبل اسم مصر، وليس أسماء مدن أو قرى اختفت فقد سميت (مصر) بهذا الاسم عند مجيء مصريم ابن نوح عليه السلام ، والجدير بالذكر فقد ذكر اسم مصر في القرآن خمس مرات وهذا هو الذكر الحكيم الذي لا يتغير قوله فلم و لن يتغير اسم مصر باسم آخر.
كما تبدو خلخلة التاريخ في إنفصال الخير عن الشر منذ بدء الخليقة في قصة (هابيل وقابيل) ويرجع السبب إلى فتنة المرأة للرجل يقول السيد حافظ : " يقول آدم : يا قابيل سوف يتزوج أخوك هابيل غدا من أختك ً نارمر. وأنت تتزوج أخته تجهم قابيل : " نارمر شهوة كل الحياة .. كيف أتركها لـ هابيل .. نارمر ذات القميص الأبيض..لنهدها يتحرك الجبل..ويهتز السحاب لخصرها بزخات مطر.. آه.. لن أدعها لأخي هابيل"([10])، ويقتل قابيل هابيل من أجل نارمر" في الجبل جاء قابيل من خلف هابيل ، وهو يحمل حجر، وهشم أرس أخيه، ونزف الدم .سقط هابيل على الأرض .. أول دم بشري ينزل على الأرض، و أول قتيل على الأرض .. هابيل"([11])، قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء"([12])، ويستشهد السيد حافظ من العصر الحديث على ذلك بعد ثورة1952 " تحدث عبد الحكيم عامر في ذات الورقة - الثالثة من التحقيق - أن من بين أسباب التورط المصري في حرب اليمن كان علاقة خاصة جمعت بين أحد أعضاء مجلس قيادة وزوجة سياسي يمني شهير"([13]).
يقول السيد حافظ:" تولى الخليفة المستنصرحكم مصر سنة م1035 /427هـجرياً بعد وفاة ابيه الظاهر وكان يبلغ من العمر سبعة أعوام ، واستمر في حكم مصر حتى 1094م، أي ظل يحكم مصر حوالي 60 عام.."([14])، وإذا نظرنا فيما يقوله الكاتب نجد تأصل طول فترة الحكم في مصر في عهد الفراعنة نجد أن (بيبي الثاني) حكم أطول فترة حكم ما يقرب90 عاماً والمستنصر حكم 60عاماً، الوالي محمد علي نجده حكم مصر35عاماً وإذا نظرنا في الحكم الجمهوري نجد ان الرئيس الراحل محمد حسني مبارك حكم مصر ما يقرب من 30 عاماً.
يسرد لنا الكاتب السنوات العجاف في حكم (المستنصر بالله)، وجمع التجار ما يريدون مقابل القمح " في العام الأول يحصل على دراهم مصر ودنانيرها مقابل القمح، وفي العام الثاني يحصل على الجواهر والذهب، وفي العام الثالث يحصل على أولادهم، في العام الرابع يحصل على العقارات، في العام الخامس تبادلهم بالحيوانات، في العام السادس يحصل على رقابهم، في العام السابع سنبيع القمح مقابل ما يملكون"([15])، الحقيقة فقد أبدع السيد حافظ في إسقاط ما على سيدنا يوسف على أوضاع المحن والمجاعة في البلاد، وغياب العدالة وجشع التجار وتحكم الرأسمالين، يذكرلنا المقريزي تاريخ المجاعات والمحن والمصائب التي تعاظمت على أهل مصر وقد سطر بها كتابه (إغاثة الأمه في كشف الغمه) وقد أوقع مسئولية هذه المجاعات على سوء تدبير الحكام إذ يقول: "أن أول غلاء وقع بمصر في زمن الملك السابع عشر قبل الطوفان واسمه افروس ثم في زمن فرعان بن ميسور هو التاسع عشر من ملوك مصر، في زمن اتريب بن مصريم ثالث عشر ملوك مص بعد الطوفان، وكذا في عهد الملك الثاني والثلاثين من ملوك مصر، في زمن مبعث موسى عليه السلام إلى فرعون، وقبل مبعث النبي محمد (صلى الله عليه وسلمﷺ)، ثم في عهد عبد الله بن مروان، وفي عهد الدولة الإخشيدية، وعهد الحاكم بأمر الله، ثم وقع الغلاء في خلافة المستنصر بالله، وفي الدولة الايوبية وسلطنة العادل أبي بكر بن أيوب وكذلك أيام الملك الناصر محمد بن قلاون وكذلك أيام الاشرف شعبان"([16])، وما يسرده السيد حافظ من جشع التجارنجده في نظام الاشتراكية بعد ثورة 1952م وقد تمثل مساوئ هذا النظام في تركيز الثورة في يد مجموعة من الرأسمالين والتحكم في جميع الأنشطة الإقتصادية في البلاد، على الرغم من أنه أقيم لمساعدة الشعب.
والجدير بالذكر أن مصر مملوءة بالخير والثراء منذ القدم وتمد يد العون لغيرها من الامصار في وقت المحن والأزمات وخير مثال على ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه"وقعت المدينة في مجاعة شديده وكان ذلك في 18هـ بعد عودة الناس من الحج فحبس المطر من السماء واجدبت الأرض وهلكت الماشية ، واستمرت هذه المجاعة تسعة أشهر حتى صارت الأرض سوداء فشبهت بالرماد"([17])، فكتب سيدنا عمر بن الخطاب إلي عمرو بن العاص والي مصر"يا غوثاه ياغوثاه أنت ومن معك ومن قبلك ومن أنت فيه ونحن ما نحن فيه فأرسل إليه عمرو بن العاص بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البح بعشرين سفينة تحمل الدهن ، وبعث إليه بخمسة ألاف كيساء"([18])، ومن الجانب الأخر يدل موقف سيدنا عمر أنه أتخذ التدابير اللازمة لتخطي الأزمات والعقبات.
يقول السيد حافظ : " يجلس مجموعة من الرجال فى المقهى يشربون القهوة والشاي والشيشة .. يدخل الجرسون وينحني أمام كل مائدة .. نلاحظ أن الجرسون مربوط من عنقه كالكلب، وبها حبال تشده كل مائده اتجاهها.."([19])، مما يدل هذا على استعباد الشعب وانتشار الظلم وربما يشمل استعباد الإنسان في دوائر اضيق كعلاقة مدير بموظفة أو زوج و زوجته أو جماعة بأفردها وكلما حاول الإنسان الثورة على الأوضاع التي يعيشها يعود كما كان " تزداد سرعة الطلبات وكل طرف يشده حتى يسقط على الأرض من الإعياء.. يخلع الطوق من عنقه ويلقي الحبال التى تشده.. يهجم عليه الجميع ويلقونه ضربا.. يضعون الطوق فى عنقه مرة أخرى.. وينصرفون.."([20])، فسيطرت الحاكم للمحكوم التي تستغل السلطات و يكتسبوها من تفويض المحكومين لهم "إن العيون التي يترصد بها السيد أتباعه أنما هي التي يمنحونه إياه والأيد التي تنهال إليهم بالضرب لا يأخذها إلا من بين صفوفه .. لا سلطة لسيدهم عليهم إلا بهم"([21])، فهذه السلطة التي يمتلكها السيد نتيجة لسلبية المواطن أو الفرد وعدم قدرته على مواجهة أومراجعة ذي السلطة في أفعالهم.
يقول السيد حافظ:" لم تحدث فى مصر أو تنجح ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة، أو بصفة مؤكدة مقابل بضع هبات أو فوارت قصيرة متواضعة أو فاشلة، غالبا مقابل عشرات بل مئات الأنقلابات العسكرية التي يمارسها الجند والعسكر"([22])، منذ عهد مينا وكانت مصر عسكرية وجيشها من أقوى الجيوش، وتكمن قوته في أن أبناءه من المصريين ولم يعتمد على المرتزقة ولكنهم اعتمدوا على الخدمة الإلزامية للمصريين، فنشئ المصريون بفطرة وجينات وراثية لحبهم للعسكر حتى يومنا الراهن، فهم في رباط إلى يوم القيامة كما جاء في الأحاديث النبوية وتوصية سول الله (صلى الله عليه وسلم) بجند مصر فهم خير أجناد الأرض، والمصريون متدينون بطبائعهم فقد يكون ذلك سببًا من أسباب تمسكهم بالحكم العسكري فكان الجيش المصري بجانب شعبه وأهله في كل محنه وشدة سواء كانت داخلية أو خارجية حتى يتخطى الوطن هذه المحن.
ويبدو غياب العدالة والتعامل بمبدأ الوساطة والمحسوبية منذ القدم " وقفت وجد بنت عمار فى طابور الجائعين تنتظر . في هذه الأثناء لمحها نيروزي ، .... اقترب منها وسألها:
- كم أوقية خبز تريدين؟
- إثنتان .. ولو وجدت ثلاثة أفضل ..
مشى بين الصفوف فرآه خضر الخباز فسأله:
- كم أوقية ترغب يا نيروز ؟...
- خمسة...
تعالت أصوات الناس واحتج بعضهم ..فصرخ فيهم خضر :
- أنا حر أعطي للي أنا عايزه..
أخذ نيروزى الخبز وذهب إلى وجد..
- اتفضلي يا ست البنات.."([23])
وهذا مما يدل على غياب الرقابة عن الأسواق والتصرف تجاه الأقارب والمعرفة وترك عامة الشعب المطحون مما يؤدي إلى قيام الثورات والغضب تجاه الحكام .
يسوق السيد حافظ على لسان الراوي: " فتحي يجلس فى شقته فى الشارفة، ينظر إلى القصبة التى توجد بجوار بيته .... يفكر في القاهرة وأسرارها وسر اختفاء الناس فى الظلام. كيف يختفي الناس فى الظلام؟ منذ سبعة آلاف عام والتحقيقات مستمرة. والإجابة عن السؤال. أين يختفى الناس فى مصر؟"([24])، يشير الكاتب إلى ظاهرة الأختفاء القسري منذ القدم والتحقيقات التي مازالت مستمرة، والتي تستند بها بعض منظمات حقوق الإنسان المجتمع المدني ، وقد تم نفي هذا من قِبل الجهات الرسمية المصرية، "وتؤكد أن غالبية من ادعت منظمات حقوقية دولية أم محلية تصفها بالمعارضة.فأختفاؤهم أم رهن الأحتجاز على ذمة التحقيق في قضايا بأمر النيابة العامة، أو أنهم يؤدون مدة العقوبة في السجون بعد صدور أحكام نهائية وباتة من قضاه"([25])
وتبدو خلخلة التاريخ جليًا في ثورات الشعب المتأججة بنيران الغضب والسعي للتخريب في البلاد، يقول السيد حافظ : " بعد عصر بيبي الثاني قامت ثورة في مصر (3050 سنة قبل الميلاد) .. اقتحم المصريون المحاكم ومزقوا أوارق القضايا وحرقوها و قتلوا القضاة و هتفوا بسقوط الإله ( أي الفرعون) .. ولا حكم للإله علينا"([26])
يبين لنا جيمس هنري أسباب هذه الثورة"حكم هذا الملك أطول الأحكام في التاريخ "([27])، وإذا نظرنا ما يقابل هذه الثورة في العصر المعاصر نجد ثورة 25 يناير 2011 فقد أعلنت لجنة تقصى الحقائق حول أحداث العنف التى صاحبت هذه الثورة "الإنسحاب الأمني ومسئولية الفراغ الأمني وما ترتب عليه من الهجوم المتزامن على أقسام الشرطة وتخريب وحرق 99 قسماً بل وتمتد يد التخريب إلي حرق ونهب بعض السجون والنيابات والمحاكم وغيرها من سرقات الآثار من المتحف المصري"([28]).
و يذكر لنا الكاتب في الرواية الشيعة الإسماعيلية التي تفرعت عن المذهب الجعفري " و الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق سنة 147هـ حتي عصر الدولة الفاطمية وخلافة المستنصر بالله وقد تتبلور بأنتهاء هذه الدولة، فالخليفة هو الإمام لهذه الفرقة الإسماعيلية، ونشب الخلاف عقب موت المستنصر بالله في البيت الفاطمي فمنهم من رأى الإمامة لابنه نزار والبعض الاخر رأى أن الخلافة من حق ابنه الأخر احمد المستعلى "([29])، وانقسمت الشيعة الي نزارية ومستعلية فكان (حسن الصباح) من أنصار النزارية وكان (بدر الجمالي )من أنصار أحمد المستعلى.
يسوق السيد حافظ على لسان ياقوتي : " أن بدر الدين الجمالي مملوك أرميني قائد جيوش الشام . هذا الأرميني دخل الإسلام ليس حباً في بل حبًا في السلطة وتحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي ليس حباً فيه بل حبًا في السلطة والسلطة يا شيخ مجاهد.. نارونور قوة وظلم .. السلطة هي القهر والعهر .. و السلطة عمياء عرجاء حمقاء .. أولها ضحك واحرها بكاء "([30])، فبدر الجمالي خير مثال من الشيعة على اتخاذ الكذب والنفاق نهجًا لتحقيق أهدافه بالتصرف في كل شئ وكل الأمور ، فالشيعة منذ القدم لهم حلم أحياء المملكة الفارسية وحكم العالم بأكمله، كما أنهم يرجعون في كل شئ إلي الإمامية أو الخليفة، وإذا نظرنا اليوم إلى ما يماثلهم نجد جماعة الأخوان التي تحلم بإحياء الخلافة وحكم العالم ، كما يكون مرجعهم إلى مؤسس الجماعة (حسن البنا).
و الجدير بالذكر تم بناء الجامع الأزهر من أجل نشر المذهب الإسماعيلي الشيعي واليوم أصبح لنشر الدعوى السنية فهو جامعًا وجامعًة لطلاب الأزهر، لدراسة اللغة العربية واصول الدين والشريعة والفقة: " (الجامع الأزهر) 972م هو من أهم المساجد في مصر وأشهرها في العالم الإسلامي وهو جامع وجامعة منذ أكثر من ألف سنة، وقد أنشئ على يد جوهر الصقلي عندما تم فتح القاهرة سنة 970، بأمر من المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين بمصر... وهو أقدم أثر فاطمي قائم بمصر"([31]).
كان لإبداع السيد حافظ قيمة فنية وفكرة جمالية أثبتت قدرته في استلهام تراث الأمة وتأصيل تاريخها وهي ما أطفى على كتاباته سحرًا و رونقًا، كما كشفت أعماله عن تحليل واعٍ لطبيعة الواقع الإجتماعي ورفع الستار عن سلبيات الواقع المصري المرير أيام المستنصر بالله والحرص على نقده من سوء تدبير بعض الحكام وتحكم الحاشية في الحكم الذي أدى إلى الغلاء والمجاعة وعدم قدرة المواطن الضعيف على المواجهه.
د. سعيدة خلف
([1]) حميد لحمداني، بنية النص السردي ، صـ53
([2]) سيزا قاسم، بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، سنة 1994م، صـ74
([3]) السيد حافظ ، رواية كل من عليها خان، صـ 68
([4]) المرجع السابق ، صـ44
([5]) السيد حافظ، رواية كل من عليها خان، صـ22
([6]) جراتيا لوبير، مدينة الأسكندرية ، ترجمة زهير الشايب، صـ105
([7]) جراتيا لوبير، مدينة الأسكندرية ، ترجمة زهير الشايب ، صـ115
([8]) رواية كل من عليها خان، صـ23
([9]) انظر، تقي الدين احمد بن علي المقريزي، السلوك لمعرفة الملوك، تحقيق محمد عبد القادرعطا، دار الكتب العلمية للطبع، د.ن، صـ (1/66 )، الخطط المقريزية ، تحقيق محمد زينهم، مديحة الشرقاوي، دار نشر مكتبة مدبولي ، القاهرة1997م، صـ56.
([10]) السيد حافظ رواية كل من عليها خان، صـ27
([11]) المرجع السابق ، صـ27
([12]) انظر صحيح مسلم والبخاري
([13]) السيد حافظ رواية كل من عليها خان، صـ30
([14]) المرجع السابق صـ42
([15]) المرجع نفسه صـ51، 66، 155، 199، 237، 270، 289
([16]) انظر المقريزي ، اغاثة الامة في كشف الغمة، دار الهيئة المصرية للكتاب سنة 1999م، صـ(70:37)
([17]) محمد بن سعد بن منيع الزهري كتاب الطبقات الكبير، تحقيق د.على محمد عمر، ط1، دار نشر الخانجة، القاهرة 2001 ، 300/3
([18]) سلمان بن يحى المالكي ، سياسة فقه الأزمات (عام الرمادة أنموذجاً)
([19]) رواية كل من عليها خان ، صـ59
([20]) المرجع السابق ، صـ59
([21]) انظر اتيين دولابوسي، العبودية المختارة ، ترجمة صالح الاشمر ، دا رنشر الساقي
[22] - رواية كل من عليها خان ، صـ64
([23]) رواية كل من عليها خان ، صـ(69:68)
([24]) رواية كل من عليها خان ، صـ82
([25]) ندوة حول ظاهرة الأختفاء القاسري في مصر بين أدعاءات المعارضين ونفي الرسميين، أنترنت swissinfo chiara/ 44410
([26]) رواية كل من عليها خان ، صـ134
([27]) جيمس هنري برستد ، تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة د.حسن جمال، ط2دار نشر مكتبة مدبولي، القاهرة 1996 م، صـ92
([28]) انظر تقرير لجنة تقصي الحقائق
([29]) أنظر د.محمد كامل حسين، طائفة الإسماعيلية تاريخها نظمها عقائدها، ط1، د. نشر مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، سنة 1959
([30]) رواية كل من عليها خان ، صـ (257:256)
([31]) رواية كل من عليها خان ، صـ 52
#سعيدة_خلف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماليات السرد وخلخلة التاريخ في أعمال السيد حافظ- سلسلة دراس
...
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|