أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مجدي الجزولي - تورم الهويات: اختراع الوطن في ضنك التخلف















المزيد.....



تورم الهويات: اختراع الوطن في ضنك التخلف


مجدي الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1685 - 2006 / 9 / 26 - 09:56
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


قدمت هذه الورقة في المؤتمر العام لاتحاد الكتاب السودانيين (الميلاد الثاني) الذي انعقد في الخرطوم – قاعة الشارقة في الفترة 20 – 22 سبتمبر 2006م

يقول الأسياد:
إنما السلام والحرب من موردين مختلفين.
لكن، تخرج الحرب من أصل سلامهم،
كالريح والعاصفة، كالوليد من أمه،
تحمل سماتهم المفزعة.
سلامهم يقضي على ما خلفت حربهم!

تكلس سؤالنا الوطني عن الهوية، هكذا معرفة بالألف واللام، حتى أصبحت الهوية جحيم صراعاتنا التي لا نعرف منها مخرجاً فقد عجز عقلنا الجمعي عن اكتناه الموضوع بحصافة تفض دمويته وتضبط تفجراته في الاجتماع والسياسة. لربما تمنع الفكاك من قبضة الهوية والسؤال مطروح على شاكلة: من نحن؟ ذلك مما لا إجابة فصل له في شأن الفرد دع عنك شأن الجماعة، وفي حالتنا، الجماعات المتعددة والمتنوعة بأي قياس أخذت.

في تطور ادراك "الهوية" أعيد طرح السؤال في دارج انتاجنا السياسي والفكري ومنضبطه في محتوى باراديغم المركز والهامش ما كان في الحق قفزة مفاهيمية ربما فتحت أبواباً للتحرر من الهوية. إذ أن الباراديغم مأخوذ من تراث نيوماركسي يشمل مقولات التطور اللا متكافئ ونظرية التبعية (dependency theory) الشارحة لعلاقات المركز الامبريالي مع الهامش الكوني. على كل، شاع مفهوم المركز/ الهامش أداة للتعبير عن أزمة عميقة الجذور تأخذ بخناق الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، بل الحياة على إطلاقها في بلادنا. في الإخراج السوداني تلبس المفهوم برداء الهوية العرقية والثقافية، فبرز بفضله تقسيم عرقي ثقافي بين كومة المستعربة الأشرار وغير المستعربة الأبرار حشداً تبسيطياً لتواريخ من الصراع الاجتماعي عملت دمجاً وفرزاً عبر خطوط الهويات العرقية والثقافية. هذا النقد لا يُقصد به بأية حال التقليل من نضالات شرسة عادلة تخوضها تنظيمات "الهوامش" السودانية ضد "المركز" بما هي حركات وعي تقدمي، واحتجاج ناجز على استبعاد تاريخي من حوض ثروة هي مصدرها، وتركيب سلطة هي فقرات عمودها الحيوي. إنما المراد تجويد "بصارة" فكرية كان أحد روادها شهيدنا جوزيف قرنق الذي قال في معرض تشخيصه للمشكلة الوطنية أن المعضلة لا تكمن في التنوع العرقي أو الديني أو الثقافي أو اللغوي في البلاد، بل في التنمية غير المتوازنة وما تستتبع من فقدان الثقة المتبادلة. كان شهيدنا دائم الإلحاح على ضرورة النظر الواضح الدقيق لمستوى العلاج المطلوب لهذه المشكلة باعتبارها في الأصل "مشكلة وطنية في ظروف التخلف" (national question under conditions of backwardness) على حد تعبيره .

غرس الدولة الحديثة في السودان على يد الاستعمار البريطاني وبإرهاب القوة العسكرية مثل في تاريخ تطوره الاجتماعي الاقتصادي قطيعة جارحة وقفزة تاريخية مضنية تقارب الانتحار: جهاز دولة مركزية، جيش نظامي، إنتاج رأسمالي، أنساق ثقافية أوروبية بما في ذلك التعليم والقانون. بين ليلة وضحاها تضاعف العلو الفاصل بين الشروط القاعدية للمجتمعات السودانية والبناء الفوقي لجهاز الدولة أضعافاً مضاعفة. الأولى ما تزال في مرحلة تكوين "السوق القومي"، إذا جاز التعبير، على يد طبقة من التجار وكبار الملاك تتراكم في ملكيتهم كتلة نقدية نعم، لكنها بعد لم تحقق شروط التكوين الرأسمالي؛ والإنتاج مطابق للحوجات المعيشية لم يفارق في أقصاه الأنماط الاقطاعية وشبه الاقطاعية العبودية، وسائله نتاج مباشر للثقافة الشعبية المادية تستجيب بدقة لضروراتها الاجتماعية الوظيفية، حتى أنه يصعب تمييز وظائفها الإنتاجية عن تلك الاجتماعية الرمزية بما فيها من حمولات ثقافية معنوية. أما الدولة الحديثة المصدرة فيجوز المقاربة بينها ورأس المال في حال تصديره، حيث أن رأس المال المصدر يكون في أقصى مراحل تطوره. لضمان انتصارها ما كان لبريطانيا الكولونيالية سوى أن تنقل إلى مستعمراتها أرفع ما توصلت إليه من تكنولوجيا السلاح والنقل والإتصالات. صدق هذا الاعتبار في السودان أكثر من غيره، فالآلة التي انتقلت إلى السودان لخوض معركة الاحتلال كانت فخر الصناعة الانجليزية في تلك المرحلة وبعضها كان ما يزال ابداعاً صناعياً في طور التجريب. ذات القياس سليم في حال رأس المال الإنتاجي، بما أن الدولة الكولونيالية معنية أول الأمر باستخراج أقصى فائض إنتاجي ممكن من مستعمراتها لزم نقل أجدى وأكفأ قدراتها التكنولوجية إلى هذه المستعمرات بحسب مادة الإنتاج والموارد المتوفرة فيها. في السودان تمثل ذلك في نقل تكنولوجيا الري والزراعة الضرورية لإنجاح الإنتاج الرأسمالي للقطن. والاعتبار الأول للربحية ما كان للدولة الكولونيالية أن تنظر برشد المشفق إلى الجغرافية السياسية السودانية، بل راكمت استثمارها البشري والمادي حيث يمكن إحراز أسرع وأوفر الأرباح، وهذا بطبيعة الأشياء والدوافع، لا يعنيها توازن أو حسن سياسة التنمية. لضمان أمنها واستمرارها حتى الحين المعلوم لزمت السلطة الكولونيالية جانب التراتبية الاجتماعية التي وجدتها قائمة سعياً لإرضاء مراكز القوة، من ذلك تناسل علاقات شبه الإقطاع الطائفية دون خلخلة تذكر بحيث تجاورت مع، وأدمجت في هياكل الإنتاج الرأسمالي. نشأت في هذا الحضن الطبقة العاملة السودانية، ونشأ معها خطاب التحرر السوداني كما بشر به الشهيد جوزيف قرنق ورفاقه. الوعي الطبقي الذي تولد مع خطاب التحرر منافساً لعقائد التمييز العنصري والديني والثقافي ما انبلج ناضجاً بسبب من غموض التصور والتعبير عن المصالح الطبقية، إذ أن التقسيم الاجتماعي الكائن إلى وحدات طائفية وقبلية شبه إقطاعية يعني تداخل العوامل الاقتصادية وأخرى سياسية وعرقية ودينية بصورة صعبة الفكاك. لهذا الوضع جذر في الاختلاف الأساس بين الإنتاج الرأسمالي و سابقيه، حيث أن المجتمعات قبل الرأسمالية أقل تماسكاً واندماجاً وتتمتع الوحدات المكونة لها بقدر أعظم من الإكتفاء الذاتي وتلعب التجارة بينها دوراً أقل كما هو الحال في التكوينات القروية شبه المشاعية. الدولة كوحدة إقتصادية وسياسية منظمة تظل تحت هذه الشروط بنية من خارج الواقع الاجتماعي ومهددة من قبله، لأن قطاعات إجتماعية مقدرة تعيش ببساطة وجودها "الطبيعي" فيما يقارب استقلالاً تاماً عن الدولة ومصيرها. تتعاظم غربة الدولة بالطبع عندما تكون في المقام الأول جهازاً مصمماً للإستغلال الإستعماري انتقل من قبضة الأجنبي إلى قبضة وريث محلي دون أن تطاله تغييرات ديمقراطية بالحق يتوطد بها بناءه الواهي في التربة الوطنية وتتجذر مؤسساته في واقع الجماهير الشعبية. على العكس من ذلك ضاعف نقص المشروعية المزمن للسلطة السياسية من غربة جهاز الدولة وانقطاعه عن مسؤوليات التحرير والتنمية والتقدم الإجتماعي، والتي دون القيام بها يصعب تصور استقرار مجتمعات متباينة القوميات والأديان والمعتقدات تشهق دهشة من فرط صدمة الجبر الرأسمالي و التفكك الحداثي. على هذا الأساس ظلت الدولة بصفتها المؤسسية هي "الهامش" والاستثناء في هياكل المجتمعات السودانية، ما جعل بقاءها الكياني مشروطاً بعنفها وقدرتها على فرض وجودها المتعين وسلطتها الاقتصادية والسياسية بانتهاج أفظع أساليب التراكم البدائي (primitive accumulation). مثال ذلك ما دشنه الاستعمار البريطاني عندما قرر في أول عام لحكمه أن الأرض كلها إلا ماثبتت ملكيتها بموجب مكتوب محرر ملك للدولة. نتيجة هذا القرار كان انتزاع الأرض من ملاكها، خاصة صغار الفلاحين، بالأمر الواقع (de facto) إذ أن قليل هم الذين أتاحت لهم ظروف الهيجان والفوضى خلال عمر المهدية القصير أن يتحصلوا على وثيقة كالتي طلبت الإدارة الاستعمارية. تبع هذا المنشور قانون العام 1905م الذي بموجبه حرمت الدولة الاستعمارية على السودانيين التصرف في أراضيهم بالبيع أو الرهن والإيجار أو أي صيغة أخرى إلا بعد موافقة الحكومة. خلال عهود الحكم الوطني إتصلت طفيلية الدولة هذه وما زالت فقد أصبحت سنة الدولة وطبيعتها التي توطدت أكثر بتوسع البرجوازية الكومبرادورية كفئة، وتطورها النوعي من حيث القدرات والمهارات، ملتصقة بالدولة التي أصبحت زجاجة لبنها الدامي منها ترضع ما يدره ثدي الشعب. خلال حكم الديكتاتور جعفر نميري (1969 – 1985) اكتسبت هذه الطفيلية شرعية كاذبة أول الأمر بإسم الاشتراكية زوراً وبهتاناً، ثم لاحقا تحت رايات الاقتصاد الإسلامي. في رفق حكيم عليم كتب الشهيد عبد الخالق محجوب منتقداً تأميم النميري حيث ميز شهيدنا بين التأميم والمصادرة وحدد للأول هدفين إثنين: (1) وضع يد الدولة على مراكز استراتيجية فى الاقتصاد الوطني قصد تحريره من القبضة الأجنبية، قصد تنفيذ الخطة الاقتصادية المركزية بحيث يمكن تخطيط تلك المراكز الاستراتيجية حتى تتيسر ظروف مواتية لتحقيق أهداف الخطة. (2) وضع يد الدولة على أنشطة اقتصادية بعينها يمكن من ورائها توفير فائض اقتصادى يسهم فى تحقيق خطة التنمية أو فى التزامات الدولة فى الانفاق غير المنتج مما هو ضرورى لرفع مستوى معيشة السكان. ولأن الثورة السودانية ثورة وطنية ديمقراطية - أى لأنها ثورة تستهدف فى المقام الأول استكمال عوامل التحرر الوطني ثم التقدم الاجتماعي، فالتأميم يتوجه أولا لخدمة هذا الغرض وأعني تحرير اقتصادات البلاد من النفوذ الأستعماري والتبعية. التأميم الذي أراده شهيدنا وسيلة لاستكمال عوامل التحرر الوطني وجعل الدولة خادمة لأغراض التقدم الاجتماعي ورفاه السكان كان في يد الكومبرادورية التي بسطت نفوذها على الدولة الوسيلة الأكثر ملائمة لنهب الموارد الوطنية وتكريس ذات الدولة الاستعمارية سوى أنها انتفخت حجماً وزادت تكلفة وارتدت وجه ذئاب الوطن . سدر الدولة في غي التراكم البدائي إما بجبرها المباشر أو كآلة في يد الطبقات المتنفذة انتهى بها إلى عجز في المشروعية مزمن، وهي في الأصل مشروعية هشة تؤتى من كل جهة، حيث قامت منبتة الجذور منقطعة نسبياً عن تراكم التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية الوطنية. لذا لا ينفك الخاطر يعود إلى أزمة دولة الخليفة عبد الله بين حزبها التعايشي ولحمتها الوطنية كلما اعتبر المرء في حال الدولة السودانية تحت سيطرة "الانقاذ الوطني" وهي تواجه الغضب الدولي والسخط المحلي ، كأنما دورة حلزونية اكتملت بهياج النخب البرجوازية الريفية ذات الشوكة ضد "تغريب" الحداثة لنعود نوازي اللحظة التاريخية التي عندها ابتدأ اندماجنا في نسق الدولة القومية الحديثة على يد الاستعمار البريطاني. بهذا القياس ظلت الدولة تعرج "قيد الصنع" (state in the making) في موقع دموي بين نظامين مختلفين ومتمايزين من التشكيل الاجتماعي-الاقتصادي: القائم على الكيانات الصغيرة قبلية ولغوية وطائفية، والنشاط الاقتصادي المعيشي، والقائم على الكيانات الأكبر من مؤسسات الدولة الحديثة، والاقتصاد القومي. صرف النظر عن طبيعة السلطات الحاكمة عبر تاريخنا ما بعد الاستعمار تعذر على النخب المتنفذة تحقيق مطلوبات أولية لبناء الدولة: نظام سياسي واقتصاد رسمي على امتداد الرقعة الوطنية. وهذه مشروطة بنجاح السلطة الحاكمة في تحقيق أربعة مهام: ضمان قدر "آمن" من الاجماع بين النخب المتنافسة حول قواعد اللعبة السياسية، وقبول شعبي يسند مشروعية هذا الاجماع؛ مركزة القوى القاهرة داخل أنظمة الدولة الأمنية، أي تشكيل جيش موحد متكامل ومتماسك السلسلة القيادية، وقادر على ضمان ولاء الجنود الحاملين للسلاح؛ الإدارة الفعالة للاقتصاد القومي؛ ممارسة سياسية تحقق أعلى قدر ممكن من الإدماج، وأدنى قدر من الاستبعاد.

والواقع على لؤمه كان من الطبيعي أن تلتفت النخب الصاعدة في الأطراف السودانية إلى "الهوية" في إخراجها الشعوبي العرقي لتحشد بها ما تطلب من سند اجتماعي ومشروعية سياسية وفكرية ضد همجية التراكم البدائي. بتطاول الصراع انقلبت الهوية من كونها مدركاً للقتال إلى كونها سبب مباشر له حيث غدت الهوية، وهي إنطباع في الوعي الاجتماعي، مورداً اجتماعياً للقتال يكامل جذور الصراع المادية. لا غرو إذن أن ارتدت المدائن السودانية عن وطنيتها الواقية من شتات الأعراق والداعمة لهوية "الطبقة الاجتماعية" البديلة، حيث كان من الدارج أن يكتفي أهل أم درمان ودنقلا وجوبا وكوستي والأبيض بمدنهم وأشغالهم وأرحامهم أوطاناً. أما والهوية سلاح في معركة البقاء فقد عاد كل إلى جغرافيته الإثنية والثقافية درعاً يحتمي به تراجعاً عن احتفاء بالوطن سبق به علي عبد اللطيف عندما أعلن السودان جنسية كاملة "الهوية".

بتوسيع دائرة الاعتبار إلى محيطنا الاقليمي نجد أن 27 دولة في افريقيا جنوب الصحراء قد شهدت نزاعات مسلحة رئيسية خلال العقدين الماضيين بقياس حد أدنى من الضحايا يبلغ 5 آلاف فرد. 17 من هذه الدول شهدت نزاعات مسلحة في فترات سابقة من القرن العشرين، وفي ثمانية منها تعود جذور الصراع إلى عهد الاستقلال. شاعت النزاعات المسلحة أكثر خلال عقد التسعينات، بقياس حد أدني من الضحايا يبلغ 10 آلاف فرد خلال العام الواحد عانت افريقيا جنوب الصحراء 14 حرباً خلال الفترة من 1989 إلى 1997. تعددت التفاسير المنهجية لخلفيات وأسباب هذه الصراعات بحسب كل سياق. لكن الغالب إرجاعها إلى "غشامة" التحديث نظراً إلى التقلبات الاجتماعية الناشئة عن التنمية ذاتها من حيث زعزعة أنماط المعيشة التقليدية وتسليع كل من المستهلكات وقوة العمل؛ ثم التوترات الناجمة عن جهد السلطة المركزية تعبئة الموارد القومية لصالح "بناء الدولة" بين المركز الاقتصادي-الاجتماعي والأطراف.

يركز تيار بارز في التحليلات الحاضرة للنزاعات المسلحة في افريقيا على عاملين أساسين: الندرة والاختلاف، ومحصلة الإثنين معاً. تتجلى الندرة في الركود الاقتصادي أو/ والفقر، أو في ندرة الموارد من حيث هي، أي إنتاج الغذاء، تدهور الموارد البيئية وندرتها، ونقص المياه. الاختلاف من جهة أخرى ينظر إليه من زاوية الفروقات العرقية واللغوية مقترنة باللامساواة في توزيع الموارد والدخل. تشكل هذه التركيبة خلفية الصراع البنيوية، أما اندلاعه المباشر فيرتبط عادة بصدمة تضاعف وتعزز شدة التصدعات الاجتماعية الكامنة. في حالة رواندا مثلاً كانت الصدمة الخارجية المؤثرة هي انهيار أسعار سلع التصدير الرئيسة (البن، الشاي، القصدير) في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.

آخذين بهذا المدخل التحليلي نجد في خارطتنا الاجتماعية دفقاً من التصدعات التاريخية عرقية وثقافية ولغوية ودينية، تشكل خلفية صراعية للفرز والاستبعاد الاجتماعي والطبقي الذي توطد وانفجر بالتمكين الرأسمالي. وفقاً لهذا القياس يمكن تقصي المشترك الكامن تحت غطاء الهويات، والذي يجري نهراً من الدم رابطاً بين الفاصل الأخير من الحرب الأهلية في جنوب السودان (1983 – 2005) التي امتدت إلى مناطق جبال النوبا والانقسنا، والحرب الدائرة ما زالت في دارفور، والصراع المسلح في شرق السودان، واحتجاج الأطراف السودانية الأخرى، كردفان والنوبة الشمالية. تحولان أساسيان ومتكاملان في بنية الدولة السودانية حفزا بامتياز الخروج الدموي والمدوي عليها من قبل الأطراف. الأول ما نجم من تغييرات جراء تطبيق برامج "التكييف الهيكلي" (structural adjustment) منذ أواخر السبعينات والتي أطاحت بمنجزات "الديموقراطية الاجتماعية" التي حققتها الجماهير السودانية ما بعد الاستعمار. التبعات الدراماتيكية لهذه السياسات من انهيار قيمة العملة الوطنية وخصخصة الخدمات وبيع الملكية العامة كانت إجمالاً تحول ملكية الموارد من ملكية عامة تتحكم فيها الطبقة الحاكمة دون أن تسيطر عليها كلياً إلى ملكية خاصة خاضعة لسيطرة قطاع علوي من البرجوازية الكومبرادورية متداخلة وجهاز الدولة، وذات طابع ثقافي وعرقي وجهوي جعلته آيديولوجيا للحكم وللاستغلال. باكتمال سيطرة هذه الفئات على جهاز الدولة من خلال الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989 أتيح لها الدمج بين البرجوازية البيروقراطية وبرجوازية الأعمال وبالتالي حققت هيمنة شبه كاملة على المجال الاجتماعي وقدرة نافذة محمية بسلاح الدولة على مراكمة الثروات. التحول الثاني كان استخراج البترول في هذا الأتون، وانقلاب الاقتصاد السوداني إلى اقتصاد "ريعي" تام الهيئة. هذا التعريف يستند إلى تصنيف البنك الدولي لاقتصاد المعادن: "كل اقتصاد يشكل فيه إنتاج المعادن على الأقل 10% من الإنتاج القومي الكلي، وصادر المعادن على الأقل 40% من جملة الصادرات القومية". تعتمد اقتصادات المعادن على ريع موارد "محورية" (point resources) بدلاً عن موارد متوزعة (diffuse resources) ما يمنح الدولة الريعية استقلالاً عن مجالها الاجتماعي ويحررها من محاسبة المجتمع المدني الذي عليه تسود وتستأسد. عن ذلك ينتج لا تناسب مجحف وشاق بين السلطان القانوني والسلطان السياسي، ومن ثم صراعات أشد على الموارد، وقدرة أوسع على النهب، وعسكرة للمجال السياسي. من جهة أخرى، تحث مستويات الريع العالية على درجات مماثلة من "البحث عن الريع" والفساد، وذلك بالمقارنة مع الاقتصادات غير المعدنية. صدقت الخبرة السودانية مع إدارة الديكتاتورية الحاكمة لريع البترول التوقع القائل أن دخول البترول المرتفعة ليست بمحضها ضامن للتقدم في المجال الاجتماعي ورفاه السكان. يتجلى سوء الإدارة تحت عنواين بارزة منها "الفساد" و"انتهاك حقوق الإنسان" بالإضافة إلى فساد السياسات الاقتصادية التي وبالرغم من فيض الريع البترولي تنتهي إلى عجز مواز في ميزانية الدولة. بما أن الدولة الريعية تتقلص حوجتها إلى الدخل الضريبي وشفافية الإدارة المالية يتعاظم ميلها إلى إتباع سياسات أوليغاركية تعكس مصالح نخبة الحكم لا غير. بذات القدر ليس من ضامن آلي أن يرفد ريع البترول مجالات الاقتصاد الأخرى ويصبح بالتالي وسيلة للتنويع الاقتصادي وخفض معدلات الفقر، وتشغيل العطالة. إن ما حققه ريع البترول للدولة من استقلال عن مواطنيها يشهد عليه صلف الطبقة الحاكمة الواثق في مواجهة القوى الاجتماعية المعارضة لها، وتمنعها على "التحول الديموقراطي" أو استراتيجيات "التفكيك من الداخل" رغم المواثيق المدعومة ببركة المجتمع الدولي، بروتوكولات نيفاشا والدستور الانتقالي لعام 2005. امتداداً لمنطقها "السوقي" كرست الدولة "الشراء" السياسي وسيلة لاحتواء الاحتجاج الشعبي عليها بحيث فقد كل من اقترب منها مصافحاً إصبعاً من أصابع يده، في معظم الحالات، ويده كلها في حالات أخرى. بهذا الأسلوب توسع النظام الحاكم ليدمج في شبكته فئات متباينة من النخبة السياسية أفراداً وتنظيمات حتى انمحت في الوعي الشعبي أو كادت هويته السياسية والآيديولوجية لتحل محلها هوية "ثقافية" قوامها الإسلام والاستعراب.

هذا التماثل النسبي بين الهوية السياسية والهوية الثقافية يعتبر هدفاً جوهرياً للفئات الحاكمة به تحشد شرعية مسطحة، وبه ترهن جماعات المستعربين السودانيين قيد ولايتها الحامية بإزاء غضب الأطراف السودانية التي اعتلت بالتضاد سدة الهويات في سعيها انتزاع حصة من "الثروة" و"السلطة". من قبيل البداهة أن مستعربة السودان هم في مقدمة ضحايا هذا الشطط وهذا التزوير إذ يصبحون هدفاً لرماح الأطراف الأخرى وسهامها المعنوية والمادية بجريرة جنوها وبدونها، لا يشفع لهم سابق تقدم أو تحرير سيان مواقفهم المعلنة والعملية. كما يتأكد تأويل عنصري صرف لتواريخ الصراعات السودانية يستقي من كل حدث وواقعة دليلاً آخر على "ذنب" الاستعراب والإسلام من جهة، وانحطاط وجحود غير المستعربين من جهة أخرى. المحصلة أن تتحنط الهويات المتناقضة والمتشابكة بل تتخثر في حال كسادها فكل طرف مختصر محاصر في لونه ودينه وعرقه المبجل لا يتجاوزه، مسجون في تاريخ لا جماع له سوى تناسل مؤامرات الآخرين الأبدي والرغبة الذاتية في انتصار وسيلته الإقصاء. الشاهد الحديث جداً على النتائج الاجتماعية المباشرة لهذه التراكمات العنف الهوياتي الذي اجتاح أفئدة السودانيين حتى صار دافعاً للقتل خلال الأحداث التي أعقبت مصرع د. جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان والنائب الأول لرئيس الجمهورية (1 – 3 أغسطس 2005) والتي خلفت 130 قتيلا ومئات من الجرحى وفقاً لإحصاء الصليب الأحمر الدولي الصادر في 4 أغسطس 2005.

إن نهاية الدرب الذي يفضي إليه تطابق الهوية الثقافية والهوية السياسية ماثل في مجازر رواندا عام 1994. في هذه المأساة كان القتلة والمقتولين عوام الناس الذين فتكت بهم تصورات ذهنية تراكبت فيها خبرات تاريخية سابقة ومعتقدات آيديولوجية وذاكرة جماعية تفرق جوهرياً بين ما هو "هوتو" وما هو "توتسي". الإشارة الحاسمة جاءت من جهة الطبقة السياسية التي أشعلت باحتكارها الهويات في نزاعاتها السلطانية حريقاً ما انطفأ إلا بغلبة الرماد. نقرأ آخر هذه الورقة سطوراً ربما نسيها صاحبها: "تعتبر معضلة الأمن في افريقيا تمثلاً لمرحلة حرجة أخرى في التطور السياسي للقارة. توحدت شعوب القارة خلال الخمسينات والستينات في نضالها المشترك ضد الهيمنة الأجنبية. كان الهدف المقدم على غيره هو تحقيق الاستقلال الكامل من الاستعمار. والعدو كان القوى الأجنبية التي نُظر إليها ليس فقط باعتبارها تهيمن على شعوب افريقيا، بل كذلك باعتبارها تستغل القارة لغير نفع هذه الشعوب (..) أخذت تحديات "البناء الوطني" مكان الكفاح من أجل التحرير. للأسف، ليست قضايا "البناء الوطني بذات الوضوح. الأهداف ليست واضحة، والعقبات أقل وضوحاً، وهويات الأعداء ملتبسة، ومجمل العملية ما أشد تعقيدها وتشابكها".

سبتمبر 2006


برتولت برشت، قصيدة بالألمانية، ترجمة الكاتب.
كمال الجزولي، الآخر؛ بعض إفادة مستعرب مسلم عن أزمة الوحدة المتنوعة في السودان، منشورات رواق، الخرطوم-القاهرة، 2006، ص 65.
Georg Lukacs, History and Class Consciousness, Merlin Press, New York, 1967.
مجدي الجزولي، نموذج المركز ضد الهامش والصراع الطبقي في السودان (2)، جريدة الأيام، 6 سبتمبر2005.
Taisier M.A. Ali, the Cultivation of Hunger: Land and Agriculture in Sudan, Khartoum University Press, 1989, p. 38.
عبد الخالق محجوب، حول المؤسسات المؤممة والمصادرة، جريدة أخبار الاسبوع، يوليو 1970، منشورة في http://omdurman.us/omdurmannew/maqlat/mosasatmoammahtm.htm
راجع محمد سليمان محمد، السودان؛ حروب الموارد والهوية، كيمبردج للنشر، لندن، 2000.
راجع كمال الجزولي، الحامض من رغوة الغمام: مبحث في قيمة الاعتبار التاريخي، سلسلة مقالات، جريدة الميدان على الإنترنت، http://www.midan.net/
G. Hesselbein, F. Golooba-Mutebi, J. Putzel, Economic and Political Foundations of State-Making in Africa: Understanding State Reconstruction, Crisis States Working Papers Series No. 2, Working Paper No. 3, Crisis States Research Centre, LSE, London, 2006, pp. 1-2.
Chris Cramer, the Economics and Political Economy of Conflict in Sub-Saharan Africa, Discussion Paper 1099, Centre for Development Policy and Research, University of London, 1999, p. 3.
Ibid, p. 13.
See Nankani, Development Problems of Mineral Exporting Countries, World Bank Staff Working Paper 354, Washington, DC: World Bank, 1979.
See Jonathan DiJohn, Mineral Resource Abundance and Violent Political Conflict: A Critical Assessment of the Rentier State Model, Crisis States Programme, Working Paper Series No 1, Working Paper No 20, Development Research Centre, LSE, London, 2002, pp 3-4.
See Matthias Adler, Paradox des “schwarzen Goldes” oder neue Hoffnung für die Armen? Chancen und Risiken des afrikanischen Ölbooms, Volkswirtschaftliche Analysen der KfW Entwicklungsbank, Berlin, April 2006.
راجع فتحي الضو محمد، السودان؛ سقوط الأقنعة، سنوات الخيبة والأمل، القاهرة، 2006، ص 96 – 121.
مجدي الجزولي، ما مِنِّي ما مِنُّو: عُزّال شماليين وجنوبيين، جريدة الأيام، 1 مايو 2006.

See Omar McDoom, Rwanda’s Ordinary Killers: Interpreting Popular Participation in the Rwandan Genocide, Crisis States Programme, Working Papers Series No 1, Working Paper No 77, Development Research Centre, LSE, London, 2005.
Francis Deng, Security Problems: An African Predicament, Thirteenth Annual Hans Wolff Memorial Lecture, 23rd October 1981, African Studies Programme, Indiana University, Bloomington, Indiana, 1982, p. 2.



#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة تنتظر الثوريين-2: كشف الحال والشهيد صديق محجوب منور
- الثورة تنتظر الثوريين: عوج درب السياسة ما بعد اتفاقات السلام
- أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح- الأخيرة
- الحياة مَرْتَبَة: في ذكري اغتيال الشهيد محمد عبد السلام
- أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح-4
- بابكر بدري وأحفاده: رشد الحداثة وشرودها
- أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح - 3
- نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية: مدخل
- حول الاقتصاد السياسي لكرة القدم
- أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -2
- الأموات والقوات في دارفور: الله يجازي الكان السبب
- أيتها السودانيات: يلاّ ننظر شفق الصباح -1
- منبر السودان: نرجسية المثقفين وعطالة السياسيين
- سُترة الكوليرا وفضيحتها
- الكوليرا: شاهد شاف حاجات
- سلام زوليك: غزرة جيش ومحقة عيش
- سد مروي: التنمية الدموية
- ما مِنِّي ما مِنُّو: عُزّال شماليين وجنوبيين
- أنميس عيون كديس
- البجا: السالمة تمرق من النار


المزيد.....




- السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات ...
- علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
- ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
- مصادر مثالية للبروتين النباتي
- هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل ...
- الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
- سوريا وغاز قطر
- الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع ...
- مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو ...
- مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - مجدي الجزولي - تورم الهويات: اختراع الوطن في ضنك التخلف