نادر عمر عبد العزيز حسن
كاتب و باحث و أكاديمي و طبيب
(Nader Hassan)
الحوار المتمدن-العدد: 7340 - 2022 / 8 / 14 - 17:05
المحور:
الادب والفن
المبحث الأول : أمل دنقل وشعر التفعيلة : ..........................................................
المبحث الثاني : الصورة الشعرية و الرمز مفتاح النزعة التأملية عند الشاعر أمل دنقل : .....................
المبحث الثالث : ملامح النزعة التأميلية لدى دنقل " مظاهر الطبيعه و اللون " :........................
المبحث الرابع : الدراسة التطبيقية الفنية التذوقية الخاصة بالتوظيف اللوني في ديوان أمل دنقل الأخير " أوراق الغرفة رقم " 8 " ........................................................................................
النزعة التأمليَّة سمة معروفة في شِعرنا العربي القديم جاهليّه وإسلاميّه، وهي تدل على مدى ما وصل إليه الفكر العربي في هذه الحقبة الزمنية أو تلك، على أنّ التأمّل في الشعر العربي القديم لم يكن ليشكِّل ظاهرة عامة حتى في العصر العباسي الذي اغتنت فيه الثقافة العربية لإمتزاجها بالثقافات الأعجمية من فارسية ويونانية وهندية، ولكن ما يمكن أن يشكِّل ظاهرة في هذا الباب الشعر الصوفي لأن الصوفيين فلسفتهم في الحياة ونظرتهم الخاصة إلى الخالق والمخلوقات.
على أن هذه النزعة التأمليّة بدأت تأخذ طابعاً عاماً في الشعر العربي الرومنتي في العصر الحديث إذ انصبّ على تأمّل النّفس وعلاقتها بالحياة والطبيعة، وقد ظهر الشعر التأملّي لدى المهجريين في أميركا الشمالية والجنوبية بصورة خاصة وساعد على ذلك غربتهم المتمثلة في غربتهم عن الوطن، وغربتهم في المجتمع الجديد، وغربتهم في عالم الزمان والمكان .
وتبدّت نزعة التأمُّل عند شعراء الشمال أكثر من تبديها عند شعراء الجنوب في المهجر الأميركي لإنطوائهم الشديد على أنفسهم نتيجة طغيان المادّة في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من طغيانها في البرازيل والأرجنتين.
وعلى قدر طغيان المادة كان شعراء الرابطة القلمية يتعالون بأرواحهم إلى عالم الأحلام والأفكار، وقد جعل هؤلاء من التأمُّل مُنحنى لأشعارهم؛ وكان جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة أوّل من نزع هذا المنزع ثمّ تبعهم إيليا أبو ماضي ورشيد أيوب وندرة حدّاد .
النزعة التأملية هي الامتزاج بالطبيعة وتوظيف رموزها. ومثالها قصيدة النهر المتجمد لمخائيل نعيمة. يقول ميخائيل نعيمة: يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير أم قد هرمت و خار عزمك فانثنيت عن المسير , النزعة التأملية تتمثل في الحديث عن الطبيعة و التأمل في عناصرها أو إعطاء رئاسة جديدة للحياة أو لموضوع ما .وأنبعثت النزعة التأملية على يد شعراء التفعيلة مره أخرى وظهرت بوضوح في شعر عبد المعطي حجازي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وأختير لهذه الورقه أمل دنقل كنموذج لشاعر التفعيلة المعبر عن النزعة التأملية , وإن أشتهر بشاعر الرفض فالرفض يأتي بعد قبول ونظر وتأمل وقد بدأت هذه الورقه عهدها بالكتابة في شهر مايو ذكرى وفاة الشاعر , و بالتوافق مع يوم ميلاد دنقل الحقيقي وبالتوافق مع ميلاد الرفض الحقيقي الذي بدأ بالتعبير عن النكسة العربية ورفض الهزيمة والأسى على ضياع الأوطان وسيلان الدماء و في يونيو وقفنا على تأملاته الشعرية حتى الانتهاء من الحديث في يوليو ذكرى ميلاد الشاعر فالأفكار والتأملات تموت وتحيى متى وجد الدافع والتذكر , وقد فصلت المباحث لهذه الورقة في إطار منهج تحليلي وصفي لأمل دنقل والتأملية الشعرية عنده , وموقفه من الصورة الشعرية والرمز , ودراسة تطبيقية على التأملية الشعرية من خلال اللون من خلال أحدى قصائده .
المبحث الأول : أمل دنقل وشعر التفعيلة :
عن أمل دنقل :
هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، المولود سنة 1940م، شاعر معاصر ومفكر ومثقف وقومي عروبي من جمهورية مصر العربية، وُلدَ أمل دنقل في الصعيد المصري من أسرة صعيدية في قرية القلعة مركز قفط في محافظة قنا في الصعيد، وكان والده من علماءالأزهر الشريف، وقد أثَّرتْ هذه المكانة التي كان لوالده في شخصيته بشكل واضح، كما ظهرَ هذا التأثير في قصائده، وقد سُمِّي أمل دنقل بهذا الاسم لأنَّه جاء في السنة التي حصل فيها والده على إجازة عالمية، فسمَّاه باسم أمل لنجاحه في ذلك العام، وقد ورث أمل دنقل عن والده كتابة الشعر، كما ورث عنه مكتبة ضخمة فيها الكثير من كتب الفقه والشريعة والتفسير، وفي سن العاشرة فقد أمل والده فكان لهذا الفقد المبكر أثر كبير على حياته، ولم يعش أمل دنقل طويلًا، فقد توفي وهو في الثالثة والأربعين من عُمُره بعد صراع مع مرض السرطان في عام 1983م. حياة أمل دنقل ولد أمل دنقل في الصعيد المصري عام 1940م، ودرس في الصعيد إلى أنَّ أنهى مرحلة الثانوية العامة، ثمَّ ارتحل إلى القاهرة وفيها التحق بكلية الآداب، ولكنَّه انقطع عن الجامعة في العام الأول من أجل العمل، وقد تنقَّل أمل دنقل في عدَّة وظائف، حيث عمل موظفًا في محكمة قنا وفي جمارك السويس والإسكندرية ثمَّ عمل موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولأنَّه من الصعيد شعر أمل دنقل بالصدمة عندما ارتحل إلى القاهرة، شأنَّه في هذا شأن جميع أهل الصعيد، وقد ظهرت هذه الصدمة واضحة في بداياته الشعرية، كان والد أمل دنقل كثير التنقل بين قرية القلعة وبين مدينة من مدن القنا، هذا التنقل أثر بشكل واضح في طبيعة أمل دنقل، ولمَّا بلغ العاشرة من العمر تعرَّض لأول مأساة في حياته بعد وفاة والده، فما كان من والدته إلَّا أنْ حرصت على لمِّ شمل العائلة والعناية بأولادها وتوفير كلِّ سبل العيش، وسعت إلى تربيتهم وتعليمهم وتحسين علاقاتهم مع الناس. وقد أنهى أمل دنقل دراسته في المدرسة الابتدائية في عام 1952م، وكانت علامات النباهة والذكاء واضحة عليه، كما عُرف بالتزامه بتماسك أسرته واحترامه الشديد لقيم الأسرة ومبادئها، وكان قويَّ الشخصية منظمًا، وجدير بالذكر إنَّ الشاعر أمل دنقل أصيب بمرض السرطان وعانى منه معاناة شديدة طيلة ثلاث سنوات، سكب هذه المعاناة على ورق في مجموعته الأخيرة "أوراق الغرفة 8"، والغرفة 8 هي غرفته التي حارب السرطان فيها في المعهد القومي للأورام، وعلى الرغم من مرضه الشديد إلَّا أنه لم يتوقف عن كتابة الشعر، حتَى قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي: "إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر"، وقد رحل الشاعر أمل دنقل عن هذا العالم في يوم السبت، اليوم الواحد والعشرون من مايو من عام 1983م وهو في الثلاثة والأربعين من العُمُر، وكانت أواخر لحظات حياته مع صديقه الدكتور جابر عصفور والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ليرحل أمل دنقل تاركًا وراءه نتاجًا شعريًا عظيمًا. مسيرة أمل دنقل الأدبية بخلاف ما كان سائدًا في الشعر في أواسط القرن العشرين من تأثُّرٍ بالميثولوجيا الغربية بشكل عام واليونانية بشكل خاص، عاش أمل دنقل أحلام العروبة والثورة المصرية وناضل وكتب من أجل هذه الأهداف، ثمّ في عام 1967م تعرَّض أمل دنقل ككل العرب والمصريين إلى صدمة كبيرة بعد حرب النكسة ضد الصهيونية، فكتب مجموعته الرائعة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، كما أصدر مجموعته الشعرية الموسومة "تعليق على ما حدث"، وبعد أن شاهد أمل دنقل النصر في حرب النكسة ثمَّ الهزيمة القاسية، وقف في وجه معاهدة السلام وكتب وقتها قصيدته الشهيرة "لا تصالح"، هذه القصيدة التي عبر فيها عن كلُّ ما يكون يدور في باله وبال جميع المصريين، وقد ظهر تأثير هذه المعاهدات على شعر أمل دنقل، وخاصَّة في مجموعته الشعرية "العهد الآتي" الصادرة عام 1977م، وجدير بالقول إنَّ موقف أمل دنقل من معاهدات السلام جعله يصطدم بالسلطات المصرية أكثر من مرَّة، وذلك لأنَّ أشعاره كانت وقود المظاهرات في مصر، فقد صرخ المتظاهرون بها بأعلى أصواتهم، ورددها آلاف الناس في المظاهرات الشعبية التي كانت تخرج تنديدًا بمعاهدات السلام، فكان أمل دنقل صوت الناس الذي يُعبر عن كل ما يدور في خواطرهم، كلُّ هذا ظهر جليًّا في كلِّ مجموعات أمل دنقل الشعرية، وتحديدًا في قصيدته "الجنوبي" وفي مجموعته الشعرية الأخيرة "أوراق الغرفة 8"، وغيرها من المجموعات الشعرية التي عبر بها أمل دنقل عن كلِّ ما دار في خاطر المصريين بعد نكسة حزيران ومعاهدات السلام التي حدثت في تلك الفترة. قصائد أمل دنقل إنَّ الحديث عن شخصية شاعر بحجم أمل دنقل لا يكتمل إلَّا بالمرور على أشهر قصائده التي تمثل مرآة تعكس شخصية الشاعر وأفكاره ومعتقداته التي ناضل من أجلها، فالقصيدة هوية الشاعر، يحملها أنَّى ارتحل ويدخل بها قلوب عشاقه من أوسع الأبواب، وفيما يأتي أبرز قصائد الشاعر الجنوبي المصري أمل دنقل: قال أمل دنقل أريج من الخلد عذب عطرْ وصوت من القلب فيه الظفرْ وعيد لـه يهتف الشـاطئان وإكليله من عيون الزهرْ ومصر العلا .. أم كل طموح إلى المجد شدت رحال السفرْ وأمي فلسطين بنت الجـراح ونبت دماء الشهيد الخضـرْ يؤجـج تحنانهـا في القلوب ضرامًا على ثأرِها المستمرْ وأمي كل بـلاد تثـور أضالعـها باللظى المستطـرْ وقال أمل دنقل أيضًا في قصيدته " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " : أيتها العرافة المقدَّسةْ جئتُ إليك مثخنًا بالطعنات والدماءْ أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ أسأل يا زرقاءْ عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراءْ عن ساعدي المقطوع وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكَّسة عن صور الأطفال في الخوذات ملقاةً على الصحراء عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسة! عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء! أسأل يا زرقاءْ عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدارْ عن صرخة المرأة بين السَّبي والفرارْ؟ كيف حملتُ العار ثم مشيتُ دون أن أقتل نفسي؟ دون أن أنهار؟ ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟ تكلَّمي أيتها النبية المقدسة تكلمي باللهِ، باللعنةِ، بالشيطانْ لا تغمضي عينيكِ فالجرذان تلعق من دمي حساءَها ولا أردُّها تكلمي لشدّ ما أنا مُهان لا اللَّيل يُخفي عورتي كلا ولا الجدران ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ولا احتمائي في سحائب الدخان تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين عذبةُ المشاكسة كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي ونحن في الخنادِقْ فنفتح الأزرار في ستراتنا ونسند البنادقْ وحين مات عَطَشًا في الصحَراء المشمسة رطَّب باسمك الشفاه اليابسة وارتخت العينان! فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان والضحكةَ الطروب: ضحكتهُ.. والوجهُ.. والغمازتانْ؟ يقول أمل دنقل أيضًا: لم يعد يذكرنا حتّى المكان! كيف هنا عنده؟ والأمس هات؟ قد دخلنا لم تنشر مائدة نحونا! لم يستضفنا المقعدان! الجليسان غريبان فما بيننا إلاّ ظلال الشمعدان! أنظري؛ قهوتنا باردة ويدانا حولها ترتعشانْ ويقول أيضًا لا تصالحْ! ولو منحوك الذهبْ أترى حين أفقأ عينيكثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى! لا تصالح على الدم حتى بدم لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟ وهل تتساوى يدٌ سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ اقتباسات أمل دنقل في ختام الحديث عن الشاعر الكبير أمل دنقل، وبعد تسليط الضوء على أبرز قصائده، لا بدَّ من المرور على أهم الاقتباسات التي أصبحت أمثالًا يرددها الناس وأصبحت شعارات تنادي بها الجماهير وتصرخ بها الأفواه عاليًا في المظاهرات التي نددت بسياسة الدولة المصرية بعد نكسة حزيران، وفيما يأتي أبرز اقتباسات الشاعر أمل دنقل: "ربَّما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة، ليمر النور للأجيال مرة". "وينزل المطر ويرحل المطر وينزل المطر ويرحل المطر والقلب يا حبيبي ما زال ينتظر". "كأنّ الحياة أبدْ، كأنّ الشراب نفدْ، وكأنّ البنات الجميلات يمشين فوق الزبدْ". "معلق أنا علي مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنية لأني لم أحنها حية!". "ارفع سيفك في وجه المحتل، لا تُرغم شعبك أن يدفع ثمن الذل". "كانت الخيلُ -فى البدءِ- كالناس برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول". "قلت لكم في السنة البعيدة، عن خطر الجندي، عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة" .
عن شعر التفعيلة :
يعتبر شعر التفعيلة من مظاهر التجديد الأدبي الذي ظهر في العصر الحديث، كما ويعدُّ تغييراً حاسماً في مسيرة الشعر العربي، وذلك لارتباطه بالتحول العميق على الصعيد الموسيقيّ، وأنماط التعبير الإبداعية والفكرية، ويتميز شعر التفعيلة بخصائص وصفات تميزه عن غيره من الأنواع، وسنتعرف في هذا المقال على بداية ظهوره، وأبرز العوامل التي أدت إلى ذلك، وأهمّ أعلامه. بداية ظهور شعر التفعيلة كان الظهور الأول لشعر التفعيلة في العراق على يد الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة في قصيدتها الشهيرة (الكوليرا) والتي نشرتها عام 1947م، وكذلك على يد الشاعر بدر شاكر السياب في ديوانه (أزهار ذابلة) والصادر في كانون الأول من عام 1947م. وبهذا يمكننا القول أنّ الظهور الأول لشعر التفعلية كان في عام 1947م. عوامل ظهور شعر التفعلية انتهاء الحرب العالمية الثانية وما جرى عنها من دمار سياسي واجتماعي ونفسي. انتماء الكثير من المثقفين العرب إلى التيارات والمذاهب السياسية والفكرية المختلفة. تأثر رواد هذه المدرسة بالشعر الإنجليزي، وخاصة شعر إليوت في قصيدته الأرض الخراب. التأثر بالواقعية، حيث استطاع الشعر العربي تجاوز الرومانسية التي أعلت من قيمة الفرد، والتقيد بالواقع والقضايا الموضوعية. استيقاظ الوعي العربيّ، والثورة على الظلم بأنواعه المختلفة، والثورة على الجهل والفقر. الخصائص الفنية لشعر التفعلية الهروب من التناظر في القصيدة، أو ما يُعرف بشعر الشطرين، والاعتماد على وحدة التفعلية، ولكن دون التقيد بعدد معين للتفعيلات. توظيف الأسطورة كونها وسيلة وطريقة للتعبير عن التجارب التي يعيشها الفرد، ولأنّ من خلالها يستطيع الشاعر أن يُقيم توازناً بين العاطفة والفكرة. النزعة الدرامية التي تعتمد على رسم الشخصيات، والحوار، والسرد القصصيّ، حيث تعمل هذه الأمور على تجسيد التجربة الشخصية في إطار موضوعي. الاعتماد على لغة واقعية حية ذات دلالات رمزية تلائم الموضوع، حيث تتيمز بالموضوعية، والإيحاء. التخلص من القافية الموحدة التي تُضعف القصيدة كما يراها شعراء هذا المذهب، والاعتماد على التدفق العاطفي واستعمال قوافٍ تُحقق الوحدة العضوية والموضوعية. أهم أعلام شعر التفعلية بعد ظهور بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ظهر عبد الوهاب البياتي من خلال ديوانه المعروف (ملائكة وشياطين) في عام 1950، حيث أضاف من خلاله سمات جديدة ومميزة للشعر العربي الحر. ثمّ توالى ظهور الشعراء ومنهم: صلاح عبد الصبور من مصر، وخليل الحاوي وأدونيس من لبنان، ونزار قباني من سوريا، وفدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم من فلسطين، ومحيي الدين فارس من السودان .
وقفة أمل مع التراث الشعري :
الحداثة كرؤية سواء كان الشعر متحرراً أو متقيداً بالوزن والقافية لها جناحان هما المعاصرة و الأصالة , ومن المستحيل أن تستحدث الحداثة شيئاً من الفراغ لابد من الإتكاء على الماضي بالنسبة لوجدان الشاعر أولاً و تكون ثانياً متصله بوجدان الناس , و التراث منقسم إلى رسمي كالأساطير العربية و الإسلامية و الميثولوجيا الإسلاميه أو الشعبيه , ما يخص كل إقليم "كألف ليلة وليله " و " الظاهر بيبرس " , واختيار نبع التراث يرجع لشخصية الشاعر نفسه لاكتشاف العلاقة بين الأشياء , فالتقليدي مهما يكتب بأي طريقه هو يستخدم نفس العلاقات القديمة بين الأشياء كما كان يوجد في الشعر الكلاسيكي , أما الشاعر المتجدد فهو الذي ينظر إلى العلاقة بين الأشياء بزاوية جديده حتى في إطار المورورث الديني أو الشعبي فاذا تحدث الشاعر عن " العقوق " , فإن الشاعر يستخدم قصة سام بن نوح رمزا على مآل العقوق وهو العصيان والهلاك في حين يمكن أن يستخدمها شاعر آخر حول الخلاف حول كيفية الحفاظ على الحضارة الإنسانية من الهلاك , فقد كان نوح يعتقد أنه لا عاصم اليوم من أمر الله و ان على المؤمنين أن يركبوا الفلك و ينجوا في حين أن ابن نوح يرى أن يبنى سداً من الحجارة في وجه الطوفان , إن درجة الإكتشاف تختلف من شاعر إلى آخر والتي تسعى إلى إدراك الواقع المحيط وهي رؤية الطبيعه بمنظور مختلف , فالرؤية الشعرية –تعريف الرؤية الشعرية عند أمل دنقل - : هي تجزئة للواقع لإعادة تركيب عناصره من جديد فقد نكتشف فيه مقارقات ساخرة أو عظمه مبينه , فشعور الإنبهار الحاصل للذي انتقل إلى القاهرة من أول وهلة يتبدل بإعادة إكتشافه و تعبيره عن الواقع الجديد المختلف زمانياً و مكانياً ودرجة الإكتشاف تحدد رؤية الشاعر لإدراك الشاعر لما حوله , فالشاعر " موقف " تجاه المجتمع و السياسه برفض الواقع , يحلم الشاعر بواقع أحسن طامعاً في عالم أكثر جمالاً , ينسج من الواقع شعراً ويجعل من الشعر واقعاً ولأن الواقع لا يسعف آمال الشاعر عريضه ف " دنقل " يرفض كل تصنيف يتعلق بموقف الشاعر أو موضوع الشعر لأن القصيده هي صورة إحساس الشاعر تجاه المجتمع في لحظة ما .
المبحث الثاني الصورة الشعرية و الرمز مفتاح النزعة التأملية عند الشاعر أمل دنقل :
الصورة الشعرية والرمز :
تعد الصورة الشعرية التي يرسمها الشاعر مدخلاً أساسياً لفهم النزعة الذاتية التأملية النابعه عن وجدانه , فهي جزء لا يتجزأ ولا ينفصل عنها و بما أن القصيدة عبارة عن تراكب صوري , كانت عناصر الصورة الشعرية كاللون والصوت و الحركة وغيرهما عناصر مساهمة في إثراء النص الشعري , إن طبيعة القصيدة الحديثة التي أخذت تزاحم ثقة بالغة النشاطات الأدبية المتعددة الأفق و المنطلقات , أصبحت تنبع من وعي الشاعر بأزمة الحداثة و الرغبة الحقيقية بضرورة التجديد في شكل القصيدة الخارجي و الداخلي , لذا كلما كان الاستحضار للصورة الشعرية العاكسه للطبيعة المحيطة أشد تراكباً وتعقيداً " كالرمز و الانزياح " دخلت القصيدة إطار التجريب طارحة قيود الماضي خلفها ومحققة قدراً من الجدة لكسرها المألوف و المعتاد , لأن القصيدة الجديدة معافرة و مجازفة , فصورها مركبة و معقدة و قد تكون مربكة فتشكيلها قد يضم من الفنون الصامته : الرسم و النحت و يضم من الفنون السمعية الإيقاعات في توافقها أو ترافقها بالإضافة إلى إفادتها كما في نماذج متعدده من القص و المسرح و لكنها في ذلك تتناسق مع متغيرات باطنية تدفع إلى ذلك التدخل في تركيبها و من ثم قد تعتمد القصيده على خيط متعرج , قد يبدو اللحظه أنه عدة خيوط تتجاوز , ولكنه حركة صاعدة حيناً و هابطة حيناً آخر , و إثر تلاحم هذه الفنون مجتمه يبرز دور اللون و الحركة و الصوت ليس فقط على صعيد إثراء النص بالدلالات و الإيحاءات وإنما كإسهام في نهضة الحداثة شكلاً و مضموناً , فالشاعر الحداثي يعي تماماً أن استخدامه لعناصر الطبيعه في الشعر يجعل من المعنى الشعري متحركاً لا جامداً في ظل عوامل الزمان و المكان ذلك أن الكلمه تعني حركة و فعلاً و حياة أما مهمة الرسام أو النحات في العمل الفني فتظل محكومة بالثبات فليس فيها زمان متحرك .
و جرى بالذكر أن الإحساس التأملي للطبيعه يختلف من شاعر إلى آخر و من تجربة لأخرى , مما يؤكد طابع الفردية و الخصوصية في توظيف الصورة الشعرية , وهذا بالإضافة إلى أن أحساس الشاعر الواحد قد يتغير إزاء الصورة الشعرية الواحده نتيجة لتقلباته النفسية ,وعدم الثبات هذا يقتضي إمكانية التحول في دلالة الصورة بحسب توظيف الشاعر عبر إحساسه المتبدل , حضور الصورة الشعرية يتجلى في وصف الأشياء كما تبدو للشاعر لا كما هي في حقيقتها , " و الشاعر في استخدامه لها لا يعبر عن حالته النفسية تعبيراً مباشراً و إنما يتخذ من وصفه للطبيعه صوراً رمزية توحي بحالته النفسية و الذاتية و معنى ذلك أن هذه الرموز الحسية قد ارتفعت من ميدان الحس إلى الحقائق النفسية الداخلية"
الصورة الشعرية هي علاقة حوارية بين النص المبدع و المتلقي فنجاح هذه العملية يقود حتماً إلى الوصول للاستخدام للصورة استخداماً توظيفياً , فالمبدع والمتلقي هما من يحمل عبء النهوض بالتوظيف اللوني الذي يتحقق من تفاعل المتلقي مع هذا النص تفاعلاً يؤدي عبر كشف الدوال الصورية إلى خلق فضاء شعري يوازي النص القائم بالفعل إن هي تحيل بالضرورة على مدلولات غائبة عن النص , و في هذه الإحالة يقتضي التحرك في الفضاء النصي للبحث عنها واستدعائها إلى مجال التلقي ليكتمل للنص وجوده بالفعل و بالقوة على صعيد و احد
و إذا تتبعنا مسار الإستخدام لبعض الصور الشعرية أو الرمز الشعري كاللون نجد أنها تثير أيضاً عنده طائفة من الذكريات مما يجعله مسوقاً إلى ابتكار رمز موائم لدلالات تلك الذكريات المستمدة من اللون الذي قد يستمده من الطبيعه من حوله رابطاً إياه بحالته النفسية , وبذلك يتجاوز الشاعر الواقع المتمثل في الطبيعة إلى نوع من التجريد في رؤيته الشعرية الرمزية , وهو بذلك يكثف الواقع و بذلك يؤدي إيماء الرمز دوراً يفوق دلالته الوضعية لأن اللون صار عضواً حياً في وحدة النص , و بعيداً عن استخدام الرمز المباشر لحالته النفسية فقد يعمد الشاعر للاستخدام اللوني قاصداً إثارة المتلقي و جذب انتباهه عبر هذه التقنية ليوصل إليه رؤيتها الشعرية و المذهبية بالإشارة لابالتصريح فألوان الأشياء و أشكالها هي المظاهر الحسية التي تحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر , إنها مثيرات حسية يتفاوت تأثيرها على الناس و المعروف أن الشاعر كالطفل يحب هذه الألوان والرموز والأشكال ويحب اللعب بها , غير أنه ليس لعباً لمجرد الللعب و, وإنما هو لعب تدفع إليه الحاجة إلى استكشاف الصورة أولاً ثم إثارة القارئ أو المتلقي ثانياً .
و يأتي دور المتلقي الذي ينطلق من السياق الشعري في تعامله مع الألوان , فالسياق هو أساس التواصل بين المتلقي و النزعة التأملية لأن دلالة هذا التوظيف تختلف من سياق لآخر للشاعر ولا يمكن فهم الرمز ولا الصورة الشعرية منفصلان عن السياق التام في جانبين : داخل الحدث اللغوي حيث الصوت و القاعدة والدلالة المعجميه وهو السياق اللغوي , ثم خارج اللغة حيث الوسط الإجتماعي بما في ذلك سيقا للحال المتصلة بالمتكلم والمخاطب و الظروف المحيطه و البيئة و هذا هو السياق الاجتماعي .
تقسيمات شعر " أمل دنقل " تبعاً للنزعة التأملية :
وحين يتعامل المتلقي مع الرمز أو الصورة الشعرية يربه بهذه السياقات الاجتماعية و اللغوية , لا بد للمتلقي في تعامله مع السياق أن يتسلح بالخبرة الذوقية بالإضافة إلى الإطار المعرفي كي يتحقق التلقي السليم , وعلى ضوء هذه الخبرة ينظر إلى هذه الصورة الجديده فيتحدد مدلولها لديه , أي تتحدد علاقتها بالإطار الذي حصل عليه من خبراته السابقة وكذلك الحال عندما نتذوق قصيدة أو لحناً أو أي عمل فني آخر .
و المتلقي في إقباله على النص وتعامله مع المكون الشعري للصورة يخرج بما يعين على الفهم واستيعاب التجربة الشعرية , تلك التي تتخذ في الشعر طرقاً يوغل بعضها في الغموض الذي لا يبوح بمكنونه إلا بقدر كبير من التفهم و الإحساس بالتجربة الشعرية المعاصرة فاللون في الشعر المعاصر حين يجنح إلى التشكل الرمزي و الانزياحي يكون أكثر قرباً من التجربة الشعرية المعاصرة ويقرب المتلقي عبر تفاعله مع الألوان ودلالاتها من هذه التجربة و يجعله أقدر على تفهمهما و تقبلها .
لقد استطاع أمل دنقل في مسيرته الأدبية أن يجمع في تجربته الشعرية بين التجربة الذاتيه التأملية والتجربة الوطنية و القومية و حتى هاتين التجربتين انطلقتا من مشاعر ذاتيه تتحسر على فقدان الوطن بعض أراضية وضعف الأمة و النيل من عروبتها وانتهاك كرامتها أثر الإعتداءات الخارجية المتلاحقة وعلى ضوء هذه التجارب المتباينه ظاهرياً و المتلاحقة في أساساً في تكوينه الفكري و الوجداني يمكننا تقسيم شعر أمل دنقل إلى ثلاث مراحل و هي
المرحلة الأولى : و هي المرحلة الذاتيه عبر عن علاقته بالمرأة ويجسدها ديوان مقتل القمر الذي كتب في فترة سابقة لعام 1967 الذي نشر في أعماله الكاملة عام 1974 م
المرحلة الثانية : و هي المرحلة الوطنية و القومية و تجسدها دواوينه الشعرية التالية : ديوان البكاء بين يدي زرقاء اليمامة الذي نشر في أعماله الكامله عام 1969 م و ديوان تعليق على ماحدث الذي نشر عام 1971 م و ديوان العهد الآتي الذي نشر عام 1975 و ديوان أقوال جديده عن حرب البسوس و قد كتبت في فترة مواكبة لأحداث عام 1967 م و عام 1970 م الذي نشر في أعماله الكاملة عام 1983 م
المرحلة الثالثة : و هي المرحلة التأملية و الذاتيه مجددأ أي فترة المرض التي تجسدت في ديوانه " أوراق الغرفة رقم " 8 " الذي نشر في أعماله الكامله عام 1983 م و هي لا تخلو من ملامح وطنية , لأن القصائد المجموعه في هذا الديوان ليست جميعها مكتوبه في فترة مرضه بل جمع الديوان قصائد متفرقة نشرت أعماله الكاملة عام 1998 م كما أسماها سابقة على مرضه لم ينشرها دنقل لعد انتهائه من تنقيحها حين وافاه الأجل .
إن قراءة النزعة التأملية عند أمل دنقل تعبر عن الرؤية العميقة للشاعر على صعيد التجربة الجوانية أو الوطنية فالشاعر ليس من أولئك الذين كان لحضور الكلمات الشعرية أو الألوان لديهم حضور سطحي إنما لا بد من دلالة مكثفة يحويها هذا التوظيف الخاص .
و هو صاحب النزعة التأملية المنعكسه فيقول دنقل " إنني لست شاعراً انطباعيا أي لست شاعراً تنعكس عليه الطبيعه والأشياء بل العكس فأنا أعكس ذات الأشياء على الأشياء , وأحاول أن أغير الأشياء و ليست الأشياء هي التي تغيرني " فأمل دنقل في تجربته الشعرية يشكل الأشياء وفق تأملاته الخاصه و قد يغير فيها و يبدل لتوافق انعكاساتها في داخله , و هكذا كان أمل دنقل في تعامله مع اللون , فقد برز حضور الرمز كاللون محققاً هذه الرؤى عبر الأصعدة المتعددة , وحتى في فترة الانتقالات المرحلية قبل الهزيمة و بعدها , و مرحلة مرضه أبدي في استخدامه للون مرونه و قابليه للتحول الدلالي . ففي حين كان الأحمر مثلاً في إطار التجربة الذاتية التي سبقت الهزيمه العربية يعكس الشهوة المتأججه داخل الشاعر حيال المرأة وانتقلت دلالته بعد الهزيمة واتسعت لتشمل الموت والقتل والفناء والزوال و الانتهاء و هذا ما سيظهر لنا .
المبحث الثالث : ملامح النزعة التأملية لدى دنقل " مظاهر الطبيعه و اللون " :
مظاهر الطبيعة من خلال قصيدة " سفر التكوين " :
مظاهر الطبيعه عند دنقل منتشرة بطريقة كبيره في طيات أشعاره , ومن القصائد التي عبرت عن الطبيعة الحقيقية ومظاهرها وأشكالها.
(الإصحاح الثاني)
قلتُ لنفسي لو نزلت الماء.. واغتسلت.. لانقسمت!
(لو انقسمت.. لازدوجت.. وابتسمتْ)
وبعدما استحممت..
تناسجَ الزهرُ وشاحاً من مرارة الشفاهْ
لففتُ فيه جسدي المصطكّ.
(وكان عرشي طافيا.. كالفلك)
ورف عصفور على رأسي؛
وحط ينفض البلل.
حدقت في قرارة المياه..
حدقت؛ كان ما أراه..
وجهي.. مكللا بتاج الشوك
فالألفاظ " الزهر – عصفور – قرارة المياه – تاج الشوك " تدل عن مظاهر الطبيعة والحركة و الحياه في " ورف – حط –ينفض – حدقت " كلها توحي بحيوية الحياة الطبيعية وألوان البيان في " تناسق الزهر وشاحاً لففت فيه جسدي المصطق " فالاستعارة تشبه الأزهار والورود كالوشاح الملفوف على الجسد .
(الإصحاح الخامس)
حدقت في الصخر؛ وفى الينبوع
رأيت وجهي في سمات الجوع!
حدقت في جبيني المقلوب
رأيتني : الصليب والمصلوب
صرخت - كنت خارجاً من رحم الهناءة
صرخت؛ أطلب البراءة
كينونتي: مشنقتي
وحبلي السري:
حبلها
المقطوع!
وصور الطبيعة هنا " الصخر – الينبوع " تقابل في المعنى ما بين الخصب والجدب في الأرض و" رأيت وجهي في سمات الجوع " استعاره تشبه الجوع كصفحة الماء وهي دلالة على استنكار واستغراب الفقر والجوع في العالم الحالي , بعد أن كانت الأرض للجميع يرتع الإنسان ويأكل ويتناسل , ولفظ الرحم دليل على الوجود الإنساني وميلاد الإنسان الشقي المعذب .
اللون عند دنقل
و يمكننا كذلك من خلال تجربة أمل دنقل مع الشعر أن نلمح سهولة تكرار حضور لون معين بشكل لافت للنظر و هذا التكثيف الحضوري يتبدل من لون لآخر تبعاً للطور الذي يمر به شعره . ففي الفترة الزمنية السابقه لأحداث عام 1967 م وتحديداً في ديوان " مقتل القمر " يبرز اللون الأسود و ظلاله وأصباغه القاتمه و رايات الحداد الأسود بشكل واضح ويليه اللون الأخضر و ظلاله و أصباغه بشكل جلي و حضورة دائم الاتصال بالمرأه و عينها تحديداً و هو في هذا الديوان يرتبطت بالخصب و الحياه و التجدد عبر عملية الأنسال . أما الفترة الزمنيه لعام 1967 كان اللون الطاغي هو اللون الأحمر في الدم و التي تملأ الصفحات الشعرية . كما ملأت دماء الشهداء شهداء الوطن العربي بعامة , و فلسطين بخاصة , و يليه اللونان الأسود و الأبيض وظلالهما و دلالاتهما .
وفي فترة مرضه حضر اللون الأبيض وظلاله البيضاوية الوارفة حضوراً بارزاً في شعره كما حضر اللون الأحمر و ظلاله و أصباغه وبليه اللون الأسود و ظلاله السوداويه و أصباغه في شعره كلها أضحت تشكل رؤاه الخاصة الذي انفرد بها عن غيره من أقرانه شعراء العربية .
كانت الألوان الأحمر والأسود والأبيض والأخضر والأصفر وظلالها وأصباغها هي ذات الحضور الأبرز في الأعمال الكاملة للشاعر أمل دنقل و قد تم تكثيف الألوان في فترة زمنية معين فديوان " مقتل القمر " الذي تصدر أعماله الكاملة عند طباعته طباعة نهائية الذي سبق هزيمة العرب ماضياً كانت توظيفاته اللونية في جلها تخدم توضيح علاقة الشاعر بالمرأة , و تصف متعلقاتها فصدره المتأجج " في صدري صبي أحمر الأظفار و الماضي " , يشتهي جسد المرأة ووجودها إلى جواره , إن اللون الأسود مثلاً مثل أهدابها المثيرة , و إن فترة هزيمة العرب عام 1967م , جسدها ديوان البكاء بين يدي زرقاء اليمامة الصادر في تلك الفترة الزمنية نفسها , الذي شهد حضوراً بارزاً في كثافة الألوان التالية : الأحمر و الأسود و الأبيض و ظلالها , حتى إن هذه الألوان السابقة سجلت حضوراً بمعدل عال في هذا الديوان , يهدف أمل دنقل من هذا التكثيف اللوني في أغلب أعماله الكاملة ترسيخ بشاعة الموقف الذي تعيشة الأمة العربية في ذهن القارئ العربي , و التركيز على سيل الدماء التي لن تنتهي طالما ضعف العرب واستكانوا : وأقول لكم : لا نهاية للدم " الدم قبل النوم نلبسه رداء " و" الدم صار ماء يراق كل يوم " , " والفتوحات في الأرض مكتوبة بدماء الخيول " .
وارتبط حضر اللون الأسود في هذه الفترة و مايليها بثياب الحداد والاتشاح بها " الموت , والزوال و الفناء والحزن الشديد " و جسد اللون الأبيض و ظلاله وأصباغه في البكاء بين يدي زرقاء اليمامة , وديوان " العهد الآتي " , وديوان أقوال جديده عن حرب البسوس , ماعدا الديوان الأخير , وهو ديوان أوراق الغرفة رقم " 8 " و القصائد المتفرقة , العدالة المفقودة والظلم المسيطر والضعف العربي وظلم الآخر له وتسلطه عليه , وأكد معنى الفقد و اليأس و الإحباط , فقال : خيط ضوء كان من خلال بابها ينير, لم أك أملك إلا قمراً كان في الليل يضي , والمصابيح شظايا قمر كان يضئ , والمصابيح شظايا قمر كان يضئ , هذا بالإضافة إلى أن هذا اللون جسد حال الإنسان العربي و ضعفه الشديد , فالبيوت البيضاء احترقت , ورايات الاستسلام البيضاء رفعت , أما عن اللون الأخضر وظلاله , فإن حضورة المكثف في ديوانه مقتل القمر مثلاً السابق دل على الهزيمة العربية و أوحى بالحياة والخصب , وأن توظيفه قل بشكل ملحوظ حتى تلاشى في ديوانه العهد الآتي , و حتى في ظهوره النادر في تلك الفترة الزمنية كان شديد الارتباط بالدم و الموت " دم القتيل أخضر الشعاع " , و" دمه يتسرب شيئاً فشيئاً و يخضر شيئاً فشيئاً " .
إن الشاعر أمل دنقل في توظيفه للألوان السابقة الذكر كان توظيفاً يدل على ما ينطبع في ذهنه منظور ومشاهد ومواقف محيطة به , فالقتل و الموت و الوضع العربي المتهاوي جعل حضور ألوان الموت بارزه و مركزة , و قلل حضور الألوان الدالة على الحياة و الخصب , وهذا أمر طبيعي فالشاعر أكثر الناس حساسية وتأثراً بما يجري حولة , وشعره يوضح حالته النفسية التي تردت , لكثرة الهزائم و النكسات والنكبات والخسائر التي لحقت بالأمة العربية , و كان المواطن العربي الضعيف هو من يقوم بدفع الثمن غالياً بشكل دائم على حساب حريته و كرامته وحياته , كما اتسم الشاعر أمل دنقل بالكلمة القوية و الجريئة و الموقف الحاسم اتجاه قضايا أمته فسلط الضوء على صور الظلم و الجور المطبقين على أنفاس الشعب العربي المنهك و الضعيف , ونعتها بالظلمة والليل الحالك الطويل , وإن زوالهما يعني ولوج الضوء و الحرية والخلاص و عودته للظهور في سماء الشعب العربي .
إن أمل دنقل جعل من الصورة الشعرية حين وضعها أمام المتلقي و كثف حضورها عاملاً مثيراً محفزاً استثار المتلقي و جعله يتخيل مدى البشاعه التي عاشها الإنسان العربي بعامة و الشاعر بخاصة كي يتخذ موقفاُ إيجابياً برفض الصلح و الاستكانه و الضعف و الذل فكثرة التردد اللوني و الرمزي و تكراره معناه أن خط اللون يقول شيئاً له أهميته و من ثم يحتاج إلى متابعه كشفية تزود خطوط الصياغه و تتحرك داخل سياقاتها لتحديد فاعلية الألوان فيها شعرياً و أمل دنقل استغل الاستخدام اللوني كي يحرض الإنسسان العربي ليهب ناهضاً يدفع الظلم و الجور عن شعبه الذي خارت قواه وضعفت إرادته و عزيمته و لم يعد قادراً على التحمل والصبر الطويل .
المبحث الرابع : الدراسة التطبيقية الفنية التذوقية الخاصة بالتوظيف اللوني في ديوان أمل دنقل الأخير " أوراق الغرفة رقم " 8 " :
تكمن أهمية التركيز على دراسة هذا الديوان الأخير من إبداع الشاعر أمل دنقل لأنه مثل نقة تحول في حياة أمل دنقل هزت كيانه من جهة , وخلخلت علاقته مع مجتمعه وبكل ما حوله من جهة أخرى , وفي نفس الوقت كان الديوان إنعكاس للنزعة التأملية للشاعر وهو تعبير عن جوانية دنقل من جهة وإنعكاس الطبيعه عليه من جهة أخرى فكان اللون أو الرمزي الشعري تعبيراً قوياً لإنعكاس الطبيعه على نفس الشاعر , لأن الشعور الإنساني باقتراب النهاية ودنو ساعة الأجل والموت والزوال الأزلي والفناء الأبدي يجعل المرء يعيد موازنة أموره , ويدقق حساباته النهائية , ويعمق الصراع الداخلي في نوازعه وبواطنه إن التشكيل الفني لهذه اللحظة يستطيع تجسيد جوانب الصراع في أعماق الشاعر , وتوزعه بين الإقبال على الحياة والخوف من الموت . فإذا في مستواها الثاني ,تكشف العلاقة بين الذات والموضوع , هذه التي قد تنطوي على دلالات الاغتراب والانفصال عن الآخرين , ويعيش الشاعر الذي يمتحن بالمرض القاتل نزاعاً داخلياً بين الإقبال على الحياة بالإضافة إلى الرهبة التي تكشفه من إحساسه بدنو الأجل مع أن أمل دنقل أبدى خلال رحلة مرضه ثباتاً جريئاً دون أن يبدو عليه الخوف من الموت , يقول لصديق زاره في المشفى : لماذا تبكي ؟ أتخاف علي من الموت ؟ إنه أمنيتي المفضلة إنه الأمل الأخير , الطبيب الذي يتفوق دائماً على أمهر الأطباء .
إن حالة أمل دنقل النفسية دفعت شعره إلى بحر من القتامة , بسبب مرضه وانعكاساتها عليه , فقد تبدلت رؤيته للحياة , وتبدل إحساسه بالأشياء , فكان شعره مكثفاً بالحزن الدفين " غير الظاهر " الذي يحمل رؤية وجودية ترى في الموت أمراً لابد منه , وترى في كل ما يحيط بالإنسان أمراً يشيع ذكر الموت .
أما على صعيد الاستخدام اللوني , فقد تبدلت علاقته به واختلفت , نظراً لاختلاف حالته النفسية وشيوع الوهن والضعف لدية , فالارتباطات اللونية فردية محضة , ترتبط بذكريات وأحداث ومواقف خاصة, وتمثل قاعدة موضوعية صالحة للتطبيق في كل الحالات , والمواقف عرضه للتبدل فيتبدل معها الإحساس باللون , وبالتالي تتبدل طريقة توظيفة عبر المواقف المتعددة التي تواجه الشاعر وتزداد أهمية الألوان بتعدد مستويات التعامل معها وتعدد الوظائف التي قامت بها . وكانت نظرة أمل دنقل للبياض تعادل الحرية والعدالة والإصرار على الحياة , هذا في الفترة السابقة على المرض , لكن ظروف المرض أحالت شعوره باللون للضد , فأضحى اللون نذيراً ما يلبث يذكره بالموت , لارتباطه بأدوات الموت ونقاب الأطباء ولون الأسرة قال في قصيدة "ضد من " :
في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض ,
لون المعاطف أبيض ,
تاج الحكيمات أبيض , أردية الراهبات, الملاءات
لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن ,
قرص المنوم , أنبوبة المصل , كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن !!
أقام دنقل في المشفى فترة طويلة , لذا يشعر باقتراب الموت لحظة بلحظة , ويتكاثر إحساسه به لرتابة الإقامة في المشفى وطولها , وان المريض حين يرتبط بمكان فترة طويلة يبدأ بالنظر لما حوله رابطاً بين إحساسة الداخلي باقتراب النهاية بما تلتقط عيناه وهو ما يرى هذا اللون طاغياً في المشفى , فيرتبط ذهنه بين ما هو داخلي , وبما هو خارجي ويقارب بينهما . وهكذا يغدو اللون الأبيض " الإطار الخارجي المحيط به " شديد الإلتصاق بأحاسيسه " الإطار الداخلي الذي يعيشه "
إن إحساس أمل دنقل بالبياض يزحف , ليغطي معالم المكان وليكون حضوره إرهاصاً بقدوم الموت , وأمل دنقل لا ينقل لنا إحساسه هذا إلا بعد أن يستعرض لنا عدة قرائن تؤكد هذا الإحساس وتبرره هذا بالإضافة إلى التفصيل في الاستعراض , كي ينقل للمتلقي الرتابه التي يحياها و الملل الذي يشيع بقلبه الوهم فيسوغ للشاعر ربطه المغاير للمألوف إن كسر المألوف وأفق توقع المتلقي يعلي من شأن المفارقة في شعره, لاستخدامه البياض والسواد والعنصر الرئيس والمهيمن في شعره هو المفارقة . ومن الصعوبة أن نجد قصيدة للشاعر أمل دنقل لا تعتمد هذا العنصر كأساس في تكوينها البلاغي . وهو لا يكتفي فقط بتوضيح دلالة اللون الأبيض في نفسه , بل يأتي بالنقيض السواد ليكمل الحلقه فقد يكون للوحة الصورة ذات المشهد الواحد قيمة في ذاتها , ولكن في هذا النمط تتبع قيمة الصورة من ذاتها , إضافة إلى ما يضاف إليها من خلال النظر في الصورة المقابلة لها , فالنقيض يستطيع أن يكون أكثر قدرة على الكشف , وأكثر طاقة على استقصاء الصورة من جوانبها المختلفة .
لقد استطاع دنقل في استخدامه اللوني أن يحمل اللون معان نفسية عميقة , فقد نجح في التعبير عن الصراع الداخلي المتأجج فيه من خلال استحضارة لهذين اللونين المتناقضين فالبياض حمل بعداً سلبياً يذكر الكفن والموت و السواد هو التميمه التي تقي الإنسان هذا الشر فقال في قصيدة " ضد من "
فلماذا إذا مت
يأتي المعزون متشحين
بشارات لون الحداد ؟
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت .
لون التميمة ضد الزمن
, لذا حرض هذه الخيول المذبوحة قهراً , كي تثور على حالتها المظلومة و المقهورة والمحرومة من أبسط وسائل العيش من جهة ولأن انتصار الآخر قائم على أكتافها وحسابها , فقال في قصيدته الخيول :
يستحيل دنانير من ذهب
في جيوب هواة سلالاتك العربية
في حلباتك المراهبة الدائرية
في نزهة المركبات السياحية المشتهاة
وفي المتعة المشتراة
وفي المرأة الأجنبية تعلوك تحت ظلا أبي الهول
هذا الذي كسرت أنفه
لعنة الانتظار الطويل
إن توظيف أمل دنقل للون الأحمر وظلاله وأصباغة هنا متعمد , كي يثير أحاسيس المتلقي ,ويحفزه ليتخذ موقفاً إيجابياً اتجاه ما يحدث و إن استخدامه للون الأحمر في هذا السياق ناجم عن معرفة أمل دنقل بالمخزون المعرفي لدى القارئ الذي ربط بين حضور الدم والموت دائماً . وهكذا يتحقق أثر هذا اللون في القلوب من الجهة النفسية من جهة , والجهة التحريضية التثويرية من جهة أخرى , وقال في قصيدة قالت امرأة في المدينة :
قالت امرأة في المدينة
نحن جيل الحروب
ألقت بنا السفن الورقية فوق ثلوج العدم
و يلاحظ وتيرة النظرة التشاؤمية علت لدى أمل دنقل الذي أضحى يرى الحياة بأسرها منقلبة إلى أموات , وصار يربط بين حالته المرضية " صراعه الداخلي – المونولوج " وحالة مجتمعة العربي الذي يخوض حروباً مصيرية طاحنة " صراعه الخارجي – الديولوج " و إن هذه الصراعات عنده سنتهي حتماً بالموت و الفناء والهزيمة و الانكسار فتلقى بهم السفن الورقية الهشة التي لا تمتلك حمايتهم إلى ثلوج العدم و الفناء .
خاتمة
إن تجربة مرض أمل دنقل أثرت تأثيراً كبيراً في نفسيته و كادت تحطمها , لكنه مع ذلك وإلى الرمق الأخير سيبقى يلح مذكراً من خطر القوى الخارجية الداخلية ومحذراً من مغبة التعامل معها , التي بنظره ستنزف قوى خيرات العرب وثرواتهم وتجعلهم يستبيحون دماء بعضهم بعضاً إن أمل دنقل وحتى في غمره إحساسه بالموت لم يستطع نسيان حسه الوطني و القومي , وهو في قمه إحساسه بالضعف و الوهن , وكان أكثر قرباً من الإنسان العربي الضعيف والمنهك و المقهور والمضطهد , الذي سلبت أدنى مستلزمات حياته وأبسط أنماط معاشه , وانتهكت حريته وكرامته . إنه الشاعر الرافض دائماً فقد رفض الوضع المتردي للإنسان العربي , وإن كان دنقل قد تميز في الأغلب في الصورة الشعرية المنبثقه من الطبيعة عن تأمل , ففي أغلب القصائد تجد عناصر الجماد والحيوان والإنسان , وألوان تساعد وتحث المتلقي على المشاهدة قبل السماع فأنا عندما أسمع قصائد دنقل ألجأ للحاسة البصرية بالإنعكاس داخل الفكر وهي التي تسمى إنطباعات , فشعر دنقل إنطباعي إن عرفناه تعريفاً فلسفياً , فهي مجموعة من الأفكار والإنطباعات , و الإنطباعات تتدخل فيها الحواس فهي أشبه ما يكون بالذاكرة الحسية , فتسمع ألفاظ القصيدة فتلجأ لاسترجاع الحاسة البصرية في الألوان والمظاهر الطبيعية التي تتجلى من خلال الصورة الشعرية أو الصوت الذي يوحي بالبكاء والأسى من داخل الكلمه فتستدعي حاسة السمع وعلى شاكلة هذه الألفاظ تتكون تلك الإنطباعات الحسية و هذا كل لا يتجلى من خلال الشاعر إلا عن طريق التأمل الشعري والذي هو موضوع البحث الرئيسي . وقصائد أمل إن كانت قد عبرت عن الرفض حيناً والإحساس بالموت والأسى على مصير الأمة العربية حيناً آخر إلا أنه أعطى لأبياته وكلماته الحيويه المطلقة .
المصادر و المراجع
- أحمد طه قراءة النهاية مدخل إلى قصائد الموت في أوراق الغرفة رقم 8 مجلة إبداع 1983
- أحمد محمد فتوح الرمز و الرمزية في الشعر العربي المعاصر الهيئة العامة للكتاب ط1 1994
- أمل دنقل الأعمال الكاملة ديوان مقتل القمر مكتبة مدبولي 2005
- خليل الشيخ تجربة المرض بين سلفيا بلات وأمل دنقل
- عتر نور الدين الصورة اللونية في الحديث النبوي
- محمد عبد المطلب قراءات أسلوبية في الشعر الحديث الهيئة العامة لقصور الثفاقة ط1 1989
- محمد دياب حافظ جماليات اللون في القصيدة العربية دار المعارف 1990
- مصطفى سويف الأسس النفسية للإبداع الفني الشعر خاصة ط 4 دار المعارف القاهرة مصر 1981
- يوسف نوفل الصورة الشعرية و الرمز اللوني دار الكتب ال
#نادر_عمر_عبد_العزيز_حسن (هاشتاغ)
Nader_Hassan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟