|
رَحَى جدتى « النمّوشية » .. و جُرف الذاكرة!
لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)
الحوار المتمدن-العدد: 7327 - 2022 / 8 / 1 - 22:34
المحور:
الادب والفن
*** * سرد و ترجمة بقلم: لخضر خلفاوي*
يقول - بيجار* - « هي جبال قُطعت من جبل "الجرف** » حيث الأفق يتباعد دون توقف. قمم مجردة رِماحية تتبعها أخرى , موزّعة عبر الممرات بشكل فوضوي غير مُرتّب بين بقايا أشجار نكّلت بمعظمها العواصف . صخور " بئر العاتر " الخائنة، الغادرة ، حيث تكون لياليها جليدية و نهاراتها جحيمية .. المنخفضات و الهضاب العظيمة و المخيفة التابعة و المرتبطة بوادي " الهلاعي" حيث مذاق المياه يكون بطعم الدّماء. من هنا ، في هذه المرتفعات للشرق الجزائري يُسيطرُ و يحكم أجمل عرق و أشجع المحاربين في المعمورة : إنها قبائل الشاوية ، أكبر الأسود بنظراتهم النارية، وجوههم و أجسادهم جافة ، حازمة، نحيفة تتماوج داخل "جلابيبهم" بلون الفيافي و الصحاري، شكَّلتهم الصخور التي تحمل لهم الأسماء كلها !.يستخدمون و يحملون أمتعتهم و أقفالهم بعشق شيطاني. يعيشون على "لا شيء" و يموتون بكل تضحية كذلك على هذا النحو ( اللاشيء) لأجل هذا الكوم من الصخر .. وطنهم الوحيد !. أمام هذه " الأسطورة" من المحاربين و وسط هذه البيئة المضطربة ، الشائكة كمحيط طبقي معقد و شديد الغضب و الثورة أين كل محاولة تمدّد و تقدم تُكسَر على " جُرُف" .. تفشل كل حركة و تتوقّف و تبدو عقيمة أمام الشقوق الصخرية لتلك الجبال ؛ فتصبح وحداتنا المتقدمة مجرد قبضات عارية ( لقمة صائغة) معزولة و هدفا لطلقات النار . آه! لو تعلمون ! هل ترغبون في معرفة ماهية " حرب الجزائر "؟! يقول العقيد " بيجار ** ».. يضيف : " تعالوا معنا و اصطحبونا إلى منطقة " النمامشة ".. إنها "أبواب جهنّم"!. -"نعم، من المؤكد ذلك !" يجيب زميله الجنرال الاستعماري « بول فانيكسيم*** » الذي علمته التجربة احترام و تقدير القبائل "الشاوية" … بين "الغرايغليانو " و "النهر الأحمر" ..عندهم توجد " أبواب جهنّم » اُعدّت و خصصت للمذنبين الظالمين !. ****لجنرال جورج غرييو » Général Georges Grillot ** -ظننته أني قلّبتُ مواجعه و أيقظت تنين آلامه و أحزانه و يتمه المستديم و حرقته التي لم تنطفئ مُذ أن طردوا جدتي " مريم النمّوشية " ( والدته ) من ريفنا القحل ، الجاف و هو مازال صبيا لم ينل حظ الأمومي الدافئ بعد فقدان والده .. ظننته و أنا أعرف ثوارته اللامبررة أنه سينهض من مقعده الخشبي اللصيق بحائط حوشنا و أنا أروي له ذات مرة القصة فينهال عليّ سبا أو ضربا لأني أيقظت تنّين جراحه التي لا يعلمها سوى الله و هو أو ذلك مدى الفقد ذلك الذي يربط بين " دوّار أولاد فاضل " لعشيرة الخليفة البهلول - و ريف أخواله و ضيعات بئر العاتر الصخرية .. أن يلومني بكل قسوته على نفسه صافعا أياي " .. ما الذي حملك على إحياء مريمي أنا و المغارة التي دكّت على قلبينا بكل قسوة الصخر و أبواب الفقد الجهنمية !؟.. أطلق تنهيدة من أعماق أعماق الحزن الذي استوطنه منذ الاستقلال و مُذ استعمار الفقد كيانه برحيل قسرا والدته . كانت تنهيدة تنسف الجبال لو شخصنَت ؛ لدرجة أني خفت أن ينطلق من فيه رمح الوجع الذي ظل " هودجه " بين تلافيف الحياة القاسية هاهنا في هذه الديار !.. بعد النظرة و التنهيده يتحرك نحو زاوية داخلية لبيتنا الترابي .. يتقدّم أكثر نحو المكان ، يصل ، يتوقّف و قامته النحيفة المستقيمة تكاد تلامس سقف البيت ، يطأطئ برأسه ، يسرح ،يذهب بصره إلى بعيد و هو وحيد ، يغيب عن الزاوية للحظات ، و هو منتصب القامة كالرّمح البربري يبكي في صمت دون أن أرى دمعه … يكابر و أنا اللصيق بحضوره و سكونه ، أتأمله ، أنظر إليه ؛ هل كنتُ أنظر إليك أم إليّ وقتها يا أبي !!!.. يعود بوعيه من فسحة تبدو خرجت لتوها من باب جهنّم .. استشعر حرارة جبينه المتصبّب عرقا في هذه الصائفة الصائبة بالقحط و الفقد و الخواء .. بعض العرق يسقط على الطاحونة ، فلاحاجة للطواحين أن تطحن الدموع و العرق ، فهي تنزل مطحونة بدرجة ـ سائل جدا ـ تنهمرُ من دواخل أنفسنا و أجسادنا أين تقبع باستمرار معاركنا الطاحنة التي ينشطها الحزن و الأسى. . يحاول أن يركع و الانحناء لتصل يده ما آلم و أسر طفولته في صخرة محكمة العظمة و القسوة لقرابة خمس عقود ! ما عهدت أبي في هذه السن ساجدا راكعا .. ها هو يفعلها و ينحني بالقرب من الزاوية ، يمدّ يده كماد يده للحجر الأسود! يبحث عن التبرّك و البركة .. ربما كنت مخطئا ! .. يتلمّس الحجر المتربع في الزاوية بكل هيبته المعهودة .. يمرر يده ماسحا الصخرة العظيمة بلطف التي لم تفارقنا منذ أن ولدتُ و هي تحتل هذا المكان و إذا حُرّكت تُحرّك لخير و بخير و للخير .. تطحن الحنطة و الشعير و كل ما جادت بها حقولنا صيفا .. رحى (طاحنة) جدتي التي تبدو قطعة أثرية ؛ ورثها عنها أو لأنها لم يتسنى لها الظرف و لا الوقت كي تجلبها مع أثقالها و هي تُجبر على ترك الدّير و فلذة كبدها !. -إيه يا يمه ! إيه على الدنيا الغدّارة .. لم تجدي شيئا تورثينيه عدا هذه " الكرواطة " ، التي ظلّت ترحي في قلبي كل يوم !".. يختفي فجأة في صمته و هو واضع يده على فوهة الطاحنة التي تستقبل عادة الحب عند كل عملية طحن …يسرح بتفكيره بعيدا .. يعود إليه ، إليّ و إلى المكان ، لستُ أين كان أبي ، لكني أعلم أنه جاب كل بقاع منطقة " النمامشة " و زارها دارا دارا بحثا عن ربح أمه، ربح جدتي التي استقتها أنا أيضا .. بين حب السنبل و بين صخور جبال بئر العاتر الرّمحية الصلبة !. -أوَ تعتقد أن هذه " الطاحونة " صُنعت لجدتك من تلك الجبال ، لقد قيل لي أنها استقدمتها مع جهازها لهذا الدّوّار لما تزوجت أبي ؟. يفاجئني بالسؤال والدي. لم أتوقع سؤاله عن هذا التفصيل تحديدا و لم أكن مهيئا نفسيا كي أجد له تفسيرا تاريخيا لأصول الأشياء و مواطنها !. - بالتاكيد ! نعم .. نعم .. بالتأكيد يا أبي .. كرواطة جدتي أكيد صُنعت و صقلت من جبال الجرف الصامدة المحاربة ! أكيد ليس هناك أدنى شك ، مادامت قد أحضرتها هي بنفسها معها من هناك ، فهذا يكفي كدليل على أصل موطن ( رحانا) !. أجبته بكل عفوية و عشوائية .. فرأيت شمسا تبزغ بين شفتيه المحتشمتين و ارتسمت ابتسامة على وجهه الحزين كانت جدُّ عريضة كلها انتشاء و رضا و فخر. و كأنه أُخذَ عِزةً بالفخر و الاعتزاز لتاريخه و تاريخ والدته في ظل أزمات التشكيك و المزايدات التاريخية و محاولات السطو و طعن هذا الإرث لعشريات زمنية بعد الاستقلال !: -هيه ! هيه ! معك حق يا بِكري .. ليس هناك أدنى شك .. الاحتمال الوحيد هو أنها قد صنعت من صدور تلك الجبال التي أُنهكت عزائم العدو الغاشم و أفشلت كل غزواتهم لانتزاع تراب و صخر أجدادي الله يرحمهم !!.. ربي يرحمك يا يمّه و يوسّع في قبرك و يدخلك الجنة !!.. إيه! لا حال يدوم و ما بقى في قلبي سوى حجارها المجروفة و رحاها !". يحاول النهوض ببطء.. يعود إلى الانتصاب ، إلى سيرته الأولى ، يتخطى العتبة للبيت الترابي و يضمحل مع سراب الخارج في ذلك اليوم القاحل الحار ، و تركني لوحدي مشدوها وحيدا أعيد النظر في " رحى" جدتي مريم الصخرية و كلّي أسئلة عن قصتها و عن تاريخها و عن صمودها و عن الكم الهائل من الذكريات التي طحنتها مع الحنطة و القمح و الشعير ، كلٌّ أستهلك و غبَر إلا الذكريات ، كأني أسمع أصواتها من خلال ذلك الثقب الصغير .. ككل مرة عندما يشرع في تحضير الدقيق باستخدام ( طاحونة ) جدتي "مريم النموشية " أكاد أن أسمع من خلال جعجعتها القاسية صوت الرصاص و تكبيرات الاستشهاد !.طرحتُ وقتها على نفسي سؤالا بقي عالقا بذهني بسبب ذلك الموقف المؤثر في كثيرا :" كيف هو شكل الطاحونة التي يأويها قفص أبي الصدري !؟. ـ ماي 2022 ـــ الجنرال جورج غرييو » Général Georges Grillot - **** عسكري الحقبة الاستعمارية صاحب الشهادات المسجلة. **) ـ معركة جبل الجرف: ( بولاية تبسة ـ شرق الجزائر ) وقعت أحداثها بين 22و29 سبتمبر 1955 بقيادة بشير شيهاني وعباس لغرور وعاجل عجول، صيتها وصل إلى المحافل الدولية ودعمت نتائج هذه المعركة هجمات الـ 20 أوت 1955 في تدويل القضية الجزائري و منه تدويل القضية الجزائرية .
*) عسكري عرف في الذاكرة الجمعية الجزائرية بالسفاح الجنرال بيجار. ***) عسكري و صحفي عرف بميوله ل القضية الجزائرية . ـ من المراجع أيضا : مؤلفات " محمد نذير السبع " في ( الأوراس و الرجال …).
#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)
Lakhdar_Khelfaoui#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لأُبتِكَ آذان الآلام .
-
كاتبات يحترفن السعال : « مليكة مقدم » أو الأفعى المتمرّدة! &
...
-
شُرود…
-
تُريد أن أحملها !
-
العقول الحافية و النفوس المُحبطة المكبوتة (1).
-
قلبُ أبي …
-
قصاصة من تجارب حياتي الماضية : القصائد المحروقة !
-
أفكار : Pensées *عن الإبداع الأدبي و الفضاءات الزرقاء:سقوط ك
...
-
*إصدار جديد : رواية باللغة الفرنسية: Vivre parmi les rapaces
...
-
الأرملة الزرقاء: -! La veuve bleue
-
« ساءلتُ الليل » J’ai demandé à la nuit! إصدار جديد للأديب ل
...
-
سردية روائية: *ماء و حنطة !*
-
المرأة و الرجل: ما مدى مصداقية مفهوم « الصداقة » بينهما ؟!
-
العتمة العملاقة: ماذا سيحدث للعالم و لِ - عَبدة- (الفيس و إخ
...
-
عجائب الخلق..
-
كَشُرْبِ الهِيمْ!
-
حُقنْ -الغيبوبة الإرادية- للمرضى بالحياة !
-
هذه طفولتي التي أخطأتها …
-
*دموع إسطنبولية ! ( سردية واقعية)
-
يولد الشّعر في أيّ مكان شاء .. فكن إنسانا أوّلا يا صاحبي!
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|