|
اختزال التاريخ: خطأ تقييم خيارات الماضي وفق معطيات اليوم
كلكامش نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 7327 - 2022 / 8 / 1 - 15:27
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثيرًا ما نحاول تقييم الماضي والحكم على خيارات الأجداد بثقة كبيرة بالنفس وإدّعاء بأننا نفهم أفضل منهم، ونعرف الخيار الأدق، مع إغفال كوننا نرتكز، في هذا التقييم، على النتائج اللاحقة التي نعايشها اليوم، وعلى وعينا الراهن، بل وحاجاتنا الحالية وما نعدّه مشاكلنا، وإغفال أن هذه النتائج حصيلة تداخلات كثيرة لا يمكن عكسها بالكامل بحذف حدث تاريخي واحد، وبعضها خاضع لمنعطفات أخرى، ربما كانت ستأخذ صورة أخرى، وعليه لا يمكن حذف حدث معين بعينه وإعادة تصوّر التاريخ وشكل العالم اليوم بدونه. الكثير من رؤاي بخصوص العديد من الأحداث التاريخية تختلف اليوم عمّا كانت عليه قبل بضع سنوات فقط لأنني أنظر إليها بعينٍ أخرى نتيجة إطلاعي على تفاصيل أخرى أو لأن حاجة جديدة قد طرأت على المشهد اليوم جعلتني أتفهّم نوعًا ما خيار السابقين في حينها. مع ذلك، كل هذه المحاكمات للماضي بلا معنى في الحقيقة.
قطرنة الأديان
قبل سنوات، كنتُ أتصوّر أن وجود أديان محلية، داخل كل قُطُر، إن تعذر إلغاء الأديان، سوف يحل مشاكل العالم، بدلاً عن الأديان الكبرى، لكنني أغفلتُ في حينها أن الأديان الكبرى ساهمت في توحيد شعوب كثيرة لا يجمعها شيء، ولا سيما المسيحية والإسلام والبوذية، وقللت الاشتباك بينها في كثيرٍ من الأحيان. في تلك اللحظة، كنتُ أنظر إلى مخاطر الدين الشامل العابر للحدود، وحرفيًا في نفوذ إيران حيثما تواجد الشيعة وقدوم المقاتلين السُنة من كل مكان إلى العراق وسوريا وأفغانستان بدافعٍ ديني. في تلك اللحظة، كنتُ أرى أن هذه الأديان العابرة للحدود كارثة لانها تجعل العربي الشيعي في العراق مؤيدًا لإيران الفارسية وتدفعه للموت في سوريا، وفي ذات الوقت تدفع مقاتلا إيغوريا من الصين للقتال والتخريب في سوريا أو العراق، ويأتي مواطن عربي سُني ليفجر نفسه في العراق. في تلك اللحظة، كنتُ أرى أن الحل يكمن في فصل الأديان محليا وتحوير الإسلام لمؤسسات كهنوتية وطنية، مثل الكنائس العديدة حول العالم، على خطى الملك هنري الثامن في فصله لكنيسة إنجلترا، ومثلما تكونت كنائس أرثوذكسية منفصلة لها رأس وطني في أرمينيا وجورجيا وروسيا ومصر وإثيوبيا. هل هذه الرؤية صحيحة؟ نعم، لقد قلّ نفوذ روما في بريطانيا بعد انفصال كنيسة إنجلترا، ولكنها تسببت في ضعف المسيحية وحصول حروب وطنية الطابع، ولم يعد في الإمكان إطلاق حملات صليبية مثلا، لأن روما لم تعد تحكم أوروبا. بالفعل هذا جيّد من منظور السلام العالمي، وسيء من منظور المسيحيين. في الوقت ذاته، لم يعد للكنيسة القبطية المصرية تأثير على إثيوبيا بعد انفصال الكنيسة الأخيرة في السبعينيات، ولم يعد في الإمكان توسط الأقباط لحل أزمة سد النهضة، لكي يتخلى الأثيوبيون عن محاولة تعطيش أشقائهم الأرثوذكس في مصر. ففي النهاية، يخلق الدين رابط بين قوميات أخرى، ولهذا جوانب سلبية وإيجابية على حدٍ سواء.
في غمرة تفكيري، غير المطلع على الأديان، كنتُ أرى أن المذهب الجعفري مذهب محلي عراقي لأنه يقدس مزارات وأماكن مهمة داخل العراق ويركز بشكل كبير على ربط رموزه، وإن كانوا من الجزيرة العربية مولدًا ونسبًا، بطريقة غير واقعية بالعراق بحدوده الراهنة، من أجل خلق ربط محلي للمذهب، ولكن واقعيًا، هذا المذهب لا يشكل انفصال وطني بسبب التأثير الإيراني الواضح، وعليه لا تعدّ المراكز المقدسة داخل أحد الأقطار شرطًا وحيدًا في أن يكون ذلك الدين محليًا، ففي النهاية الكثير من المراجع الدينية الشيعية من أصول فارسية، ويشبه هذا هيمنة اليونانيين على كنيسة الروم الأرثوذكس في أغلب الدول العربية، وتورط بعضهم في بيع أملاك الكنيسة في القدس، بخلاف مصالح الرعية المحلية من العرب.
المبالغة في الحديث عن التعريب
في قراءتي لفصل في كتاب "العاقل" Sapiens، جزم المؤرخ يوفال نوح حراري، بشكل متسرّع وتسطيحي، بعدم وجود عرب في الشام قبل الإسلام، وهذا خطأ مروّع، كنتُ أقع فيه، يتجاهل ممالك الغساسنة وتدمر في الشام، والأنباط العرب أيضًا، وتسمية الإمبراطور الروماني فيليب (المتوفي عام 249 ميلادية) بـ فيليب العربي لأنه من مواليد شهبا، إلى الجنوب من دمشق في جبل العرب في السويداء اليوم، ويتجاهل وجود مملكة عربايا والحضر في نينوى، واللخميين المناذرة في الحيرة، بل ووجود العرب شمالا في ديار بكر في الأناضول، وكل هذا قبل الإسلام. بالطبع، كان الكثير منهم من العرب المسيحيين في وقتها، وهناك طائيين يهود، ولكنني كنتُ أتساءل، هل عرّب الإسلام المنطقة؟ هل ضاعت ثقافات عديدة بسبب الإسلام؟ وكنتُ أتفق بالطبع مع ذلك، وألوم الإسلام على القضاء على الثقافات القديمة، وكتبتُ ذات مرة أن سوريا كانت ستكون أفضل لو بقيت بيزنطية! هل هذا صحيح؟ لا أعتقدُ ذلك، لأن نظرتي السابقة كانت متحاملة بعض الشيء وتتجاهل حقيقة أن الثقافات السامية كانت عُرضة للضياع في ظل ألف عام من الهيمنة الأجنبية منذ سقوط بابل عام 539 قبل الميلاد على يد الأخمينيين فالهيلينيين فالسلوقيين فالساسانيين، وكان السكان الساميين سيتبنون الثقافة الفارسية في العراق والرومانية في سوريا، وكلتاهما ليستا من المنطقة، في حين أن العربية امتداد للثقافات السامية الأصلية. اليوم، أعتقد أن ما حصل مع الإسلام ثورة قومية الطابع ضد الحكم الأجنبي ولولاها لضاعت الثقافة السامية إلى الأبد واندثرت. بالطبع لم يكن الفرق كبيرًا بالنسبة لأجدادنا، لأنهم لم يكونوا يلبسون الجينز والشورت، ولم يعيشوا بدون حروب وضرائب وما شابه، وكل ما كان يهمهم تحقيق استقرار من نوعٍ ما، فضلاً عن عدم وجود فكرة قومية مترسخة لدى الشعوب القديمة، وضرورة عدم تجاهل أن السكان كانوا بالأساس خليط يضم العرب والساميين، وجميعهم أقارب.
بالطبع، كان حكمي السابق في لوم الأجداد في عدم صد المسلمين "السراسنة" مبنيًا على نظرتي الحالية للتأثير السيء للإسلام على المنطقة، وأنهم السبب في عدم وقف ذلك. لكن هذه النظرة تتجاهل حقيقة أن المنطقة لم تكن في سلام قبل الإسلام، ولم تعشه بشكل دائم بعده، لكن الكنائس المحلية تعرضت للاضطهاد من قبل الساسانيين، مثل اضطهاد شابور للنساطرة في العراق لمدة 40 عام، وطرد نسطور من بيزنطة نفسه، وكذلك اضطهاد اليعاقبة (السريان الأرثوذكس) من قبل البيزنطيين ولجوءهم بسبب ذلك إلى الساسانيين، فضلاً عن معاملة الكنيسة القبطية ككنيسة فلاحية من قبل الروم الملكانيين، واضطهاد البيزنطيين لليهود ومنعهم من دخول القدس، وكان هذا شرط البطريرك صفرونيوس على العرب لتسليم المدينة. بالنسبة لليهود، كان المسلمون أفضل من بيزنطة، مع أن ذات المسلمين هجروا اليهود من الجزيرة العربية. بإختصار، لا يمكننا اليوم تقييم ما كان يعيشه أولئك الناس لمعرفة أسباب مواقفهم، ومحاكمتهم اليوم بناءًا على الواقع السيء للمنطقة العربية اليوم وتجاهل أن المنطقة شهدت انبعاثة حضارية للثقافة السامية في العصرين الأموي والعباسي. هذا التسطيح للتاريخ لا يصحّ.
الثورة الفرنسية: الإرهاب والحريات
في قراءاتي المبكرة عن الثورة الفرنسية، منذ الطفولة، وقعتُ في حب العائلة المالكة وماري أنطوانيت ولويس السادس عشر، ولم أهتم كثيرًا للمقولة التي تحاول تصوير الملكة بشكل بشع وهي تقول: (دعهم يأكلوك الكيك) عندما سمعت أن الفرنسيين لا يجدون الخبز ليأكلوه، وهي خرافة يسارية في الغالب. لقد كنتُ أهتم بقصور فرنسا وإرث لويس الرابع عشر (الملك الشمس) Le Roi Soleil لأنني في النهاية أحب هذه الأجواء الأرستقراطية. في الوقت ذاته، كنتُ أقرأ لتشارلز ديكنز روايته (قصة مدينتين) وبشاعة القتل الذي تزامن مع الثورة الفرنسية، وإرهاب روبسبير وفظائع المقصلة، لقد كان بحق عصر إرهاب وهمجية. على صعيدٍ آخر، نجد فيكتور هوغو في رائعته (البؤساء) يقدم رؤية أخرى للثورة، وبالطبع، كعلماني، كنتُ أميل في داخلي لتأييد الجانب العلماني للثورة وما أضافته من حقوق إنسان (بُنيت على الدماء في البداية)، قبل أن أجد أن العالم يتجاهل فشلها وجرّها فرنسا للجوع والفوضى لولا مجيء نابليون بونابرت، الذي أعلن نفسه إمبراطورًا وشنّ حملات لغزو أوروبا. كيف سنحاكم هذه الثورة؟ هل نسلط الضوء على جانبها الفوضوي المتوحش وننكر الفقر الذي عاشه الفرنسيون؟ هل نتجاهل همجية الجماهير وفظائعهم ونسلط الضوء على العلمانية والحريات وإرساء رؤية جديدة للعالم؟ هل نسلط الضوء على لحظة سقوط الباستيل ونعدّها نصرًا أم أن من الواجب إكمال القصة واخبار الناس أن الملكية عادت في النهاية؟ في الواقع، محاكماتنا هذه بلا معنى، لأنها حصلت وفق ظرفها وأضافت الكثير من السلبيات والإيجابيات، وتصنيفنا لها على أنها ثورة مجيدة أو عصر إرهاب لن يعكس حقيقة أنها حصلت وغيّرت وجه التاريخ.
القومية العربية
من أسئلتي القديمة أيضًا لومي لروّاد النهضة العربية، والكثير منهم من مسيحيي الشام، على إشاعة روح القومية العربية في مطلع القرن الماضي، وأنهم سبب مآسي المنطقة اليوم. في الواقع، كنتُ أتساءل: لماذا ساندوا هذه الفكرة بدل فكرة أنطون سعادة، مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي؟ وكنتُ أحاول تصوّر شكل المنطقة لو أنها ركزت على فكرة الهلال الخصيب فقط. كنتُ في حينها مدفوعًا بالتركيز على الحضارات القديمة فقط والقطرية الشديدة. في الواقع، لا يمكن تجاهل أن تلك الحقبة شهدت تصاعد الأفكار القومية في كل مكان، ومنها داخل تركيا، قلب الدولة العثمانية، ومعها جاءت فكرة التتريك (في وقتٍ متأخر من الدولة العثمانية) ولهذا السبب تصدّى أولئك المفكرون بدهاء للأمر وأدركوا أن العروبة هي الشيء الموجود حقًا على الأرض، ولم تكن الاكتشافات الأثرية القديمة معروفة وحتى لو كانت كذلك فهي غير واقعية لأنها هويات مندثرة (وهذا ما كنت أرفض الاعتراف به)، ناهيك عن كونها امتداد سامي للعرب وليست شيئًا مختلفًا كما كنتُ أتصوّر. بدون تلك الفكرة ما كانت المنطقة لتتحرّر وما كنا لنشهد ولادة هذه الأقطار المستقلة. لقد كانوا دُهاة تعاملوا مع فكرة إقصاء الدين لتعزيز الروح القومية، لأن التركيز الديني يعني أنك لن تثور على حكّام من ذات الدين، ولكن الشعور القومي يدفعك لذلك. بالطبع، العروبة هي الواقع المُعاش وكل مشاريع معاكسة لذلك محض أوهام لا وجود لها في وجدان أغلب الناس، وإذا كانت العربية لغة حية اليوم ولم يستطع العرب توحيد بلادهم، فكيف يقتنع عاقل أن إحياء هويات أنثروبولوجية لا يعيشها الناس واقعًا فكرة منطقية يمكنها أن تنجح. لقد كنا غارقين في الوهم حقًا. اليوم، مع ملاحظة التهديدات الإقليمية للدول العربية أجد أننا ندين لهم بالشكر والاعتذار لنكران جهودهم وفهمهم الواسع للواقع، وأن فكرتهم لا تزال مهمة للحفاظ على المنطقة ومنع قضم المزيد من أراضيها. هل فكرتي القديمة صحيحة؟ هل فكرتي الراهنة أدق؟ لستُ أدري، فكلاهما وليدة رؤية جديدة نابعة من الظروف الراهنة وتغيّر الوعي والمعطيات والأولويات.
الدكتاتوريات أم الديمقراطية
بالمثل، سنؤيد جميعًا بحكم الثقافة الراهنة للعصر الديمقراطية، وسيكون من المخجل أن يقف مثقفٌ ما بالضد من الديمقراطية، لأنه سيوصف بالرجعية، مع أن كارل ماركس نفسه وصف الديمقراطية بالبرجوازية، ورفضها، في حين أن مصطلحي "الرجعية" و"التقدمية" من المصطلحات الشيوعية. مبدئيًا، سيقف الكثير من الناس مع الديمقراطية، في حين أن البعض لا يؤمن بالخيار المبني على العدد، والكثير من الفلاسفة ضد الديمقراطية، أولهم أرسطو، وبعضهم يرى أنها لا تناسب الشعوب غير الأوروبية المسيحية. في النهاية، الديمقراطية تعبّر عن الأغلبية، وكشخص علماني، لا يناسبني خيار الأغلبية المسلمة. بمرور الوقت، أصبح الكثير من الناس، ممّن أيدوا اسقاط الأنظمة العربية وثورات "الربيع العربي"، ضد ما حصل وندموا على الفوضى والخراب الذي حلّ بالمنطقة. مع ذلك، يلوم الآخرون القادة الدكتاتوريين على الفشل، وقد يكون كلاهما على حق. في النهاية، نقع جميعًا في مغالطة الحكم على الأمر الآن بما تحقق من نتائج، مع أن من قام بالثورة لم يكن في البداية قادرًا على توقعها.
الصراع السني الشيعي
عندما كنتُ أراقب بخوف تحوّل العراق إلى بلد تهيمن عليه الأحزاب الدينية الشيعية، بعد 2003، وكثرة العمائم التي لم أرها من قبل، كنتُ أشعر أن من سوء حظ العراق أن الغالبية فيه تميل إلى إيران، وبعد انتشار العنف والجماعات الإرهابية السُنية، بدأتُ أرى أن من حسن حظ العراق أن الغالبية ليسوا من السُنة، فقد بدأتُ أرى فيهم تطرفًا مخيفًا لم يكن ملحوظًا عندما كانت الطائفة تمسك بزمام السلطة وتعيش حياة أرستقراطية في المدن الكبرى على الأقل. عندما ازداد خطر تنظيم داعش، رأيتُ أن من سوء حظ سوريا والعراق أن الأغلبية من السُنة لأن الأقليات ستتعرض للإبادة والسبي بسبب أفكار الطائفة السُنية وأن لا بديل سوى بقبول الحشد الشعبي، مع أن المطلع على التاريخ يعرف أنه سيكون المشكلة اللاحقة ونسخة من الحرس الثوري الإيراني. في تلك اللحظة، ومع تعاظم الخطر على الأبواب، لا بدّ من قبول الخيار الأفضل لك، بشكل شخصي وربما أناني وآني، واغفال الخطر القادم. الجميع يفعل ذلك، ونفعل ذلك الآن، وكذلك فعل الأجداد عبر التاريخ. خيارات اللحظة نابعة من تقييم آني للوضع. إذا ما تسبب الحشد في حرب أهلية في العراق، أو في هيمنة إيران على العراق، سيأتي مؤرخ أو شخص ناقد للتاريخ بعد 100 عام ويقول، أولئك الحمقى ساندوا ما كان سببا في ما حصل، ولكنه سيتجاهل الخطر المحدق الذي داهم المنطقة بوحشية، وأقصد الإسلاميين السُنة. الولايات المتحدة دعمت الأفغان ضد روسيا وذاقت ويلات ذلك فيما بعد. اليوم، نشهد مشاكل كبيرة بسبب نفوذ التيار الصدري والصراع مع الأحزاب الموالية لإيران وقد يتحول ذلك إلى صراع، في هذه اللحظة، ستقول لنا النظرة الاختزالية للتاريخ: ربما كان العراق سيكون أفضل لو كانت أغلبيته من السُنة، في حين أننا قلنا العكس في فترة هجوم داعش. في النهاية، الواقع لا يأبه لرأينا ولا خياراتنا المتقلبة هذه.
العلمانية وترويض الأديان
بنظرتنا الراهنة للمسيحية والكنيسة، قد نقول: كانت المنطقة ستكون أفضل لو أنها بقيت مسيحية، ولو أن الإسلام لم يظهر. في الواقع، هذه أيضًا نظرة اختزالية للتاريخ تتجاهل الصراعات الكنسية في المشرق، والحكم الثيوقراطي للكنيسة، وسلخ هيباتيا حيّة في الإسكندرية، وتدمير تماثيل الأكروبولوس في اليونان ومحاربة الفنون الوثنية والمسرح، ومطاردة العلماء من قبل الكنيسة، ومنع الحمامات العامة الرومانية من قبل الكنيسة، وحتى الصراعات الكاثوليكية البروتستانتية في أوروبا، واستمرارها في أيرلندا الشمالية حتى السبعينيات. نحن ننظر اليوم إلى المسيحية المروّضة التي فقد قوتها وتحاول البقاء فقط بمماشاة روح العصر العلمانية، بدل مواجهتها، ولا يمكن تصوّر واقع المنطقة لو أنها بقيت مسيحية، بدون العلمانية. ومن يدري ربما يتم ترويض الاسلام في المستقبل القريب، مع أن البعض يراهن على صعوبة ذلك بسبب النزعة السياسية لهذا الدين، ولكن لا شيء مستحيل مع الزيادة الفلكية في أعداد الملحدين من خلفيات مسلمة، وزيادة شجاعة ووتيرة نقد الخطاب الديني، وتراجع المؤسسة الدينية لمماشاة روح العصر، وفقدان الإسلام لقدرته على الحكم (حرفيا لا يحكم الإسلام بشكل واقعي سوى في بضع دول، وليس في شكله الأصيل، لأنه يخجل من ذلك)، وبروز تيارات تتمسك بالقرآن فقط أو بالقيم الثقافية فحسب، وعليه قد يكون الزمن اللازم لتطويعه أقصر من الزمن الذي تطلبته المسيحية، في ظل عصر الثورة الرقمية.
اختفاء الأديان
قد نجادل أيضًا بأن اختفاء الأديان جيّد، وكنتُ أتبنى هذه الفكرة، ولكننا في الواقع نكون سطحيين إذا ما توقعنا أن ذلك لوحده يحقق السلام العالمي، لأن شيئًا من هذا القبيل لن يحصل، حيث ولّدت الإنسانية الشيوعية والإنسانية التطورية (النازية) الكثير من المآسي والإبادات حول العالم، وكلاهما من الأديان الإلحادية نوعًا ما، المرتكزة على عبادة الإنسان. في النهاية، الأديان أنظمة بشرية تم تقديسها، وفائدتها الوحيدة اليوم هي وضع أساس لقوانين أخلاقية أساسية غير قابلة للنقاش والنقض، وما ثبت أنه مفيد تطوريًا ويضمن بقاء الإنسان. بغياب هذا الثبات، بدأت الليبرالية الحديثة المتطرفة تشطّ على الخط بشكل مضر يتجاهل تجارب البشر عبر آلاف السنين. في النهاية، بالفعل ساهمت الأديان الإبراهيمية وأنظمة الأسرة الخاصة بها في زيادة أعداد البشر، كما ساهم تطور الطب في ذلك، وهذه ميزة ناجحة تطوريًا، ولكن ذات الجمود القانوني يعرقل التطور الاجتماعي، وهذا هو الخلل الأساس في تقديس القانون. في النهاية، لن يُحسم هذا الصراع، ورأينا اليوم أن سقوط الأديان في أوروبا يرافقه تفتت الأسرة وزيادة النفور من الزواج والانجاب وغيرها، وقد تدخل البلاد في مشكلة ديموغرافية واضحة.
عليه، هل سيكون من المنطقي الاستمرار بمحاكمة التاريخ؟ أن نقول: ما شكل أوروبا بدون البحارة الفينيقيين؟ هل كانت ستبقى بدون كتابة؟ هل كانت ستبقى متخلفة؟ ما شكل سكان شمال افريقيا بدون موجات الكنعانيين والفينيقيين والعرب؟ ماذا لو لم يختر قسطنطين المسيحية؟ هل كانت لتنتشر في عموم أوروبا والأميركيتين وأستراليا فيما بعد؟ ماذا لو قُتل محمد في سنواته الأولى؟ هل كان العالم سيكون أفضل بدون الإسلام أو المسيحية؟ ماذا لو لم يصل العرب إلى إسبانيا ولم يحكموا صقلية؟ ماذا لو لم يغزُ المغول بغداد؟ هل كانت ستبقى عاصمة عظيمة أم أن غازٍ آخر كان سيدمرها ذات يوم، كحال كل الإمبراطوريات؟ ما شكل شرق أوروبا بدون العثمانيين؟ هل كان البلقان سيكون أكثر تجانسا بدون دخول الإسلام إليه؟ ما شكل العالم بدون كولومبوس؟ هل كان أحدٌ آخر سيكتشف قارة أميركا الجنوبية غيره؟ هل سنشهد في حينها مسارًا آخر؟ هل دخول الأوروبيين إلى أستراليا مفيد؟ هل كانت ستبقى متخلفة بدون الإنجليز؟ ماذا لو انتصرت النازية في الحرب العالمية الثانية؟ هل كنا سنشهد إبادة الأعراق الأخرى؟ هل كان البيض سيكونون الأكثر عددًا اليوم؟ ماذا لو انتصرت الشيوعية في الحرب الباردة، هل كنا سنحرم من عطايا التطور الرأسمالي؟ جميع هذه الأسئلة وغيرها بلا معنى، لأن ما حصل قد حصل، ولا سبيل لوقفه أو عكسه.
في النهاية، لا يمكننا تصوّر ما سيحصل في الغد، ولا تصوّر أسباب خيارات الشعب في وقتٍ ما، لأننا لا نعلم أسباب خياراتنا الراهنة. هل تخطيء الشعوب؟ نعم، ولكن وفقًا لأي معيار نحدد أن خيارها خاطيء؟ وفقًا للنتائج التالية لسلوك ذلك الخيار؟ هذا المنطق في التفكير غير دقيق ويقع في نطاق مغالطة انحياز الإدراك المتأخر Hindsight Fallacy، ولا يجب على المؤرخين السقوط في هذا الفخ.
#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منظور تطوري لتفسير الأخلاق: ردود على النظرة الدينية للأخلاق
-
جدلية الإجهاض في عالم التطرف والاستقطاب
-
إثبات الذات وسط دوامة من ردود الأفعال - قراءة في مسلسل لعبة
...
-
صراع البحث عن التعاطف
-
أسود وحملان: الحرب على الإرهاب تحت المجهر الأميركي
-
العلوم أيضًا في مرمى الأحكام المسبقة والتحامل
-
فيلم ابن علي بابا: رؤية استشراقية لبغداد فارسية!
-
أيام سيئة في البصرة: كتاب يبرر فشل مهمة سلطة الإئتلاف في جنو
...
-
هارا أوتيل: رواية بريطانية عن أزمة اللاجئين السوريين في اليو
...
-
في يومها العالمي: لم أعد أكره العربية
-
بلاد فارس في مطلع القرن العشرين بعيون زوجة طبيب إنجليزي
-
الموصل في مطلع القرن العشرين بعيون زوجة طبيب إنجليزي
-
مسلسل ماركو بولو - إطلالة مثيرة على عالم المغول في القرون ال
...
-
تمجيد القوة واحتقار الشفقة – تتمة في قراءة كتاب -هكذا تكلم ز
...
-
أرض الأرواح: رؤى قبيلة كوز عن الخليقة والطوفان والموت والحيا
...
-
مسلسل فرويد - دراما ورعب وتشويق، كل شيء عدا التاريخ
-
فيلم -بطاقات القتل البريدية-: الهوس بالفن والحب الممنوع والج
...
-
فيلم -برسيبوليس-: قصة الثورة التي حولت إيران إلى سجنٍ كبير
-
فيلم -المحطة الأخيرة-: الأيام الأخيرة لتولستوي وحقيقة الحركة
...
-
فيلم -على أساس الجنس-: كفاح محامية أميركية وصولاً إلى المحكم
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|