|
جماليات فن الإخراج
عطا درغام
الحوار المتمدن-العدد: 7315 - 2022 / 7 / 20 - 14:02
المحور:
الادب والفن
يُعد زيجمونت هبنر(193-1989) واحدًا من أهم رجال المسرح البارزين الذين ساهموا في تأسيس وتطوير وإصلاح المسرح في بولندا خلال العقود الأربعة الهامة في تاريخ المسرح الحديث (1955- 1989 ) بعد أن درس المسرح وتخصص فيه، وبدأ ممثلًا ثم مخرجًا ثم كاتبًا، وأدار أكثر من مسرح في بولندا، واتصل بحركة المسرح في العالم.. اهتم بقضايا الإنسان في العالم..وهاهو يتصدي في بداياته للنازية الألمانية التي بدأت بالحرب العالمية الثانية بالتهامها بولندا، ثم هاهو بعد نهاية الحرب يتصدي للستالينية مناصرًا لحرية الفنان في الإبداع ،دون الرضوخ للقوالب الجامدة، ثم هاهو في السبعينيات ينضوي تحت حركة "تضامن" التي قادت بولندا إلي التحرر من السيادة السوفيتية.. وقد تعرض في كل هذه الأطوار للمصادرة والمطاردة،ولكنه مع ذلك كان يتحاور مع الواقع حوارًا جدليًا ذكيًا،مؤمنًا دائمًا بأن المسرح هو المؤسسة الثقافية الفكرية التي يمكن أن تصوغ وجدان الجماهير- حتي في أحلك لحظات التاريخ- وتدفعها إلي الحركة الواعية علي طريق مقاومة كل أعداء المجتمع الإنساني في الداخل والخارج. التزم هبنر منهج المسرح الجاد، أو المسرح التنويري الذي يمزج بين الثقافة الجادة بالمتعة الفنية والحسية دون أن ينحدر إلي المسرح الاستهلاكي التجاري.. وقد صدر له باللغة العربية كتابه "جماليات فن الإخراج) وترجمه الدكتور هناء عبد الفتاح. ويبدأ هبنر كتابه بمحاولة العثور علي تعريف جامع مانع لإبداع المخرج،ولكن محاولته تتخطي كل المحاولاات السابقة وتسعي إلي تعريف أكثر شمولية لهذا الإبداع، بصرف النظر عن وسيلة التعبير. وهو يتحدث عن المخرج في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون، بل يتجاوز ذلك إلي ضرورة الإخراج في كثير من الظواهر الاجتماعية والرياضية.. وفي الاحتفالات الرسمية والطقوس الدينية وغيرها مما اتفق علي تسميتها بالظواهر شبه المسرحية، وعندما يتوقف هبنر ليقارن بين مخرج المسرح ومخرج السينما، مسلمًا بأن المسرح هو الأب والأستاذ.. يسجل حقيقة ثانية هي أن المخرج في السينما هو مؤلف الفيلم، ليس فقط لأنه كثيرًا ما يشارك في تأليف العمل الأدبي للفيلم(السيناريو) ،بل ولأنه يؤلف أيضأ من خلال الكاميرا ،وما تسجله مباشرة من الواقع الاجتماعي.وبوجه خاص في تيار الواقعية الحديثة عند مخرج كبير مثل "فيلليني". ومن هنا فهو يفتح الباب من جديد علي شخصية المؤلف أو المخرج المسرحي..وما زلنا نتذكر هذه المعركة الحامية التي نشبت في الستينيات بين مخرجي المسرح ومؤلفي النص الدرامي حول صاحب الحق الأصيل في نجاح العرض المسرحي، وما انتهت إليه المعركة من مصالحة تظل تخفي كثيرًا من النار تحت الرماد..تتلخص في أن الكاتب هو مؤلف النص الدرامي علي الورق، وأن المخرج مؤلف العرض المسرحي. وفي الفصل الثاني يواجه هبنر وهو يتعرض لتاريخ فن الإخراج قضية الخلاف بين حداثة هذا الفن ونشأته في منتصف القرن الثامن عشر، او قدمه قدم نشأة المسرح كظاهرة إنسانية، وهو ينتصر إلي فكرة أن الإخراج يعود إلي تاريخ وجود المسرح،ولكنه لا ينسي مع ذلك أن ينبهنا إلي اختلاف دور المخرج في الوظيفة والمهام باختلاف المسرح ذاته،من حيث شكله الفني وتنظيمه وهيكله ودوره في الحياة الاجتماعية من عصر إلي عصر، ذلك أن المسرح شأنه شان أية مؤسسة اجتماعية يتطور بتطور العلوم يتخذ من المبتكرات العلمية الحديثة أدوات جديدة وبتحاور مع المتغيرات الاجتماعية. ويصحبنا المؤلف عبر تطور طويل لفن المخرج منذ نشأة المسرح الإغريقي،مرورًا بانحدار المسرح الروماني، ثم صحوة مسرح الأسرار وما تلاه من ضائقة مسرحية أدت إلي انفجار وإبداعات مسرحية جديدة في شكل "كوميديا الفن" أو ال"الكوميديا دي لارتي" ثم يتوقف بل طويلًا عند عصر النهضة وما منحه للمسرح ومخرجيه من الكتاب والكبار من إمكانات شاعرية وإبداعية خالدة، ثم هاهو ذا يضع أمامنا قائمة طويلة من المخرجين عبر القرون حتي مطلع القرن العشرين، بما يؤكد أن المسرح في العالم يمكن قراءته، ليس فقط من خلال الادب، ولكن أيضًا من خلال تطور جماليات العرض،او جماليات الإخراج.. وبطبيعة الحال فإن الفصل الثاني هو أطول الفصول، فهو تغطية تاريخية دقيقة وأمينة لتطور وظيفة المخرج عبر العصور،وهو في نفس الوقت مواجهة علمية دقيقة وأمينة لمفهوم هذه الوظيفة وأبعادها منذ البدايات وحتي اليوم. وفي الفصل الثالث يتعرض هبنر لأخطر مرحلة من مراحل إبداع المخرج، مرحلة قراءة نص الكاتب وينبهنا باديء ذي بدء بان قراءة المخرج للنص الذي اختاره ليخرجه، تختلف اختلافًا بينا عن القراء العادية للنص لمجرد الطلاع والإحاطة بموضوعه وشخصياته وحواره،وأن الأمر يختلف اختلافًا بينًا،ويذكرنا هذا الفرق بين ملاحظة المواطن العادي لظاهرة طبيعية،ودراسة العالم لهذه الظاهرة. ويتحدث المؤلف عن حب النص والالتزام به كشرط لنجاح المخرج وحديثه يطرح قضية من القضايا المستقرة في التزامات المخرج ، هي قضية الأمانة قبل النص: فكرًا ولغة وأسلوبًا وبنية درامية. وهذه الأمانة تقتضي بالضرورة أن يتريث المخرج كثيرًا قبل أن يتخذ قراره الأخير باعتناق النص،لأنه إذا لم يحقق هذه الدرجة من الحب والالتزام بالنص تفصيلًا والقناعة بأنه هو النص الذي تناديه القضية الاجتماعية التي تؤرقه فإنه لن يكون قادرًا علي مواجهة مجموعة من الفنانين الذين يختارهم ولإقناعهم بضرورة اعتناق هذا النص والتفاني في سبيل فهمه وتجسيده. ومن المشاكل الهامة التي يُثيرها هبنر في عمل المخرج ، مشكلة النصوص المترجمة ، فمن واجبات المخرج مراجعة التراجم التي يقرؤها للنص الأجنبي، واختيار الترجمة الأمثل والأقرب إلي النص الأصلي ،الأمر الذي يقتضي إلمام المخرج بلغة أجنبية أو أكثر،حتي يمكنه أن يقرأ النص الأصلي بلغته أو بلغة أجنبية يعرفها جيدًا.. إن الترجمة في حد ذاتها نوع من الخيانة للنص الأصلي، ولكنها خيانة مشروعة لأنه بدونها ستحاصر الإبداعات العالمية داخل سجن لغاتها،ولكن إذا كانت الخيانة درجات ؛ فإن من واجب المخرج أن يصل بالخيانة إلي الحد الأدني الممكن من خلال جهد في البحث عن الترجمة الأكثر أمانة قبل النص الأصلي، فإذا عجز فلا أقل من البحث عن مترجم أكثر تفقها في اللغتين. ويفتح هبنر الفصل الرابع بمهمة توزيع الأدوار علي الممثلين،ولقد طرح هبنر كثيرًا من المشاكل التي تعترض المخرج عند توزيع الأدوار،مستعينًا في ذلك بتجاربه الذاتية وتجارب الآخرين . وأشار بالذات إلي معيارين أساسيين يجب أن يقودا المخرج في هذه الخطوة: الموضوعية وعدم الميل إلي الهوي، ثم المقومات والأدوات التي يجب أن يختار علي أساسها ممثل كل شخصية، دون أن يركن كثيرًا إلي قدرته علي تعليم الممثل أو إعادة خلقه..وفي النهاية علاقة الممثل بالجماهير. وتعتبر قضية تفاوت الأدوار حجمًا وأهمية ،من القضايا التي تحدد علاقة المخرج بالممثلين، كما تقوم أحيانا صعوبات بصدد هوية الممثل وعقيدته وأفكاره الاقتصادية والاجتماعية وعلاقة كل ذلك بالشخصية أو بالنص نفسه أحيانًا. وفي الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن إدارة المخرج للبروفات ،وهي قضية تخضع لمناهج متعددة،..ففي قضية تقسيم البروفات إلي بروفات قراءة(مائدة) وبروفات حركة تتعدد المناهج، فمخرج مثل بريخت مثلا ينكر إنكارًا تامًا فائدة بروفات القراءة، بينما يهتم جاك كوبو مثلا ببروفات المائدة أكثر من اهتمامه ببروفات الحركة..والفيصل بين المنهجين قد يكون في القيمة اللغوية والفكرية للنص..فلكل نص متطلباته في النصوص الكلاسيكية القديمة التي تتطلب عناية خاصة باللغة وبناها وتفاسيرها المختلفة. وفي الفصل السادس يتعرض المؤلف لعلاقة المخرج بالجمهور، لأن المسرح يتم إبداعه من أجل الجمهور،ولأن بعض المنظرين يعتبر المتفرج الأول..والمخرج منذ ليلة الافتتاح يتحول في الواقع إلي مصارع في حلبتين كلاهما أقسي وأعمق خطورة من الأخري : حلبة الفنانين الذين تحملوا مسئولية العرض،وحلبة الجماهير ومن بين الجماهير النقد المسرحي الذي يمسك بمشارطه ومباضعه منذ اللحظة الأولي للعرض ليصدر أحكامه العادلة او الظالمة علي ان الناقد الحقيقي هو المتفرج الذواقة الذي دفع ثمن التذكرة ربما لشدة ثقته في مجموعة الأسماء المطروحة علي اللوحة الإعلانية. وفي الفصل السابع يقدم هبنر دراسة مقارنه بين المخرج في السينما والمخرج في المسرح..ولا يفوت هبنر أن يمتد بدراسته المقارنة إلي مخرج التلفزيون فيدرك أن يتوسط بين المسرح والسينما، ويأخذ أدواته وتقنياته من هنا ومن هناك ،وإن كان يتميز عن الاثنين بموقف خاص عندما يخرج برنامجا علي الهواء مباشرة. ويطرح الفصل الثامن سؤالًا شديد الأهمية...أيمكن تعليم حرفة الإخراج ؟!! ..علي نفس النهج هل يمكن أن نتعلم الموسيقي او التمثيل أو التصوير..إلخ- والحقيقة للإجابة علي هذا السؤال يجب أن نفصل بالنسبة للمخرج- بين مستويين : الأول مستوي ثقافته الإنسانية،أما الثاني فيخص العلوم والفنون والتخصصية،وهو ما يتلقاه طالب الإخراج في المعاهد والكليات والأكاديميات المتخصصة. ويقول كونتشينسكي أستاذ التمثيل والإخراج بأكاديمية الفنون المسرحية بوارسو:" إنني مع الرأي غير المتفائل بأن ثمة ثلاثة أشياء لا يمكن لنا أن نعلمها لطلبة قسم الإخراج، وهي مقومات الشخصية والموهبة وحسن التذوق ..بينما يمكن لنا أن نرغمهم علي تعلم أشياء ثلاثة: القراءة الدقيقة المتفحصة لعدد معين من الكتب؛ والإصغاء لبعض المؤلفات الموسيقية ومشاهدة عدد معين من اللوحات التشكيلية.." إن الأساس في الإبداع هو الموهبة،وليس هناك من يدعي القدرة علي تعليم الموهبة أو إنشائها إنشاء،والموهبة قد تكون مولودة في الطفل،ولكنها يمكن أن تموت أو توجه اتجاهًا مناقضًا ، إذا لم نتعهدها بالرعاية والتنشئة والتغذية والتشجيع في المؤسسة التعليمية ( من الحضانة إلي الجامعة) وفي البيت. وقد أنهي هبنر كتابه بثبت أقرب إلي الكمال للمراجع المتخصصة في علم الإخراج، وصنفها وحدد مستوياتها وإمكانية الإفادة منها، وهذا الثبت يعتبر مرجعًا هامًا لجميع العاملين بالمسرح والمدرسين بوجه خاص.
#عطا_درغام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قضايا الفلاح في البرلمان المصري-1924-1936
-
الجامعة الأهلية بين النشأة والتطور
-
فن الدراما عند رشاد رشدي
-
عصر الصورة من الفوتوغرافيا إلي الأقمار الصناعية
-
قضايا المشرق العربي كما يراها الشعراء الأسبان
-
يوسف الشاروني وعالمه القصصي
-
حكايات أندرسن
-
الغيم والمطر: الرواية الفسطينية ..من النكبة إلي الانتفاضة
-
المرأة والتغير الاجتماعي 1919-1945
-
القصص الديني في مسرح الحكيم للدكتور إبراهيم درديري
-
كتاب الفكر الثوري في مصر قبل ثورة 23 يوليو- الدكتور عبد العظ
...
-
حول الثقافة الشعبية القبطية
-
الكادراج السينمائي
-
المجتمع المصري والثقافة الغربية للدكتورمحمد رجب تمام
-
المأثور الشعبي في السينما المصرية (دراسة لبعض أفلام صلاح أبو
...
-
الشخصية الوطنية المصرية: قراءة جديدة لتاريخ مصر للدكتور طاهر
...
-
المرأة من السياسة الي الرئاسة
-
التيارات السياسيبة والاجتماعية بين المجددين والمحافظين- دراس
...
-
نظرية العرض المسرحي
-
الفيلم التاريخي في مصر
المزيد.....
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|